السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (21-22)
يَا اَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 21 الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَاَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَاَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا ِلله اَنْدَاداً وَاَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 22
مقدمة
اعلم! ان العبادة هي التي ترسِّخ العقائد وتُصيِّرها حالا ومَلَكة؛ اذ الأمور الوجدانية والعقلية إن لم تنمِّها وتربِّها العبادة -التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي- تكن آثارُها وتأثيراتها ضعيفة. وحال الاسلام 1 الحاضرة شاهدة.
واعلم أيضاً! ان العبادة سبب لسعادة الدارين.. وسبب لتنظيم المعاش والمعاد.. وسبب للكمال الشخصيّ والنوعيّ.. وهي النسبة الشريفة العالية بين العبد وخالقه.
أما وجه سببيتها لسعادة الدنيا التي هي مزرعة الآخرة فمن وجوه:
منها: ان الانسان خُلق ممتازاً ومستثنى من جميع الحيوانات بمزاج لطيف عجيب، انتج ذلك المزاج فيه ميلَ الانتخاب وميلَ الأحسن وميلَ الزينة، وميَلاناً فطرياً الى ان يعيش ويحيى بمعيشة وكمال لائقين بالانسانية.. ثم لأجل تلك الميول احتاج الانسان في تحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه الى تلطيفها واتقانها بصنائع جمة لا يقتدر هو بانفراده على كلها.
ولهذا احتاج الى الامتزاج مع أبناء جنسه ليتشاركوا، فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم.
لكن لما لم يحدد الصانعُ الحكيم قوى البشر الشهوية والغضبية والعقلية بحدٍّ فطريّ لتأمين ترقّيهم بزَمْبَرَكِ 2 الجزء الاختياريّ -لا كالحيوانات التي حُددت قواها- حصل انهماك وتجاوز.. ثم لانهماك القوى وتجاوزها -بسر عدم التحديد- تحتاج الجماعة الى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لأن عقل كل احد لايكفي في درك العدالة احتاج النوع الى عقل كلي للعدالة يستفيد منه عقل العموم.
وما ذلك العقل الاّ قانون كليّ، وما هو إلاّ الشريعة.. ثم لمحافظة تأثير تلك الشريعة وجريانها لابد من مقننِّ وصاحب ومبلّغ ومرجع، وما هو الاّ النبيّ عليه السلام.. ثم ان النبيّ لادامة حاكميته في الظواهر والبواطن وفي العقول والطبائع يحتاج الى امتياز وتفوق مادةً ومعنى، سيرةً وصورة، خَلْقاً وخُلُقاً.
_____________________
1 العالم الاسلامي (ت: 92)
2 النابض.
ويحتاج أيضاً الى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالك الملك صاحب العالم، وما الدليل الا المعجزات.. ثم لتأسيس اطاعة الأوامر وتأمين اجتناب النواهي يحتاج الى ادامة تصور عظمة الصانع وصاحب الملك في الاذهان وما هو الا تجلي العقائد.. ثم لادامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج الى مذكِّر مكرر وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرر الا العبادة.
ومنها: ان العبادة لتوجيه الأفكار الى الصانع الحكيم. والتوجه لتأسيس الانقياد.
والانقياد للإِيصال الى الانتظام الأكمل والارتباط به.
واتباع النظام لتحقيق سر الحكمة.
والحكمة يشهد عليها اتقان الصنع في الكائنات.
ومنها: ان الانسان كالشجر الذي علق على ذروته كثير من خطوط الآلة البرقية، قد التفّت على رأسه رؤوس نظامات الخلقة، وامتدت مشرعة اليه قوانين الفطرة، وانعكست متمركزة فيه اشعة النواميس الالهية في الكائنات.
فلابد للبشر ان يتممها ويربطها وينتسب اليها ويتشبث باذيالها ليسري بالجريان العمومي حتى لا يُزلق ولايُطرد ولا يُلقى عن ظهر هذه الدواليب المتحركة في الطبقات.
وما هي الا بالعبادة التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
ومنها: ان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي يحصل للانسان نسبٌ كثيرة الى مراتب عديدة في الهيئة الاجتماعية، فيصير الشخص كنوعٍ؛ اذ كثير من الأوامرلاسيما التي لها تماس بالشعائر والمصالح العمومية كالخيط الذي نيط به حيثيات ونظُم فيه حقوق، لولاه لتمزقت وتطايرت.
ومنها: ان الانسان المسلم له مناسبات ثابتة وارتباط قوي مع كل المسلمين.
وهما سببان لاخوة راسخة ومحبة حقيقية بسبب العقائد الايمانية والملكات الاسلامية.
أما سبب ظهور تلك العقائد وتأثيرها وصيرورتها مَلَكة راسخة فانما هي العبادة.
وأما جهة الكمال النفسيّ فاعلم!
ان الانسان مع صغر جرمه وضعفه وعجزه وكونه حيواناً من الحيوانات ينطوي على روح غال ويحتوي على استعداد كامل، ويتبطن ميولا لاحصر لها ويشتمل على آمال لا نهاية لها، ويحوز افكاراً غير محصورة ويتضمن قوى غير محدودة مع ان فطرته عجيبة كأنه فهرستة للأنواع والعوالم.
فالعبادة هي السبب لانبساط روحه وجلاء قيمته.. وأيضاً هي العلة لانكشاف استعداده ونموّه ليناسب السعادة الأبدية.. وكذا هي الذريعة لتهذيب ميوله ونزاهتها.. وهي الوسيلة لتحقيق آماله وجعلها مثمرة ريانة.. وكذلك هي الواسطة لتنظيم أفكاره وربطها.. وأيضاً هي السبب لتحديد قواه وإلجامها.. وأيضا هي الصَيْقل لرَيْن الطبيعة على أعضائه المادية والمعنوية التي كل منها كأنه منفذ الى عالم مخصوص ونوع اذا شف.. وأيضا هي الموصل للبشر الى شرفه اللائق وكماله المقدر، اذا كانت بالوجدان والعقل والقلب والقالب.. وكذلك هي النسبة اللطيفة العالية، والمناسبة الشريفة الغالية بين العبد والمعبود.
وتلك النسبة هي نهاية مراتب كمال البشر.
ثم ان الاخلاص في العبادة هو:
ان تفعل لأنه أُمر بها، وان اشتمل كل أمر على حِكَم، كل منها يكون علة للامتثال، الا ان الاخلاص يقتضي ان تكون العلةُ هي الأمر، فان كانت الحكمةُ علةً فالعبادة باطلة، وان بقيت مرجِّحة فجائزة.
ثم ان المخاطبين لما سمعوا (يا ايها الناس اعبدوا) استفسروا بلسان الحال: ما الحكمة؟ ولِمَ؟ وما المجبورية؟ ولأيّ شئ؟
أما الحكمة فقد سمعت في المقدمة.
وأما العلة فأجاب القرآن الكريم باثبات الصانع وتوحيده بقوله: (ربكم الذي خلقكم).. الخ.
واثبات النبوّة بقوله: (وان كنتم في ريب مما نزلنا).. الخ.
مقدمة في نكات هذه الآية:
اعلم! ان البرهان إما "لِمّي" وهو الاستدلال بالمؤثر على الأثر. وإما "اِنّيّ" وهو الاستدلال بالأثر على المؤثر، وهذا أسلم 1.
وهو إما "إمكانيّ بالاستدلال" بتساوي الطرفين على المرجِّح، واما "حدوثيّ بالاستدلال" بالتحوّل والتبدّل على المُوجِد.. وكل منها اما باعتبار ذوات الاشياء أو باعتبار صفاتها.. وكل منها إما باعطاء الوجود أو بادامة البقاء.. وكل منها إما "دليل اختراعيّ" أو "دليل عنايتيّ".
وهذه الآية اشارة الى هذه الأنواع، فالملخص منها هنا، وقد فصلناه في كتاب آخر.
أما دليل العناية على اثبات الصانع الذي تلوِّح به هذه الآية، هو: "النظام المندمج في الكائنات"؛ اذ النظام خيط نيط به المصالح والحكم.
فجميع الآيات القرآنية التي تعد منافع الأشياء وتذكر حِكَمها انما هي نسّاجةٌ لهذا الدليل، ومظاهر لتجلِّي هذا البرهان؛ اذ النظام المرعي به المصالح والحكم كما يثبت وجود نظّام، كذلك يدل على قصد الصانع وحكمته وينفي من البين وهمَ التصادف الأعمى والاتفاقية العمياء.
ياهذا! ان لم يحط نظرك بهذا النظام العالي المزيَّن بفصوص الحكَم، ولاتقتدر على الاستقراء التام؛ فانظر بجواسيس الفنون -التي هي الحواس لنوعك- الحاصلة من تلاحق الأفكار -الذي هو في حُكم فكر النوع- لترى نظاماً يبهر العقول، وتعلم ان كلّ فن من فنون الكائنات كشّاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام لايعقل أكمل منهما؛ اذ كل نوع من الكائنات اما تشكّل فيه فن أو يقبل ان يتشكل. والفن عبارة عن قواعد كلية.
وكلية القاعدة تدل على حسن النظام؛ اذ ما لا نظام له لا تجري فيه الكلية.
ألا ترى ان قولنا "كل عالم فهو ذو عمامة بيضاء" انما يصدق كلية، اذا كان في ذلك النوع انتظام. فانتج أن كل فن من الفنون الكونية بسبب كلية قواعده ينتج بالاستقراء التام نظاماً كاملا شاملا، وان كل فن برهان نيّر يشير الى المصالح والثمرات المتدلية كالعناقيد في حلقات سلاسل الموجودات، ويلوِّح الى الحِكَم والفوائد المستترة في معاطف انقلابات الأحوال.
فترفع الفنونُ اعلامَ الشهادة على قصد الصانع وحكمته، كأن كل فن نجم ثاقب في طرد شياطين الأوهام.
_____________________
1 كدلالة النار على الدخان ودلالة الدخان على النار، وهذا اسلم من الشبهات (ت: 96)
وان شئت فعليك بهذا المثال مع قطع النظر عن العموم وهو:
ان الحيوان المكروسكوبيّ الذي لا يُرى بالعين بلا واسطة، اشتملت صورته الصغيرة على ماكينة دقيقة بديعة إلهية.
فبالضرورة والبداهة ان تلك الماكينة الممكنة في ذاتها وصفاتها ما وجدت بنفسها بلا علة لإمكان ذاتها وصفاتها وأحوالها.
والممكن متساوي الطرفين ككفتي الميزان، ولو وجد الترجح لكان في العدم.
فباتفاق العقلاء لابد لها من علة مرجِّحة.. ومن المحال ان تكون العلة أسبابا طبيعية؛ اذ ما فيها من النظام الدقيق يقتضي نهاية علم وكمال شعور لايمكن تصورهما في تلك الأسباب، التي يخادعون أنفسهم بها.
مع انها أسباب بسيطة قليلة جامدة لم يتعين مجاريها، ولم يتحدد محاركها مع ترددها بين ألوف من الإمكانات التي لا اولوية لبعضها.
فكيف تجري في مجرى معين، وتتحرك على محرك محدود، وكيف يترجح بعض وجوه الإمكانات حتى يتولد هذه الماكينة العجيبة المنتظمة التي حيرت العقول في دقائق حكَمها، بل انما تقنع نفسُك وتطمئن بتولدها منها ان اعطيت لكل ذرّة شعور "افلاطون" 1 وحكمة "جالينوس" 2 واعتقدتَ بين تلك الذرات مخابرة عمومية.
وما هذه الاّ سفسطة يخجل منها السوفسطائيّ.
مع أن أس الأسباب المادية وجود القوة الجاذبة والقوة الدافعة معا في جزء لايتجزأ والجوهر الفرد، وان هذا كاجتماع الضدين.
نعم، قانون الجاذبة والدافعة وأمثالهما اسماء لقوانين عادات الله تعالى وشريعته الفطرية المسماة بالطبيعة.
فهذه القوانين مقبولة بشرط ان لاتنتقل من القاعدية الى الطبيعية، وان لاتخرج من الذهنية الى الخارجية، وان لاتتحول من الاعتبارية الى الحقيقية، وان لا تترقى من الآلتية الى المؤثرية.
فاذا تفهمت ما في هذا المثال ورأيت عظمته مع صغره ووسعته مع ضيقه؛ فارفع رأسك وانظر في الكائنات تر وضوح دليل العناية وظهوره بمقدار درجة وسعة الكائنات.
_____________________
1 427 - 347 ق.م) من مشاهير فلاسفة اليونان، تلميذ سقراط ومعلم ارسطو. من مؤلفاته (الجمهورية) و (المحاورات).
2 (130 - 200م) طبيب وكاتب يوناني، ولد في برجامون وعمل جراحاً لمدرسة المصارعين بها بعد ان اتم دراسته في بلاد اليونان وآسيا الصغرى والاسكندرية ثم اقام بروما حيث ذاع صيته وينسب اليه خمسمائة مؤلف اغلبها في الطب والفلسفة.
فكل الآيات القرآنية العادّة لنِعم الأشياء والمذكِّرة لفوائدها مظاهرُ لهذا الدليل.
فكلما أمر القرآن الكريم بالتفكر فانما أشار مخاطباً للعموم الى طريق هذا الاستدلال (فَارجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) 1 ثم ان الذي يومئ الى هذا الدليل من هذه الآية قوله تعالى: (الذي جَعَلَ لَكُمْ الارْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَاَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ).
وأما الدليل الاختراعيّ المشار اليه بقوله تعالى: (اَلَّذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فهو: ان الله تعالى اعطى لكل فرد ولكل نوع وجوداً خاصاً هو منشأ آثاره المخصوصة، ومنبع كمالاته اللائقة؛ اذ لانوع يتسلسل الى الازل لإِمكانه، ولبطلان التسلسل، ولان هذا التغير في العالم يثبت حدوث بعض بالمشاهدة، وبعض آخر بالضرورة العقلية.
ثم انه قد ثبت بعلم الحيوانات والنباتات تكثّر الأنواع الى أزيد من مائتي الف نوع ولكل نوع آدم وأب عال.
فبسر الحدوث والامكان يثبت بالضرورة صدور تلك الاوادم والآباء للانواع عن يد القدرة الإلهية بلا واسطة.
ولا يُتوهم فيها ما يتوهم في السلسلة.
وتوهم انشقاق الأنواع بعضها عن بعض باطل، لأن النوع المتوسط لا يتسلسل بالتناسل في الأكثر فلا يكون رأس سلسلة.
فاذا كان المبدأ والأصل هكذا، فأجزاء السلسلة كذلك بالطريق الأولى.
نعم كيف يُتصور ان تكون الأسباب الطبيعية البسيطة الجامدة التي لا شعور لها ولا اختيار قابلة لإِيجاد تلك السلاسل التي تحيرت الأفهام فيها، ولاختراع أفرادها التي كل منها صنعة عجيبة من معجزات القدرة.
فكل الأفراد مع سلاسلها تشهد بلسان حدوثها وامكانها شهادة قاطعة على وجوب وجود خالقها جل جلاله.
"ان قلت: فمع هذه الشهادة القاطعة كيف يعتقد الانسان بأمثال ضلالات ازلية المادة وحركتها؟.
قيل لك: ان النظر التبعيّ قد يُري المحالَ ممكناً، كالمستهلّ الذي رأى الشعرة البيضاء من اهدابه هلال العيد؛ لأن الانسان بسبب جوهره العالي وماهيته المكرمة انما يدور خلف الحق والحقيقة. وانما يقع الباطل والضلال في يده بلا اختيار ولادعوة ولا تحرٍّ بل بنظره السطحيّ التبعيّ فيقبله اضطراراً؛ لأنه لما تغافل عن النظام الذي هو خيط الحِكَم، وتعامى عن ضدية الحركة والمادة للازلية احتمل عند نظره التبعي اسناد هذا النقش البديع والصنعة العجيبة الى التصادف الأعمى والأتفاق الأعور.
_____________________
1 سورة الملك: 3.
كما قال "الجسريّ" 1 في مَنْ دخل قصراً مزينا مشتملاً على آثار المدنية، من انه حينما لايرى صاحبه فيعتقد عدمه يضطر لإِسناد زينته وأساساته الى الاتفاق والتصادف وناموس الانتخاب الطبيعيّ.
وأيضاً لما تعامى وتغافل عن شهادة كل الحكم والفوائد في نظام العالم على اختيار تام وعلم شامل وقدرة كاملة احتمل في نظره التبعي اثبات تأثير حقيقي لهذه الأسباب الجامدة.
فيا هذا! مع قطع النظر عن دقائق صنعته جل جلاله تأمل في اظهر الآثار التي تسمى "طبيعة" وهو الارتسام -بشرط ان تمزق حجاب الالفة- كيف تقنع نفسك ويقبل عقلك ان خاصية وجه المرآة علة مؤثرة مناسبة لكشط وجه السماء وجلب صورة ارتفاعها ونقشها بنجومها في زجيجتها؟.
وكيف يقنع عقلك بأن الأمر الوهميّ في الحقيقة المسمّى بالجاذب العموميّ علة مؤثرة كخيط المنجنيق لإِمساك الأرض والنجوم وتحريكها وتدويرها بانتظام محكم؟
الحاصل:
ان الانسان اذا نظر نظراً سطحياً تبعيّاً الى الأمر الباطل المحال ولم ير العلة الحقيقية احتمل صحته عنده.
الا انه اذا نظر اليه قصداً وبالذات وتحراه مشترياً له لايمكن ان يقبل شيئاً من تلك المسائل التي يطنطنون بها في الحكميات، الاّ ان يتبلّه بفرض عقل الحكماء وحكمة السياسيّين في الذرّات.
_____________________
1 هو حسين بن محمد بن مصطفى الجسر (1261 - 1327هـ) (1845 - 1909م) عالم بالفقه والادب، من بيت علم في طرابلس الشام. له نظم كثير. دخل الازهر سنة 1279هـ واستمر الى سنة 1284هـ، وعاد الى طرابلس فكان رجلها في عصره، علماً ووجاهة، وتوفي فيها. كتبه (الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الاسلامية) و(الحصون الحميدية) في العقائد الاسلامية. و«سيرة مهذّب الدين» و «رياض طرابلس» وهى مجموعة دراسات ادبية واجتماعية في عشرة اجزاء.
ان قلت: فما الطبيعة والنواميس والقُوَى التي يدمدمون بها ويسلّون أنفسهم بها؟
قيل لك: ان الطبيعة مِسْطر 1 لامصدر.. ومطبعة لا طابع.. وقوانين لاقوة.
بل انما هي شريعة فطرية إلهية أوقعت نظاما بين أفعال أعضاء جسد عالم الشهادة.
كما ان الشريعة محصَّلُ وخلاصةُ قواعد الأفعال الاختيارية، ونظام الدولة مجموع الدساتير السياسية.
فكما ان الشريعة والنظام أمران معقولان اعتباريان؛ كذلك الطبيعة أمر اعتباريّ ملخَّصُ عادة الله الجارية في الخلقة.
وأما توهم وجودها الخارجيّ فكتوهم الوحشي الذي يرى فرقة العسكر يتحركون بانتظام، وجودَ أمر خارجيّ ربط بينهم.
فمن كان وجدانه وحشيا يتخيل الطبيعة بسبب الاستمرار موجوداً خارجياً مؤثراً.
الحاصل: ان الطبيعة صنعة الله تعالى وشريعته الفطرية. واما نواميسها فمسائلها. وأما قواها فأحكام تلك المسائل.
أما دليل التوحيد الذي أشار اليه (اعبدوا) على تفسير ابن عباس أي وحّدوا، فاعلم! ان القرآن المعجز البيان ما ترك من دلائل التوحيد شيئاً.
وما تضمنته آية (لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا) 2 من برهان التمانع دليل كاف ومنار نيِّر على ان الاستقلال خاصة ذاتية ولازم ضروري للالوهية، ثم في هذه الآية رمز الى دليل لطيف على التوحيد وهو: ان تعاونَ الأرض والسماء ومناسبتهما في توليد الثمرات -لتُعَيِّش نوع البشر وجنس الحيوان- ومشابهةَ آثار العالم وتعانقَ أطرافه وأخذ بعضٍ يد بعضٍ بتكميل بعض انتظام بعض، وتجاوبَ الجوانب وتلبيةَ بعضٍ لسؤال حاجة بعض، ونظرَ الكل الى نقطة واحدة، وحركةَ الكل بالانتظام على محور نظام واحد؛ تلوِّح بل تصرِّح بان صانع هذه الماكينة الواحدة واحد وتتلو على كلٍ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى اَنَّهُ وَاحِدٌ 3
ثم اعلم! ان الصانع كما انه واجب الوجود وواحد؛ كذلك انه متصف بجميع الأوصاف الكمالية؛ لأن ما في المصنوع من فيض الكمال انما هو مقتبس من ظل تجلي كمال صانعه.
فبالضرورة يوجد في الصانع جل جلاله من الجمال والكمال والحسن ما هو أعلى بدرجات غير متناهية من عموم ما في عموم الكائنات من الحسن والكمال والجمال؛ اذ الاحسان فرعٌ لثروة المحسِن ودليل عليها، والايجاد لوجود الموجِد، والايجاب لوجوب الموجب، والتحسين لحسن المحسّن المناسب له..
_____________________
1 مِسطَر: ما يُسطر به الكتّاب.
2 سورة الانبياء: 22.
3 لابى العتاهية في ديوانه وينسب الى الامام علي كرم الله وجهه. ونسبه إبن كثير في مقدمة تفسيره الى إبن المعتز.
وكذلك ان الصانع منزَّه عن جميع النقائص، لأن النواقص انما تنشأ عن عدم استعداد ماهيات الماديات وهو تعالى مجرد عن الماديات..
وكذلك انه تعالى مقدس عن لوازم وأوصافٍ نشأت من إمكان ماهيات الكائنات وهو سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شئ جل جلاله. ولقد أشار الى هاتين الحقيقتين بقوله: (فلا تجعلوا لله أنداداً).
أما الدليل الامكانيّ المشار اليه بقوله تعالى: (وَالله الْغَنِيُّ وَاَنْتُمُ الفُقَرَاءُ) 1 فاعلم! ان كل واحدة من ذَرات الكائنات باعتبار ذاتها، وباعتبار فردٍ فردٍ من صفاتها، وباعتبار واحدٍ واحدٍ من أحوالها، وباعتبار جهةٍ جهةٍ من وجوهها؛ بينما تراها تتردد بين الامكانات الغير المتناهية في الذات والصفات والأحوال والوجود، اذاً انتعشت وقامت وسلكت طريقاً معيناً منها ولبست صفة مخصوصة، وتكيفت بحالة منتظمة، وركبت على قانون مسدَّد، وتوجهت الى مقصد معيّن، فأنتجت حكمةً ومصلحةً لا تحصلان الاّ بذلك الطرز المعين.. أفلا تنادي بلسانها المخصوص، وتصرّح بقصد صانعها وحكمته؟ فكما ان كل ذرة بنفسها دليل على الانفراد؛ كذلك تتزايد دلالتها باعتبار كونها جزءاً من مركبات متداخلة متصاعدة؛ اذ لها في كل مركب مقام.. وفي كل مقام لها نسبة.. وفي كل نسبة لها وظيفة.. وفي كل وظيفة تثمر مصالح.. وفي كل مرتبة تتلو بلسانها دلائل وجوب وجود صانعها.. مثلها كمثل جنديّ في "طاقمه وطابوره وفرقته الخ".
ولنشرع في نظم هذه الآية باعتبار نظم مجموعها بما قبلها، ثم نظم جملها بعض مع بعض، ثم نظم هيئات كل جملة جملة.
_____________________
1 سورة محمد: 38.
أما نظم المجموع بما قبله:
فاعلم! ان القرآن لما بيّن أقسام البشر وأنواع المكلَّفين من المؤمنين المتّقين والكافرين المعاندين والمنافقين المذبذبين توجه اليهم كافة مخاطبا بقوله: (يا أيها الناس اعبدوا) عقّبه ورتّبه على سابقه ترتيب البناء على الهندسة، والأمر والنهي بالعمل على قانون العلم، والقضاء على القدر، والانشاء والايجاد على القصة والحكاية؛ اذ لما ذكر مباحث الفرق الثلاث، وذكر خاصة كلٍ وعاقبة كلٍّ تهيأ الموضع وانتبه السامع فالتفت مخاطبا بذلك الخطاب.. ثم ان في هذا الالتفات -أعني ذكرهم أولاً بالغيبة ثم الخطاب معهم هنا- نكتة عمومية في اسلوب البيان وهي: انه اذا ذكر محاسن شخص أو مساويه شيئاً فشيئاً يتزايد بحكم الايقاظ والتهييج ميلان استحسان أو ميل نفرة.
ويتقوى ذلك الميل شيئاً فشيئاً الى أن يجبر صاحبه على المشافهة مع ذلك الشخص، وبالنظر الى المقام يقتضي ميولات السامعين لأوصافه ان يحضر المتكلم ذلك الشخص ويجره الى حضورهم فيتوجه اليه بالخطاب..
وفيه نكتة خصوصية هنا: وهي تخفيف أعباء التكليف بلذة الخطاب.. وفيه أيضاً اشارة الى ان لا واسطة في العبادة بين العبد وخالقه.
وأما نظم الجمل فـ (يا أيها الناس اعبدوا) خطاب لكل انسان من الفرق الثلاث في الأزمنة الثلاثة من كل طبقات الفرق. أي: ايها المؤمنون الكاملون اعبدوا على صفة الثبات والدوام.. وأيها المتوسطون اعبدوا على كيفية الازدياد.. وأيها الكافرون افعلوا العبادة مع شرطها من الايمان والتوحيد.. وايها المنافقون اعبدوا على كيفية الإخلاص. فالعبادة هنا كالمشترك المعنوي فتأمل!.
(ربكم) أي: اعبدوه لأنه رب يربيكم فلابد ان تكونوا عباداً تعبدونه.
تذييل: في (ربكم) رمز دقيق الى دليل امكان الذوات. وفي (جعل لكم الأرض فراشا) الى دليل امكان الصفات.
وفي (الذي خلقكم والذين من قبلكم) الى دليل حدوث الذوات والصفات.
والذي ينصّ على دليل امكان الذوات قوله تعالى Lوالله الغنيّ وانتم الفقراء) وايضا الى ربك المنتهى 1 وأيضاً (فانهم عدوّ لي إلاّ رب العالمين) 2 وكذلك (قل الله ثم ذَرْهم في خوضهم يلعبون) 1 وأيضا (ففروا الى الله) 2 وكذلك (اَلاَ بذكر الله تطمئنُّ القلوب) 3 وقس فتأمل.!.
_____________________
1 سورة النجم: 42.
2 سورة الشعراء: 77.
يتبع إن شاء الله...