2- مناقشة القاضي عبد الوهاب بن السبكي
جرت مناقشة حادة وحوار طويل بين الإمامين ابن الجزري والقاضي عبد الوهاب بن علي السبكي حول الخلاف في تواتر القراءات الثلاث بعدما أوهم ابن السبكي من خلال كلامه أن الثلاث غير متواترة إجماعا حين سئل ابن السبكي عن قوله: "والسبع متواترة" بعد قوله: "والصحيح أن ما وراء العشرة فهو شاذ" قال السائل: إذا كانت العشرة متواترة فلم لا قلتم: والعشر متواترة بدل قولكم: والسبع؟ فأجاب ابن السبكي: "أما كوننا لم نذكر العشر بدل السبع مع ادعائنا تواترها؛ فلأن السبع لم يختلف في تواترها، وقد ذكرنا أولا موضع الإجماع ثم عطفنا عليه موضع الخلاف، على أن القول بأن القراءات الثلاث غير متواترة في غاية السقوط، ولايصح القول به عمن يعتبر قوله في الدين، وهي أعني القراءات الثلاث: قراءة يعقوب وخلف وأبي جعفر بن القعقاع لاتخالف رسم المصحف".
ونقل ابن الجزري الحوار الذي دار بينه وبين ابن السبكي فقال: "وقد جرى بيني وبينه في ذلك كلام كثير. وقلت له: ينبغي أن تقول: والعشر متواترة ولابد.
فقال : أردنا التنبيه على الخلاف.
فقلت : وأين الخلاف؟ وأين القائل به؟ ومن قال إن قراءة أبى جعفر ويعقوب وخلف غير متواترة؟
فقال: يفهم من قول ابن الحاجب: "والسبع متواترة".
فقلت: وأي سبع؟ وعلى تقدير أن يكون هؤلاء السبعة مع أن كلام ابن الحاجب لا يدل عليه ، فقراءة خلف لا تخرج عن قراءة أحد منهم، بل قراءة الكوفيين في حرف. فكيف يقول أحد بعدم تواترها مع ادعائه تواتر السبعة.
وأيضا فلو قلنا: إنه يعني هؤلاء السبعة فمن أي رواية؟ومن أي طريق؟ ومن أي كتاب؟ إذ التخصيص لم يدعه ابن الحاجب، ولو ادعاه لما سلم له، ولا يقدر عليه، بقي الإطلاق وهو كل ما جاء عن السبعة، فقراءة يعقوب جاءت عن عاصم وأبي عمرو، وأبو جعفر شيخ نافع، ولا يخرج عن السبعة من طرق أخرى".
ومن خلال هذه المناقشة يتضح أن ابن الجزري حاج القاضي عبد الوهاب وألزمه بأن يقول: والعشر متواترة بدلا من قوله: والسبع متواترة.
بما يلي:
1- رده ادعاء ابن السبكي أن الخلاف قائم ووارد في تواتر القراءات الثلاث بقوله: "وأين القائل بالخلاف؟.
ومن نص على أن قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف غير متواترة".
وابن الجزري في هذا الرد يكون غير معتبر بما يفهم من أقوال الأئمة التي جاءت فيها دلالة غير صريحة على عدم تواتر الثلاث، ورفض الاعتبار إلا بقول صريح.
والصواب أن الخلاف في تواتر الثلاث وارد ومحكي ومفهوم من أقوال بعض الأئمة، لكن ذلك لم يكن صريحا مما جعل ابن الجزري يجد منفذا إلى تأويل القول بما لا ينفي التواتر عن القراءات الثلاث.
3- رده لما يفهم من قول ابن الحاجب:
"والسبع متواترة" أن الثلاث غير متواترة بما يلي:
أ - إن ابن لحاجب لم يحدد القراءات السبع التي يقصدها حتى يفهم من كلامه أن غيرها ليس متواتراً، فربما لا يقصد بالسبع قراءات الأئمة السبعة المعروفين.
ب - وعلى فرض أن ابن الحاجب قصد بالسبع قراءات الأئمة السبعة المعروفين فإن كلامه هذا لا يدل على إخراج القراءات الثلاث من دائرة التواتر، حيث أن قراءة خلف لم تنفرد عن قراءة الكوفيين في حرف واحد، فكيف يقول بعدم تواترها من يقر بتواتر السبعة.
ج - إطلاق ابن الحاجب للفظ "السبع" وعدم تقييده برواية أو بطريق أو بكتاب، يفهم منه أنه يقصد القراءات السبع بجميع رواياتها وطرقها، ومن جميع الكتب التي ذكرتها ونصت عليها، وعلى هذا فإن قراءتي يعقوب وأبي جعفر -فيما انفردتا به- متواترة لأنها جاءت عن الأئمة السبعة من بعض الروايات والطرق.
وهكذا نجد ابن الجزري يجعل القراءات الثلاث في منزلة القراءات السبع؛ لأنها لم تخالفها في حروفها سواء فيما انفردت به أو فيما وافقت فيه، وفي هذا الحوار والنقاش ألزم ابن الجزري القاضي عبد الوهاب ابن السبكي بالعدول على لفظه: "والسبع متواترة" إلى القول: "والعشر متواترة" ولم يستوثق ابن الجزري من عدول ابن السبكي عن قوله إلا بعدما كتب له استفتاء وطلب منه أن يكتب له جواباً شافياً في المسألة.
قال ابن الحزري في كتابة لابن السبكي:
"ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين في القراءات العشر التي يقرأ بها اليوم هل هي متواترة أو غير متواترة؟ وهل كل ما انفرد به واحد من الأئمة العشر بحرف من الحروف متواتر أم لا؟ وإذا كانت متواترة فماذا يجب على مَنْ جحدها أو حرفاً منها أفتونا مأجورين".
فأجابه ابن السبكي بخطه:
"الحمد لله، القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف متواترة معلومة من الدين بالضرورة، وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة منزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يكابر في ذلك إلا جاهل، وليس التواتر في شيء منها مقصوراً على من قرأ بالروايات بل هي متواترة عند كل مسلم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ولو كان مع ذلك عامياً جلفاً لا يحفظ من القرآن حرفاً، ولهذا تقرير طويل وبرهان عريض لا تسع هذه الورقة شرحه وحظ كل مسلم وحقه أن يدين الله تعالى ويجزم نفسه بأن ما ذكرناه متواتر معلوم باليقين لا تتطرق الظنون ولا الارتياب إلى شيء منه والله تعالى أعلم. كتبه عبد الوهاب السبكي الشافعي".
وهكذا نجد ابن الجزري يحسم الخلاف في هذه المسالة ويجعل الحكم فيها يستقر بعد خلاف استمر أزيد من خمسة قرون من لدن عصر ابن مجاهد حتى عصره وذلك من خلال مناقشاته لعلماء عصره ولأقوال سلفه.
قال د. محمد حبش مبرزاً هذا العمل الجليل والجهد العظيم الذي قدمه ابن الجزري: "..لم يستطع أحد أن يُلحق هذه القراءات الثلاث بالسبع المتواترة بالرغم من اشتهار أسانيدها، ومنزلة رجالها، وكان علينا أن ننتظر خمسة قرون أخرى حتى يجيء ابن الجزري الذي بلغ في القرن التاسع منزلة فريدة في مرجعية الإقراء تسامى ما كان عليه ابن مجاهد في القرن الرابع... ولذلك فإنه أعاد على بساط البحث مسالة القراءات الثلاث التي اختلف في تواترها، وقام بإثبات تواتره أسانيدها بالحجج الواضحة، ثم كتب نظما... أسماه الدرة المضية في القراءات الثلاث تتمة للعشر، وبذلك فإنه بوأ هذه القراءات منزلة السبع المتواترة التي قررها ابن مجاهد".
المبحث الثاني: طرق القراءات عند ابن الجزري
لم يكن جهد ابن الجزري مقتصراً على إلحاق القراءات الثلاث إلى حضيرة القراءات السبع المتواترة، بل عمل جاهداً -أيضاً- على إضافة طرق جديدة إلى تلك الطرق التي أثبتت للقراء السبعة، وذلك من خلال جمعه لأوجه القراءات -سواء المنصوص عليها في مؤلفات الأئمة أو المنقولة عن المشايخ بطريق الأداء- وتنقيح أسانيدها ومعرفة الصحيح منها، وإبعاد الشاذ والضعيف عنها.
ومعرفة جملة تلك الطرق التي أضافها ابن الجزري وإدراك أهم خواصها يتضح من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول: طرق القراءات قبل عصر ابن الجزري
لقد شهدت القراءات مند عصر ابن مجاهد مسبع القراءات حتى عهد ابن الجزري إهمالا كبيراً وانحصاراً شديداً حيث اختفى الكثير من الروايات واندثر العديد من الطرق، ولم يبق منها معروفاً مشهوراً إلا ماكان ثابتاً في الكتابين: التيسير لأبي عمرو الداني والشاطبية لأبي القاسم الشاطبي، حتى ظنَّ النَّاس أن القراءات الصحيحة هي ما وجد فيهما فقط، وأنه لا يصح شيء مما في سواهما وهذا ما جعل الكتب المصنفة في القراءات تهمل هي الأخرى ولم تلق اهتماما وبالتالي ضاع كثير من الطرق والروايات فيما ضاع منها.
وكان ابن الجزري شاهداً على ذلك في عصره حيث أشار إليه أثناء حديثه عن سبب عزمه على تأليف كتابه النشر فقال: "وإني لمَّا رأيت الهمم قد قصُرت، ومعالم هذا العلم الشريف قد دثرت، وخلت عن أئمته الآفاق، وأقوت من موفق يوقف على صحيح الاختلاف والاتفاق.
وترك لذلك أكثر القراءات المشهورة، ونسي غالب الروايات الصحيحة المذكورة حتى كاد الناس لم يثبتوا قرأناً إلا ما كان في الشاطبيـة والتيسير، ولم يعلـموا قراءات سوى ما فيهما من النزر اليسير".
وجاء ذلك -أيضاً- في حديثه عن الشاطبية بأن الناس بالغوا في تعظيمها بل تقديسها حتى بلغوا بذلك الحد المذموم فجعلوها هي كل القراءات الصحيحة وأن ما عداها لا يصح بحال فقال: "ولقد بالغ الناس في التغالي فيها وأخذ أقوالها مسلمة منطوقاً ومفهوماً حتى خرجوا بذلك عن حد أن تكون لغير معصوم، وتجاوز بعض الحد وزعم أن ما فيها هو القراءات السبع وأن ما عدَّها شاذ لا يجوز القراءة به".
ولعل شغف الناس بما حوته الشاطبية يرجع سببه إلى ما حواه أصلها التيسير من صحيح القراءات، ولما كان عليه من اختصار للطرق والروايات للقراءات السبع، حيث لم يورد الإمام الداني فيه إلا روايتين لكل قارئ وطريقاَ واحدةً فقط لكل راو، ومن الأسباب أيضاً شهرة الأئمة القراء السبعة دون غيرهم.
وكان العلامة محمد بن محمود الطوسي قد أعاب على قراء الشام وأئمتهم اقتصارهم على ما في الشاطبية من طرق وتركهم سوى ذلك وألف لهم مؤلفاً أسماه بستان المبتدئ اختصر فيه كتاب الغاية على طريق ما أنفرد به كل واحد من القراء.
ولم تكن الشاطبية التي حفل بها الناس وأهملوا ما عداها عن كتب القراءات تحوى إلا القليل مما صح من القراءات السبع وهو ما أشار إليه الإمام أبو حيان الأندلسي قوله: "التسير لأبي عمرو الداني والشاطبية لابن فيره لم يحويا جميع القراءات السبع، وإنما هي نزر يسير من القراءات السبع، ومن عني بفن القراءات، وطالع ما صنفه علماء الإسلام في القراءات علم ذلك على اليقين".
وقد كانت أغلب القراءات في ذلك الزمان تنقل شفوياً بطريق الأداء ولم تكن مصنفات القراءات تحوي القراءات بأنواعها إلا القليل منها، وكانت هذه المصنفات هي الأخرى تنقل شفوياً لدى مبتغيها.
وجملة هذه المصنفات على نوعين:
أولهما: مصنفات اشتراط أصحابها فيها الصحة، فلم يوردوا فيها إلا ما صح لديهم من القراءات وكان مشهوراً، فتلقها الأيمة بالقبول إلا خلافاً يسيراً في بعض حروفها معروفـاً لدى أيمة الشأن وذلك نحـو: التيسير والشاطبية والكفاية والتبصرة... غير أن هذه المصنفات على صحتها لم تحو كل القراءات إذ اقتصر أصحابها على جملة من القراءات رأوا أنها الأشهر وأنها الأصح، وأهملوا غير ذلك كما فعل الإمام الداني الذي أقتصر على السبعة وتابعه الشاطبي، وأبي القاسم الحريري الذي اقتصر على الستة في كتابه الكفاية.
ثانيهما:
مصنفات لم يشترط فيها أصحابها الصحة فعمدوا إلى جمع كل ما وصلهم من قراءات سواء كانت مقبولة أو شادة ومن تلك المصنفات الكامل للإمام الهذلي، والجامع لأبي معشر الطبري، وهذه المصنفات لا يؤخذ ما جاء فيها على الإطلاق بل لابد من الرجوع في ذلك إلى كتاب مقيد لما أطلقه أصحاب هذه المصنفات أو إلى مقرئ مقلد يوضح ما عليه العمل وما به الأخذ.
وخلاصة ما كانت عليه القراءات ومصنفاتها في عصر ابن الجزري وقبله تتمثل نقاط أربع هي:
1 ـ انحصار القراءات فيما حوته الشاطبية والتيسير وإهمال غير ذلك.
2 ـ اقتصار مصنفات القراءات على بعض القراءات الصحيحة فقط.
3 ـ كثير من مصنفات القراءات لم يشترط فيها الصحة فيما نقلت من قراءات.
4 ـ معظم القراءات كانت تنقل عن طريق الأداء حيث قل التنصيص على كثير منها في المصنفات.
يتبع إن شاء الله...