2- الطعن في ركن القراءات القرآنية الثاني (رسم المصحف)
2- الطعن في ركن القراءات القرآنية الثاني (رسم المصحف) Ocia1992
يُرَادُ برسم المصحف:
الوضع الذي أثبته عثمان -رضي الله عنه- ومن معه من الصحابة من كلمات القرآن وحروفه في المصاحف التي نسخها، ثم أرسل منها إلى الأمصار.

فالرسم, لغة:

الخط والأثر وهو ((تصوير الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها والوقوف عليها)).

والمراد بالمصحف:
المصاحف العثمانية التي أجمع عليها الصحابة،... هذا الرسم الذي أجمعت عليه الأمة وتلقته بالقبول بترتيب آياته، بل كلماته، بل حروفه، ليس لنا إلى إنكاره من سبيل، وأصبح مصحف عثمان الإمام والدليل (1).

ولقد تحمَّلت جميع المصاحف العثمانية وجوه القراءات القرآنية الصحيحة كلها كتابة، بعد أن تحمَّلها الرجال مُشافهة من فِيِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدره مباشرة، إلى الأمصار التي انتشروا فيها يعلمون القرآن الكريم، كل بما تلقى عنه -ولا غيره- من وجوه كلها صواب، شاف كاف.

وحسبما سمي يرتبط هذا الخط بالتدوين الثالث (2) للقرآن الكريم، الذي أمر به الخليفة الثالث عثمان بن عفان أمير المؤمنين رضي الله عنه، وقام عليه وبه معه جمهور الصحابة ثم أجمعوا عليه (3) فالتزمته الأمة، وقفاً على القرآن الكريم، ورسماً لحروفه وكلماته وحده، حيث ((إنه رسم بطريقة خاصة ترفع الخلاف الذي وقع فيه القراء، وأحدث بين الناس شغباً)) (4).

__________
 (1) رسم المصحف، د. عبد الفتاح شلبي، ص9- 10 باختصار.
 (2) انظر: الأحرف السبعة للقرآن، لأبي عمرو الداني، تحقيق د. عبد المهيمن طحان، ص 62-63.
 (3) يقول مكي بن أبي طالب: " وساعده على ذلك زهاء اثني عشر ألفاً من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين واتبعه على ذلك جماعة المسلمين "، الإبانة، تحقيق د. عبد الفتاح شلبي، ص 32.
 (4) جواهر العرفان، د. رؤوف شلبي، ص 387.
__________

ومع انتشار القرآن الكريم في الأعصار والأمصار كان لا بد من اعتبار هذا الرسم ضابطاً كتابياً ثابتاً لحروفه وكلماته، وتتوافر له وبه شروط التناقل من جيل إلى جيل، بالتعليم والنشر بين الناس، ويوصف أيضاً ببعض خصائص القرآن الكريم بالتبعية بعد أن أجمع عليه كبار الصحابة وارتضته الأمة الإسلامية كلها ((وورثته تركة عن أكابر الصحابة، وهم الأعرف بكتاب الله، الذين شاهدوا الوحي، والنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأجمع عليه المسلمون جميعاً حتى صار الرسم العثماني خاصية من خصائص القرآن الكريم)) (1).

وهذا الركن إذا ما لمحنا فيه استمداده من كتابة الوحي بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- بإملائه (2)، وأن الكتبة أولاً -وهم بعض الصحابة- هم الذين قاموا بهذه الكتابة أيضاً، ثانياً وثالثاً، بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، تبينا مدى أهمية هذا الركن وضرورته لما شرط له من ضبط وتحقيق لنص وحي مقدس.

وفي الواقع التاريخي نجد أن قراءات القرآن الكريم تتفق وضابط الرسم في جميع المصاحف -كما أثبته فيها الصحابة- ويتحمل جميع وجوهها الصحيحة بلا تعارض، بل يتسع ليشمل كل القراءات، حيث لا نقط ولا شكل، لينضبط المكتوب -كما يتسع- وفق روايته المنقولة، شفاهة بالإسناد، وتلقينا بالتعليم، كما كان بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتحقق للقراءات القرآنية كل أصول الضبط وصور التوثيق.

__________
 (1) المرجع السابق، ص 393 باختصار.
 (2) انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج1،ص 238، دار المعرفة، 1972م.
__________

يقول الشيخ الزرقاني -رحمه الله- (1):
((كان الاعتماد في نقل القرآن -ولا يزال- على التلقي من صدور الرجال، ثقةً عن ثقةٍ، وإماماً عن إمامٍ، إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لذلك اختار عثمان حُفّاظاً يثق بهم وأنفذهم إلى الأقطار الإسلامية، واعتبر هذه المصاحف أصولاً ثواني مبالغة في الأمر وتوثيقاً للقرآن ولجمع كلمة المسلمين)).

وعن أسس ضابط الرسم الكتابي هذا يقول د. عبد الصبور شاهين (2):
((إن الذين استخدموه في كتابة القرآن قد أقاموه على أساسين: الأول: أنهم كانوا يحسون بملاءمة هذا الخط كوسيلة لحفظ النص -ما عُلّموه- وكما روي - ومنع تغييره أو تحريفه، والثاني: أنهم واءموا بين الرمز والصوت بقدر الإمكان، والدليل على ثبوتهما بدهي، هو أن النص قد وصل إلينا سليماً، دون أن يتغيَّر شيءٌ من رسمه،... وأن وراء تصرف أصحابه دواعيهم وفقههم لروح عملهم (3)،... ومع ذلك فالرسم ليس إلا مقياساً وقائياً، يمنع ما لا يدخل في نطاقه، مما صح من الروايات، فهو يُعَدُّ المصفاة الأولى التي تمر بها الحروف، فالرسم لا ينشئ القراءة، ولكنه يحكم عليها)).

__________
 (1) مناهل العرفان، ص337.
 (2) تاريخ القرآن، ص 209-210 باختصار.
 (3) يقول د. عبد الله ابن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "كما أن رسم المصحف توقيفي سواء كان ذلك بوحي، أم بتوفيق من الله تعالى لنبيه وصحابته، فإنه رسم لم يأت اعتباطاً، وإنما هو الوحي الذي نزّل الله على نبيه أو يلهمه لبعض خلقه": ( الفتح الرباني في علاقة القراءات بالرسم العثماني، د. محمد محمد سالم محيسن، ص 10).
__________