المسألة السابعة:
اعلم! ان كتب السير والتاريخ قد ذكرت كثيراً من معجزاته المحسوسة، والخوارق الظاهرة المشهورة عند الجمهور، وقد فسرها المحققون.
فلأن تعليم المعلوم ضائع، اَحَلْنا التفصيلَ على كتبهم فلنجمل بذكر الأنواع:
فاعلم! ان الخوارق الظاهرة وان كان كل فرد منها آحاديا غير متواتر لكن الجنس وكثيراً من الأنواع متواتر بالمعنى.
ثم ان انواعها ثلاثة:
الأول: الارهاصات المتنوعة كانطفاء نار المجوس، ويبوسة بحر ساوة، وانشقاق ايوان كسرى، وبشارات الهواتف.
حتى كأنه يتخيل للانسان ان العصر الذي ولد فيه النبيّ عليه الصلاة والسلام صار حسّاساً ذا كرامةٍ فبشّر بقدومه بالحسّ قبل الوقوع.
النوع الثاني: الاخبارات الغيبية الكثيرة من فتح كنوز كسرى وقيصر، وغلبة الروم، وفتح مكة، وأمثالها.
كأن روحه المجرّد الطيّار مزّق قيد الزمان المعيّن والمكان المشخّص، فجال في جوانب المستقبل فقال لنا كما شاهد.
النوع الثالث: الخوارق الحسيَّة التي أظهرها وقت التحدِّي والدعوى. كتكلم الحجر، وحركة الشجر وشق القمر، وخروج الماء.
وقد قال الزمخشري: بلغ هذا النوع إلى الف.
وأصناف من هذا النوع متواترة بالمعنى حتى ان (وانْشَقَّ الْقَمَرُ) لم يتصرف في معناه من أنكر القرآن الكريم أيضاً.
فإن قلت: مثل انشقاق القمر لابد أن يشتهر في العالم ويتعارف.
قيل لك: فلإختلاف المطالع، ووجود السحاب، وعدم الترصد للسماء كما في هذا الزمان، ولكونه في وقت الغفلة، ولوجوده في الليل، ولكون الانشقاق آنياً.. لايلزم ان يراه كل الناس أو أكثرهم.
على انه قد ثبت في الروايات انه قد رآه كثير من القوافل الذين كان مطلعهم ذلك المطلع.
ثم أن رئيس هذه المعجزات هو القرآن المبين المبرهن اعجازه بجهات سبع أُشير اليها في هذه الآية.
واذ تفهمت هذه المسائل فاستمع لما يتلى عليك من نظم الآىة بوجوهها الثلاثة؛ من نظم المجموع بما قبله، ونظم الجمل بعضها مع بعض، ونظم هيئات وقيود جملة جملة.
أما النظم الأول فمن وجهين:
| الأول: انه لما قال (يا ايها الناس) لإثبات التوحيد -على تفسير ابن عباس- اثبت بهذه نبّوة محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو من اظهر دلائل التوحيد.
ثم ان اثبات النبوّة بالمعجزات.
وأعظم المعجزات هو القرآن.
وادقّ وجوه اعجاز القرآن ما في بلاغة نظمه.
ثم انه اتفق الاسلام على ان القرآن معجِز.. الاّ ان المحققين اختلفوا في طرق الاعجاز، لكن لاتزاحم بين تلك الطرق، بل كلٌ اختار جهةً من جهاته.
فعند بعض اعجازه: اخباره بالغيوب.. وعند بعض: جمعه للحقائق والعلوم.. وعند بعض: سلامته من التخالف والتناقض.. وعند بعض: غرابة اسلوبه وبديعيته في مقاطع ومبادئ الآيات والسور.. وعند بعض: ظهوره من امّي لم يقرأ ولم يكتب.. وعند بعض: بلوغ بلاغة نظمه الى درجة خارجة عن طوق البشر، وكذا وكذا.. الخ.
ثم اعلم! ان معرفة هذا النوع من الاعجاز تفصيلا انما تحصل بمطالعة أمثال هذا التفسير، واجمالاً يُعْرف بثلاث طرق:
. (كما حققها عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة والزمخشري والسكاكي والجاحظ 1).
_____________________
1 (775 - 868م) عمر بن بحر، كاتب ولد ومات بالبصرة، كان من اسرة فقيرة مات ابوه وهو صغير فاضطر الى احتراف بيع الخبز والسمك الى جانب مواصلة التعليم في الكتاب والمسجد والحلقات والاطلاع على كل ما تقع عليه يداه. ألف اكثر من (350) كتاباً اشهر كتبه " الحيوان" و "البيان والتبيين" و" البخلاء".
الطريق الأول: هو ان قوم العرب كانوا بدويين امّيين ولهم محيط عجيب يناسبهم.. وقد انتبهوا بالانقلابات العظيمة في العالم.. وكان ديوانهم الشعر وعلمهم البلاغة، ومفاخرتهم بالفصاحة في أمثال سوق عكاظ..
وكانوا أذكى الأقوام.. وكانوا أحوج الناس لجولان الذهن اذاً.. ولقد كان لأذهانهم فصل الربيع، فطلع عليهم القرآن الكريم بحشمة بلاغته فمحا وبهر تماثيل بلاغتهم وهي "المعلقات السبعة" المكتوبة بذوب الذهب على جدار الكعبة.
مع ان اولئك الفصحاء البلغاء -الذين هم أمراء البلاغة وحكام الفصاحة- ما عارضوا القرآن وما حاروا ببنت شفة، مع شدة تحدِّي النبيّ عليه السلام لهم، ولومه لهم، وتقريعه اياهم، وتسفيهه لأحلامهم، وتحريكه لاعصابهم في زمان طويل، وترذيله لهم مع ان من بلغائهم مَن يحكّ بيافوخه 1 كتف السماء، ومنهم مَن يناطح السِّماكَيْن 2 بكبره فلولا انهم ارادوا وجربوا أنفسهم فأحسوا بالعجز، لما سكتوا عن المعارضة البتة؛ فعجزهم دليل اعجاز القرآن.
والطريق الثاني: هو ان اهل العلم والتدقيق واهل التنقيد الذين يعرفون خواص الكلام ومزاياه ولطائفه تأملوا في القرآن سورةً سورةً، وعشراً عشراً، وآيةً آيةً، وكلمةً كلمةً؛ فشهدوا بانه جامع لمزايا ولطائف وحقائق لاتجتمع في كلام بشر.
فهؤلاء الشهداء الوف الوف.
والذي يدل على صدق شهادتهم هو ان القرآن أوقع في العالم الانساني تحوّلاً عظيما، واسس ديانة واسعة، وادام على وجه الزمان ما اشتمل عليه من العلوم.
فكلما شاب الزمانُ شبّ، وكلما تكرر حلا.
فاذاً (ان هو الا وحي يوحى) 3.
والطريق الثالث: 4 كما حققه الجاحظ: هو ان الفصحاء والبلغاء مع شدة احتياجهم الى إبطال دعوى النبيّ عليه السلام، ومع شدة حقدهم وعنادهم له تركوا المعارضة بالحروف الطريقَ الأسلمَ والأقربَ والأسهلَ، والتجأوا الى المقارعة بالسيوف الطريقِ الأصعبِ الأطولِ المشكوكة العاقبة الكثيرة المخاطر؛ وهم بدرجة من الذكاء السياسي، لا يمكن ان يخفى عليهم التفاوت بين هذين الطريقين.
_____________________
1 اليافوخ: الموضع الذى يتحرك من رأس الطفل، والمقصود هنا: مَن علا قدره وتكبّر من البلغاء.
2 السماكان: نجمان نيّران.
3 سورة النجم: 4
4 هذه الطريق حجة قاطعة - المؤلف.
فمن ترك الطريق الأول لو امكن -مع انه أشد إبطالا لدعواه- واختار طريقاً أوقع مالَه وروحَه في المهالك فهو إما سفيه، وهو بعيد ممن ساسوا العالم بعد ان اهتدوا.. وإما انه أحس من نفسه العجز عن السلوك في الطريق الأول فاضطر للطريق الثاني.
فان قلت: يمكن ان تكون المعارضة ممكنة؟
قيل لك: لو امكنتْ لطمع فيها ناسٌ لتحريك أعصابهم لها.
ولو طمعوا لفعلوا لشدة احتياجهم.
ولو عارضوا لتظاهرت للرغبة وكثرة الأسباب للظهور.
ولو تظاهرت لوجد من يلتزمها ويدافع عنها ويقول: انه قد عورض لاسيما في ذلك الزمان.
ولو كان لها ملتزمون ومدافعون ولو بالتعصب لاشتهرت لانها مسألة مهمة.
ولو اشتهرت لنقلتها التواريخ كما نقلت هذيانات مسيلمة بقوله: (الفيل ما الفيل وما ادراك ما الفيل صاحب ذَنَب قصير وخُرْطوم طويل).
فان قلت: مسيلمة كان من الفصحاء فكيف صار كلامه مَسْخرة وأضحوكة بين الناس؟
قيل لك: لأنه قوبل بما فاقه بدرجات كثيرة.
ألا ترى ان شخصًا ولو كان حسناً اذا قوبل بيوسف عليه السلام لصار قبيحاً ولو كان مليحًا.
فثبت ان المعارضة لا يمكن؛ فالقرآن معجز.
فان قلت: للمرتابين كثير من الاعتراضات والشكوك على تراكيب القرآن وكلماته مثل (إن هذان) 1 و (الصابئون) 2 و (الذي استوقد ناراً) وامثالها من الاعتراضات النحوية؟
قيل لك: عليك بخاتمة مفتاح السكاكي فانه ألقمهم الحجر بـ"أفلا يتفطنون ان من كرر كلامه في زمان مديد مع انه فصيح بالاتفاق كيف لايحس بالغلطات التي تظهر لنظر هؤلاء الحمقاء"؟.
_____________________
1 سورة طه: 63
2 سورة المائدة: 69
أما الوجه الثاني:
لنظم الآية فاعلم! ان الآية السابقة لما امرت بالعبادة استفسر ذهنُ السامع بـ "على أية كيفية نعبد"؟ فكأنه أجاب: كما علمكم القرآن! فعاد سائلا: كيف نعرف انه كلام الله تعالى؟ فأجاب بقوله: (وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا..) الخ.
أما نظم الجمل بعضها مع بعض فهو:
ان جملة (وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) قد وقعت في موقعها المناسب؛ اذ لما أمر القرآن بالعبادة كأنه سُئل: كيف نعرف انه امر الله حتى يجب الامتثال؟ فقيل له: ان ارتبتَ فجرِّب نفسك لتتيقن انه امر الله..
ومن وجوه النظم ايضا ان القرآن لما اثنى على نفسه بجملة (ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين) ثم استتبع مدحه مدح المؤمنين، ثم استطرد مدح المؤمنين ذم الكافرين والمنافقين، ثم استعقب الأمر بالعبادة والتوحيد.. عاد القرآن الى الأول بالنظر الى (لاريب فيه) أي: أما القرآن فليس قابلا للشك والريب؛ فما ريوبكم الاّ من مرض قلوبكم وسقامة طبعكم.
كما:
قَدْ يُنْكَرُ ضَوْءُ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْفَرُ طَعْمُ اْلماءِ مِنْ سَقَمٍ
وأما نظم (فأتوا بسورة من مثله) فاعلم! ان هذه جزاء الشرط، وجزاء الشرط يلزم ان يكون لازماً لفعل الشرط. ولما كان الأمر تعجيزيا استلزم تقدير "تشبثوا".
ولما كان الأمر انشاء والانشاء لايصير لازما، يلزم اَن يكون لازم الأمر جزاء.
وهو الوجوب الذي هو من أصول معاني الأمر، ثم وجوب التشبث أيضاً لايظهر لزومه للريب فاقتضى تقدير جمل مطوية تحت ايجاز الآية.
فالتقدير "ان كنتم في ريب انه كلام الله يجب عليكم ان تتعلموا اعجازه، فان المعجز لايكون كلام البشر ومحمّد عليه السلام بشر، وان أردتم ظهور اعجازه فجرِّبوا أنفسكم ليظهر عجزكم، فيجب عليكم التشبث باتيان سورة من مثله".
فللّه در التنزيل ما أوجزَه وما أعجزه!.
وأما نظم (وادعوا شهداءَكم من دون الله) فبثلاثة اوجه:
أحدها: انهم يقولون عجزنا لا يدل على عجز البشر.. فافحمهم بقوله: (وادعوا شهداءكم) أي كبراءكم ورؤساءكم.
والثاني: انهم يزعمون: انّا لو عارضنا فمن يلتزمنا ويدافع عنا؟ فألقمهم الحجر بانه ما من مسلك الاّ وله متعصبون ولو عارضتم لظهر لكم شهداء يذبّون عنكم.
والثالث: ان القرآن كأنه يقول: لما استشهد النبيُّ عليه السلام الله تعالى صدّقه الله وشَهِد له بوضع سكة الاعجاز على دعواه.
فان كان في آلهتكم وشهدائكم فائدة لكم فادعوهم. وما هذا الا نهاية التهكم بهم.
وأما نظم (فان لم تفعلوا) فظاهر، اذ التقدير "فان جربتم فانظروا فان لم تقدروا ظهر عجزكم ولم تفعلوا".
وأما نظم (ولن تفعلوا) فكأنه لما قال لم تفعلوا.. قيل من جانبهم: عدم فعلنا فيما مضى لايدل على عجز البشر فيما سيأتي.
فقال: ولن تفعلوا، فرمز الى الاعجاز بثلاثة اوجه.
احدها: الاخبار بالغيب وكان كما اخبر. ألا ترى ان الملايين من الكتب العربية مع التمايل الى تقليد اسلوب التنزيل وكثرة المعاندين لو فتشتها؛ لم يوافقه شئ منها.
كأن نوعه منحصر في شخصه. فأما هو تحت الكل وهو باطل بالاتفاق. فما هو الا فوق الكل.
والوجه الثاني: ان القطع والجزم بعدم فعلهم مع التقريع عليهم وتحريك أعصابهم في هذا المقام المشكل وفي هذه الدعوى العظيمة علامة صادقة على انه واثق امين مطمئن بماله ومقاله.
والوجه الثالث: ان القرآن كأنه يقول: اذا كنتم امراء الفصاحة وأشد الناس احتياجاً اليها ولم تقتدروا لم يقتدر عليه البشر.
وكذا فيه اشارة الى ان نتيجة القرآن التي هي الاسلامية كما لم يقتدر على نظيرها الزمان الماضي؛ كذا يعجز عن مثلها الزمان المستقبل.
وأما نظم (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) فاعلم! ان تعقيب "ان لم تفعلوا" بـ"فاتقوا" يقتضي في ذوق البلاغة تقديراً هكذا: ان لم تفعلوا ولن.. ظهر انه معجز، فهو كلام الله، فوجب عليكم الايمان به وامتثال أوامره... ومن الأوامر يا ايها الناس اعبدوا لتتقوا النار فاتقوا النار. فاوجز فاعجز.
وأما نظم (التي وقودها الناس والحجارة) فاعلم! ان المقصد من (فاتقوا) هو الترهيب، ومعنى الترهيب انما يؤكد بالتهويل والتشديد فهوّله بـ (وقودها الناس) اذ النار التي حطبها كان انسانا أخوف وأدهش.. ثم شدده بعطف الحجارة؛ اذ ما تحرق الحجرَ أشد تأثيراً.. ثم أشار الى الزجر عن عبادة الأصنام: أي لو لم تتمثلوا أمر الله، وعبدتم أحجاراً لدخلتم ناراً تأكل العُبّاد ومعبوداتهم.
وأما نظم (اعدت للكافرين) فهو انها توضيح وتقرير لزوم جزاء الشرط لفعله: أي هذه المصيبة ليست كالطوفان وسائر المصائب التي لا تصيب الظالمين خاصة بل تعم الأبرار والأخيار؛ فانما هذه تختص بالجانين يجرّها الكفرُ لاسبيل للنجاة الا امتثال القرآن.
ثم اعلم! ان (اُعدّت) اشارة الى ان جهنم مخلوقة موجودة الآن لا كما زعمت المعتزلة.. ثم ان مما يدلك ويفيد حدسا لك على أبدية جهنم انك اذا تفكرت في العالم بنظر الحكمة ترى النار مخلوقة عظيمة مستولية غالبة، كأنها عنصر أساس في العلويات والسفليات.
وتفهمت وجود رأس عظيم وثمرة عجيبة تدلت الى الأبد.
ألا ترى ان من رأى عرقا ممتداً تفطن لوجود بطيخ مثلا في رأسه؛ وكذلك من رأى الخلقة النارية تفطن لإِنتهائها الى حنظلة جهنم.
وكذا من رأى النعم والمحاسن واللذائذ يحدس بأن مصبها ومخلصها وروضها الجنة.
فان قلت: اذا كانت جهنم موجودة الآن فاين موضعها؟
قيل لك: نحن معاشر أهل السنة والجماعة نعتقد وجودها الآن لكن لا نعيّن موضعها.
فان قلت: ان ظواهر الأحاديث تدل على انها تحت الأرض.
وفي حديث: ان نارها أشد وأحرّ من نار الدنيا بمائتي دفعة.
وان الشمس أيضا تدخل في جهنم؟
قيل لك: ان تحت الأرض عبارة عن مركزها، اذ تحت الكرة مركزها.
وقد ثبت في نظريات الحكمة ان في مركزها ناراً بالغة في الشدة الى مقدار مائتي الف درجة.
اذ كلما تحفر الأرض ثلاثة وثلاثين ذراعًا بذراع التجار تتزايد تقريبا درجة حرارة.
فإلى المركز تصير تقريبا مائتي الف درجة.
فهذا النظريّ مطابق لمآل الحديث الذي يقول انها أشد من نار الدنيا بمائتي درجة.
وأيضاً في الحديث ان قسماً من تلك النار زمهرير تحرق ببرودتها 1.
وهذا الحديث مطابق لهذا النظري؛ اذ النار المركزية مشتملة على المراتب النارية كلها الى السطح.
وقد تقرر في الحكمة الطبيعية ان للنار مرتبة تجذب دفعةً حرارة مجاورها فتحرقه بالبرودة وتصير الماء جَمَداً.
فان قلت: ما في جوف الأرض ومظروفها صغير فكيف تسع جهنم التي تسع السموات والارض؟
قيل لك: نعم باعتبار المِلك والمطويتية وان كانت مظروفة للأرض لكن بالنظر الى العالم الأُخروي بالغة في العظمة الى درجة تسع الُوفا من أمثال هذه الأرض.
بل ان عالم الشهادة كحجاب مانعٍ لارتباط تلك النار بسائر أغصانها.
فما في جوف الأرض الاّ مركزها وسرّها أو قلب عفريتها. وأيضاً لا تستلزم التحتية اتصالها بالأرض، اذ شجرةُ الخلقةِ اثمرتْ أغصانُها الشمسَ والقمرَ والنجومَ وأرضَنا وأرضينَ أخرى.
فما تحت الثمرة يشمل ما بينَ الأغصان اين كان.
فمُلك الله تعالى واسع، وشجرة الخلقة منتشرة فأينَ سافرتْ جهنمُ لا تُرَدُّ.
وفي حديثٍ (اِنَّ جَهَنَّمَ مَطْوِيَّةٌ) فيمكن ان تكون بيضة لأرضنا الطيارة متى يمتزق حجاب الملك ينفتق تلك البيضة وتتظاهر هي كاشرةً أسنانَها لأهلِ العصيان.
ويحتمل ان ماشبط 2 أهل الاعتزال وأوقعهم في الغلط بعدم وجودها الآن انما هو هذه المطويتية.
_____________________
1 عن ابى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتكت النار الى ربها، فقالت: "يا رب! أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين. نفسٌ في الشتاء ونفس في الصيف. فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها" رواه البخارى - كتاب الايمان، ابن ماجه 4319 والترمذي 2592 وعن ابى هريرة رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم" رواه احمد 24/164 (الفتح الربانى) واورده الهيثمى في المجمع 1/387 وقال: رواه احمد ورجاله رجال الصحيح.
2 الاظهر: شيط.
وأما نظم هيئاتِ وقيودِ جملة جملة:
فاعلم! ان جملة (وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) الواو فيها بناء على المناسبة بين المتعاطفين تومئ الى: تقدير "كما علّمكم القرآن".. وايراد (اِنْ) الترددية في موضع "اذا" التي هي للقطع مع ان ريبهم مجزوم به اشارة الى انه لأجل ظهور أسباب زوال الريب شأنه ان يكون مشكوك الوجود بل من المحال يفرض فرضا.
ثم ان الشك في (إنْ) بالنظر الى الاسلوب لا بالقياس الى المتكلم تعالى.. وايراد (كنتم في ريب) بدل ارتبتم مع انه اقصر اشارة الى ان منشأ الريب طبعهم المريض وكونهم.
وظرفية الريب لهم مع انه مظروف لقلبهم ايماء الى ان ظلمة الريب انتشرت من القلب فاستولت على القالب، فاظلم عليه الطرق.. وتنكير (ريب) للتعميم أي: أيّ نوع من أنواع الريب ترتابونه فالجواب واحد وهو: ان هذا معجز وحق.
فتخطئتكم بالنظر السطحيّ خطأ فلا يلزم لكل ريب جواب خاص. ألا ترى ان من رأى رأس عين وذاقه عذبا فراتا لا يحتاج الى ذوق كل جدول وفرع قد تشعب منه.. و"من" في (مما نزلنا) ايماء الى تقدير لفظ "في شئ مما" ولفظ (نزلنا) اشارة الى ان منشأ شبهتهم هو صفة النزول.
فالجواب القاطع اثبات النزول فقط.
وايثار (نزّلنا) الدال على النزول تدريجا على "انزلنا" الدال عليه دفعة اشارة الى ان ما يتحججون به قولهم: لولا انزل عليه دفعة.
بل على مقتضى الواقعات تدريجاً نوبة نوبة نجماً نجماً سورة سورة.. وايثار العبد على "النبي" و "محمد" اشارة الى تعظيم النبي، وايماء الى علو وصف العبادة، وتأكيد لأمر "اعبدوا" ورمز الى دفع أوهامٍ بان النبيّ عليه السلام أعبد الناس وأكثرهم تلاوة للقرآن الكريم. فتفكر!.
وان جملة (فأتوا بسورة من مثله) الأمر في (فأتوا) للتعجيز، وفيه التحدِّي والتقريع والدعوة الى المعارضة والتجربة ليظهر عجزهم.. ولفظ (بسورة) اشارة الى نهاية افحام، وشدة تبكيت، وغاية إلزام؛ إذ:
أول طبقات التحدِّي هو:
ان يقال: فأتوا بمثل تمام القرآن بحقائقه وعلومه واخباراته الغيبية مع نظمه العالي من شخص امّي !
وثانيتها: ان يقال:
ان لم تفعلوا كذا فأتوا بها مفتريات لكن بنظم بليغ مثله.
وثالثتها: ان يقال:
ان لم تفعلوا هكذا ايضاً فأتوا بمقدار عشر سور.
ورابعتها:
انه ان لم تقتدروا عليه أيضاً فلا أقلّ من أن تأتوا بقدر سورة طويلة.
وخامستها:
انه ان لم يتسير لكم هذا أيضاً فأتوا بمقدار سورة مطلقا ولو أقصر كـ انا اعطيناك من شخص اميّ مثله.
وسادستها:
انه ان لم يمكنكم الإِتيان من اميّ فأتوا من عالم ماهر وكاتب حاذق.
وسابعتها:
انه ان تعسر عليكم هذا أيضاً فليعاون بعضكم بعضا على الإتيان.
وثامنتها:
انه ان لم تفعلوا فاستعينوا بكافة الإِنس والجن واستمدوا من مجموع نتائج تلاحق افكارهم من آدم الى قيام الساعة، ونتائج افكارهم هي مابين ايديكم من هؤلاء الكتب على الاسلوب العربي مع شوق التقليد وعناد المعارضة؛ ففضلاً عن أهل التحقيق لو تصفحها مَنْ له ادنى مسكة ولو جاهل لقال: ليس فيها مثله، فإما هو تحت الكل وهو باطل بالاتفاق واما فوق الكل وهو المطلوب كما مر آنفاً. نعم، لم يعارض في ثلاثة عشر عصراً هكذا مرّ الزمان، وهكذا يمرّ الى يوم القيامة.
وتاسعتها:
ان يقال لا تتحججوا بان ليس لنا شهداء وانتم لا تشهدون لنا. ألا فادعوا شهداءَكم والمتعصبين لكم فليراجعوا وجدانهم هل يتجاسرون على تصديق دعواكم المعارضة.
واذا تفهمت هذه الطبقات فانظر الى القرآن كيف أعجز بان أوجز فأشار الى هذه المراتب، فألقمهم الحجر وأرخى لهم العنان.
ثم اعلم ان عجز البشر عن معارضة أقصر سورة اِنِيّتُهُ بديهية.
واما لمِيَّتُهُ فقيل هي: ان الله تعالى صرف القوى عن المعارضة.
والمذهب الأصح في اللِّمِيَّة ما عليه عبدالقاهر الجرجاني والزمخشري والسكاكي.
وهو: ان قدرة البشر لا تصل الى درجة نظمه العالي.
ثم ان السكاكي اختار ان الاعجاز ذوقي لايعبر عنه ولايشرح بل يذاق ذوقا.
وأما صاحب دلائل الاعجاز فاختار انه يمكن التعبير عنه.
ونحن على مذهبه في هذا البيان.
وايثار (سورة) على نجم أو طائفة أو نوبة اشارة الى الزامهم في منشأ شبهتهم وهي: لولا انزل عليه دفعة واحدة؟ أي فهاتوا انتم ولو بنوبة فذة.. وأيضاً ايماء الى تضمن تسوير التنزيل سورة سورة لفوائد جمة بيّنها الزمخشري، والى تضمن هذا الاسلوب الغريب للطائف.. ولفظ (من مثله) فيه معنيان أي بمثل المنزَل، أو من مثل المنزل عليه.
اعلم! ان حق العبارة على الأول "مثل سورة منه" لكن عدل الى (من مثله) للايماء الى ملاحظة الاحتمال الثاني، أي انما تكون معارضتكم مبطلة لدعواه لو جاءت من مثله في عدم التعلم.. وكذا اشارة الى ان المعارضة انما تبطل الاعجاز لو كان المعارض به من مجموع مثل.. وكذا رمز الى توجيه الاذهان الى امثال القرآن في النزول من الكتب السماوية ليوازن ذهن السامع بينها فيتفطن لعلوه.
وان جملة (وادعوا شهداءكم من دون الله) ايثار "ادعوا" فيها على "استعينوا" او "استمدوا" ايماء الى ان من يلبيهم ويذبّ عنهم لايفقدهم بل حاضر لا يحتاجون الا الى ندائه.. ولفظ "شهداء" جامع لثلاثة معان: اي كبراءكم في الفصاحة.. ومن يشهد لكم.. وآلهتكم.
فنظراً الى الأول إلزام لهم، يقطع تحججهم بان عدم قدرتنا لايدل على عدم قدرة كبرائنا.
ونظراً إلى الثاني افحام لهم، يقطع تعللهم بأن ليس لنا شهداء بانه لا مسلك الاّ له ذابون وشهداء. ونظراً الى الثالث تبكيت لهم وتهكم بهم بان الآلهة التي ترجون منها النفع ودفع الضر كيف لاتعينكم في هذا الأمر الذي يهمّكم؟.. واضافة "شهداء" الى "كم" المفيدة للاختصاص تقوي عضد المعنى الأول: بان الكبراء حاضرون معكم، وبينكم اختصاص لو اقتدروا لعاونوكم البتة.
وتصل جناح المعنى الثاني بانا نقبل شهادة من يلتزمكم ويتعصب لكم فانهم أيضا لا يتجاسرون على الشهادة على بديهيّ البطلان.
وتأخذ بساعد المعنى الثالث مع التقريع بأن الآلهة التي اتخذتموها معبودات كيف لاتمدكم.. ولفظ (من دون الله) نظراً الى الأول اشارة الى التعميم أي كل فصيح في الدنيا ما خلا الله تعالى.
وكذا الى ان اعجازه ليس الاّ لأنه من الله.. ونظراً الى الثاني اشارة الى عجزهم ومبهوتيتهم بقولهم: "الله شاهد، الله عليم انا نقتدر".
لأن ديدن العاجز المحجوج الحلف بالله والاستشهاد به على ما لا يقتدر على الاستدلال عليه.. ونظرا الى الثالث اشارة الى ان معارضتهم مع النبيّ عليه الصلاة والسلام ليست الا مقابلة الشرك بالتوحيد والجمادات بخالق الأرض والسموات.
وان جملة (ان كنتم صادقين) اشارة الى قولهم: لو شئنا لقلنا مثل هذا.. وكذا تعريض بانكم لستم من أهل الصدق الا ان يفرض فرضا، بل من أهل السفسطة، ما وقعتم في الريب من طريق طلب الحق بل طلبتم فوقعتم فيه.. ثم ان جزاء هذا الشرط محصل ما قبله أي فافعلوا.
أما جملة (فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار) الى آخره.
فاعلم! ان (ان كنتم صادقين) احتجاج القرآن عليهم بقياس استثنائي استثنى نقيض التالي لانتاج نقيض المقدم.
تلخيصه: ان كنتم صادقين تفعلوا المعارضة وتأتوا بسورةٍ لكن ما تفعلون ولن تفعلوا، فانتج فلم تكونوا صادقين فكان خصمكم وهو النبيّ عليه السلام صادقا فالقرآن معجز، فوجب عليكم الايمان به لتتقوا من العذاب... انظر كيف اوجز التنزيل فاعجز.
ثم انه ذكر موضع استثناء نقيض التالي وهو "لكن ماتفعلون" لفظ (ان لم تفعلوا) مشيراً بتشكيك "ان" الى مجاراة ظنهم، وبالشرطية الى استلزام نقيض التالي لنقيض المقدم. ثم ذكر موضع النتيجة وهي نقيض المقدم أعني فلم تكونوا صادقين علة لازم لازم لازمها وهي قوله (فاتقوا النار) لتهويل الترهيب والتهديد 1.
_____________________
1 قد استعمل المنطق هنا استعمالاً حسناً - المؤلف.
أما (ان لم تفعلوا) الماضي بالنظر إلى "لم" والمستقبل بالقياس إلى "ان" فلتوجيه الذهن إلى ماضيهم كأنه يقول لهم: "أنظروا إلى خطبكم المزيّنة ومعلقاتكم المذهّبة أتساويه أو تدانيه أو تقع قريبا منه؟".
وإيثار (تفعلوا) على "تأتوا" لنكتتين:
احداهما: الايماء الى ان منشأ الاعجاز عجزُهم ومنشأ العجز الفعل لا الأثر.
والثانية: الايجاز، اذ "فعل" كما انه في الصرف ميزان الأفعال وجنسها؛ كذلك في الأساليب مصدر الأعمال وملخص القصص كأنه ضمير الجمل كناية عنها.
أما (ولن تفعلوا) فاعلم! ان التأكيد والتأبيد في (لن) ايماء الى القطعية وهي اشارة الى ان القائل مطمئن جدّي، لاريب له في الحكم. وهذا رمز الى ان لا حيلة.. أما (فاتقوا) بدل "تجنبوا" فللايماء الى ما ناب عنه الجزاء من آمنوا واتقوا الشرك الذي هو سبب دخول النار.. أما تعريف (النار) فللعهد أي النار التي عهدت واستقرت في أذهان البشر بالتسامع عن الأنبياء من آدم الى الآن.. وأما توصيفها بـ(التي) الموصولة مع ان من شأنها ان تكون معلومة اوّلاً، فلأجل نزول (ناراً وقودها الناس والحجارة) 1 قبل هذه الآية فالمخاطبون قد سمعوا تلك، فالموصولية في موقعها.. وأما وقودها الناس والحجارة فالغرض كما مر آنفاً الترهيب، والترهيب يؤكد بالتهويل والتشديد فهوّل بلفظ "الناس" كما قرع به، وشدد "بالحجارة" كما وبخ بها.
أي ما ترجون منه النفع والنجاة وهو الاصنام يصير آلة لتعذيبكم.
واما جملة (اعدت للكافرين) فاعلم! ان الموضع موضع "اعدت لكم" لكن القرآن يذكر الفذلكة والقاعدة الكلية في الأغلب في آخر الآيات ليشير الى كبرى دليل الحكم؛ اذ اصل الكلام: "اعدت لكم ان كفرتم لأنها اعدّت للكافرين".
فلهذا اقيم المظهر مقام المضمر.. وأما ماضية (اعدّت) فاشارة كما مر الى وجود جهنم الآن.
_____________________
1 سورة التحريم: 6
يتبع إن شاء الله...