الباب الثاني: مؤلفاته في علم القراءات (تمهيد)
-----------------------------------------------
لم تكن في الصدر الأول عهد الصحابة -رضي الله عنهم- ضرورة تدعو إلى التأليف في علم القراءات؛ إذ كان الناس ملتزمين بما ثبت من القراءة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكثر الجدل لديهم في ذلك، وما أن استهل القرن الثالث الهجري حتى أخذ الخرق يتسع والضبط يقل والخلط يكثر واللحن يفشو في أوجه قراءات القرآن؛ وذلك لكثرة من دخل الإسلام من بلاد العجم ولرغبة أهل الأهواء في إيجاد ما يوافق هواهم وبدعهم من القراءات القرآنية، فأخذوا يقرؤون بما لم تثبت قراءته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- متجاهلين ضوابط القراءة المقبولة الصحيحة ومتخذين ذلك ورائهم ظهرياً.

ولما صار الحال كذلك ظهرت فكرة التأليف في علم القراءات قصد ضبط القراءات الثابتة المروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجمعها ودرء عنها ما أضاف الناس من عند أنفسهم وما اتبعوا فيه هواهم، وكان الضابط في قبول القراءات لديهم ما أجمع عليه الأئمة القراء في ذلك الزمان.

وهو أن القراءة لا تُقبل إلا بالأركان الثلاثة:
    1- تواتر إسنادها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.

    2- موافقتها للرسم العثماني.
    3- موافقتها للغة العربية.


وكان أول مَنْ ألّف في القراءات -على الإطلاق- الإمام هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور البصري الأزدي  مولاهم المتوفى قبل المائة الثالثة.

قال أبو حاتم السجستاني:
"كان أول من سمع بالبصرة وجوه القراءات، وألفها وتتبع الشاذ منها فبحث عن إسناده".

ومن خلال هذا النص يتبين أن المقرئ هارون بن موسى الأعور كان أول من وضع البذرة في حقل التأليف في علم القراءات.

ويعتبر الإمام المقرئ أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة مائتين وأربع وعشرين أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب وجعل القراء فيه خمسة وعشرين قارئاً.

وبعد أبي عبيد توالى الأئمة يؤلفون في هذا الفن، فمنهم المكثر ومنهم المقل، ومنهم الجامع ومنهم المصحح، ومنهم الناظم ومنهم الناثر، وسوف نعرض نماذج لهم بحسب أزمنتهم مكتفين بمثالين اثنين لكل قرن هجري حتى عصر ابن الجزري.

أولاً: أصحاب القرن الثالث
1- الإمام أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية المتوفى سنة ثماني وخمسين ومائتين، الذي ألف كتاباً جمع فيه القراءات الخمس.

2- الإمام القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون المتوفى سنة اثنتين وثمانين ومائتين الذي جمع في مؤلفه قراءات عشرين إماماً من القراء.

ثانياً: من أصحاب القرن الرابع
1- الإمام المفسر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة عشر وثلاثمائة جمع في مؤلف نيف وعشرين قراءة.

2- الإمام المقرئ أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المتوفى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وكان أول من اقتصر على القراءات السبع في كتابه وهو أول كتاب معتمد لصحة ما أورد فيه ولسعة علمه وتفوقه على قراء عصره واعتمد منهجه الذي اتبعه فيه لدى كل القراء الذين جاءوا من بعد، فهو أول من جعل القراءات أصولاً وفرشاً، وفصل بين الأمرين. 

ثالثاً: من أصحاب القرن الخامس
1- الأستاذ أبو عمر أحمد بن محمد الطلنمكي المتوفى سنة تسع وعشرين وأربعمائة الذي يعتبر أول مَنْ أدخل القراءات إلى بلاد الغرب الإسلامي بعد رحلته إلى مصر والقراءة على قرائها، وألّف بعد ذلك كتابه الروضة.

2- الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، ألف كتابا التبصرة في القراءات السبع، والكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحجها والإبانة عن معاني القراءات.

3- الإمام المحقق أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني المتوفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة الذي ألف كتابه التيسير في القراءات السبع، وجامع البيان في السبع أيضا، وكتابا في تراجم القراء.

رابعاً: من أصحاب القرن السادس
1- الإمام المقرئ القاسم بن فيره الشاطبي المتوفى سنة تسعين وخمسمائة والذي قام بنظم كتاب التيسير على أحسن منوال في منظومته المسماة بحرز الأماني ووجه التهاني الشهيرة بالشاطبية، والتي نالت إعجاب القراء فأقبلوا عليها قراءة بمضمونها وشرحاً لها وتعليقاً عليها، فذاعت في الآفاق شهرتها حتى أنها لم يخل بيت طالب علم منها، وهي أحد مصادر الإقراء في العالم الإسلامي اليوم.

2- المقرئ أبو محمد عبد الله بن علي المعروف بسبط الخياط المتوفى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة والذي ألف كتابه المبهج في القراءات الثماني وقراءة ابن محيصن والأعمش واختيار خلف واليزيدي.

خامساً: من أصحاب القرن السابع
1- الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بعلم الدين السخاوي المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة والذي ألف كتابه جمال القراء وكمال الإقراء وجمع فيه مسائل شتى في القراءات والتجويد وغير ذلك.

2- الإمام المقرئ أبو عبد الله محمد بن أحمد الموصلي المتوفى سنة ست وخمسين وستمائة والذي نظم قصيدة رائية اسماها الشفعة في القراءات السبع.

سادساً: من أصحاب القرن الثامن
1- الإمام أبو محمد عبد الله بن عبد المؤمن الواسطي المتوفى سنة أربعين وسبعمائة والذي ألف كتابه الكنز في القراءات العشر، ونظم قصيدته الكفاية في القراءات العشر.

2- الإمام المقرئ أبو بكر عبد الله بن أيدغدي الشهير بابن الجندي المتوفى سنة تسع وستين وسبعمائة والذي ألّف كتابه البستان في القراءات الثلاث عشرة وهو أحد شيوخ ابن الجزري.

هذه جملة من المؤلفات في علم القراءات منذ بداية التأليف فيه حتى عصر ابن الجزري، وغيرها مما لم نذكرها كثير، ولا شك أن ما ذكرناه فيه دلالة واضحة على حرص الأئمة القراء الشديد على تدوين القراءات وصيانتها من أن يضيع جزء منها، أو أن يلحق بها ما ليس منها.

وفي مطلع القرن التاسع ظهر محمد بن الجزري إماماً مقرئاً محققاً جامعاً لأسانيد القراءات، وتبوأ مقاماً سامياً بين قراء زمانه، وصار مرجعاً للعالم الإسلامي -شرقاً وغرباً- في القراءة والإقراء، وكان له أثره البارز في نشر القراءات واستقرار الكثير من أحكامها وحسم الخلاف في كثير من مسائلها، وكان له إسهام كبير في التأليف فيها رواية ودراية؛ إذ بلغت مؤلفاته أزيد من أربعين كتاباً في علم القراءات، كانت كلها غاية في التحقيق ومرجعاً عند التدقيق.

وما قصدته في هذا الباب هو الكشف عن جملة تلك المؤلفات التي أسهم بها في علم القراءات وأثراه بها، وإبراز قيمتها العلمية حتى يتسنى لنا من خلال ذلك إدراك قيمة تلك  الجهود التي بذلها في هذا العلم.

وللوقوف على ذلك قسمت الباب إلى فصول أربعة هي:
الفصل الأول: مؤلفاته في القراءات المتواترة والشاذة.
الفصل الثاني: مؤلفاته في مفردات القراء وأصول القراءات والمسائل الخاصة.
الفصل الثالث: مؤلفاته في علم التجويد والرسم وتراجم القراء.
الفصل الرابع: موارده ومنهجه في الإفادة منها.