السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (31-33)
وَعَلَّمَ ادَمَ الاْسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلئِكَةِ فَقالَ اَنْبِؤُنِي بِأَسْماءِ هَؤُلاءِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ 31 قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 32 قَالَ يا ادَمُ اَنْبِئْهُمْ بِاَسْمائِهِمْ فَلَمَّا اَنْبَاَهُمْ بِاَسْمائِهِمْ قَالَ اَلَمْ اَقُلْ لَكُمْ اِنِّي اَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالاْرْضِ وَاَعْلَمُ مَا تَبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ 33
مقدمة
اعلم! ان هذه معجزة آدم تحدِّيت بها الملائكة بل معجزة نوع البشر في دعوى الخلافة. ان في القصَصَ لعبراً.
ثم اني نظراً الى ان (ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين) 1 ومستنداً الى ان التنزيل كما يفيدك بدلالاته ونصوصه؛ كذلك يعلّمك باشارته ورموزه، لأفهمُ من اشارات 2 استاذية اعجاز القرآن الكريم في قَصَص الأنبياء ومعجزاتهم التشويقَ والتشجيعَ للبشر على التوسل للوصول إلى أشباهها.
كأن القرآن بتلك القصص يضع اصبعه على الخطوط الأساسية ونظائر نتايج نهايات مساعي البشر للترقي في الاستقبال الذي يُبنى على مؤسسات الماضي الذي هو مرآة المستقبل.
وكأن القرآن يمسح ظهر البشر بيد التشويق والتشجيع قائلا له:
اسع واجتهد في الوسائل التي توصلك الى بعض تلك الخوارق! أفلا ترى ان الساعة والسفينة أول ما أهدتهما للبشر يد المعجزة.
وان شئت فانظر الى (وعلّم آدم الاسماء كلها) والى (ولقد اتينا داودَ منّا فضلا يا جبالُ أوّبي معه والطير وألنّا له الحديد) 3.
_____________________
1 سورة الانعام: 59
2 فان كنت في ريب فيما استخرجه من لطائف نظم التنزيل، فاقول:
قد استشرنا ابن الفارض تفاؤلاً فأجاب بـ:
كأن الكرام الكاتبين تنزّلوا على قلبه وحياً بما في صحيفة (حبيب)
3 سورة سبأ: 10
والى (ولسليمن الريح غُدوّها شهر ورواحها شهر وأسَلْنا له عَينَ القطر) 1 "أي النحاس" والى (اضرب بعصاكَ الحجَرَ فانفجرتْ منه اثنتا عشرة عينا) 2 والى (وتبرئُ الاكمهَ والأبرصَ بإذني) 3!. ثم تأمل فيما مخّضه تلاحق أفكار البشر واستنبطه من ألوف فنونٍ ناطقٍ.
كل منها -بخواص وصفات وأسماء- نوع من أنواع الكائنات حتى صار البشر مظهر (وعلّم آدم الأسماء كلها) ثم فيما استخرجه فكر البشر من عجائب الصنعة من السكّة الحديدية والآلة البرقية وغيرهما بواسطة تليين الحديد وإذابة النحاس حتى صار مظهر (وألنّا له الحديدَ) الذي هو امّ صنائعه، وفيما أفرخه أذهان البشر من الطيّارات التي تسير في يوم شهراً حتى كاد ان يصير مظهر (غُدُوها شهرٌ ورَواحُها شهر)، وفيما ترقى اليه سعى البشر من اختراع الآلات والعصي التي تضرب في الأرض الرملة اليابسة فتفور منها عين نضّاخة وتصير الرملة روضة حتى أوشك ان يصير مظهر (اضرب بعصاك الحجر)، وفيما انتجه تجارب البشر من خوارق الطب التي طفق ان تبرئ الأكمه والأبرص والمزمن باذن الله.. تر مناسبة تامة تصح لك أن تقول تلك مقائسها، وذكرها يشير اليها ويشجع عليها..
وكذا انظر الى قوله تعالى (يا نارُ كوني برداً وسلاما) 4 والى (لولا ان رَءا برهانَ ربه) 5 أي صورة يعقوب عاضًا على اصبعه في رواية، والى (اني لأَجِد ريحَ يوسف) 6 والى (يا جبالُ أوّبي معه) والى (عُلِّمنا منطق الطير) 7 والى (أنا آتيك به قبل ان يرتدّ اليك طرفُك) 8 وأمثالها، ثم تأمل فيما كشفه البشر من مرتبة النار التي لا تحرق ومن الوسائط التي تمنع الإِحراق، وفيما اخترعه من الوسائل التي تجلب الصور والأصوات من مسافات بعيدة وتحضرها اليك قبل ان يرتد اليك طرفك، وفيما أبدعه فكر البشر من الآلات الناطقة بما تتكلم، وفي استخدامه لأنواع الطيور والحمامات وقس عليها، لترى بين هذين القسمين ملاءمة يحق بها ان يقال في هذه رموز الى تلك.
_____________________
1 سورة سبأ: 12
2 سورة البقرة: 60
3 سورة المائدة: 110
4 سورة الانبياء: 69
5 سورة يوسف: 24
6 سورة يوسف: 94
7 سورة النمل: 16
8 سورة النمل: 40
وكذا تأمل في خاصية المعجزة الكبرى التي هي خاصية الناطقية التي هي خاصية الانسانية وهي الأدب والبلاغة، ثم تدبر في ان أعلى ما يربِّي روح البشر وألطف ما يصفِّي وجدانه وأحسن ما يزيِّن فكره وأبسط ما يوسِع قلبه انما هو نوع من الأدبيات.
ولأمر مّا ترى هذا النوع أبسط الفنون وأوسعها مجالا وأنفذها وأشدها تأثيراً وألصقها بقلوب البشر حتى كأنه سلطانها. فتأمل!..
ثم ان لهذه الآية أيضا الوجوه الثلاثة النظمية:
أما نظم مآلها بسابقتها فمن وجوه أربعة:
الأول: ان التنزيل لما ذكر في الآية الأولى في بيان حكمة خلقة الانسان ما هو اوّل الاجوبة وأولاها وأعمها للكل وأيسرها وأسهلها اقناعاً وأجملها اجمالاً وأوجزها، بيّن بهذه الآية جوابًا تفصيليًا يطمئن به العوام والخواص.
والثاني: انه لما صرح في تلك بمسألة الخلافة للبشر برهن بهذه على تلك الدعوى بمعجزة ذلك النوع في مقابلة الملائكة.
والثالث: انه لما أشار بتلك الى ترجح البشر على الملَك رمز بهذه الى لِميّة الرجحان.
والرابع: انه لما لوّح بها الى مظهرية هذا النوع للخلافة الكبرى في الأرض لمح بهذه احتجاجا عليها الى ان الانسان هو النسخة الجامعة والمظهر الاتمّ لكل التجليات لتنوع استعداداته وتكثر طرف استفاداته وعلمه فيحيط بالكائنات بحواسه الخمس الظاهرة والباطنة لا سيما بوجدانه الذي لا قعر له.
أفلا تراه يعلم أمثال حلاوة العسل بوجهين بل بوجوه خلاف الملَك فتأمل!
أما نظم الجمل بعضها مع بعض ففطريّ في غاية السلاسة:
فالأولى: تحقيق لمضمون (اني أعلم ما لا تعلمون) وتفصيل لما أجمل فيها وتفسير لما أبهم.. وكذا ان خلافة الله تعالى في أرضه لإجراء أحكامه وتطبيق قوانينه تتوقف على علم تام.. وكذا ان انصباب الكلام في الآية الأولى ينجر الى "فخلقه وسوّاه ونفخ فيه من روحه وربّاه ثم علّم الأسماء وأعده للخلافة".
ثم لما اصطفاه على الملائكة وميّزه بعلم الأسماء في مسألة الرجحان واستحقاق الخلافة اقتضى مقام التحدِّي عرض الأشياء عليهم وطلب المعارضة منهم.
ثم لما أحسوا بالعجز من أنفسهم اقرّوا بحكمته تعالى واطمأنوا. ولهذا قال: (ثم عرضهم على الملئكة فقال انبؤني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين). "قالوا" أي متبرئين مما دسّه في استفسارهم انانيةُ ابليس (سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم) 1 ثم لما ظهر عجزهم لعدم جامعية استعدادهم اقتضى المقام بيان اقتدار آدم حتى يتم التحدِّي فقال: (يا آدم أنبئهم باسمائهم) ثم لما امتثل وظهر سر الحكمة فيه اقتضى المقام استحضار الجواب الاجمالي السابق وجعله كالنتيجة لهذا التفصيل فقال: (ألم أقل لكم اني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) واعلم! انه قد تشفّ وتحسّ صورة المقاولة عن تولّد انانية ابليس فيما بين الملائكة وتشعر بتداخل اعتراض طائفة بين استفسارهم.
أما نظم هيئات جملة جملة:
فجملة (وعلم آدم الأسماء كلها) أي صوّره بفطرة تضمنت مبادئ أنواع الكمالات، وخلقه باستعداد زرع فيه أنواع المعالي، وجهزه بالحواس العشر وبوجدان تتمثل فيه الموجودات، واعدّه بهذه الثلاث لتعلّم حقائق الأشياء بأنواعها، ثم علّمه الأسماء كلها.
الواو فيها اشارة الى الجمل المطوية تحت إيجازه كما مر.
و(علم) فيه اشارة الى تنويه العلم ورفعة درجته وانه هو المحور للخلافة.. وكذا رمز الى أن الأسماء توقيفية.
ويؤيده وجود المناسبة المرجحة للوضع -في الأغلب- بين الأسماء والمسميات.. وكذا ايماء الى ان المعجزة فعل الله بلا واسطة خلافاً للفلاسفة الذين يقولون ان الخوارق أفعال للأرواح الخارقة. و(آدم) أي الشخص الأرضي الذي أراد الله تعالى خلافته وسماه آدم فالتصريح بالعلم لتنويهه وتشهيره واحضاره بصورته.. و(الأسماء) سمات الأشياء من الصفات والخواص والأسماء، أو اللغات التي اقتسمها بنو آدم.
_____________________
1 لقد جاءت الى لساني - دون اختيارٍ مني- هذه الآية الكريمة في ختام معظم "الكلمات " و "المكتوبات " من رسائل النور، والآن فقط ادركت ان تفسيري هذا قد اُختتم ايضاً بهذه الآية الكريمة. فجميع "الكلمات " اذاً ما هي الاّ تفسير حقيقي لهذه الآية الكريمة، وجدول رقراق ينساب من بحرها ثم يصب فيه في خاتمة المطاف. حتى لكأن كل " كلمة " من "الكلمات " تنبع من هذه الآية الكريمة. فانا اذاً لم استكمل منذ ذلك الوقت تفسير هذه الآية كي اشرع في الجزء الثاني من التفسير.
سعيد النورسي (ت:244)
وفيه ايماء بدليل (عرضهم) الى ان الاسم عين المسمى 1 كما عليه أهل السنة و (كلها) تنصيص على منشأ التميز ومدار الاعجاز.. وجملة (ثم عرضهم على الملئكة فقال انبؤني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين) فـ (ثم) اشارة بسر التراخي واقتضاء المقام الى "وقال هو أكرم منكم وأحق بالخلافة".
واما (عرضهم) أي اظهر أنواع الأشياء مبسوطة للبيع لانظارهم كعرض المتاع على المشتري وعرض الصفوف على الأمير ففيه اشارة الى ان الموجودات مال للمُدْرِك يشتريها بالعلم، ويأخذها بالاسم، ويتملكها بتمثل الصورة.
وأما "هم" الدال على الذكور العقلاء فسر ما فيه من التغليبين والمجاز ما يرمز اليه لفظ العرض 2.
اذ يتخيل من ارساله صور طوائف الموجودات مارة صفاً صفاً على الأنظار - كونها قبائل من العقلاء يجيئون اليهم.
واما (على) فايماء الى ان ما يعرض عليهم هي الصور المرتسمة في اللوح الأعلى.
_____________________
1 اى اذا اريد بالاسم ذات الشئ(ب)
2 حيث هناك تغليب الذكور على الاناث، وتغليب العقلاء على غيرهم.
اما المجاز فهو في رجوع «هم» الى انواع الجمادات (ت:243).