المبحث الثاني: تلاميــــذه
تتلمذ على ابن الجزري كثيرون أخذوا عنه القراءات والحديث وغير ذلك في بلدان شتى، فقد جلس تحت قبة النسر بالجامع الأموي يقرئ الناس سنين وجال البلاد شرقاً وغرباً وشمالأ وجنوباً، وكان كلما دخل بلداً تهافت إليه الطلبة طالبين القراءة عليه والسماع منه؛ ذلك لأنه لم يكن في عصره مَنْ هو أعلى إسناداً منه، وبذا فقد كثُر تلاميذه حيث أخذ عنه طوائف لا تحصى كثرة ولا عدداً وكان منهم مَنْ قرأ عليه بمضمن كتاب واحد، وكان مَنْ قرأ بمضمن أكثر من كتاب، ومنهم مَنْ تلقى عنه القراءات السبع، ومنهم مَنْ تلقى العشر، ومنهم مَنْ أخذ أكثر من ذلك، وكان منهم مَنْ شرع في القراءة وأكمل، ومنهم مَنْ شرع ولم يُكمل.
ومن أشهر تلاميذه مَنْ يلي:
المطلب الأول: تلاميذه الذين أكملوا القراءات عليه
1- ابنه أبوبكر أحمد ولد سنة ثمانين وسبعمائة كان قد أكمل على أبيه القراءات العشر وقرأ عليه كثيراً من كتبه وحفظ بعضها كالنشر والتقريب والطيبة وشرح عدداً منها.
2- ابنه أبوالفتح محمد ولد سنة سبع وسبعين وسبعمائة حفظ القرآن مبكراً وقرأ على والده القراءات العشر جمعاً كما قرأ عليه منظومته هداية المهرة في ذكر الأيمة العشر المشتهرة وتولى وظائف أبيه بعد رحلته إلى بلاد الروم.
3- ابنته سلمى حفظت القرآن مبكراً واستظهرت على أبيها مقدمة التجويد وطيبة النشر كما عرضت عليه القرآن بالقراءات العشر وأكملته في الثاني عشر من ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة وكانت قراءتها قراءة صحيحة مجودة مشتملة على جميع القراءات.
4- ابنه أبو الخير محمد ولد سنة تسع وثمانين وسبعمائة، سمع على والده الشاطبية وكثيراً من كتب القراءات وحفظ عليه المقدمة وجمع القراءات العشر سنة ثلاث وثمانين وظل ملازماً لوالده يفيد منه حتى في سفره إلى شيراز وأكمل عليه القراءات سنة تسع وثمانمائة.
5- أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد العبدلي شيخ زبيد في الإقراء، قال ابن الجزري فيه: "ولما دخلت اليمن لازمني كثيراً وسمع كثيراً، وسمع مني تحبير التيسير والطيبة والتقريب ونحو نصف النشر في القراءات العشر وغير ذلك، ورأيته كثير الاستحضار أفضل مَنْ رأيت باليمن، واستجاز مني القراءات فأجزته...".
6- أبو بكر بن أحمد بن مصبح الحموي المتوفى سنة ثمان وتسعين وسبعمائة مقري حماة، كان صاحباً لابن الجزري قبل أن يكون تلميذا، فهو من أقرانه وقد مات قبله، قرأ عليه العشر.
قال ابن الجزري:
"...وأقرأ جماعة ولم يزل حتى توفى ولم يترك بحماة مثله".
7- صدقة بن سلامة بن حسين الضرير شيخ القراء بدمشق المسحراني توفي سنة خمس وعشرين وثمانمائة، وهو مقرئ معلم أولاد ابن الجزري وقرأ عليه العشر إلى آخر التوبة ولم يكمل ثم رحل إلى العراق ثم رجع فقرأ عليه ثانية ثم رحل إلى مصر.
8- طاهر بن عرب بن إبراهيم بن أحمد الأصبهاني ترجمت له تلميذته سلمى بنت ابن الجزري فقالت: "شيخي ومخدومي أخذ قراءات على والدي وقرأ عليه ختمات جمع فيها القراءات العشر حسبما اشتمل عليه وتضمنه كتاب الوالد: النشر ومختصره التقريب ومنظومته الأرجوزة المسماة بطيبة النشر وما وافق ذلك.
وقرأ عليه ختمة ثانية جمع فيها بين روايتي قتيبة ونصير وختمة ثالثة قرأ فيها رواية العمري بن أبي جعفر ورابعة بقراءة أبي عبد الله بن محيصن وخامسة بقراءة سليمان الأعمش... وكان ملازماً للوالد سفراً وحضراً... وكان من أخص الناس وأعزهم عند الوالد... وقرره أن يجلس مكانه بدار القرآن التي أنشأها داخل مدينة شراز، وأن يكون خليفته فيها قائماً مقامه غاب الوالد أو حضر".
9- علي بن حسين بن علي بن عبد الله الخرمابادي اليزدي المتوفي سنة تسعين وسبعمائة بدمشق أحد أقران ابن الجزري وأصحابه، رحل إليه وقرأ عليه ختمة بالقراءات العشر بمضمن الشاطبية والتيسير والدرة، ثم قرأ عليه ختمة أخرى بعدة كتب، وولاه مدرسته التي أنشأها بدمشق فظل بها حتى أدركته منيته.
10- الإمام جمال الدين محمد بن محمد بن أحمد بن احمد الشهير بابن افتخار الهروي قرأ عليه القراءات العشر وأكملها حين قدم من بلاده.
11- محمد بن محمد بن ميمون البلوي الأندلسي الغرناطي المتوفى سنة تسعين وسبعمائة باليمن وهو أحد أصحاب ابن الجزري وأقرانه اعتمد عليه كثيراً في أخبار قراء المغرب الإسلامي، قرأ بالأندلس ثم قدم دمشق سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة فقرأ على ابن الجزري حتى وصل آخر سورة الأحزاب بالعشر جمعاً وحفظ قصيدته اللامية وأقام سنين بدمشق بصحبة ابن الجزري ثم غادر إلى مصر ومنها إلى اليمن حيث قضى بها نحبه.
12- الشيخ عثمان بن عمر بن أبي بكر بن علي الناشري الزبيدي العدناني ولد سنة أربعة وثمانمائة وتوفي سنة أربعة وأربعين، قرأ على ابن الجزري ختمة كاملة بالقراءات العشر وشرح منظومته الدرة المضية في القراءات الثلاث المرضية.
13- مؤمن بن علي بن محمد بن أجمعين، قدم دمشق وقرأ على ابن الجزري القراءات بمضمن الشاطبية والتيسير والدرة وقصيدته: التذكار في رواية أبان بن يزيد العطار سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة.
14- عبد الله بن قطب بن الحسن بن سليمان الخراساني البيهقي المعروف بنجيب الدين المقرئ، وقرأ على ابن الجزري القراءات العشر وتصدر بالقدس وصار يقرئ بالحرم.
المطلب الثاني: تلاميذه الآخرون
هنالك جملة من التلاميذ أخذوا عن ابن الجزري بعض القراءات فقط بحيث قرأوا بعض القراءات أو شرعوا في الجمع ولم يكملوا كما وجد جماعة آخرون أخذوا عنه غير القراءات.
وسوف نوجز هؤلاء فيمَنْ يلي:
أولاً: تلاميذ لم يكملوا القراءات
1- الشيخ أحمد بن حسن السيواسي شرع بالقراءة على ابن الجزري ولم يكمل فانقطع عند آخر سورة سبأ.
2- محمد بن أبي بكر بن محمد بن الشيخ الحمصاني ولد سنة إحدى عشرة وثمانمائة وقرأ على ابن الجزري وبرع في القراءات والكتابة وتصدى لنفع الناس بهما، وولي مشيخة القراءات بالمدرسة الشيخونية وتوفي سنة سبع وتسعين وسبعمائة.
3- أحمد بن أسد بن عبد الله الواحد بن أحمد الأسيوطي المقرئ ولد سنة ثماني وثمانمائة، وتلا على ابن الجزري وبرع في فن القراءات وأقرأ زماناً ومات راجعاً من الحج في أواخر سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة.
4- طاهر بن محمد بن علي بن محمد بن محمد بن مكين النويري، مقرئ مالكي تلا علي ابن الجزري وولي الإقراء بالجامع الطولوني ومشيخة المدرسة الشيخونية بمصر، وتوفي في ربيع الأول سنة ستة وخمسين وثمانمائة.
5- خطاب بن عمر بن مهنا بن يوسف بن يحي الغزاوي العلجوني الدمشقي الشافعي شيخ الشام ولد سنة تسع وثمانمائة وتلا على ابن الجزري وتصدى للإقواء والإفتاء وصار المشار إليه بدمشق توفي سنة ثماني وسبعين وثمانمائة.
6- إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط البقاعي الشافعي برهان الدين أبو الحسن المحدث الحافظ ولد سنة تسع وثمانمائة وأخذ عن ابن الجزري القراءات وعن ابن حجر العسقلاني الحديث ومن تصانيفه: القول المفيد في أصول التجويد وكفاية القارئ في رواية أبي عمرو.
7- أبو المحاسن محمد بن علي بن الحسين المتوفي سنة تسع عشرة وثمانمائة ذكر العليمي أنه من التلاميذ الذين قرأوا علي ابن الجزري وشيخه ابن السلار.
8- محمد بن محمد بن محمد بن علي بن ابراهيم أبو القاسم النويري الميموني القاهري المالكي المعروف بأبي القاسم النويري ولد سنة إحدى وثمانمائة حفظ القرآن وتلا بالعشر على ابن الجزري حين لقيه بمكة وله تصانيف جيدة في القراءات الثلاث وشرحها، كما شرح طيبة النشر لابن الجزري في مجلدين توفي سنة سبع وتسعين وثمانمائة.
ثانياً: تلاميذ سمعوا عليه الحديث
1- جلال الدين عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن عبد العزيز الأنصاري الأبياري الشافعي المعروف بابن الأمانة ولد سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة سمع على والـده وعلى ابن الجزري وعلى ابن حجر العسقلاني.
2- محمد بن محمد كمال الدين ولد سنة ثماني وثمانمائة وسمع الحديث عن الشيخ ولي الدين العراقي والواسطي وابن الجزري وتوفي في شوال سنة أربع وسبعين وثمانمائة.
3- محمد بن محمد العكاشي الأسدي الرداسي الاسفراييني الشافعي ولد في صفر ثماني وتسعين وسبعمائة، وسمع الحديث عن الشمس ابن الجزري واشتغل بالقراءات والنحو وغيرهم.
المبحث الثالث: رحـــلاتـــه
كانت رغبة ابن الجزري في إتقان القراءات -رواية ودراية- وتحصيل عالي أسانيدها الدافع الكبير على الرحلة إلى الشيوخ القراء والعلماء المسندين طلبا للقراءة عليهم والإفادة منهم، فهو لم يكتف ولم يقنع بما أخذه عن علماء دمشق وما أكثرهم، إذ كانت الشام -يومها- إحدى القلاع العلمية الواسعة التي يقصدها العلماء والطلبة من كل حدب وصوب، ولما حصل له ما أراد من قراءة القراءات وإتقانها على شيوخ الأمصار راح يشد الرحال -مرة طائعاً ومرة مكرها- من أجل الإقراء بها طلباً لثواب نشر العلم وملتمساً الخيرية التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "خيركم مَنْ تعلم القرآن وعلّمه".
وجملة الرحلات التي قام بها ابن الجزري سواء بغرض الطلب والتعلم أو بغرض التعليم والإقراء نوجزها فيما يلي:
المطلب الأول: البلاد التي رحل إليها طالباً متعلماً
وتتمثل تلك الرحلات فيما يلي:
أولاً: رحلته إلى الحجاز
بعدما أتم ابن الجزري إفراد القراءات وجمعها على شيوخ دمشق رحل إلى الحجاز حاجاً فلقي بالمدينة المنورة الشيخ محمد بن صالح الخطيب والإمام بالمدينة فقرأ عليه القراءات السبع جمعاً بمضمن كتابي التيسير والكافي ثم عاد إلى دمشق وكان ذلك سنة ثمان وستين وسبعمائة.
ثانياً: رحلته إلى مصر
لقد رحل إلى مصر بعد ذلك مرات عديدة، قال ابن حجر: "... ولهج بطلب القراءات والحديث وقدم القاهرة مراراً" وجملة ما عثرنا عليه من تلك الرحلات ما يلي:
أ - الرحلة الأولى:
في سنة تسع وستين وسبعمائة شد الرحال إلى الديار المصرية فنزل بالقاهرة حيث لقي الشيخ أبي بكر عبد الله بن الجندي فجمع عليه القراءات الاثنتي عشرة بمضمن مجموعة من كتب القراءات وتوفي ابن الجندي قبل أن يكمل عليه الختمة التي ابتدأها، حيث وصل إلى قوله تعالى: "إن الله يامر بالعدل والإحسان..."، فاستجازه فأجازه وأشهد عليه، ثم أكمل على الشيخين: ابن الصائغ وعبد الرحمان البغدادي ثم قرأ على ابن الصائغ القراءات السبع بمضمن الكتب: العنوان والتيسير والشاطبية، ثم عاد إلى دمشق.
ب- الرحلة الثانية:
لم يكتف ابن الجزري بما أخذه في رحلته الأولى فنزل القاهرة ثانية وحصل له أن لقي ابن الصائغ ثانية فقرأ عليه القراءات العشر بمضمن الكتب: المستنير والتذكرة والإرشاديين والتجريد كما لقي ابن البغدادي وقرأ عليه القراءات الثلاث عشرة، وأخذ الفقه عن الشيخ عبد الرحيم الاسنوي وغيره وسمع الحديث على بعض شيوخها كأصحاب الفخر بن البخاري ثم عاد إلى دمشق.
ج- الرحلة الثالثة:
تاقت نفس ابن الجزري إلى مصر وشيوخها فجاءها ثالثة وأخذ علم الأصول والمعاني والبيان عن الشيخ ضياء الدين سعد الله القزويني كما أخذ عن غيره ثم رحل إلى الإسكندرية حيث لقي أصحاب ابن عبد السلام وابن نصر وغيرهم فسمع عليهم بعض الحديث، ولقي شيخ القراءات عبد الوهاب القرري فقرأ عليه بمضمن كتاب الإعلان وغيره وأخذ عليه كثيراً من كتب القراءات بالسماع والإجازة ولقي أيضاً ابن الدماميني.
د- الرحلة الرابعة:
ذكر ابن الجزري أنه كانت له رحلة رابعة إلى مصر، وكانت هذه برفقة أولاده وأهله، وفيها لقي الشيخ صلاح الدين البلبيسي أبو عبد الله الأنصاري وقرأ عليه غير مرة، وسمع منه أولاده: محمد وأحمد وعلي.
قال ابن الجزري:
"رأيته وقد ضعف جداً بمنزله بزقاق النخالين بمصر في رحلتي الرابعة ورأيت إجازته بالسبع إفراداً وجمعاً..."، ويبدو أن ابن الجزري قد مكث في هذه الرحلة طويلاً وربما كان ينوي الاستقرار في القاهرة لولا ظلم وقهر سلط عليه فسلب ماله فرأى أن يرحل، ويظهر ذلك من خلال طول مكثه حيث ظل أزيد من ست سنوات؛ فهو قد شهد وفاة البلبيسي بالقاهرة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة وخرج منها مغادراً إياها سنة ثماني وتسعين، وعندها كان قد اشتغل بالحديث فتنوعت مجالسه وتوسعت حلقاته وكثر طلابه قال ابن عماد الحنبلي: "وحدث بالقاهرة بمسند أحمد ومسند الشافعي وغير ذلك...".
ولما قرر الرحيل خرج من القاهرة خائفاً يترقب عدوان (قطلبك استادار ايتكمش) الذي كان قد باشر عنده عملاً فنقم عليه شيئاً فنهدده حتى أتى الإسكندرية فمكث بها قليلاً وعندها لقيه ابن حجر العسقلاني وكانت بينهما مكاتبات وكان ابن الجزري قد خص ابن حجر على الرحلة إلى دمشق، ولما رغب في الرحلة إلى الأندلس ليأخذ عن شيوخها فمنعه والده خوفاً عليه من مشقة السفر وبعد البلاد.
المطلب الثاني: البلاد التي رحل إليها شيخاً معلماً
أولاً: رحلته إلى بلاد الروم
في سنة ثماني وتسعين وسبعمائة كان ابن الجزري مقيماً بالقاهرة فضاقت به أرضها نتيجة لما ناله من ظلم ومن سلب لماله، ومن عدوان عليه فخرج منها متجهاً نحو بلاد الروم فنزل بمدينة بورصة دار الملك العادل المجاهد بايزيد خان بن مراد بن أورخان بن عثمان وكان من خيار الملوك أثنى عليه ابن حجر فقال: "... من خيار ملوك الأرض، لم يلقب بلقب ولا أحد من آبائه وذريته ولا دعي بسلطان ولا ملك... كان مهاباً يحب العلم والعلماء ويكرم أهل القرآن"، وكان من تيسير الله لابن الجزري أن لقي تلميذه المعروف بالشيخ حاجي الذي كان قد قرأ عليه بدمشق فعرف الملك بقدره فعظمه وأكرمه ورتب له مائتي درهم في كل يوم وساق له عدة خيول، ووجد عنده مستقراً فعمل على نشر القراءات والحديث وهنالك انتفع بعلمه خلق كثير، وبها ألف كتابه النشر في القراءات العشر وأتمه في سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وحينما استقر بهذا المقام الطيب أهله لحقه أولاده وأحضرت كتبه.
ثانياً: رحلته إلى بلاد ما وراء النهر
في صيف عام خمس وثمانمائة قامت حرب ضروس بين تيمورلنك والسلطان العثماني بايزيد بأنقرة وكان ابن الجزري قد خرج مع الجيوش العثمانية لمواجهة المغول فشهد الواقعة التي أسفرت عن هزيمة الجيش العثماني وأسر سلطانهم مع احد أبنائهم وقتل آخر، واستولى تيمورلنك على مدينة بورصة قاعدة العثمانين ومقر إقامة ابن الجزري، وفي خضم هذه الفتنة رأى تيمورلنك -على عادته مع كبار علماء البلاد التي يدخلها- أن يأخذ ابن الجزري مكرهاً من مدينة بورصة إلى بلاد ما وراء النهر فأنزله بمدينة "كش" فقرأ عليه بها جماعة منهم: عبد القادر بن طلة الرومي والحافظ بايزيد الكشي وآخرون، وبالإضافة إلى الإقراء والتحديث بهذه المدينة شرع في تأليف بعض مؤلفاته، فألف كتابه: شرح المصابيح في ثلاثة مجلدات وألف غيره في التفسير والحديث والفقه والعربية، وظل بـ "كش" طوال السنتين لا يبرحها خوفاً من تيمورلنك.
ثالثاً: رحلته إلى بلاد خرسان
في شعبان سنة سبع وثمانمائة توفي تيمورلنك المغولي فاستغل ابن الجزري الفرصة وخرج إلى بلاد خرسان ودخل مدينة هراة وفيها قرأ عليه بالقراءات العشر العالم الإمام جمال الدين محمد بن افتخار الهروي وغيره، ومن هراة انتقل إلى "يزد" أين قرأ عليه للعشرة جماعة منهم المقرئ الفاضل شمس الدين محمد بن الدباغ البغدادي ثم دخل أصبهان فقرأ عليه جماعة لم يكملوا ما شرعوا في قراءته، وبعد عام كامل من خروجه من هراة وصل إلى شيراز في شهر رمضان، وبها أمسكه سلطانها بير محمد بن أمير تيمور وألزمه أن يلي قضاء شيراز وما أضيف إليها من مماليك فأجاب مكرهاً، وظل عليه مدة طويلة وكان خلالها كثيراً الإحسان لأهل الحجاز.
قال ابن حجر العسقلاني:
"... فلما أسر ابن عثمان اتصل ابن الجزري باللنك فعظمه وفوض له قضاء شيراز فباشره مدة طويلة وكان كثير الإحسان لأهل الحجاز"، وكان كل ملك يخلف سلفه لا يمكنه من الخروج من شيراز فطالت إقامته بها على كره منه لذلك خاصة بعدما تغيرت عليه الملوك وصارت سيرته لا تحمد عندهم.
رابعاً: رحلته إلى بلاد الحجاز
في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة ضاق صدر ابن الجزري بأرض شيراز وبتغير ملوكهـا عليه فتحين الفرصة للخروج، فخرج قاصداً الحج، ونزل بالبصرة من أرض العراق فرحل إليه أبو الحسن طاهر بن عرب الأصبهاني فجمع عليه ختمة بالعشر بمضمن الطيبة والنشر ثم شرع في ختمة لقتيبة ونصير عن الكسائي، وفارقه قبل أن يتم ذلك حيث توجه برفقة المولى معين الدين بن عبد الله كارزون فنزل بقرية عنيزة من نجد في طريقها منها إلى مكة أخذهم الأعراب ونهبوا ماعندهما من مال وكادا أن يقتلا، وحين استطاعا أن ينجوا عادا إلى عنيزة ونظم بها قصيدته الدرة المضيئة.
وسطر تلك الحادثة بها بعد ما فاتهما حج ذلك العام فقال:
غريبــة أوطـان بنجـد نظمتــها ***
وعظـم اشتغال البال واف وكيف لا
صددت عن البيت الحرام وزوري المـ ***
قـام الشريف المصطفى أشرف الملا
وطوقنـي الأعـراب باللـيل غفــلة ***
فمـا تـركـوا شيـئاً وكدت لأقتلا
فـأدركنـي اللطـف الخفـي وردنـي ***
عنيـزة حتـى جـاء مـن تكفـلا
بحمـلي وإيصـالـي لطيبـة آمنــا ***
فيـارب بلغـني مـرادي وسهـلاً
وبعنيزة عرض المولى معين الدين عليه ختمة بقراءة أبي جعفر المدني وأتمها بالمدينة الشريفة ثم شرع بختمة أخرى لابن كثير أتمها بمكة وكان في أثناء الطريق يقرأ عليه قراءة عاصم . وأقام بجوار الحرمين طيلة سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة.
قال ابن عماد الحنبلي:
"... ثم اتفعه أنه حج سنة اثنتيـن وعشرين وثمانمائـة فتهب ففاته الحج وأقام ينبع ثم المدينة المنورة ثم بمكة إلى أن حج..." .
خامساً: رحلته إلى اليمن
في سنة سبع وعشرين وثمانمائة خرج ابن الجزري في رحلة طويلة قادته إلى اليمن، وكان قد مر في طريقه على مدن كثيرة فقدم دمشق ثم دخل القاهرة فالتقى بابنه أحمد الذي فارقه منذ عشرين سنة، واجتمع بالسلطان الأشرف فعظمه وأكرمه وأقام بها قليلاً، وفي ذلك تصدى للإقراء والتحديث ثم نزل بمكة وحج ثانية، ومنها إلى اليمن التي دخلها تاجراً فلقي من أميرها إكراماً وتعظيما، وأسمع عنده الحديث، وأخذ عنه جماعة القراءات واسمعهم كتابة: الحصن الحصين، وكان من هؤلاء أحمد بن محمد بن أحمد الأشعري العبدلي.
قال ابن عماد الحنبلي:
"... وكان قديماً قد صنف الحصن الحصين في الأدعية ولهج به أهل اليمن واستكثروا منه وسمعوه قبل أن يدخل عليهم، ثم دخل إليهم فأسمعهم"، ومن اليمن انطلق راجعاً إلى شيراز محملاً ببضاعة كثيرة، فمر بالقاهرة ومنها إلى الشام ثم البصرة إلى أن وصل إلى شيراز التي أتمَّ بها بقية أيامه، وهكذا نجد ابن الجزري لم يكن من خلال رحلاته وجولاته طالب دنيا أو متاع زائل وإنما كانت جميع أسفاره ورحلاته خدمة للعلم وبالأخص علم القراءات، فهو لم يرحل إلا لطلب علم أو لنشره، وكان كلما دخل بلداً أتى سلطانها وعلماءها فيلقى منهم التبجيل والإكرام والتعظيم، كما كان كلما دخل بلداً لا يخرج منه إلا وقد ترك فيه من أبنائه تلاميذاً له أخذوا عنه القراءات أو الحديث.