"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى اِلَى السَّماءِ فَسَوّيهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 29.
اعلم! ان لهذه الآية ايضاً الوجوه الثلاثة العظيمة: 1
أما نظم المجموع بالسابق فهو:
ان في الآية الأولى انكار الكفر والكفران بالدلائل الانفسية وهي أطوار البشر، وفي هذه الآية اشارة الى الدلائل الآفاقية.. وكذا في الأولى اشارة الى نعمة الوجود والحياة، وفي هذه الآية الى نعمة البقاء.. وكذا في تلك دليل على الصانع ومقدمة للحشر، وفي هذه اشارة الى تحقيق المعاد وازالة الشبه كأنهم يقولون: اين للإنسان هذه القيمة؟ وكيف له تلك الأهمية؟ وما موقعه عند الله حتى يقيم القيامة لأجله؟ فقال القرآن باشارات هذه الآية: ان للإنسان قيمة عالية بدليل ان السموات والأرض مسخرة لاستفادته، وكذا ان له أهمية عظيمة بدليل ان الله لم يخلق الانسان للخلق بل خلق الخلق له، وان له عند خالقه لموقعًا بدليل ان الله تعالى لم يوجد العالم لذاته بل اوجده للبشر وأوجد البشر لعبادته.
فانتج ان الانسان مستثنى وممتاز لا كالحيوانات فيليق أن يكون مظهراً لجوهرةِ (ثم اليه ترجعون).
وأما نظم جملة جملة، فاعلم! ان لفظ "جميعا" في الجملة الأولى ولفظ "ثم" في الثانية ولفظ "سبع" في الثالثة تقتضي تحقيقاً.
فلنتكلم عليها في ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:
ان قلت: ان هذه الآية تدل على أن جميع ما في الأرض لاستفادة البشر فكيف يتصور استفادة (زيد) مثلا من كل جزء من أجزاء الأرض؟ و(حبيب وعلي) 2 كيف يستفيدان من حجر في قعر جبل في وسط جزيرة في البحر المحيط الكبير؟ وكيف يكون مال (زيد) لاستفادة عمرو؟ مع ان الآية باشارات أخواتها تشير أن لكل فردٍ الجميعَ لا التوزيع.
وكذا كيف تكون الشمس والقمر وغيرهما مع تلك العظمة لزيد وعمرو والعلة الغائية فيها الفائدة الجزئية لهما؟
_____________________
1 (ش).
2 هما من طلبة الاستاذ المؤلف في مدرسة خورخور.
وكيف تكون المضرات لاستفادة البشر مع انه لا مجازفة في القرآن ولاتليق المبالغة ببلاغته الحقيقية؟
قيل لك: تأمل في ست نقاط يتطاير عنك الأوهام:
الأولى: ان خاصية الحياة كما مر تصيّر الجزء كلا والجزئي كليا والمنفرد جماعة والمقيد مطلقا والفرد عالماً، فيصير الأنواع كقوم ذي حياة والدنيا بيته ويكون له مناسبة مع كل شئ.
والثانية: ان في العالم كما علمت نظاما ثابتا واتساقا محكما ودساتير عالية وقوانين أساسية مستمرة فيكون العالم كساعة أو ماكينة منتظمة.
فكما ان كل دولاب منها بل كل سنّ من كل دولاب بل كل جزء من كل سنّ له دخلٌ ولو جزئيا في نظام الماكينة، وكذا له تأثير في فائدة الماكينة ونتيجتها بواسطة نظامها؟ كذلك لوجوده دخل في فائدة أهل الحياة الذين سيّدهم ورئيسهم البشر.
والثالثة: انه -كما قرع سمعك فيما مضى- لا مزاحمة في وجوه الاستفادة، فكما ان الشمس بتمامها لزيد وان ضياءها روضة وميدان لنظره؛ كذلك بتمامها مُلك لعمرو وجنة له.
فزيد مثلا لو كان في العالم وحده كيف تكون استفادته؛ كذلك اذا كان مع كل الناس لا ينقص منها شئ الا فيما يعود الى الغارين. 1
والرابعة: ان الكائنات ليس لها وجه رقيق فقط، بل فيها وجوه عمومية مختلفة طبقا على طبق، ولفوائدها جهات كثيرة عمومية متداخلة، وطرق الاستفادة متعددة متنوعة.
مثلاً: اذا كان لك روضة تستفيد منها بجهة ويستفيد الناس بجهة أخرى، كالاستلذاذ بالقوة الباصرة.
ولاجرم ان استفادة الانسان تحصل بحواسه الخمس الظاهرة وبحواسه الباطنة وبجسمه وبروحه وكذا بعقله وقلبه وكذا في دنياه وفي آخرته وكذا من جهة العبرة وقس عليها.. فلا مانع من استفادته بوجه من هذه الوجوه من كل ما في الأرض بل العالم.
والخامسة: انه: ان قلت: هذه الآيات مع آيات اُخر تشير الى ان هذه الدنيا العظيمة مخلوقة لأجل البشر وجعل استفادته علة غائية لها. والحال ان زحل الأكبر من الأرض ليست فائدتها بالنسبة الى البشر الاّ نوع زينة وضياء ضعيف فكيف يكون علة غائية؟
_____________________
1 الحنكان الاعلى والاسفل.
قيل لك: ان المستفيد يفنى في جهة استفادته وينحصر ذهنُه في طريقها وينسى ما عداها وينظر الى كل شئ لنفسه ويحصر العلة الغائية على ما يتعلق به.
فاذاً لا مجازفة في الكلام الموجَّه الى ذلك الشخص في مقام الامتنان بأن يقال: ان زحل الذي أبدعه خالقه لألوفِ حِكَمٍ، وفي كل حكمة ألوفُ جهاتٍ، وفي كل جهة ألوفُ مستفيدٍ العلة الغائية في إبداعه جهة استفادة ذلك الشخص.
والسادسة: - وقد نبهت عليه - ان الانسان وان كان صغيراً فهو كبير، فنفعه الجزئيّ كليّ فلا عبثية.
المسألة الثانية: في (ثم):
اعلم! ان هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل السماء، وان آية (والأرضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحيهَا) 1 تدل على ان خلق السماء قبل الارض، وان آية (كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْناهُمَا) 2 تدل على انهما خلقتا معا وانشقتا من مادة..
واعلم ثانيا: ان نقليات الشرع تدل على ان الله تعالى خلق اوّلا جوهرةً -أي مادة- ثم تجلى عليها فجعل قسمًا منها بخارًا وقسمًا مائعًا.
ثم تكاثف المائع بتجلِّيه فأزبد.
ثم خلق الأرض أوسبع كرات من الأرضين من ذلك الزبد فحصل لكل أرض منها سماء من الهواء النسيميّ.
ثم بسط المادة البخارية فسوّى منها سموات زرع فيها النجوم فانعقدت السموات مشتملة على نويات النجوم.
وان فرضيات الحكمة الجديدة ونظرياتها تحكم بأن المنظومة الشمسية أي مع سمائها التي تسبح فيها كانت جوهراً بسيطاً ثم انقلب إلى نوع بخار ثم تحصل من البخار مائع ناريّ ثم تصلب بالتبرد منه قسم ثم ترامى ذلك المائع الناري بالتحرك شرارات وقطعات انفصلت فتكاثفت فصارت سيّارات منها أرضنا هذه.
_____________________
1 سورة النازعات: 30.
2 سورة الانبياء: 30.
فإذا سمعت هذا يجوز لك التطبيق بين هذين المسلكين لأنه يمكن أن يكون آية: (كانتا رتقا ففتقناهما) اشارة الى ان الأرض مع المنظومة الشمسية كانت كعجين عجنته يد القدرة من جوهر بسيط أعني "مادّة الاَثِير" التي هي كالماء السيّال بالنسبة الى الموجودات فتنفذ جارية بينها.
وآية (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) 1 اشارة الى هذه المادة التي هي كالماء.
و"الاثير" بعد خلقه، هو المركز لأوّل تجلِّي الصانع بالايجاد، اي فخلق "الأثير" ثم صيّره جواهرَ فردةً ثم جعل البعض كثيفاً، ثم خلق من الكثيف سبع كرات مسكونة منها ارضنا.
ثم ان الأرض بالنظر الى كثافتها وتصلبها قبل الكل وتعجيلها في لبس القشر وصيرورتها من زمان مديد منشأ الحياة مع بقاء كثير من الاجرام السماوية الى الآن مائعة نارية تكون خلقتها وتشكلها من هذه الجهة قبل خلق السموات.
ولما كان تكمل منافعها ودحوها -أي بسطها وتمهيدها لتعيّش نوع البشر- بعد تسوية السموات وتنظيمها تكون السموات اسبقَ من هذه الجهة مع الاجتماع في المبدأ.
فالآيات الثلاث تنظر الى النقاط الثلاث.
الجواب الثاني:
ان المقصد من القرآن الكريم ليس درس تاريخ الخلقة، بل نزل لتدريس معرفة الصانع.
ففيه مقامان:
ففي مقام بيان النعمة واللطف والمرحمة وظهور الدليل تكون الأرض اقدمَ،
وفي مقام دلائل العظمة والعزة والقدرة تكون السموات اسبق.. ثم ان "ثم" كما تكون للتراخي الذاتيّ تجئ للتراخي الرتبي فـ (ثم استوى) أي ثم اعلموا وتفكروا انه استوى. 2
المسألة الثالثة: في (سبع):
اعلم! ان الحكمة العتيقة قائلة بأن السمواتِ تسعة، وتصورها أهلُها بصورة عجيبة، واستولى فكرُهم على نوع البشر في اعصار.
حتى اضطر كثير من المفسرين الى إمالة ظواهر الآيات الى مذهبهم.
وأما الحكمة الجديدة فقائلة بأن النجوم معلَّقة في الفضاء والخلو كأنها منكِرة لوجود السماء.
فكما أفرطت إحداهما فرّطت الأخرى.وأما الشّريعة فحاكمة بأن الصانع جل جلاله خلق سبع سموات وجعل النجوم فيها كالسَّماء تسبح.
_____________________
1 سورة هود: 7.
2 اى للتراخى التفكرى، بمعنى: ان خلق السموات مع انه أسبق إلاّ ان التفكر فيه يأتى بالمرتبة الثانية. ومع ان خلق الارض بعد السموات الاّ ان التفكر فيه اسبق، اي يلزم التفكر في خلق الارض قبل السموات (ت: 216).
والحديث يدل على ان "السماء موج مكفوف" 1 وتحقيق هذا المذهب الحق في ست مقدمات.
الأولى: انه قد ثبت فنّا وحكمة ان الفضاء الوسيع مملوء من الأثير.
والثانية: ان رابطة قوانين الأجرام العلوية وناشر قوى أمثال الضياء والحرارة وناقلها مادة موجودة في الفضاء مالئة له.
والثالثة: ان مادة الأثير مع بقائها اثيراً لها كسائر المواد تشكلات مختلفة وتنوعات متغايرة كتشكل البخار والماء والجمد.
والرابعة: انه لو أمعن النظر في الاجرام العلوية يُرى في طبقاتها تخالف.
ألا ترى ان نهر السماء المسمى بـ "كَهْكَشان" 2 المرئيّ في صورة لطخة سحابية انما هو ملايينَ نجومٍ أخذت في الانعقاد.
فصورةُ الأثير التي تنعقد تلك النجوم فيها تخالف طبقة الثوابت البتة، وهي أيضاً تخالف طبقات المنظومة الشمسية بالحدس الصادق وهكذا الى سبع منظومات.
والخامسة: انه قد ثبت حدسًا واستقراءً انه اذا وقع التشكيل والتنظيم والتسوية في مادة تتولد منها طبقات مختلفة كالمعدن يتولد منه الرماد والفحم والألماس.. وكالنار تتميز جمراً ولهبًا ودخانًا، وكمزج مولّد الماء مع مولّد الحموضة 3 يتشكل منه ماء وجمد وبخار.
والسادسة: ان هذه الامارات تدل على تعدد السموات.
والشارع الصادق قال هي سبعة، فهي سبعة على ان السبع والسبعين والسبع مائة في أساليب العرب لمعنى الكثرة.
والحاصل:
ان الصانع جل جلاله خلق من "مادة الأثير" سبع سموات فسوّاها ونظّمها بنظام عجيب دقيق وزرع فيها النجوم وخالف بين طبقاتها.
_____________________
1 جزء من حديث اخرجه الامام احمد في مسنده (2/370) والترمذي برقم (3298) وفي تحفة الاحوذي برقم (3352) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وعزاه صاحب التحفة لاحمد وابن ابي حاتم والبزار وفي مجمع الزوائد (8/ 132) جزء من حديث رواه الطبراني في الاوسط، وفيه ابو جعفر الرازي، وثّقه ابو حاتم وغيره وضعّفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات، وانظر فيه كذلك (7/121) وتفسير ابن كثير - سورة الحديد.
2 درب التبانة.
3 الهيدروجين والاوكسجين.
اعلم! انك اذا تفكرت في وُسْعة خطابات القرآن الكريم ومعانيه ومراعاته لافهام عامة الطبقات من أدنى العوام الى أخص الخواص ترى أمراً عجيباً.
مثلاً:
من الناس من يفهم من (سبع سموات) طبقات الهواء النسيمية.. ومنهم من يفهم منه الكرات النسيمية المحيطة بأرضنا هذه وأخواتها ذوات ذوي الحياة.. ومنهم من يفهم منه السيّارات السبع المرئية للجمهور.. ومنهم من يفهم منه طبقات سبعة اثيرية في المنظومة الشمسية.. ومنهم من يفهم منه سبع منظومات شموسية أولاها منظومة شمسنا هذه.. ومنهم من يفهم منه انقسام الأثير في التشكل الى طبقات سبعة كما مر آنفا.. ومنهم من يرى جميع ما يُرى مما زُيّن بمصابيح الشموس والنجوم الثوابت سماء واحدة.
هي السماء الدنيا وفوقها ست سموات اُخر لا ترى.. ومنهم مَن لا يرى انحصار سبع سموات في عالم الشهادة فقط بل يتصورها في طبقات الخلقة في العوالم الدنيوية والأٌخروية والغيبية.. فكل يستفيض بقدر استعداده من فيض القرآن ويأخذ حصته من مائدته فيشتمل على كل هذه المفاهيم.
واعلم! ان الجملة الأولى:
أعني (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) نظمها بخمسة أوجه:
الأول: ان الآية الأولى اشارة الى نعمة الحياة والوجود، وهذه تشير الى نعمة البقاء وأسبابه.
والثاني: انه لما اثبتت الأولى للبشر أعلى المراتب أعني الرجوع اليه تعالى تنبه ذهن السامع للسؤال بـ "اين لهذا الانسان الذليل استعداد لهذه المرتبة العالية إلاّ ان يكون بفضله تعالى وجذبه؟".
فكأن هذه الجملة تقول مجيبة عن ذلك السؤال ان للإِنسان عند خالقه الذي سخر له جميع الدنيا لموقعًا عظيمًا.
والثالث: انه لما أشارت الأولى الى وجود الحشر والقيامة للبشر ذهب السامع الى سؤال: ما أهمية البشر حتى تقوم القيامة لأجله ويخرب العالم لسعادته؟ فكأن هذه الجملة تجيبه بـ "ان من هُيّئَ جميع ما في الأرض لاستفادته وسُخّر له الأنواع له أهمية عظيمة تشير الى انه هو النتيجة للخلقة".
والرابع: ان الأولى اشارت بـ (اليه ترجعون) الى رفع الوسائط وانحصار المرجعية فيه تعالى. والحال ان للبشر في الدنيا مراجع كثيرة، فهذه الجملة تقول أيضاً ان الأسباب والوسائط تشفّ عن يد القدرة، وان المرجع الحقيقي في الدنيا انما هو الله تعالى وانما توسطت الأسبابُ لحِكَم فانه تعالى هو الذي خلق للإِنسان كل ما يحتاج اليه.
والخامس: ان الأولى لما اشارت الى السعادة الأبدية أشارت هذه الى سابقةِ فضلٍ يستلزم تلك السعادة ذلك الفضلُ أي من اُحسن اليه جميع ما في الأرض لحقيقٌ بأن يعطى له السعادة الأبدية.
وجملة (ثم استوى الى السماء) نظمها بأربعة أوجه.
الأول: ان السماء رفيقة الأرض لا يَتصورُ الأرضَ أحدٌ إلاّ ويخطر في ذهنه السماء.
والثاني: ان تنظيم السماء هو المكمِّل لوجه استفادة البشر مما في الأرض.
والثالث: ان الجملة الأُولى اشارت الى دلائل الاحسان والفضل وهذه تشير الى دلائل العظمة والقدرة.
والرابع: ان هذه الجملة تشير الى ان فائدة البشر لا تنحصر على الأرض بل السماء أيضاً مسخرة لاستفادته.
ونظم جملة: (فسوّيهن سبع سموات) بثلاثة أوجه.
الأول: ان ربطها بالأُولى كربط "فيكون" مع "كن".
والثاني: انه كربط تعلق القدرة بتعلق الارادة.
والثالث: انه كربط النتيجة بالمقدمة.
ونظم جملة (وهو بكل شيء عليم) بوجهين:
أحدهما: انها دليل لِمّي على التنظيم السابق كما ان التنظيم السابق دليل اِنّيّ عليها؛ اذ الاتساق والانتظام يدلان على وجود العلم الكامل كما ان العلم يفيد الانتظام.
والآخر: ان الجملة الأولى تدل على القدرة الكاملة وهذه على العلم الشامل.
أما نظم هيئآت جملة جملة:
ففي الجملة الأولى الاستيناف وتعريف الجزئين وتعريف الخبر ولام "لكم" وتقديم "لكم" ولفظ "في" ولفظ "جميعا":
أما الاستيناف فإشارة إلى أسئلة مقدرة وأجوبة قد نبهت عليها في الاوجه الخمسة لنظم الجملة الأولى.. وأما تعريف الجزئين 1 فاشارة الى التوحيد والحصر الذي هو دليل على الحصر في تقديم "اليه" في (ثم اليه ترجعون).. وأما تعريف الخبر فاشارة الى ظهور الحكم 2.. وأما لام النفع في (لكم) فاشارة الى أن الأصل في الأشياء الاباحة وانما تعرض الحرمة للعصمة: كمال الغير.
أو للحرمة: كلحم الآدميّ. أو للضرر: كالسم. أو للاستقذار: كبلغم الغير. أو للنجاسة: كالميتة.. وكذا رمز الى وجود النفع في كل شئ، وان للبشر ولو بجهة من الجهات استفادة ولو بنوع من الأنواع ولو في أحقر الأشياء ولا أقل من نظر العبرة، وكذا ايماء الى انه كم من خزائن للرحمة مكنوزة في جوف الأرض تنتظر أبناء المستقبل.. وأما تقديم (ولكم) فاشارة الى أن جهة استفادة البشر أقدم الغايات وأولاها وأولها.. وأما (ما) المفيدة للعموم فللحث على تحرِّي النفع في كل شئ.. وأما (في الأرض) بدل "على الأرض" مثلا، فاشارة الى وجود أكثر المنافع في بطن الأرض، وكذا تشجيع على تحرِّي ما في جوفها.. ويدل تدرج البشر في الاستفادة من معادن الأرض وموادها على انه يمكن أن يكون في ضمنها مواد وعناصر تخفف عن كاهل أبناء الاستقبال ضغطَ تكاليف الحياة من الغذاء وغيره.. واما (جميعا) فلرد الأوهام في عبثية بعض الأشياء.
وأما (ثم) في الجملة الثانية فاشارة الى سلسلة من أفعاله تعالى وشؤونه بعد خلق الأرض إلى تنظيم السماء.. وكذا رمز الى تراخي رتبة التنظيم في نفع البشر عن خلقة الأرض.. وكذا ايماء الى تأخره عنها.
واما (استوى) ففيه ايجاز، أي: أراد أن يسوّي.. وكذا فيه مجاز أي كمن يسدد قصده الى شئ لا ينثني يمنةً ويسرةً.
و(الى السماء) أي الى مادتها وجهتها.
واما فاء (فسويهن) فبالنظر الى جهة التفريع نظير ترتب "فيكون" على "كن"، وتعلق القدرة على تعلق الارادة والقضاء على القدر.
_____________________
1 "هو ": مبتدأ، و "الذى " مع صلته: خبر (ت: 221)
2 حيث ان اصل الخبر نكرة، الاّ ان مجيئه معرفةً اشارة الى ظهور الحكم، وهو: ان الله خالق الارض بما فيها. وهو امر معلوم ظاهر (ت: 221).
واما بالقياس الى جهة التعقيب فايماء الى تقدير "ونوّعها ونظّمها ودبّر الأمر بينها فسوّيهن" الخ. واما "سوّى" أي خلقها منتظمة مستوية متساوية في أن أعطى كلاّ ما يناسب استعداده ويساوي قابليته.
واما "هن" فايماء الى تنوع مواد السموات.
وأما (سبع) فيتضمن الكثرة والمناسبة مع الصفات السبع ومع الأدوار السبعة في تشكلات الأرض. و(سموات) أي اللاتي هن رياض لأزاهير الدراري وبحار لسِماك السّيارات ومزرعة لحبّات النجوم.
أما جملة (وهو بكل شيء عليم) فواو العطف المقتضية للمناسبة اشارة الى "وهو على كل شئ قدير فهو الخالق لهذه الاجرام العظيمة، وهو بكل شئ عليم فهو النظّام المتقن للصنعة فيها".
وباء الالصاق اشارة الى عدم انفكاك العلم عن المعلوم.
واما "كل" فهو العام الذي لم يخص منه البعض. وقد خص قاعدة "وما من عام الاّ وقد خُصَّ منه البعض" والاّ لكانت هذه القاعدة بحيث اذا صدقت كذّبت نفسها نظير "الجذر الأصم الكلاميّ" ولفظ "شيء" يعم الشائيّ والمشيءَ وما ليس بهذا ولا بذاك كالممتنع.
و "عليم" أي ذات ثبت له لازماً منه العلم.
* * * * * * * * * *
وَاذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلئِكَةِ اِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا اَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ اِنِّي اَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ 30
مقدمة
اعلم! ان التصديق بوجود الملائكة أحد أركان الايمان.
ولنا هنا مقامات.. المقام الأول:
ان مَنْ نظر الى الأرض وقد امتُلئت بذوي الأرواح مع حقارتها، وتأمل في انتظام العالم واتقانه، تحدس بوجود سكان في هذه البروج العالية.
فَمَثَلُ مَنْ لم يصدّق بوجود الملائكة كَمَثَل رجل ذهب الى بلدة عظيمة وصادف دارًا صغيرة عتيقة ملوّثة بالمزخرفات مشحونة بالناس.
ورأى عرصاتها مملوءة من ذوي الأرواح ولحياتهم شرائط مخصوصة كالنباتات والسِّماك.
ثم رأى اُلوفا من القصور العالية الجديدة قد تخلّلت بينها ميادين النزهة فيعتقد خلوها عن السكان لعدم جريان شرائط حياة هذه الدار في تلك القصور.
ومثل المعتقد بوجودهم كَمَثَل مَنْ اذا رأى هذا البيت الصغير وقد امتلأ من ذوي الأرواح ورأى انتظام البلدة، جزم بأن لتلك القصور المزيَّنة أيضاً سكانا يناسبونها وتوافقهم ولهم شرائط حياة مخصوصة فعدم مشاهدتهم -لبعدهم وترفعهم- لا يدل على عدمهم.
فامتلاء الأرض من ذوي الحياة ينتج بالطريق الاْولى وبالقياس الاْولَويّ المؤسس على القياس الخفيّ المبني على الانتظام المطرد - امتلاء هذه الفضاء الوسيعة ببروجها ونجومها وسماواتها من ذوي الأرواح الذي يدعوهم الشرع بالملائكة المنطوية على أجناس مختلفة فتأمل!..
المقام الثاني:
اعلم -كما مر- ان الحياة هي الكشافة للموجودات بل هي النتيجة لها، فاذاً كيف تخلو هذه الفضاء الوسيعة من ساكنيها وتلك السموات من عامريها.
ولقد أجمع العقلاء إجماعًا معنويًا -وان اختلفوا في طرق التعبير- على وجود معنى الملائكة وحقيقتهم، حتى ان المشّائيين عبّروا عنهم بالماهيات المجرَّدة الروحانية للأنواع، والاِشْراقِيّين عبّروا عنها بالعقول وأرباب الأنواع، وأهل الأديان بملَك الجبال وملَك البحار وملك الامطار مثلا. حتى ان الماديين الذين عقولهم في عيونهم لم يتيسر لهم انكار معنى الملائكة بل نظروا اليهم في القوات السارية في نواميس الفطرة.
فان قلت:
أفلا يكفي لارتباط الكائنات وحيويتها هذه النواميس وتلك القوانين الجارية في الخلقة؟
قيل لك:
ما تلك النواميس الجارية والقوانين السارية الا أمور اعتبارية بل وهمية لا يتعين لها وجود ولا يتشخص لها هُويّة الا بممثِّلاتها ومعاكسها ومَنْ هو آخذ برأس خيوطها وان هي إلاّ الملائكة.. وأيضاً قد اتفق الحكماء والعقل والنقل على عدم انحصار الوجود في عالم الشهادة الظاهر الجامد الغير الموافق لتشكل الأرواح.
فعالم الغيب المشتمل على عوالم -الموافق للأرواح كالماء للسِماك- مشحون بها 1، مظهرٌ لحياة عالم الشهادة.. فاذا شهدت لك هذه الأمور الأربعة على وجود معنى الملائكة فأحسن صور وجودهم التي ترضى بها العقول السليمة ماهو إلاّ ماشرحه الشرع من انّهم عباد مكرمون لا يخالفون مايؤمرون، وكذا انهم أجسام لطيفة نورانية ينقسمون إلى أنواع مختلفة.
المقام الثالث:
اعلم ان مسألة الملائكة من المسائل التي يتحقق الكل بثبوت جزء واحد، ويُعلم النوع برؤية أحد الأشخاص، اذ من أنكر أنكر الكلَّ.
ثم كما انه محال عندك -ايقظك الله- أن يجمع أهل كل الأديان في كل الأَعصار من آدم الى الآن على وجود الملائكة وثبوت المحاورة معهم وثبوت مشاهدتهم والرواية عنهم كمباحثة الناس طائفة عن طائفة، بدون رؤية فرد بل أفراد منهم وبدون ضرورة وجود شخص بل أشخاص منهم، وبدون الاحساس بالضرورة بوجودهم؛ كذلك محال أن يقوم وَهْم كذلك في عقائد البشر ويستمر هكذا ويبقى في الانقلابات بدون حقيقة يتسنبل عليها وبدون مبادئ ضرورية مولِّدة لذلك الاعتقاد العموميّ.
_____________________
1 اى بالملائكة.
فإذاً ليس سند هذا الاجماع الاّ حدس تولَّد من تفاريق امارات حصلت من واقعات مشاهدات نشأت من مبادئ ضرورية.
وليس سبب هذا الاعتقاد العمومي الا مبادئ ضرورية تولدت من رؤيتهم ومشاهدتهم في كرّات تفيد قوة التواتر المعنوي.
والاّ رفع الأمن من يقينيات معلومات البشر.
فاذا تحقق وجود واحد من الروحانية في زمان مّا تحقق وجود هذا النوع.
واذا تحقق هذا النوع، كان كما ذكره الشرع وبيّنه القرآن الكريم.
ثم ان نظم مآل هذه الآية بسابقها من أربعة وجوه:
الأول: انه لما كانت هذه الآيات في تعداد النعم العظام، واشارت الأولى إلى أعظمها - من كون البشر نتيجة للخلقة وكون جميع ما في الأرض مسخراً له يتصرف فيها على ما يشاء - اشارت هذه الى ان البشر خليفة الأرض وحاكمها.
والثاني: ان هذه الآية بيان وتفصيل وايضاح وتحقيق وبرهان وتأكيد لما في الآية الأولى من أن أزمة سلاسل ما في الأرض في يد البشر.
والثالث: ان تلك لما بيّنت بناء المسكنين من الأرض والسماء اشارت هذه الى ساكنيهما من البشر والملَك، وانها رمزت الى سلسلة الخلقة، وأومأت هذه الى سلسلة ذوي الأرواح.
والرابع: انها لما صرحت بأن البشر هو المقصود من الخلقة وان له عند خالقه لموقعاً عظيما، اختلج في ذهن السامع انه كيف يكون للبشر هذه القيمة مع كثرة شروره وفساده؟ وهل تستلزم الحكمة وجوده للعبادة والتقديس له تعالى؟ فأشارت هذه الى ان تلك الشرور والمفاسد تُغتفر في جنب السرّ المُودع فيه، وان الله غني عن عبادته اذ له تعالى من الملائكة المسبِّحين والمقدِّسين ما لا يحصر بل لحكمة في علم علاّم الغيوب.
وأما نظم الجمل بعضها مع بعض فهو:
ان الآية تنصبُّ بناء على اقتضاء "اذ" رديفا لها، وعطفه على (وهو بكل شيء عليم) - إلى تقدير 1 إذ خلق ما خلق منتظما متقنا هكذا واذ قال ربك للملئكة الخ، وانه تعالى لما خاطب مع الملائكة - ليستفسروا سرّ الحكمة ولتعليم طريق المشاورة قائلا (اني جاعل في الأرض خليفة) - توجه ذهن السامع بسرّ المقاولة الى ما "قالوا"؟ وبسرّ الاستفسار عن حكمته مع التعجب الى (أتجعل فيها)؟ وبسر استخلافهم عن الجن المفسدين مع توديع القوة الغضبية والشهوية فيهم أيضا الى (من يفسد فيها) بتجاوز القوة الثانية (ويسفك الدماء) بتجاوز القوة الأولى.
_____________________
1 وذلك لعدم وجود علاقة بين الآيتين (ت: 228)
ثم بعد تمام السؤال والاستفسار والتعجب ينتظر ذهن السامع لجوابه تعالى.
فقال: (قال اني اعلم ما لا تعلمون) أي فالأشياء ليست منحصرة في معلوماتكم.
فعدم علمكم ليس امارة على العدم، واني حكيم، لي فيهم حكمة يغتفر في جنبها فسادهم وسفكهم.
أما نظم هيئات جملة جملة، فاعلم!
ان الواو في (واذ قال ربك للملئكة اني جاعل في الأرض خليفة) وكذا في (واذ قال ربك للملئكة اني خالق بشراً من صلصال) 1 في آية أخرى بسر المناسبة العطفية اشارة الى "اذ واذ" كما مر. وكذا - بسر ان الوحي يتضمن "ذَكِّرهُمْ بِذَلِكَ" اشارة الى "واذكر لهم اذ" الخ..
وان (اذ) المفيد للزمان الماضي لتسيير الأذهان في الأزمنة المتسلسلة الماضوية ورفع وجلب واحضار لها الى ذلك الزمان لتنظره فتجتني ما وقع فيه.. وان (ربك) اشارة الى الحجة على الملائكة أي ربّاك وكمّلك وجعلك مرشداً للبشر لإزالة فسادهم أي "انت الحسنة الكبرى التي ترجحت وغطت على تلك المفاسد".. وان (للملئكة) اشارة في هذه المقاولة الكائنة على صورة المشاورة الى ان لسكان السموات أعني الملائكة مزيد ارتباط وعلاقة وزيادة مناسبة مع سكان الأرض أعني البشر.
فان من اولئك موُكلين وحَفَظة وكَتَبَة على هؤلاء فحقّهم الاهتمام بشأنهم.
وان "ان" بناء على كونها لرد التردد المستفاد من "أتجعل" اشارة الى عظمة المسألة وأهميتها.
وان ياء المتكلم وحده هنا مع "نا" للمتكلم مع الغير في "قلنا" في الآيات الآتية اشارة الى ان لا واسطة في ايجاده وخلقه كما توجد في خطابه وكلامه.
ومما يدل على هذه النكت آية (انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اريك الله) 2 فقال "انزلنا" بنون العظمة لوجود الواسطة في الوحي وقال "أريك الله" مفرداً لعدم الواسطة في إلهام المعنى.
_____________________
1 سورة الحجر: 28
2 سورة النساء: 105
وان ايثار (جاعل) على "خالق" اشارة الى ان مدار الشبهة والاستفسار الجعل(1).
والتخصيص لعمارة الأرض لا الخلق والايجاد، لأن الوجود خير محض والخلق فعله الذاتيّ لا يُسأل عنه.
وان ايثار "في" في (في الأرض) على "على" مع ان البشر على الأرض لايخلو من الايماء الى ان البشر كالروح المنفوخ في جسد الأرض، فمتى خرج البشر خربت الأرضُ وماتت.
وان (خليفة) اشارة الى انه قد وجد قبل تَهئ الأرض لشرائط حياة الإنسان مخلوقٌ مُدْرِك ساعدت شرائطَ حياته الادوارُ الأوّليةُ للأرض وهذا هو الأوفق لقضية الحكمة.
والمشهور ان ذلك المخلوق المُدْرِك كان نوعا من الجن فأفسدوا فاستُخلفوا بالإِنسان.
اما هيئات جملة (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) فاعلم! ان استيناف (قالوا) اشارة الى ان توجيه خطابه تعالى الى الملائكة يلجئ السامع الى السؤال بـ "كيف يتلقّون جيرانهم بيتَ بيتَ وأيرضون بهم قرناء وما رأيهم فيهم؟" فقال: "قالوا".
وان وجه كونه جزاء لـ "اذ" هو: ان حكم الله تعالى بجعل البشر خليفة في الأرض - التي وكّل عليها الملائكة - مع انه لا مشير له تعالى ولا وزير يستلزم اظهار كيفية تلقيهم لهم.
وان صورة القول اشارة الى اسلوب المقاولة على صورة المشاورة لتعليم الناس مع تنزهه تعالى عنها.
وان استفهام (أتجعل) فلتحقق الجعل باخباره تعالى تمتنع حقيقتُه فيتولد منه التعجب الناشئ عن خفاء السبب فيتولد منه الاستفسار - أي ما حكمة الجعل؟ فاستفهم عن المسبب بدلا عن السبب وليس للإِنكار لعصمتهم 2.
وان الجعل رمز الى ان شؤون البشر ونسبه الاعتبارية ووضعياته ليست من لوازم الطبيعة ولا من ضروريات الفطرة بل كل منها بجعل الجاعل.
وان (فيها) مع "فيها" مع قصر المسافة فللتنصيص والايماء الى معنى: ما حكمة جعل البشر روحا منفوخا في جسد الأرض لحياتها مع وجود الفساد والاماتة من حيث الأحياء؟.
وان التعبير بـ (مَنْ) اشارة الى انه لا يعنيهم شخصية البشر وانما يثقل عليهم عصيان مخلوق لله تعالى. وان ايراد (يفسد) بدل "يعصي" اشارة الى ان العصيان ينجر الى فساد نظام العالم.
وان صورة المضارع اشارة الى ان المستنكر تجدد العصيان واستمراره.
_____________________
(1) اي جعل البشر وتخصيصه لعمارة الارض (ت: 230)
( 2)ان القصد من استفهام الملائكة ليس اعتراضاً على الجعل، اذ تحقق باخباره تعالى، ولانهم لا يعصون الله ما امرهم، وانما هو استفسار عن حكمة الجعل، وذلك لخفاء السبب عنهم (ت: 232).
وقد علموا ذلك اما باعلامه تعالى أو بمطالعة اللوح أو بمعرفة فطرتهم من عدم تحديد القوى المودعة فيهم.
فبتجاوز الشهوية يحصل الفساد وبتعدي الغضبية ينشأ السفك والظلم.
و(فيها) أي مع أنها كانت مسجداً اُسس على التقوى.
وان موقع "الواو" الجمع بين الرذيلتين بمناسبة انجرار الفساد الى سفك الدم.
وان ايثار (يسفك) على "يقتل" لأن السفك هو القتل بظلم.
ومن القتل ما هو جهاد في سبيل الله وكذا قتل الفرد لسلامة الجماعة كقتل الذئب لسلامة الغنم.
واما الدماء فتأكيد لما في السفك من الدم لتشديد شناعة القتل.
وأما هيئات (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) فواو الحال اشارة الى استشعارهم الاعتراض عليهم بـ "اما يكفيكم حكمة عبادة البشر وتقديسه له تعالى؟" (ونحن) أي معاشر الملائكة المعصومين من المعاصي.. واسمية الجملة اشارة الى ان التسبيح كالسجية لهم واللازم لفطرتهم وهم له.
أما (نسبح بحمدك) فكلمة جامعة أي نعلنك في الكائنات بأنواع العبادات.. ونعتقد تنزهك عما لا يليق بجنابك بتوصيفك بأوصاف الجلال وما هو الا من نعمك المحمود عليها.
ونقول "سبحان الله وبحمده".
ونحمدك ونصفك بأوصاف الجلال والجمال.
ونقدس لك أي نقدسك، أو نطهر أنفسنا وأفعالنا من الذنوب وقلوبنا من الالتفات الى غيرك.
فالواو للجمع بين الفضيلتين أي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فيكون حذاء الواو الأول.
واما هيئات (قال اني اعلم ما لا تعلمون) فاستينافها اشارة الى السؤال بـ "ماذا قال الله تعالى مجيبا لاستفسارهم، وكيف بينّ السبب مزيلا لتعجبهم، وما الحكمة في ترجيح البشر عليهم؟" فقال "قال" مشيراً إلى جواب اجمالي ثم فصل بعض التفصيل بالآية التالية.
و" ان" في (اني اعلم) للتحقيق ورد التردد والشبهة وهو انما يكون في حكم نظري ليس بمسلّم مع بداهة ومسلّمية علم الله تعالى بما لا يعلم الخلق وحاشاهم عن التردد في هذا.
فحينئذ يكون "ان" مناراً على سلسلة جمل لخصها القرآن الكريم وأجملها وأوجزها بطريق بيانيّ مسلوك.
أي: ان في البشر مصالحَ وخيراً كثيرا تغمر في جنبها معاصيه التي هي شر قليل، فالحكمة تنافي ترك ذلك لهذا.
وان في البشر لسراً اهّله للخلافة غفلت عنه الملائكة وقد علمه خالقه.. وان فيه حكمة رجحته عليهم لا يعلمونها ويعلمها مَنْ خلق.
وأيضاً قد يتوجه معنى "ان" الى الحكم الضمني المستفاد من واحد من قيود مدخولها أي لا تعلمون بالتحقيق.. وأيضاً (اعلم ما لا تعلمون) من قبيل ذكر اللازم وارادة الملزوم أي يوجد ما لا تعلمون، اذ علمه تعالى لازم لكل شئ فنفى العلم دليل على عدم المعلوم كما قال تعالى (بما لا يعلم) أي لا يمكن ولايوجد، ووجود العلم دليل على وجود المعلوم.. ثم انه قد ذكر في تحقيق هذا الجواب الاجمالي ان الله عليم حكيم.
لا تخلو أفعاله تعالى عن حكم ومصالح، فالموجودات ليست محصورة في معلومات الخلق فعدم العلم لا يدل على العدم، وان الله تعالى لما خلق الخير المحض أعني الملائكة، والشر المحض أعني الشياطين، وما لا خير عليه ولا شر أعني البهائم، اقتضت حكمة الفيّاض المطلق وجود القسم الرابع الجامع بين الخير والشر.
إن انقادت القوة الشهوية والغضبية للقوة العقلية فاق البشر على الملائكة بسبب المجاهدة، وان انعكست القضية صار انزلَ من البهائم لعدم العذر.