البـــــاب الأول
ابـــن الجزري: دراسة حياته
-------------------------
تمهيد:
لا شك أن ظروف العصر السياسية والاجتماعية والثقافية.. التي ينشأ فيها الفرد ذات أثر كبير في تكوين شخصيته، وفي منطق تفكيره وفي منهج تعامله، وهذا ما يدعونا إلى معرفة تلك الظروف والأحوال التي شهدتها البيـئة التي عاش فيها ابن الجزري، لا من حيث التأريخ لتلك الفترة الزمنية وإنما من حيث التعريف بها لكونها البيئة التي أثرت في حياته وشكلت شخصيته كما كان لها الأثر الواضح في كتاباته وطبيعة مادتها العلمية سواء كان هذا الأثر إيجابياً أم سلبياً.
ولمعرفة هذه البيئة وما يمكن أن يكون من آثارها على من عاش فيها نعرض الأحوال التالية:
أولاً: الحالة السياسية:
لقد عاش ابن الجزري في الفترة الممتدة بين سنة: إحدى وخمسين وسبعمائة وسنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وهـي الفترة التي خضعت فيها دمشق -مسقط رأس ابن الجزري- لسلطان الدولة المملوكية حتى سنة ثلاث وثمانمائة حيث دخلها تيمورلنك التتري وسحق الجيش المملوكي بها، ودانت دمشق بدين تيمورلنك، وهي أيضاً الفترة التي كانت فيها بلاد الروم (تركيا حالياً) حيث قضى ابن الجزري أزيد من ثلاثين سنة من عمره خاضعة لسلطان آل عثمان ثم انتزعها منهم التتار.
وكان الحكم آنذاك في يد المماليك البحرية الذين حكموا مصر والشام أزيد من أربع وأربعين ومائة سنة بدءاً مــن سنة ثمـان وأربعين وستمائة حتى سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة حيث استولى على عرش الدولة المماليك الجراكسة (البرجية) الذين حكموا أزيد من ثلاثين ومائة سنة بدءاً من سنة اثتنين وتسعين وسبعمائة حتى سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة.
وكان قد اعتلى العرش خلال الفترة التي عاشها ابن الجزري جملة من حكام الممالك وهم:
1-الناصر حسن بن الناصر محمد حكم أربع سنوات من 748 حتى 752هـ وخلع.
2-الصالح صالح بن الناصر محمد حكم ثلاث سنوات من 752 حتى 755هـ وخلع.
3-ثم أعيد الناصر حسن بن الناصر محمد فحكم سبع سنوات من 755 حتى 762هـ فقتل.
4- المنصور محمد بن المظفر أمير حاج حكم سنتين من 762 حتى 764 هـ ثم خلع.
5- الأشرف شعبان بن حسين حكم أربع عشرة سنة من 764 حتى 778هـ ثم قتل.
6- المنصور بن علي بن الأشرف شعبان حكم خمس سنوات من 778 حتى 783 وتوفي.
7- الصالح حاجي بن الأشرف شعبان وحكم سنة فقط منن 783 حتى784 هـ ثم خلع.
8- وتسلطن الأمير برقوق الجركسي وحكم سبع سنوات من 784 حتى 791هـ ثم خلع وسجن.
9- ثم أعيد الصالح حاجي بن الأشرف شعبان وحكم أقل من سنة 791حتى792 هـ ثم خلع..
وتولى بعده مباشرة المماليك الجراكسة وهم:
1- الظاهر برقوق للمرة الثانية وحكم تسع سنوات من 792 حتى 801هـ وتوفي.
2- الناصر فرج بن برقوق وحكم سبع سنوات من 801 حتى 808 هـ ثم خلع.
3- المنصور عبد العزيز بن برقوق وحكم ثلاثة أشهر فقط من سنة 808 هـ ثم خلع.
4- ثم أعيد الناصر فرج بن برقوق وحكم سبع سنوات أخرى من سنة 808 حتى 815 ثم قتل.
5- المؤيد شيخ الإسطبل حكم تسع سنوات من سنة 815 حتى 824هـ وتوفي.
6- المظفر أحمد بن المؤيد حكم عدة أشهر فقط من سنة 824 ثم خلع.
7- الظاهر ططر حكم عدة أشهر فقط من 825 هـ ثم توفي.
8- الصالح محمد بن الظاهر ططر حكم عدة أشهر فقط من سنة 825 هـ ثم خلع.
9- الأشرف برمباي وحكم ست عشرة سنة من سنة 825 حتى 841 هـ وتوفي ليخلفه ابنه.
وكان هؤلاء بمصر وظلت مصر تحت سلطانهم حتى سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، أما دمشق فقد افتكها منهم التتار سنة ثلاث وثمانمائة بعد حرب ضروس انتهت بسقوط دمشق كما سقطت بغداد من قبل سنة خمس وتسعين وسبعمائة.
واتسمت هذه الفترة من حكم المماليك بما يلي:
1- ضعف الحكام الذين كانوا يقودون البلاد، فكثير منهم كان يتولى العرش وهو لا يزال صغيراً لا يفقه في شؤون السياسة شيئا فيبقى الأمر بيد الوصي أو النائب أو مدبر أمور المملكة، ثم لا يلبث أن يقوم أحد هؤلاء بالاستبداد بالسلطة وخلع السلطان المعهود إليه بالأمر أو قتله.
حيث نلاحظ أنه في خلال هذه الفترة الوجيزة الممتدة من سنة 748هـ حتى سنة 841 هـ التي لا تزيد عن ثلاث وتسعين سنة قد حكمها ثمانية عشر حاكماً خلع منهم عشرة سلاطين وقتل منهم ثلاثة وبعضهم لم يحكم سوى أشهر ثم عزل أو قتل والقليل منهم مَنْ توفي من غير مكيدة، وكل هذا يدل على مدى الفوضى التي سادت نظام الحكم في البلاد، ومدى الضعف الذي دب في الحكام حتى غدا كل قريب من الملك طامعا في الحكم، وصارت الدولة تدار بأحكام وأوامر غير السلطان.
2- اعتماد النظام الوراثي في الحكم حيث كان كل سلطان يتسلم الأمر يحكم البلاد مدة ثم يعهد إلى ابنه من بعده، وغالباً ما يكون صغيراً غير كفء لسياسة البلاد ومن هنا دَبَّ الضعف في الحياة السياسية وآل الحكم لغير السلاطين.
3- على إثر ضعف الحكام والسلاطين وانشغالهم بأنفسهم وصل المسلمون إلى مرحلة من الضعف ما بعدها مرحلة، فلم يعد بعضهم يهمه أمر الآخرين، ولم يعد بعضهم يعرف أخبار غيره، بسبب التشتت الذي أصابهم والضياع الذي آل إليه أمراؤهم، والبعد عن الإسلام الذي جزأ أمصارهم وفصل بعضها عن بعض.
4- تعرض البلاد الإسلامية لحملات الغزو التتري؛ حيث دخل تيمورلنك دمشق سنة ثلاث وثمانمائة بعد سحقه الجيش المملوكي وكان من قبل قد دخل بغداد سنة خمس وتسعين وسبعمائة وهدد المنطقة بأسرها.
وفي سنة خمس وثمانمائة اتجه إلى آل عثمان ببلاد الروم وانتصر عليهم وأسر السلطان بايزيد العثماني، وكان من ضحايا هذه الحرب ابن الجزري الذي خرج مناصراً السلطان بايزيد، وبعد الهزيمة النكراء قاده تيمورلنك وألزمه بالبقاء في مدينة كش، ولم يستطع الخروج منها حتى توفي تيمورلنك سنة سبع وثمانمائة.
5- تخاذل الحكام وتقاعسهم على نجدة غيرهم من المسلمين، وإعطاؤهم الولاء إلى غيرهم من الحكام، حتى وصل بهم الأمر إلى حد الشماتة في بعضهم، فهذا السلطان فرج يبتهج ويسر لهزيمة السلطان بايزيد العثماني على يد التتار؛ إذ زال خطر العثمانيين الذي كان يتهدده، وفي الوقت نفسه راح يخضع لشروط تيمورلنك ويضرب النقود باسمه ويعلن عن ولائه التام له.
6- تعتبر هذه الفترة امتداداً لحكم التتار الذي تميز بالعنف والقسوة والقهر تجاه الشعوب المحكومة، والتتار قوم انتزعت من قلوبهم الرحمة يطبقون أقصى العقوبات على أعمال لا ترقى إلى كونها مخالفات، ومن ذلك ما جاء في كتاب العقوبات الذي وضعه زعيمهم "جنكيز خان": ".. فَمَنْ بال في الماء قتلناه، ومَنْ أعان أحد خصميه قُتل، ومَنْ تعمَّد الكذب قُتل ومَنْ أطعم أسيراً أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قُتل..".
ويعترف أحد قادتهم هولاكو بهذه الفظاظة والقسوة والقلوب المتحجرة فيقول: "إنا نحن جُند الله في أرضه، خَلقَنَا من سَخطه وسلّطنا على مَنْ حلَّ به غضبُه، فنحن ما نرحم مَنْ بكى ولا نرق بمَنْ شكا، وقد سمعتم أننا فتحنا البلاد وطهَّرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد".
وهذا ما جعل الضعف والخور يدب في قلوب الشعوب المسلمة وصارت تعيش هاجس الموت في كل لحظة فروعوا وهجروا المدن ونزلوا الأرياف وانعزلوا وفضَّلوا الانزواء هروباً من كيد التتار ومن بطش السلاطين.
ثانياً: الحالة الاجتماعية
ليس يخفى ما للوضع السياسي من أثر بليغ على الحالة الاجتماعية وغيرها من الحالات: الثقافية والدينية والاقتصادية..، ولمَّا كانت الحالة السياسية في حال من الضعف الشديد انعكس ذلك على الحالة الاجتماعية التي شهدت انحطاطاً كبيراً وانحلالاً غريباً وانسلاخاً عجيباً من المبادئ والقيم الإسلامية الأصيلة.
ومن سِمَاتِ ذلك التَّقهقُر والانحلال ما يلي:
1-جنوح المرأة
تعتبر المرأة نواة المجتمع وعليها مدار صلاحه أو فساده، وفي تلك الفترة أطلق لها العنان وأعطيت حرية فاقت الحدود، وحقوقاً أثقلت كاهل الرجال، وخرجت بها على المعهود فتسلط النساء على الرجال، ومن ذلك مثلاً نجد المرأة إذا ما أحست من زوجها بصيانتها وغيرته عليها ومنعها من الخروج حيث تشاء تدعى عليه بقية صداقها، وتحبس زوجها من أجل ذلك قضاء، فيبيت هو في حبسه ويخلو لها الجو فتبيت فيما كانت تبيت فيه.
والغريب في هذا الأمر هو أساس هذا الحكم القضائي الذي يُعاقب الزوج بالحبس إذا ما طالبته زوجته بصداقها، والمعروف أن الصداق لا يطالب به إلا عند الطلاق أو الموت.
ومن الأمثلة أيضاً على خراب هذا المجتمع أن المرأة صارت تهدد زوجها برفع دعوى التقصير في حق النفقة فيحكم عليه بها سنوات طويلة وهي في بيت الزوجية.
وراحت المرأة تخرج من بيتها في زيٍّ غريبٍ، ترتدي طرازاً من القمصان كبيرة الأكمام محلاةً بالأزرار والحرير والمزركشات والقمصان القصار والأثواب الثمينة ممَّا يُثير فتنة بهذه المرأة.
وشاع هذا الأمر وذاع في كل الأوساط وعمَّت به البلوى وانتشرت به الفتنة وما ارتدعت المرأة إلا في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة حين جاء أمر السلطان بوجوب إبطال ذلك وعقاب كل امرأة لم تأتمر بأمره.
2- انتشار المظاهر المخزية
غزت ذلك المجتمع مظاهر فاسدة وأعمال مخزية نتيجة لذهاب غيرة الرجال وفشو الدياثة فيهم، ومن تلك المظاهر التي عمَّت وطمَّت في أوساطهم ظاهرة المُحلل والمُحلل له حيث صار تحليل المرأة لزوجها مهنة يُمارسها بعض الأنجاس من الرجال في مقابل ثمن يقبضونه، فصارت المرأة تنظر إلى التيس نظرة الشاة إلى الجزار، والتيس ينظر إلى المرأة على أنها مصدر رزق وشهوة في آن واحد، والذي يثير العجب في هذا أن الزوج يدفع المهر والتيس لا يطأ إلا بأجر، وكثيراً ما يجمع هذا التيس بين الأم وابنتها، ويجمع في العهدة الواحدة أكثر من أربعة ولا يهمه في ذلك سوى الاستمتاع والأجور التي يدفعها الأزواج، فهذه هي مهنة التيسة من البشر.
وأيضاً من تلك المظاهر تفشي البغاء وشيوعه في الأوساط، وصارت له أسماء غير تلك التي يُعرف بها، ولم يعد من القبائح بل صار تمدناً وتحضراً، واتخذت له أشكالاً تحفظ استمراريته وتؤمن ممارسيه، وتمنع دعاة الفضيلة من إيقافه، بل هناك من زنادقة العلم من راح يُدلل لمشروعية الزنا بالمعشوق واتخاذ الأخدان ومعاشرة الأسياد لعبيدهم وغير ذلك من المظاهر المخزية المحرمة شرعاً.
3- تفشي البطالة
نظراً للحروب التي ما كانت نيرانها لتخمد إلا لتشتعل في مكان آخر، ونظراً للظلم والاستبداد السياسي على الشعوب فشت البطالة وعمت في الأوساط، حيث ترك المزارعون أراضيهم وهجروها إلى حيث يأمنون على أنفسهم من كيد الحروب وويلاتها، وترك الصناع صناعاتهم؛ لأن الصناعة لا تقوم ولا تزدهر إلا حيث الأمن والاستقرار، وتخلى التجار عن تجاراتهم لما كثر من القراصنة البحرية وقطاع الطرق البرية، ولما وضعه عليهم الحكام والولاة من ضرائب باهضة تفوق أرباحهم وتثقل كاهلهم.
4- استغلال النفوذ
في زمن ضعف فيه الحكام والسلاطين وصار الأمر بيد الحاشية الذين أعماهم الطمع والجشع فقادهم إلى استغلال نفوذهم عند السلطان وإلى تلقي الرشوة من غيرهم في مقابل شفاعة عند السلطان أو الظفر بمنصب عال أو السكوت على بعض مناكرهم، وبهذه الأموال التي كانوا يتلقونها صاروا من أهل الغنى والترف وبهذا تعزز الظلم واستتب الأمر على الاستبداد.
قال د.محمود شاكر: "..وإذا كان السلطان يستطيع الحصول على إرضاء أمراء المماليك، بما تحته من مال ومن تصرف بفرض الضرائب وإقطاع الأرض إلا أنهم هم أنفسهم كانوا يحرصون على تحصيل مبالغ من المال كبيرة لشراء المماليك لهم، وليقوموا بما قام به من سبقهم ومن هو أعلى منهم رتبة، وتدور بعد ذلك الدائرة على الشعب وهذا ما اضر البلاد وزاد من معاناتها".
5- انتشار الجوع والفقر والمرض
شهدت تلك البيئة انتشار الأمراض وكثرة الأوبئة الفاتكة بالإنسان والحيوان معا، وفشو الجوع والفقر في أوساط العامة وكثرة الحروب والقتل سواء بيد الأعداء المحاربين أو بيد البغاة الخارجين أو بيد السلطان وأعوانه، وكانت الحروب لا تخلف إلا الجثث الهائلة والجماجم المتناثرة والأعضاء المبثوثة وهذا ما يساعد على نشاط الجراثيم واستفحال المرض وتعرض الناس للموت بأعداد يعسر حصرها.
فقد شهدت مصر سنة أربع وستين وسبعمائة وباءً شديداً وطاعوناً موجعاً كان يأخذ من أهلها نحو الألف كل يوم، ومات وقتها ممَّنْ يعرفون والد قاضي القضاة تاج الدين بن المناوي وكاتب الحكم ابن الفرات وأهل بيته أجمعين".
وأصاب دمشق المرض نفسه سنة أربع عشرة وثمانمائة وراح ضحيته خلق كثير منهم ابن ابن الجزري أبو الفتح.
ومن شدة ما أصاب القوم من فقر وفاقة صاروا تنالهم فرحة عجيبة وسرور بهيج ويدعون بالخير إذا ما علموا بوضع جزء من ضريبة ما كانت مفروضة.
فقد حكى ابن كثير في بدايته البشارة العظيمة بوضع شطر مكس الغنم الذي صار درهمين وربع بعدما كان أربعة دراهم ونصف، ووصف ذلك كأن القوم حلَّ عليهم غنى من السماء.
ولعل من أسباب هذا الانحلال الخلقي والتفسخ الاجتماعي والتردي لهذه الأوضاع الاجتماعية ما يعود إلى اندماج عناصر غريبة عن المجتمع الإسلامي في أوساط أبنائه وأهله حيث عشَّشَ الفرنجة النصارى واليهود والتتار في المجتمع الإسلامي وسكنوا دياره حتى صاروا جزءاً من أهله، ولا يخفى ما لهؤلاء من أثر على الحياة الاجتماعية الإسلامية.
ثالثاً: الحالـة الثقافيـة
بالرغم من الضعف السياسي الذي ساد البلاد والفساد الاجتماعي الذي أهلك العباد إلا أن الحالة الثقافية لم تكن بذلك التدني، ولم تشهد ذلك التقهقر، بل ظلت منتعشة بفضل الجهابذة العلماء الذين نذروا أنفسهم لخدمة العلم ونشر الدين تأليفاً وتدريساً وتعليماً، وبفضل العاملين المخلصين الذين سخروا أموالهم وأوقافهم في بناء المساجد والمدارس والزوايا ودور القرآن والحديث، وأنفقوا منها على القائمين على هذه المؤسسات العلمية وطلبة العلم بها.
ولعل مرجع هذا النشاط العلمي والحركة الثقافية يعود إلى ارتفاع الروح الدينية التي كانت عند السلاطين والمماليك والشعب عامة، حيث كانوا يشعرون أن حروب التتار والصليبين كانت تستهدف عقيدتهم ودينهم بالدرجة الأولى فحاولوا ألا يُمكنوهم من تحقيق هدفهم ودفعهم ذلك إلى الاهتمام بالناحية العلمية والعُكوف على التأليف والتدريس والعناية على تصحيح العقائد وإيقاظ الهمم.
وربما يعود السبب في ذلك إلى تلك العزلة التي عاشتها الشعوب، وذلك التقوقع الذي ألفوه وذلك الفراغ الذي ملأ عليهم أوقاتهم فانصرفوا إلى التعليم والتأليف وملء المدارس ودور العلم، خاصة وأن الحياة خلت من كل الأنشطة التي تنعشها بالحركة، فلا تجارة رابحة ولا زراعة منعشة ولا صناعة رائجة.
قال د. محمود شاكر: "..وربما كانت هذه المرحلة أغنى أوقات التدوين فظهر مشاهير العلماء أمثال: النووي والعز بن عبد السلام، وابن قيم الجوزية وابن حجر العسقلاني والذهبي وابن جماعة وابن كثير والمقريزي وابن تغري، وأعداد كبيرة من العلماء يصعب حصرهم".
وربما تظهر صورة المرأة مشرقة مشرفة في هذا المجال العلمي؛ حيث كانت لها مشاركة فاعلة في الحياة العلمية، فقد وجد من النساء عالمات جلسن للتعليم والإقراء والحديث كأمثال ست العرب بنت محمد بن علي المقدسية وزينب بنت القاسم الدماميسية اللائي اشتهرت بعلم الحديث، وسلمى بنت محمد بن الجزري التي اشتهرت بالقراءة والإقراء، ومنهم عائشة بنت إبراهيم بن خليل البعلبكية التي اسمع عليها ابن حجر العسقلاني حين قدم دمشق، وفاطمة بنت النويني التي أسمعت الشاطبية بإجازتها وخديجة بنت إبراهيم بن إسحاق الدمشقية وغيرهن كثيرات.
ومن جهة أخرى كانت المرأة -أيضاً- تسهم في إنشاء المؤسسات العلمية من مساجد وربط ومدارس قال الرحالة ابن جبير: "ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار مَنْ تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة، وتنفق في ذلك الأموال الواسعة وتعين لها من مالها الأوقاف".
ولم يكن السلاطين والأمراء يبخلون بالإنفاق على المؤسسات العلمية، فكانوا كلما استحدث بناء مسجد أو مدرسة إلا وجعلوا له أوقافاً تقوم به وبساكنيه الملتزمين به، ومن أجل هذا كثرت المنشآت والمؤسسات العلمية فكان منها العامة ومنها المتخصصة،
وكان العلامة عبد القادر بن محمد النعيمي قد صنف كتاباً في تاريخ مدارس دمشق جمع فيه ما يلي:
- ستاً وعشرين دار للقرآن والحديث أو لأحدهما.
- اثنتين وستين مدرسة للشافعية.
- اثنتين وخمسين مدرسة للحنفية.
- أربع مدارس للمالكية.
- إحدى عشرة مدرسة للحنابلة.
- ثلاث مدارس خاصة بالطب.
- إحدى وعشرين رباطاً.
- ستاً وعشرين زاوية.
- وزاد عدد المساجد على الثلاثمائة مسجد.
ويظهر أن هذه المؤسسات لم تكن بالأهمية نفسها، وإنما كان فيها صغير الشأن وفيها ما كان عظيماً، فأعظم المساجد الجامع الأموي وأعظم مدارس الشافعية المدرسة العادلية التي تأسست في عهد الملك العادل سيف الدين أبي بكر سنة خمس عشر وستمائة، وبها يحكم قاضي القضاة، وتقابلها المدرسة الظاهرية التي أقامها الملك الظاهر سنة سبعين وستمائة.
وأعظم مدارس الحنفية وأكبرها مدرسة السلطان نور الدين التي أنشأها سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وبها يحكم قاضي قضاة الحنفية.
وللمالكية زاوية وثلاث مدارس، فأما الزاوية فهي التي أوقفها السلطان الملك الناصر صلاح الدين بجامع دمشق، وهي إحدى زوايا الجامع، وأما المدارس فهي: المدرسة الصمصامية الواقعة بحجر الذهب وهي التي كان يسكنها قاضي قضاة المالكية، والمدرسة النورية التي عمرها السلطان نور الدين محمود بن زنكي، والمدرسة الشرابسية الواقعة بدرب الشعارين داخل باب الجابية وهي المعروفة بمدرسة نور الدولة علي الشرابيسي.
وللحنابلة أيضاً مدارس كثيرة أعظمها المدرسة النجمية التي أقامها الملك الصالح نجم الدين أيوب، ومدرسة ابن عمر التي أوقفها على مَنْ أراد تعلم القرآن من الكُهول، وتجري لهم ولِمَنْ يُعلمهم حاجاتهم من المآكل والملبس.
من خلال هذا الاهتمام البليغ بشأن المدارس العلمية وبشأن المقيمين عليها من شيوخ وتلاميذ ظل العلم ذا شأن عند السلاطين والعامة من الناس وهو ما عزَّز ازدهار الحركة العلمية في ذلك الزمان، وهو ما خوَّل ظهور عباقرة أفذاذ كتبوا وألفوا وأبدعوا في أصعب الفنون فهذا ابن الجزري آلت إليه رئاسة علم القراءات وهذا ابن كثير شيخ التفسير والحديث والتاريخ وذلك ابن حجر العسقلاني إمام الحديث بلا منازع وغيرهم.
رابعاً: الحالة الدينية
لقد كان المجتمع الإسلامي في مصر والشام يضم نسيجاً غير متماسك ولا متجانس من أصحاب الديانات وأهل الملل والنحل ودعاة الطوائف والفرق، ولم يكن بين كل هؤلاء سوى التطاحن والتناحر، والكل يتحيَّن الفرصة من أجل الإيقاع بالآخرين.
وكانت تشكيلة المجتمع آنذاك من المسلمين وهم منقسمون إلى سنة وشيعة ورافضة وخوارج، وأيضاً من النصارى واليهود وهم ما كانوا يعرفون بأهل الذمة، هذا بالإضافة إلى طوائف المغول وفرق الفرنجة الذين دخلوا الشام واستوطنوها وعملوا على نشر عاداتهم وتقاليدهم ومعتقدات وطرائقهم.
وما كانت هذه التشكيلات الدينية والمتفرقات العقدية ليسودها الانسجام والوئام لما تكنه كل فرقة للآخرين من مكر وعداء، فهذا التتار حين دخل البلاد عمل على فتح مدارس للفلاسفة والملاحدة، ونقل إليها أوقاف المدارس والمساجد والربط في الوقت الذي كان فيه يُعمِل في العلماء والفقهاء والقضاة والمحدثين تقتيلاً وتشريداً فشاع الإلحاد وانتشرت البدع وفشا الفجور ونسب ذلك إلى الشرع الحنيف.
وخرجت الرافضة بفرقها العشرين عن صمتها وأخرجت ما كان مضمراً في صدور أصحابها وراحت ترد السُّنن المتواترة كما ردت أحاديث فضل الخلفاء الراشدين من الصحابة وتأليه علي بن أبي طالب وغير ذلك.
يتبع إن شاء الله...