الباب الثامن عشر: ما جاء في التنزيل من لفظ مَنْ ومَا والَّذي وكُلُّ وأحَدٍ
------------------------------------------------------------
وغير ذلك فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن الناس من يقول آمنا بالله ‏"‏‏.‏
فكنى عن من بالمفرد حيث قال يقول ثم قال‏:‏ ‏"‏ وما هم بمؤمنين ‏"‏ فحمل على المعنى وجمع‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ‏"‏ فأفرد الكناية في أسلم وله وهو‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏"‏ فجمع‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة ‏"‏ فأفرده ثم جمع‏.‏
وقال في موضع آخر‏:‏ ‏"‏ ومنهم من يستمعون إليك ‏"‏‏.‏
وقال‏.‏
‏"‏ ومن يقنت منكن لله ورسوله ‏"‏ فذكر يقنت ثم قال‏:‏ ‏"‏ وتعمل صالحاً نؤتها ‏"‏ فأنث حملاً على المعنى والقياس في هذا أن يكنى عن لفظ ثم يحمل على المعنى ويثنى ويجمع ويؤنث‏.‏
فأما إذا كنيت عنه بالجمع ثم تكنى عنه بالمفرد فإنهم قالوا‏:‏ هذا لا يحسن وقد جاء التنزيل بخلاف ذلك‏.‏
قال‏:‏ ‏"‏ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً ‏"‏‏.‏
فجمع خالدين بعد إفراد اللفظ‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ قد أحسن الله له رزقاً ‏"‏ فأفرد‏.‏
قال عثمان في قول الفرزدق من أبيات الكتاب‏:‏ عاجل القرى بدل من أخلاقة جوهر عن حدث لأن أخلاقه بدل من أبي فهو كمعين بعد جاء حينه‏.‏
ولا يلزم عوده إلى الأول لأنه قد جاء‏:‏ ‏"‏ قد أحسن الله له رزقاً ‏"‏ ويجوز أن يكون عاجلاً كالعافية‏.‏
ويوضحه ما بعده من المصدر‏.‏
قال‏:‏ فرق بين معين وعاجل في العود إلى الأول بأنه بيان وليس في العود إلى من بيان الأول‏.‏
وهو كلام ساقط بعد الجهل بقوله‏:‏ ‏"‏ قد أحسن الله له رزقاً ‏"‏‏.‏
وجوز في أخلاقه أن يكون مفعولاً ثانياً ويجوز حذف من أي‏:‏ من أبي‏.‏
وإذا ثبت وصح أنه يجوز ويحسن العود إلى الإفراد بعد الجمع كان قوله‏:‏ ‏"‏ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ‏"‏ تذكيراً بعد التأنيث لأنه أنث خالصة حملا لها على معنى التأنيث ثم عاد إلى اللفظ‏.‏
وإذا كان كذلك فقول الشماخ‏:‏ أمن دمنتين عرس الركب فيهما بعقل الرجامى قد عفا طللاهما أقام على ربعيهما جارتا صفاً كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما لا يبطل به حجة من احتج على إجازة سيبويه‏:‏ مررت برجل حسن وجهه قد احتج بهذا البيت على جواز المسألة‏.‏
وقال‏:‏ جونتا مصطلاهما كحسنى وجهها‏.‏
فقال قائلون‏:‏ إن قوله‏:‏ مصطلاهما بعودهما إلى الأعالي لأن الأعالي بمعنى الأعليين‏.‏
قيل لهم‏:‏ التثنية بعد الجمع محال لا يحسن‏.‏
فقالوا‏:‏ قد جاء الإفراد بعد الجمع والتذكير بعد التأنيث وإنما يبطل احتجاجهم بأنه لا يقال كميتا الأعالي جونتا مصطلى الأعالي‏.‏
وإنما يقال مصطلى الأسافل‏.‏
وهذا حديث قد كتبناه في مواضع ليس من بابه هذا الكتاب‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ كمثل الذِي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ‏"‏ فكنى عنه بالمفرد‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ ذهب الله بنورهم ‏"‏ فكنى عنه بالجمع‏.‏
ومثله‏:‏ ‏"‏ والذِي جاء بالصدق وصدق به ‏"‏‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ أولئك هم المتقون ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ والذِي قال لوالديه أف لكما ‏"‏‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏"‏ أولئك الذين حق عليهم القول ‏"‏‏.‏
ويجوز أن يكون التقدير في قوله‏:‏ ‏"‏ والذِي قال لوالديه ‏"‏ أي وفيما يتلى عليكم فحذف الخبر‏.‏
ومثله‏:‏ ‏"‏ تماماً على الذِي أحسن ‏"‏ أي تماماً على المحسنين عن مجاهد كأنه قيل‏:‏ تماماً على المحسنين الذي هو أحدهم‏.‏
وقيل‏:‏ تماماً على إحسانه أي إحسان موسى بطاعته فيكون مصدراً كقوله‏:‏ ‏"‏ وخضتم كالذِي وعلى الأول جنس كقوله‏:‏ ‏"‏ بأحسن الذِي كانوا يعملون ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ أرنا الذين أضلانا ‏"‏‏.‏
ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويجعلون لما لا يعملون نصيباً مما رزقناهم ‏"‏‏.‏
قال أبو علي‏:‏ القول فيما يعود من الصلة إلى الموصول إنه لا يخلو من أن يكون ما يقدرها محذوفة أو يكون الواو فلا يجوز أن تكون الهاء لأن الكفار يعرفون ما يتخذونه آلهة‏.‏
فإذا لم يجز ذلك علمت أن الراجع إلى الموصول الواو في يعلمون‏.‏
وإنما عاد عليه على لفظ الجمع كما قال‏:‏ ‏"‏ ولا يستطيعون ‏"‏ فحمل على المعنى والضمير في يجعلون للكفار والذي في يعملون يعود إلى ما‏.‏
كما قال‏:‏ ‏"‏ وما يشعرون ‏"‏‏.‏
فهذا كقوله‏:‏ ‏"‏ ما لا يملك لهم من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون ‏"‏‏.‏
فالضمير في لا يستطيعون‏.‏
وقال في موضع آخر‏:‏ التقدير‏:‏ ويجعلون لما لا يعلمونه إلهاً فحذف المفعولين‏.‏
ومن ذلك قوله‏:‏ ‏"‏ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ‏"‏ يحتمل قوله‏:‏ تلقف أمرين‏:‏ يجوز أن يكون في تلقف ضمير قوله‏:‏ ما في يمينك وأنت على المعنى لأنه في المعنى‏:‏ عصا‏.‏
ويؤكد ذلك قوله‏:‏ ‏"‏ فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ‏"‏ وكذلك يكون الضمير في قوله‏:‏ ‏"‏ وألق ما في يمينك تلقف ‏"‏ ويجوز أن تكون تلقف للمخاطب وجعله هو المتلقف وإن كان المتلقف في الحقيقة العصا لأنه بإلقائه كان فأسند التلقف إليه وإن كان للعصا في الحقيقة كما قال‏:‏ ‏"‏ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ‏"‏‏.‏
ومما حمل على المعنى‏:‏ قوله ‏"‏ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ‏"‏‏.‏
فالضمير في يتعلمون يعود إلى أحد‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ لا نفرق بين أحد منهم ‏"‏ وبين لا تضاف إلى المفرد قال في ثلاثة مواضع هذا اللفظ‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم ‏"‏ فجمع الضمير في يحاجوكم حملا على المعنى‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ فما منكم من أحد عنه حاجزين ‏"‏‏.‏
فهذا على الحجازية‏:‏ أحد اسمها وحاجزين خبر له‏.‏
ولم يبطل الفصل هنا عمل ما لأن الفصل بالظرف كلا فصل‏.‏
وعلى التميمية‏:‏ حاجزين نعت ل أحد على المعنى‏.‏
ومنكم خبره‏.‏
ومن الحمل مرة على اللفظ وأخرى على المعنى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً ‏"‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ وكلهم آتيه ‏"‏ ولم يقل‏:‏ آتوه‏.‏
ولا آتوا الرحمن‏.‏
وقال‏:‏ ‏"‏ كل شيء هالك إلا وجهه ‏"‏‏.‏