منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (01-04)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (01-04) Empty
مُساهمةموضوع: السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (01-04)   السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (01-04) Emptyالأحد 16 فبراير 2014, 4:03 am

السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

ان قلت: 

ان في القرآن الموجز المعجز أشياء مكررة تكراراً كثيراً في الظاهر كالبسملة و"فبأي آلاء" الخ.. و"ويل يومئذ" الخ.. وقصة موسى وأمثالها، مع ان التكرار يُمِلُّ وينافي البلاغة.

قيل لك: "مَا كُلُّ مَا يَتَلأْلأُ يُحْرِقُ" فان التكرار قد يُمِلُّ، لا مطلقاً. بل قد يُستحسن وقد يُسأم. فكمَا أن في غذاء الانسان ماهو قُوت كلما تكرر حلا وكان آنس، وما هو تفكّه ان تكرر مُلَّ وان تجدد اُستُلِذّ، كذلك في الكلام ما هو حقيقة وقوت وقوّة للافكار وغذاء للارواح كلما استعيد اُستحسن واستؤنس بمألوفه كضياء الشمس. وفيه ماهو من قبيل الزينة والتفكه، لذتُه في تجدّد صورتِه وتلوّن لباسه.

اذا عرفت هذا فاعلم! انه كما ان القرآن بمجموعه قوتٌ وقوّة للقلوب لايُمَلُّ على التكرار بل يُستحلى على الإكثار منه، كذلك في القرآن ماهو روح لذلك القوت كلما تكرر تلألأ 2 وفارت اشعة الحق والحقيقة من اطرافه، وفي ذلك البعض ماهو أسّ الأساس والعقدة الحياتية والنور المتجسد بجسدٍ سرمدي كـ (بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم). 

فيا هذا شاور مذاقك ان كنت ذا مذاق!..

هذا بناء على تسليم التكرار، والاّ فيجوز ان تكون قصة موسى مثلا مذكورة في كل مقامٍ لوجهٍ مناسب من الوجوه المشتملة هي عليها. فان قصة موسى أجدى من تفاريق العصا 3 أخذَها القرآن بيده البيضاء فضةً فصاغتها ذهباً، فخرت سحرةُ البيان ساجدين لبلاغته.

_____________________

1 عن ابى أمامة الباهلى رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اقرأوا القرآن، فانه يأتى يوم القيامة شفيعاً لاصحابه، اقرأوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران...الخ الحديث. رواه مسلم.

2 كالمسك ما كررته يتضوع (ت: 31)

3 انك خير من تفاريق العصا، مثل يضرب فيمن نفعه أعمّ من نفع غيره (مجمع الامثال للميدانى).

وكذا في "البسملة" جهات: من الاستعانة والتبرك والموضوعية بل الغايتية والفهرستية للنقط الاساسية في القرآن.

وأيضا فيها مقامات: كمقام التوحيد ومقام التنزيه ومقام الثناء ومقام الجلال والجمال ومقام الاحسان وغيرها.

وايضا فيها احكام ضمنية: كالاشارة الى التوحيد والنبوة والحشر والعدل اعني المقاصد الاربعة المشهورة، مع ان في اكثر السور يكون المقصود بالذات واحداً منها، والباقي استطراديا. فلِمَ لايجوز ان يكون لجهة او حُكمٍ او مقام منها مناسبة مخصوصة لروح السورة وتكون موضوعاً للمقام بل فهرستة اجمالية باعتبار تلك الجهات والمقامات؟

الم 1

اعلم! ان ههنا مباحث اربعة:

المبحث الاول:

ان الاعجاز قد تنفّس من اُفق (الم) لأن الاعجاز نور يتجلى من امتزاج لمعات لطائف البلاغة. 

وفي هذا المبحث لطائف كل منها وإن دقَّ لكن الكل فجرٌ صادق.

منها: ان (الم) مع سائر اخواتها في أوائل السور تنصّف كل الحروف الهجائية التي هي عناصر كل الكلمات. فتأمل!.

ومنها: ان النصف المأخوذ اكثر استعمالاً من المتروك.

ومنها: ان القرآن كرر من المأخوذ ماهو اَيْسَرُ على الألسنة كالألف واللام.

ومنها: انه ذكر المقطّعات في رأس تسع وعشرين سورة عدة الحروف الهجائية. 1

ومنها: ان النصف المأخوذ ينصّف كل ازواج أجناس طبائع الحروف من المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة والمستعلية والمنخفضة والمنفتحة وغيرها،

واما الاوتار فمن الثقيل القليل كالقلقلة؛ ومن الخفيف الكثير كالذلاّقة. 2

ومنها: ان النصف المأخوذ من طبائعها ألطفُ سجيةً.

ومنها: ان القرآن اختار طريقاً في المقطعات من بين اربعة وخمسمائة احتمال، لا يمكن تنصيف طبائع الحروف الا بتلك الطريق، لان التقسيمات الكثيرة متداخلة ومشتبكة ومتفاوتة. ففي تنصيف كلٍ غرابة عجيبة.

فمن لم يجتن نور الاعجاز من مزج تلك اللمعات فلا يلومنّ الاّ ذوقه.

_____________________

1 عدة حروف الهجاء تسع وعشرون مع الالف الساكنه.

2 فذكر من (المهموسة) وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه، ويجمعها (ستشحثك خصفه) نصفها وهي الحاء والهاء والصاد والسين والكاف. ومن البواقي (المجهورة) نصفها يجمعه (لن يقطع أمر) ومن (الشديدة) الثمانية المجموعة في (اجدت طبقك) اربعة يجمعها. ومن البواقي (الرخوة) عشرة يجمعها (حمس على نصره) ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها. ومن البواقي (المنفتحة) نصفها. ومن (القلقلة) وهي حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها (قد طبج) نصفها الاقل لقلتها. ومن (اللينتين) الياء لأنها أقل ثقلاً، ومن (المستعلية) وهي التي يتصعد الصوت بها في الحنك الاعلى وهي سبعة: القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الاقل، ومن البواقي (المنخفضة) نصفها... (تفسير البيضاوي).

المبحث الثاني:

اعلم ان (الم) كقرع العصا يوقظ السامعَ ويهزُّ عِطفه بأنه - بغرابته - طليعةُ غريبٍ وعجيبٍ.

وفي هذا المبحث ايضاً لطائف:

منها: ان التهجي وتقطيع الحروف في الاسم اشارة الى جنس ما يتولد منه المسمى.

ومنها: ان التقطيع اشارة الى ان المسمى واحد اعتباريّ لا مركب مزجي.

ومنها: ان التهجي بالتقطيع تلميح الى إراءة مادة الصنعة؛ كإلقاء القلم والقرطاس لمن يعارضك في الكتابة. كأن القرآن يقول: "أيها المعاندون المدّعون! انكم امراء الكلام، هذه المادة التي بين أيديكم هي التي أصنع فيها ما أصنع".

ومنها: ان التقطيع المرمز الى الاهمال عن المعنى يشير الى قطع حجتهم بـ "إنّا لانعرف الحقائق والقصص والاحكام حتى نقابلك". فكأن القرآن يقول: "لا أطلب منكم إلاّ نظم البلاغة فجيئوا به مفتريات".

ومنها: ان التعبير عن الحروف باسمائها من رسوم أهل القراءة والكتابة 1، ومن يسمعون منه الكلام امّيّ مع محيطه، فنظراً الى السجية - مع ان اول ما يتلقاهم خلاف المنتظر - يرمز إلى: "ان هذا الكلام لايتولد منه بل يُلقى اليه".

ومنها: ان التهجي أساس القراءة ومبدؤها 2 فيومئ الى أن القرآن مؤسس لطريق خاص ومعلم لأمّيين.

ومن لم ير نقشاً عالياً من انتساج هذه الخيوط - وإن دقّ البعض - فهو دخيل في صنعة البلاغة فليقلِّد فتاوى أهلها.

_____________________

1 كالتعبير عن الحروف (أ ، ل) بألف لام، فهذا التعبير باسماء الحروف هو من اصول اهل القراءة والكتابة (ت: 34)

2 اى ان التهجى يخص المبتدئين بالقراءة (ت: 34)

المبحث الثالث:

ان (الم) إشارة إلى نهاية الايجاز، الذي هو ثاني أساسَي الاعجاز.

وفيه لطائف:

منها: ان (الم) يرمز ويشير ويومئ ويُلَوِّح ويلَمِّح بالقياس التمثيلي المتسلسل الى: "ان هذا كلام الله الأزلي نزل به جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام". لانه كما ان الاحكام المفصلة في مجموع القرآن قد ترتسم في سورة طويلة إجمالا؛ وقد تتمثل سورة طويلة في قصيرة إشارة؛ وقد تندرج سورة قصيرة في آية رمزاً؛ وقد تندمج آية في كلام واحد تلويحاً؛ وقد يتداخل كلام في كلمة تلميحاً، وقد تتراءى تلك الكلمة الجامعة في حروف مقطعة، كـ "سين لام ميم".. كالقرآن في البقرة، والبقرة في الفاتحة، والفاتحة في "بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم" و "بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم" في البسملة المنحوتة 1؛ كذلك يجوز ذلك في (الم) أيضا.

فبالاستناد الى هذا القياس التمثيلي المتسلسل، وباشارة (ذلك الكتاب) يتجلى من (الم): "هذا كلام الله الأزلي نزل به جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام".

ومنها: ان الحروف المقطعة كالشفرة الإلهية أبرقها الى رسوله الذي عنده مفتاحها. ولم يتطاول يدُ فكر البشر اليه بعد.

ومنها: ان (الم) اشارة الى شدة ذكاوة المنزَل عليه رمزاً الى ان الرمز له كالتصريح. 2

ومنها: ان التقطيع اشارة الى ان قيمة الحروف ليست في معانيها فقط بل بينها مناسبات فطرية كمناسبة الاعداد، كشَفَها علم أسرار الحروف.

ومنها: ان (الم) خاصة، اشارة بالتقطيع الى المخارج الثلاثة من الحلق والوسط والشفة، وترمز تلك الاشارة الى إجبار الذهن للدقة، وشق حجاب الأُلفة؛ ليلجأ الى مطالعة عجائب ألوان نقش خلقة الحروف.

_____________________

1 المقصود: النحت اللغوى.

2 اى لكمال ذكائه يفهم ماهو رمز وايماء وامر خفى، كالصريح (ت: 35)

فيا من صبغ يده بصنعة البلاغة! ركِّب قطعاتِ هذه اللطائف وانظرها واحدة، واستمع، لتقرأ عليك: "هذا كَلاَمُ الله".

المبحث الرابع:

ان (الم) مع أخواتها لما برزت بتلك الصورة كانت كأنها تنادى: "نحن الائمة؛ لا نقلد أحداً وما اتبعنا إماماً، وأُسلوبنا بديع، وطرزنا غريب".

وفيه لطائف:

منها: ان من ديدن الخطباء والفصحاء التأسي بمثال والنسج على منوال والتمشي في طريق مسلوكة، مع انها لم يطمثهن قبله إنس ولا جان.

ومنها: ان القرآن بفواتحه ومقاطعه بقي بعدُ كما كان قبلُ، لم يماثل ولم يقلَّد مع تآخذ أسباب التقليد والتأسِّي من شوق الأودَّاء وتحدي الاعداء. ان شئت شاهداً فهذه ملايين من الكتب العربية! هل ترى واحداً منها يوازيه، أو يقع قريباً منه؟ كلا! بل الجاهل العاميّ أيضاً اذا قاسها معه وقابله بها ناداه نظره بـ "أن هذا ليس في مرتبتها". فإما هو تحت الكل وهو محال بالضرورة، وإما هو فوق الكل وهو المطلوب، فهو نصيبه من درْك الاعجاز.

ومنها: ان من شأن صنعة البشر انها تظهر اول ماتظهر خشنة ناقصة من وجوه، يابسة من الطلاوة، ثم تتكمل وتحلو. مع ان اسلوب القرآن لما ظهر ظهر بطلاوة و طراوة وشبابية، وتحدّى مع الافكار المعمرين - بتلاحق الافكار وسرقة البعض عن البعض - وغلبهم فأعلن بالغلبة: "انه من صُنع خالق القوى والقدر".

فيا من استنشق نسيم البلاغة! أفلا يجتنى نحلُ ذهنك عن ازهار تلك المباحث الاربعة شَهْدَ: "اَشْهَدُ اَنَّ هذَا كَلاَمُ الله"؟

ذلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ 2

مقدمة

اعلم! ان من اساس البلاغة الذي به يبرق حسن الكلام تجاوب الهيئات وتداعي القيود وتآخذها على المقصد الاصلي، وامداد كلٍّ بقدْرِ الطاقة للمقصد، الذي هو كمجمع الاودية او الحوض المتشرب من الجوانب، بأن تكون مصداقاً وتمثالاً لما قيل:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌّ اِلَى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

مثلا: تأمَّل في آية (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ) 1 المسوقة للتهويل المستفاد من التقليل بسر انعكاس الضد من الضد. أفلا ترى التشكيك في "إن" كيف يمد التقليل، والمسّ بدل الاصابة في "مسّت" كيف يشير الى القلة والتروّح فقط، والمرتّية والتحقير في جوهرِ وصيغةِ وتنوينِ "نفحةٌ" كيف تلوِّح بالقلة، والبعضية في "مِن" كيف تومئ إليها، وتبديل النكال بالـ "عذاب" كيف يرمز اليها، والشفقة المستفادة من الـ "ربّ" كيف تشير اليها، وقس؟!.. فكلٌ يمد المقصد بجهته الخاصة. وقس على هذه الآية أخواتها. وبالخاصة (الم _ ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين) لأن هذه الآية ذُكرت لمدح القرآن واثبات الكمال له.

ولقد تجاوب وتآخذ على هذا المقصد: القَسَم بـ "الم" على وجه، واشارة "ذلك" ومحسوسيته وبُعديته، والألف واللام في "الكتاب"، وتوجيه اثباته بـ "لاريب فيه". فكلٌ كما يمد المقصد ويلقي إليه حصته يرمز ويشفّ من تحته عن ما يستند اليه من الدليل وإن دقّ.

فان شئت تأمل في القَسَم بـ (الم) إذ إنه كما يؤكد، كذلك يشعر بالتعظيم الموجّه للنظر الموجب لانكشاف ماتحته من اللطائف المذكورة ليبرهن على الدعوى المرموز اليها.

_____________________

1 سورة الانبياء: 46

وانظر الاشارة في (ذلك) المختصة بالرجوع الى الذات مع الصفات لتعلم انها كما تفيد التعظيم - لانها اما اشارة الى المشار اليه بـ "الم" او المبشّر به في التوراة والانجيل - كذلك تلوّح بدليلها؛ اذ ما أعظم ما أقسم به! وما أكمل ما بشَّر به التوراة والانجيل!.. ثم أمعن النظر في الاشارة الحسية الى الأمر المعقول لترى انها كما تفيد التعظيم والاهمية؛ كذلك تشير الى ان القرآن كالمغناطيس المنجذب اليه الأذهانُ، والمتزاحم عليه الأنظارُ المجْبِر لخيالِ كلٍ على الاشتغال به. فتظاهر بدرجة - تراه العيون من خلفها اذا راجعت الخيال - يرمز بلسان الحال الى وثوقه بصدقه وتبرّيه عن الضعف والحيلة الداعيين الى التستر.. ثم تفكّر في البُعدية المستفادة من "ذلك"؛ اذ انها كما تفيد علوّ الرتبة المفيد لكماله؛ كذلك تومئ الى دليله بأنه بعيد عن ما سلك عليه أمثاله. فإما تحت كلٍ وهو باطل بالاتفاق، فهو فوق الكل.

ثم تدبر في "ال" (الكتاب)؛ لانها كما تفيد الحصر العرفي المفيد للكمال؛ تفتح باب الموازنة وتلمِّح بها الى ان القرآن كما جمع محاسن الكتب قد زاد عليها فهو أكملها..

ثم قف على التعبير بـ "الكتاب" كيف يلوّح بأن الكتاب لايكون من مصنوع الامّيّّ الذي ليس من أهل القراءة والكتابة.

أما (لاريب فيه) ففيه وجهان:

إرجاع الضمير إلى الحكم، أو إلى الكتاب:

فعلى الاول -كما عليه المفتاح 1 - يكون بمعنى يقيناً، وبلا شك، فيكون جهة وتحقيقا لاثبات كماله.

وعلى الثاني - كما عليه الكشاف 2 - يكون تأكيداً لثبوت كماله.

وعلى الكل يناجي من تحت "لاريب" بـ (وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) ويرمز الى دليله الخاص..

_____________________

1 (مفتاح العلوم) للعلامة سراج الدين ابى يعقوب يوسف بن ابى بكربن محمد بن علي السكاكى المتوفى سنة 626هـ. ويعدّ كتابه هذا اوسع ما كتب في البيان في زمانه، وله شروح كثيرة.

2 (الكشاف عن حقائق التنزيل) للامام العلامة ابى القاسم جارالله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي المتوفي سنة 538هـ.

والاستغراق في "لا" بسبب اعدام الريوب الموجودة ينشد:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً وَافَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ 1

ويشير الى ان المحل ليس بقابلٍ لتولّد الشكوك؛ اذ أقام على الثغور امارات تتنادى من الجوانب وتطرد الريوب المتهاجمة عليه.

وفي ظرفية (فيه) والتعبير بـ "في" بدل أخواتها اشارة الى انفاذ النظر في الباطن. والى ان حقائقه تطرد وتطيّر الأوهامَ المتوضعة على سطحه بالنظر الظاهر.

فيا من آنس قيمة التركيب من جانب التحليل، وأدرك فرق الكلّ عن كلٍ! انظر نظرة واحدة الى تلك القيود والهيئات لترى كيف يلقي كلٌ حصته الى المقصد المشترك مع دليله الخاص، وكيف يفور نورُ البلاغة من الجوانب.

اعلم! انه لم يربط بين جمل "الم.. ذلك الكتاب.. لاريب فيه.. هدى للمتقين" بحلقات العطف لشدة الاتصال والتعانق بينها، وأخذِ كلٍ بحجز سابقتها وذيل لاحقتها. فان كل واحدة كما انها دليلٌ لكلٍ بجهة؛ كذلك نتيجة لكلِ واحدة بجهة اخرى. ولقد انتقش الاعجاز على هذه الآية بنسج اثني عشر من خطوط المناسبات المتشابكة المتداخلة..

ان شئت التفصيل تأمل في هذا:

(الم) فانها تومئ بالمآل الى: "هذا متحدًّى به، ومن يبرز الى الميدان؟" ثم تلوح بأنه معجز..

وتفكر في (ذلك الكتاب) فانها تصرح بأنه ازداد على أخوته وطمَّ عليها. ثم تلمح بأنه مستثنى ممتاز لايماثل..

ثم تدبر في (لاريب فيه) فانها كما تُفصح عن انه ليس محلا للشك تعلن بأنه منوّر بنور اليقين..

ثم انظر في (هدى للمتقين) اذ انها كما تهدى اليك انه يُري الطريق المستقيم؛ تفيدك انه قد تجسم من نور الهداية.

فكل منها باعتبار المعنى الأول برهان لرفقائها وباعتبار المعنى الثاني نتيجة لكل منها.

_____________________

1 للمتنبي في ديوانه 4/246

ونذكر على وجه المثال ثلاثا من الروابط الثنتي عشرة لتقيس عليها البواقي:

فـ (الم) أي: هذا يتحدّى كل معارض، فهو أكمل الكتب، فهو يقيني؛ اذ كمال الكتاب باليقين، فهو مجسَّم الهداية للبشر..

ثم (ذلك الكتاب) اي: هو ازداد على أمثاله فهو معجز - او - اي: هو ممتاز ومستثنى؛ إذ لاشك فيه؛ اذ إنه يُري السبيل السويّ للمتقين..

ثم (هدى للمتقين) اي: يرشد الى الطريق المستقيم، فهو يقيني، فهو ممتاز، فهو معجز.. وعليك باستنباط البواقي.

أما (هدى للمتقين) فاعلم! ان منبع حسن هذا الكلام من أربع نقط:

الاولى: حذف المبتدأ، اذ فيه اشارة الى ان حكم الاتحاد مسلَّم. كأن ذات المبتدأ في نفس الخبر. حتى كأنه لاتغاير بينهما في الذهن أيضا.

والثانية: تبديل اسم الفاعل بالمصدر، اذ فيه رمز الى ان نور الهداية تجسَّمَ فصار نفس جوهر القرآن؛ كما يتجسم لونُ الحمرة فيصير قرْمِزاً. 1

والثالثة: تنكير (هدى) اذ فيه إيماء الى نهاية دقة هداية القرآن حتى لايُكْتنه كُنْهها، والى غاية وسعتها حتى لايُحاط بها علماً. اذ المنكورية إما بالدقة والخفاء، وإما بالوسعة الفائتة عن الاحاطة. ومن هنا قد يكون التنكير للتحقير وقد يكون للتعظيم.

والرابعة: الايجاز في (للمتقين) بدل "الناس الذين يصيرون متقين به" أوجز بالمجاز الاول اشارة الى ثمرة الهداية وتأثيرها، ورمزاً الى البرهان "الإِنِّيّ" 2 على وجود الهداية. فان السامع في عصر يستدل بسابقه كما يستدل به لاحقه.

ان قلت: كيف تتولد البلاغة الخارجة عن طوق البشر بسبب هذه النقط القليلة المعدودة؟

_____________________

1 قرمز: بالكسر، صبغ ارمنى يكون من عصارة دود.

2 البرهان الانيّ واللّمي: اصطلاحان يرد شرحهما، فالانّي - بتشديد النون - مصدر صناعي مأخوذ من "ان " المشبهة بالفعل التى تدل على الثبوت والوجود. اما اللمّي، فهو مصدر صناعي مأخوذ من كلمة "لِمَ " للعلية. وفي (التعريفات): الاستدلال من العلة الى المعلوم برهان لمّي ومن المعلوم الى العلّة برهان إنّي.

قيل لك: ان في التعاون والاجتماع سراً عجيباً. لأنه اذا اجتمع حسنُ ثلاثة اشياء صار كخمسة، وخمسة كعشرة، وعشرة كأربعين بسر الانعكاس. اذ في كل شئ نوع من الانعكاس ودرجة من التمثيل. كما اذا جمعت بين مرآتين تتراءى فيهما مرايا كثيرة، أو نوَّرتَهما بالمصباح يزداد ضياء كل بانعكاس الأشعة؛ فكذلك اجتماع النكت والنقط. ومن هذا السر والحكمة ترى كل صاحب كمال وصاحب جمال يرى من نفسه ميلاً فطرياً الى ان ينضم الى مثيله ويأخذ بيد نظيره ليزداد حسناً الى حسنه. حتى ان الحجر مع حَجَريته اذا خرج من يد المعقِّد الباني في السقف المحدب يميل ويُخضع رأسَه ليماسّ رأس أخيه ليتماسكا عن السقوط. فالانسان الذي لايدرك سر التعاون لهو أجمد من الحجر؛ اذ من الحجر من يتقوس لمعاونة اخيه!.

ان قلت: من شأن الهداية والبلاغة البيان والوضوح وحفظ الاذهان عن التشتت، فما بال المفسرين في امثال هذه الآية اختلفوا اختلافاً مشتتاً، واظهروا احتمالات مختلفة، وبينوا وجوه تراكيب متباينة، وكيف يعرف الحق من بينها؟

قيل لك: قد يكون الكل حقاً بالنسبة الى سامعٍ فسامعٍ؛ اذ القرآن ما نزل لأهل عصرٍ فقط بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة فقط بل لجميع طبقات الانسان، ولا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر. ولكلٍ فيه حصة ونصيب من الفهم. والحال أن فهم نوع البشر يختلف درجة درجة.. وذوقَه يتفاوت جهة جهة.. وميلَه يتشتت جانباً جانباً.. واستحسانه يتفرق وجهاًً وجهاً.. ولذته تتنوع نوعاً نوعاً.. وطبيعته تتباين قسما قسما. فكم من أشياء يستحسنها نظرُ طائفة دون طائفة، وتستلذها طبقة ولا تتنزل اليها طبقة. وقس!..

فلأجل هذا السر والحكمة أكْثَرَ القرآنُ من حذف الخاص للتعميم ليقدِّر كلٌ مقتضى ذوقه واستحسانه. ولقد نظم القرآن جُمَله ووضعها في مكان ينفتح من جهاته وجوه محتملة لمراعاة الافهام المختلفة ليأخذ كلُ فهمٍ حصته. وقس!.. فإذاً يجوز أن يكون الوجوه بتمامها مرادة بشرط أن لا تردها علوم العربية، وبشرط ان تستحسنها البلاغة، وبشرط ان يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة.

فظهر من هذه النكتة ان من وجوه اعجاز القرآن نظمه وسبكه في اسلوب ينطبق على افهام عصر فعصر.. وطبقة فطبقة.

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغِيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلوةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ 3

(اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)

اعلم! أن وجه نظم المحصل مع المحصل انصباب مدح القرآن الى مدح المؤمنين وانسجامه به؛ اذ انه نتيجة له، وبرهان إنّيّ عليه، وثمرة هدايته، وشاهد عليه. وبسبب تضمن التشويق اشارة الى جهة حصة هذه الآية من الهداية، والى انها مثال لها.

اما وجه "الذين" مع "المتقين" فتشييع التخلية بالتحلية التي هي رفيقتها أبداً؛ اذ التزيين بعد التنزيه، ألا ترى ان التقوى هي التخلي عن السيئات وقد ذكرها القرآن بمراتبها الثلاث، وهي: ترك الشرك، ثم ترك المعاصي، ثم ترك ماسوى الله. والتحلية فعل الحسنات: إما بالقلب او القالب او المال. فشمس الاعمال القلبية "الايمان"، والفهرستة الجامعة للاعمال القالبية "الصلاة" التي هي عماد الدين، وقطب الاعمال المالية "الزكاة" اذ هي قنطرة الاسلام.

اعلم! ان (الذين يؤمنون بالغيب) مع انه اذا نظرت الى مقتضى الحال ايجاز، الا انه اذا وازنت بينه وبين مرادفه وهو "المؤمنون" تظنه إطنابا؛ فأبدل "ال" بـ"الذين" الذي من شأنه الاشارة الى الذات بالصلة فقط 1، كأنه لاصفة له الا هي للتشويق على الايمان، والتعظيم له؛ والرمز الى ان الايمان هو المنار على الذات قد تضاءلت تحته سائر الصفات.. وأبدل "مؤمنون" بـ "يؤمنون" لتصوير وإظهارِ تلك الحالة المستحسنة في نظر الخيال، وللاشارة الى تجدده بالاستمرار وتجلّيه بترادف الدلائل الآفاقية والأنفسية، فكلما ازدادت ظهوراً ازدادوا إيمانا.

(بالغيب) أي بالقلب، اي بالاخلاص بلا نفاق. ومع الغائبية.. وبالغائب.. وبعالم الغيب..

_____________________

1 لأن "الذين" من الاسماء المبهمة، لذا فان صلته هى التى تميّزه وتعينه (ت: 43)

واعلم! ان الايمان هو النور الحاصل بالتصديق بجميع ما جاء به النبي عليه السلام تفصيلا في ضروريات الدين واجمالا في غيرها.

ان قلت: لايقتدر على التعبير عن حقائق الايمان من العوام من المائة الا واحد؟

قيل لك: ان عدم التعبير ليس عَلَماً على عدم الوجود. فكما ان اللسان كثيراً ما يتقاصر عن ان يترجم عن دقائق مافي تصورات العقل؛ كذلك قد لايتراءى بل يتغامض عن العقل سرائر مافي الوجدان، فكيف يترجم عن كل مافيه؟ ألا ترى ذكاء السكاكي 1 ذلك الامام الداهي قد تقاصر عن اجتناء دقائق ماأبرزته سجية امرئ القيس 2، او بدويّ آخر؟ فبناء على ذلك، الاستدلال على وجود الايمان في العامي يثبت بالاستفسار والاستيضاح منه. بأن تستفسر من العاميّ بالسؤال المردّد بين النفي والاثبات هكذا: أيها العامي! أيمكن في عقلك أن يكون الصانع الذي كان العالم بجهاته الست في قبضة تصرفه أن يتمكّن 3 في جهة من جهاته أو لا؟ فإن قال: لا. فنفي الجهة ثابتٌ في وجدانه، وذلك كافٍ. وقس على هذا..

ثم ان الايمان - كما فسّره السعد 4 - نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده، أي بعد صرف الجزء الاختياري. فالايمان نور لوجدان البشر وشعاع من شمس الازل يضئ دفعةً ملكوتيةَ الوجدان بتمامها. فينشر اُنسية له مع كل الكائنات.. ويؤسس مناسبة بين الوجدان وبين كل شئ.. ويلقي في القلب قوة معنوية يقتدر بها الانسان ان يصارع جميع الحوادث والمصيبات.. ويعطيه وُسْعةً يقتدر بها ان يبتلع الماضي والمستقبل. 

_____________________

1 ابو يعقوب يوسف بن ابي بكر (ت 626هـ/ 1228م) من اعلام البلاغة، مؤلف كتاب «المفتاح» الذي يعد أوسع ما كتب في البيان في زمانه وله شروح كثيرة. وضع علوم البلاغة في قالبها العلمي. مولده ووفاته بخوارزم .

2 (497 - 545م) هو امرؤ القيس بن حُجر بن الحارث الكندي، اشهر شعراء العرب على الاطلاق، يماني الاصل، مولده بنجد ووفاته في انقرة، وقد جُمع بعض ما ينسب اليه من الشعر في ديوان صغير. (الاعلام 2/12).

3 يتحيز في مكان.

4 هو مسعود بن عمر بن عبد الله، ولد بتفتازان بخراسان في 712 (أو 727هـ) وتوفي في سمرقند 793هـ.. إمام في العربية والمنطق والفقه،، سعى لإحياء العلوم الاسلامية بعد كسوفها بغزو المغول فألف كثيراً من امهات الكتب. حتى انه يعد الحد الفاصل بين العلماء المتأخرين والمتقدمين. من كتبه (تهذيب المنطق) و(شرح المقاصد) و (شرح العقائد النسفية) و (المطول).. وكتابه (التلويح في كشف حقائق التنقيح) في الاصول شرح فيه كتاب (التوضيح في حل غوامض التنقيح) للعلامة عبيد الله ابن مسعود المحبوبي (ت747هـ).

وكما ان الايمان شعاع من شمس الأزل 1؛ كذلك لمعة من السعادة الابدية أي الحشر. فينمو بضياء تلك اللمعة بذور كل الآمال، ونواة كل الاستعدادات المودعة في الوجدان، فتنبت ممتدة الى الابد، فتنقلب نواة الاستعداد كشجرة طوبى.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ)

اعلم! ان وجه النظم أظهر من الشمس في رابعة النهار. وان في تخصيص "الصلاة" من بين حسنات القالب إشارة الى أنها فهرستة كل الحسنات وانموذجها ومَعْكسها. كالفاتحة للقرآن، والانسان للعالم. لاشتمالها على نوع صومٍ وحج وزكاة وغيرها، ولاشتمالها على انواع عبادات المخلوقات، الفطرية والاختيارية من الملائكة الراكعين الساجدين القائمين، ومن الحجر الساجد، والشجر القائم، والحيوان الراكع..

ثم انه أقام "يقيمون" مقام "المقيمين" لإحضار تلك الحركة الحياتية الواسعة والانتباه الروحاني الإلهي في العالم الاسلامي الى نظر السامع. ووضع تلك الوضعية المستحسنة والحالة المنتظمة من نواحي نوع البشر نصب عين الخيال، ليهيج ويوقظ ميلان السامع للتأسِّي؛ إذ من تأمل في تأثير النداء بالآلة المعروفة 2 في نفرات العسكر المنتشرين المغمورين بين الناس وتحريك النداء لهم دفعة، والقاء انتباه فيهم، وافراغهم في وضع مستحسن، وجمعهم تحت نظام مستملح يرى في نفسه اشتياقا لأن ينساب اليهم. فهكذا الاذان المحمَّدي بين الانسان في صحراء العالم (ولله المَثَلُ الاعْلَى)..

وإنما لم يقتصر في مسافة الايجاز على "يصلّون" بل اتمها بـ (يقيمون الصلاة) للاشارة الى اهمية مراعاة معاني "الاقامة" في الصلاة من تعديل الاركان، والمداومة، والمحافظة، والجد، وترويجها في سوق العالم. تأمل!

ثم ان الصلاة نسبة عالية، ومناسبة غالية، وخدمة نزيهة بين العبد وسلطان الازل، فمن شأن تلك النسبة ان يعشقها كل روح.. وأركانها متضمنة للأسرار التي شرحها أمثال "الفتوحات المكية"، فمن شأن تلك الأسرار أن يحبها كل وجدان.. وانها دعوة صانع الازل الى سرادق حضوره خمس دعوات في اليوم والليلة لمناجاته التي هي في حكم المعراج. 

_____________________

1 تعبير مألوف بحق الله جلّ جلاله المنور لكل شئ في الادب التركى والفارسى بخلاف الادب العربى.

2 البوق العسكرى.

فمن شأنها ان يشتاقها كل قلب.. وفيها ادامة تصور عظمة الصانع في القلوب وتوجيه العقول اليها لتأسيس اطاعة قانون العدالة الالهية، وامتثال النظام الرباني. والانسان يحتاج الى تلك الادامة من حيث هو إنسان لانه مدنيّ بالطبع.. فيا ويلَ من تركها! وياخسارة من تكاسل فيها! وياجهالة من لم يعرف قيمتها! فسحقاً وبعداً وافّاً وتفًّاً 1 لنفسِ مَن لم يستحسنها.

يتبع إن شاء الله...



السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (01-04) 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الأربعاء 05 مايو 2021, 6:18 am عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52644
العمر : 72

السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (01-04) Empty
مُساهمةموضوع: رد: السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (01-04)   السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (01-04) Emptyالأحد 16 فبراير 2014, 4:25 am

(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

وجه النظم: انه كما ان الصلاة عماد الدين وبها قوامه؛ كذلك الزكاة قنطرة الاسلام وبها التعاون بين أهله.

ثم ان من شروط ان تقع الصدقة موقعها اللائق:

ان لايسرف المتصدق فيقعد ملوماً.. وان لايأخذ من هذا ويعطي لذاك؛ بل من مال نفسه.. وان لايمنّ فيستكثر.. وان لايخاف من الفقر.. وان لايقتصر على المال، بل بالعلم والفكر والفعل أيضا.. وان لايصرف الآخذ في السفاهة، بل في النفقة والحاجة الضرورية.

فلإِحسان هذه النكت، واحساس هذه الشروط تصدَّق القرآن على الأفهام بإيثار (ومما رزقناهم ينفقون) على "يتصدقون" او "يزكّون" وغيرهما؛ إذ أشار بـ "من" التبعيض الى رد الاسراف.. وبتقديم (مما) الى كونه من مال نفسه.. وبـ"رزقنا" الى قطع المنة. أي: ان الله هو المعطي وانت واسطة.. وبالاسناد الى "نا" الى: (لاَتَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ اِقْلاَلاً) 2.. وبالاطلاق الى تعميم التصدق للعلم والفكر وغيرهما. وبمادة (ينفقون) الى شرط صرف الآخذ في النفقة والحاجات الضرورية.

_____________________

1 الاف والتف: وسخ الاذن والاظفار، ثم استعملا عند كل شئ يُضجر منه (الزاهر للانباري).

2 اصل الحديث: عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بلال وعنده صُبرة من تمر، فقال: "ما هذا يا بلال؟ " قال: اُعدُّ ذلك لأضيافك. قال: "أما تخشى ان يكون لك دُخان في نار جهنم؟! انفق بلال! ولا تخشَ من ذي العرش اقلالاً ".

قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه البزار باسناد حسن والطبراني في الكبير وذكر فيه زيادة. والحديث اورده الهيثمي في المجمع وقال: اسناده حسن، وحسّنه الحافظ ابن حجر. والحديث صحيح بطرقه (صحيح الجامع الصغير رقم 1508 وصحيح الترغيب برقم 912، والمشكاة برقم 1885) ومع هذا ضعفه العراقي رحمه الله تعالى.

ثم ان في الحديث الصحيح (الزَّكاةُ قَنْطَرَةُ الاِسْلاَمِ) 1 أي: الزكاة جسر يغيث المسلمُ أخاه المسلم بالعبور عليها؛ اذ هي الواسطة للتعاون المأمور به، بل هي الصراط في نظام الهيئة الاجتماعية لنوع البشر، وهي الرابطة لجريان مادة الحياة بينهم، بل هي الترياق للسموم الواقعة في ترقيات البشر.

نعم! في "وجوب الزكاة" و"حرمة الربا" حكمة عظيمة، ومصلحة عالية، ورحمة واسعة؛ اذ لو أمعنت النظر في صحيفة العالم نظراً تاريخياً وتأملت في مساوي جمعية البشر لرأيت اسّ أساس جميع اختلالاتها وفسادها،

ومنبع كل الاخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية كلمتين فقط:

إحداهما: "اِنْ شَبِعْتُ فلا عليَّ اَن يموتَ غيرِي من الجُوعِ".

والثانية: "اِكْتَسِبْ اَنْتَ لآكُلَ اَنَا. واتْعَبْ انتَ لأَستريحَ اَنَا".

فالكلمة الاولى الغدارة النَهِمَة الشنعاء هي التي زلزلت العالم الانسانيَّ فاشرف على الخراب. والقاطعُ لعرق تلك الكلمة ليس الاّ "الزكاة".

والكلمة الثانية الظالمة الحريصة الشوهاء هي التي هارت بترقِّيات البشر فأوشك أن تنهار بها في نار الهَرْج والمَرْج. والمستأصِلُ والدواء لتلك الكلمة ليس إلاّ "حرمة الربا". فتأمل!..

اعلم! ان شرط انتظام الهيئة الاجتماعية ان لا تتجافى طبقات الانسان، وان لاتتباعد طبقةُ الخواص عن طبقة العوام، والأغنياء عن الفقراء بدرجة ينقطع خيط الصلة بينهم. مع ان باهمال وجوب الزكاة وحرمة الربا انفرجت المسافة بين الطبقات، وتباعدت طبقات الخواص عن العوام بدرجة لا صلة بينهما، ولا يفور من الطبقة السفلى الى العليا إلاّ صدى الاختلال، وصياح الحسد، وأنين الحقد والنفرة بدلا عن الاحترام والاطاعة والتحبب، ولا يفيض من العليا على السفلى بدل المرحمة والاحسان والتلطيف إلاّ نار الظلم والتحكم، ورعد التحقير. 

_____________________

1 اورده الهيثمي في المجمع (3/62) وقال: رواه الطبراني في الكبير والاوسط ورجاله موثقون إلاّ بقية مدلس وهو ثقة، واورده المنذري في الترغيب والترهيب (1/517) وقال: رواه الطبراني... وفيه ابن لهيعة، والبيهقي وفيه بقية بن الوليد. والحديث ضعفه محقق الجامع الصغير برقم 3191 في ضعيف الجامع الصغير.

فأسفاً!.. لأجل هذا قد صارت "مزيةُ الخواص" التي هي سبب التواضع والترحم سبباً للتكبّر والغرور. وصار "عجزُ الفقراء" و"فقرُ العوام" اللذان هما سببا المرحمة عليهم والاحسان اليهم سبباً لأسارتهم وسفالتهم.. وانشئت شاهداً فعليك بفسادِ ورذالةِ حالة العالم المدنيّ، فلك فيه شواهد كثيرة. ولا ملجأ للمصالحة بين الطبقات والتقريب بينها الاّ جعل الزكاة - التي هي ركن من اركان الاسلامية - دستوراً عالياً واسعاً في تدوير الهيئة الاجتماعية.

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ اِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 4

اعلم! ان القرآن أرسل النظم - أي لم يعيّن بوضع امارةٍ وجهاً من وجوه التراكيب في كثير من أمثال هذه الآية، لسرٍ لطيف، هو منشأ الايجاز الذي هو منشأ الاعجاز، وهو:

ان البلاغة هي مطابقة مقتضى الحال. والحال: ان المخاطبين بالقرآن على طبقات متفاوتة، وفي اعصار مختلفة. فلمراعاة هذه الطبقات، ولمجاورة هذه الاعصار، ليستفيد مخاطب كل نوعٍ ماقُدِّرَ له من حصته، حذف القرآنُ في كثيرٍ للتعميم والتوزيع، واطلق في كثيرٍ للتشميل والتقسيم، وارسل النظم في كثير لتكثير الوجوه، وتضمين الاحتمالات المستحسنة في نظر البلاغة والمقبولة عند العلم العربي ليفيض على كلِ ذهنٍ بمقدار ذوقه. فتأمل!..

ثم ان وجه نظم هذه الآية بسابقتها: التخصيص بعد التعميم. ليعلن على رؤوس الاشهاد شرفَ مَنْ آمن من اهل الكتاب، وليردّ يد استغناء اهله في أفواههم، وليأخذ يد امثال "عبد الله بن سلام" 1، ويشوِّق غيره لان يأتم به.. وأيضا التنصيص على قسْمَي المتقين 2 للتصريح بشمول هداية القرآن لكافة الامم، والتلويح لعموم رسالة محمد عليه السلام لقاطبة الملل.. وايضا التفصيل بعد الاجمال لشرح اركان الايمان المندمجة في صَدَف يؤمنون بالغيب اذ دل على الكتب والقيامة صراحة، وعلى الرسل والملائكة ضمنا.

ثم ان القرآن لم يوجز هنا بنحو (والمؤمنين بالقرآن) لترصيع هذا المعنى بلطائف وتزيين ذيوله بنكت، فآثر (والذين يؤمنون بما أُنزل اليك).

_____________________

1 صحابي، أسلم عند قدوم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان اسمه (الحصين) فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله. شهد مع عمر رضى الله عنه فتح بيت المقدس والجابية، وأقام بالمدينة الى ان توفي سنة 43هـ. (الاصابة 4725، الاستيعاب 2/382).

2 المذكورين في هذه الآية والتى سبقتها (ت: 50)

اذ في "الذين" رمز الى ان وصف الايمان هو مناط الحكم وان الذات مع سائر الصفات تابعة له ومغمورة تحته. 1

وفي (يؤمنون) بدل "المؤمنين" الدال على الثبوت في زمان، تلويح الى تجدد الايمان بتواتر النزول وتكرر الظهور مستمرا.

وفي "ما" الابهام، إيماء الى ان الايمان مجملا قد يكفي، والى تشميل الايمان للوحي الظاهر والباطن وهو الحديث.

وفي (انُزل) باعتبار مادته اشارة الى ان الايمان بالقرآن هو الايمان بنزوله من عند الله. كما ان الايمان بالله هو الايمان بوجوده، وباليوم الآخر هو الايمان بمجيئه. وبالنظر الى صيغته الماضوية - مع انه لم يتم النزول اذ ذاك - اشارة الى تحققه المنزلة بمنزلة الواقع مع ان مضارعية "يؤمنون" تتلافى مافي ماضويته 2. بل لاجل هذا التنزيل ترى في اساليب التنزيل كثيرا ما يبتلع الزمان الماضي المستقبل ويتزيا المضارع بزيّ الماضي، اذ فيه بلاغة لطيفة. لان من سمع الماضي فيما لم يمض بالنسبة اليه اهتز ذهنه، وتيقظ انه ليس وحده، وتذكر ان خلفه غيره من الصفوف بمسافات. حتى كأن الاعصار مدارج والاجيال صفوف قاعدون خلفها. وتنبّه ان الخطاب والنداء الموجه اليه بدرجة من الشدة والعلوّ يسمعه كل الاجيال. وهو خطبة الهية انصت لها كلُّ الصفوف في كل الاعصار. فالماضي حقيقة في الكثير - في أكثر الأزمان - ومجازٌ في القليل - في أقلها 3 - ومراعاة الاكثر أوفى لحق البلاغة.

وفي (اليك) بدل "عليك" رمز الى ان الرسالة وظيفة كُلِّف بها النبي عليه السلام وتحمَّلها بجزئه الاختياري.. وإيماء الى علّوه بخدمة جبرائيل بالتقديم اليه؛ اذ في "على" شمّ اضطرار وعلوّ واسطة النزول.. وفي خطاب "اليك" بدل "الى نحو محمد" تلويح الى ان محمداً عليه السلام ماهو إلاّ مخاطب والكلام كلام الله.. وايضا معنى الخطاب تأكيد وتصوير لمعنى النزول الذي هو الوحي الذي هو القرآن الذي هو خطاب الله معه الذي هو الخاصة النافذة في الكل. فكشف هذا الجزء الحجاب عن حصته من تلك الخاصة. فظهر ان هذا الكلام بالنظر الى اشتماله على هذه اللطائف المذكورة في نهاية الايجاز.

_____________________

1 حتى كأن لا صفة لهم مميزة الاّ الايمان (ت: 52)

2 اى ماضوية "اُنزل ". بمعنى ان الذى لم يتم نزوله، ان لم يكن داخلاً ضمن شمولية "اُنزل " فهو ضمن شمولية "يؤمنون " (ت: 52)

3 فالماضى حقيقة ثابتة لدى كثير من الناس في اغلب الازمان، بينما يكون مجازاً لدى القليلين في اقل الازمان.

(وما اُنزل من قبْلِك)

اعلم! ان امثال هذه التوصيفات تتضمن تشويقاً، يتضمن أحكاما انشائية. كآمنوا كذا وكذا ولا تفرقوا.

ثم ان في هذا النظم والربط اربع لطائف:

إحداها:

عطف المدلول على الدليل. اي: "ياأيها الناس اذا آمنتم بالقرآن فآمنوا بالكتب السابقة ايضا، اذ القرآن مصدِّق لها وشاهد عليها" بدليل (مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) 1.

والثانية:

عطف الدليل على المدلول، أي: "ياأهل الكتاب اذا آمنتم بالانبياء السابقين والكتب السالفة لزم عليكم ان تؤمنوا بالقرآن وبمحمد عليه السلام، لانهم قد بشّروا به، ولأن مدار صدقهم، ونزولها ومناط نبوتهم يوجد بحقيقته وبروحه في القرآن بوجه اكمل وفي محمد عليه السلام بالوجه الأظهر. فيكون القرآن كلام الله بالقياس الاَوْلَوِي، ومحمَّد عليه الصلاة والسلام رسوله بالطريق الأولى".

والثالثة:

ان فيه اشارة الى ان مآل القرآن - اعني الاسلامية الناشئة في زمان السعادة - كشجرة أصلها ثابت في أعماق الماضي، منتشرة العروق متشربة عن منابع حياتها وقوتها، وفرعها في سماء الاستقبال ناشرة أغصانها مثمرة. أي اخذت الاسلامية بقرني الماضي والاستقبال.

_____________________

1 سورة البقرة: 97.

والرابعة:

ان فيه اشارةً الى تشويق اهل الكتاب على الايمان وتأنيسهم، والتسهيل عليهم. كأنه يقول: "لايشقنّ عليكم الدخول في هذا السلك، اذ لاتخرجون عن قشركم بالمرة بل انما تكملون معتقداتكم، وتبنون على ماهو مؤسس لديكم" اذ القرآن معدِّل ومكمِّل في الاصول والعقائد، وجامع لجميع محاسن الكتب السابقة واصول الشرائع السالفة. إلا انه مؤسِّس في التفرعات التي تتحول بتأثير تغير الزمان والمكان؛ فكما تتحول الادوية والالبسة في الفصول الاربعة، وطرز التربية والتعليم في طبقات عمر الشخص؛ كذلك تقتضي الحكمة والمصلحة تبدل الاحكام الفرعية في مراتب عمر نوع البشر. فكم من حكم فرعي كان مصلحة في زمان، ودواء في وقت طفولية النوع، لايبقى مصلحة في آخر، ودواء عند شبابية النوع. ولهذا السر نَسخَ القرآن بعض الفروع. اي بيّن انقضاء اوقات تلك الفروع ودخول وقت آخر.

وفي (من قبلك) لطائف:

اعلم! انه ما من كلمة في التنزيل يأبى عنها مكانها، أو لم يرض بها، أو كان غيرُها أولى به. بل مامن كلمة من التنزيل إلا وهي كدرٍّ مرصَّعٍ مرصوص متماسك بروابط المناسبات؛ فان شئت مثالا تأمل في: (من قبلك) كيف ترى اللطائف المتطايرة من جوانب هذه الآية توضّعت على هذه الكلمة الفذة.

فان (من قبلك) تشربتْ وتلونت - فتُرشِّح وتُرمز بخمس لطائف - المناسبات المنعكسة من المقاصد الخمسة المندمجة في مسألة النبوة المسوقة لها هذه الآية.

اما المقاصد المندمجة فهي: ان محمداً عليه السلام نبي، وانه اكمل الانبياء، وانه خاتم الانبياء، وانه مرسل لكافة الاقوام، وان شريعته ناسخة لجميع الشرائع، وجامعة لمحاسنها.

اما وجه انعكاس المقصد الاول في تلك الكلمة، فهو:

ان "من قبلك" انما يقال اذا اتحد المسلك وكان الطريق واحداً. فكأن هذه الكلمة تترشح: بأن الحجج على نبوة مَن قبله وصدق كتبهم، حجةٌ بمجموعها بتنقيح المناط 1 وتحقيق المناط بالقياس الأولى على نبوة محمد عليه السلام ونزول كتابه. فكأن جميع معجزاتهم معجزة فذة على صدق محمد عليه السلام.

_____________________

1 اصطلاح اصولى في مباحث العلة: فتنقيح المناط: تهذيب العلة مما علق بها من الاوصاف التى لا مدخل لها في العلية. اما تحقيق المناط: فهو الاجتهاد في تحقيق العلة الثابتة بالنص او بالاجماع او بأي مسلك آخر، في واقعة غير التى ورد فيها النص.

واما وجه انعكاس المقصد الثاني، وهو الاكملية فيها، فهو:

ان "من قبلك" بناء على ملاحظة عادة "ان السلطان يخرج في اخريات الناس".. وعلى قاعدة التكمل في نوع البشر المقتضية لاكملية المربي الثاني عن المربي الاول.. وعلى اغلبية مهارة وزيادة الخلف على السلف، تلوح بان محمداً عليه السلام سلطان الانبياء، اكمل من كلهم. كما ان القرآن أجمع وأجمل 1 من كتبهم.

واما وجه تشربها من المقصد الثالث وهو الخاتمية فهو:

ان "من قبلك" بسر قاعدة "ان الواحد اذا تكثَّر تسلْسَلَ لايسكن، وان الكثير اذا اتحدّ استقرّ لاينقطع" وباشمام المفهوم المخالف تلمح بانه عليه السلام خاتم الانبياء.

واما وجه انصباغها من المقصد الرابع وهو عموم الدعوة فهو:

ان "من قبلك" المفيدة "انك خَلَفُهم وكلٌ منهم سلفك" بسر قاعدة "ان الخلف يأخذ تمام وظيفة السلف ويقوم مقامه" تشير بأنه اذا كان كل منهم سلفك فانت نائب الكل، ورسول جميع الامم. نعم لايكون إلاّ كذلك!.. اذ الفطرة حاكمة له، والحكمة قاضية به؛ لانه كانت امم العالم الانساني قبل زمان السعادة في غاية التباعد والاختلاف مادة ومعنى، واستعداداً وتربيةً؛ ماكفت لهم التربية الواحدة وما شملت الدعوة المفردة. ثم لما انتبه العالم الانساني بزمان السعادة بعده، وتمايل الى الاتحاد بمداولة الافكار، ومبادلة الطبائع، واختلاط الاقوام، وتحري البعض عن حال البعض حتى تمخض الزمان بكثرة طرق المخابرة والمناقلة؛ فصارت الكرة كمملكة وهي كولاية وهي كبلدة، واتصل الرحم بين اهل الدنيا؛ كَفَت الدعوة الواحدة والنبوة الفريدة للكافة.

واما وجه إشمامها بالمقصد الخامس فهو:

ان "من قبلك" المومية من "من" الى "الى"، ومن "الى" الى الاغناء 2. اي "انتهت الرسالة بقدومك اذ اَغْنَتْ شريعتُك" ترمز بأن شريعته عليه السلام ناسخة بالانتهاء وجامعة بالاغناء.

_____________________

1 واشمل (ش).

2 اى: ان "من " يفيد معنى الابتداء، والابتداء لابد له من انتهاء - اى "الى " - والانتهاء يدل على عدم الحاجة او الاغناء (ت: 56)

واعلم! ان الامارة لنظر البلاغة على تشرب هذه الكلمة لهؤلاء اللطائف هي:

ان هذه المقاصد الخمسة كالانهار الجارية تحت هذه الآيات، حتى يفور هذا بكماله في آية.. وينبع ذاك بتمامه في أُخرى.. ويتجلى ذلك بشَرَاشيره 1 في آخرة. فأدنى ترشِّحٍ على السطح يومي بتماس عروق الكلمة بها. وايضا تتسنبل هذه المعاني في آيات مسوقة لها.

(وَبِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)

اعلم! ان مآل هذه الآية هوالمقصد الرابع من المقاصد الاربعة المشهورة وهو "مسألة الحشر". ثم انا قد استفدنا من نظم القرآن عشرة براهين عليها، ذكرناها في كتاب آخر 2 فناسب تلخيصها هنا. 

وهي:

ان الحشر حق؛ لان في الكائنات نظاماً اكمل قصدياً.. وان في الخلقة حكمة تامة.. وان لا عبثية في العالم.. وان لا اسراف في الفطرة.. والمزكي لهؤلاء الشواهد الاستقراء التام بجميع الفنون التي كل منها شاهدُ صدق على نظام نوع موضوعه.. وايضا ان في كثير من الانواع مثل اليوم والسنة وغيرهما قيامة مكررة نوعية.. وايضا جوهر استعداد البشر يرمز الى الحشر.. وايضا عدم تناهي آمال البشر وميوله يشير اليه.. وايضا رحمة الصانع الحكيم تلوح به.. وايضا لسان الرسول الصادق عليه السلام يصرّح به.. وأيضا بيان القرآن المعجز في أمثال (وَقَدْ خَلَقَكُمْ اَطْوَاراً) 3 (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) 4 يشهد له.

 تلك عشرة كاملة، مفاتيح للسعادة الابدية وأبواب لتلك الجنة.

اما بيان البرهان الاول:

 فهو انه لو لم تنجر الكائنات الى السعادة الابدية لصار ذلك النظام الذي اتقن فيه صانعُه اتقاناً حَيَّرَ فيه العقول صورةً ضعيفة خادعة، وجميع المعنويات والروابط والنسب في النظام هباء منثوراً. فليس نظام ذلك النظام الاّ اتصاله بالسعادة، اي ان النكت والمعنويات في ذلك النظام انما تتسنبل في عالم الآخرة. والاّ لانطفأ جميع المعنويات، وتقطّع مجموع الروابط، وتمزّق كل النسب، ويتفتت هذا النظام؛ مع ان القوة المندمجة في النظام تنادي باعلى صوتها: ان ليس من شأنها الانقضاض والانحلال.

_____________________

1 بشراشيره: بأجمعه.

2 هذه البراهين مذكورة في رسالة "لاسيما" من المثنوى العربى النورى ومفصلة في الكلمة التاسعة والعشرين وموضحة بنور تجليات الاسماء الحسنى في الكلمة العاشرة (الحشر).

3 سورة نوح: 14.

4 سورة فصلت: 46.

وأما البرهان الثاني:

فهو ان تمثال العناية الازلية الذي هو الحكمة التامة، التي هي رعاية المصالح والحِكَم في كل نوع، بل في كل جزئي - بشهادة كل الفنون - يبشر بقدوم السعادة الابدية. والاّ لَزِم انكار هذه الحكم والفوائد التي اجبرتنا البداهةُ على الاقرار بها؛ اذ حينئذ تكون الفائدة لا فائدة.. والحكمة غير حكمة.. والمصلحة عدم مصلحة. وإن هذا الاّ سفسطة.

واما البرهان الثالث المفسر للثاني:

 فهو ان الفن يشهد ايضا ان الصانع اختار في كل شئ الطريق الاقصر، والجهة الاقرب، والصورة الأخف والأحسن. فيدل على ان لاعبثية. فيدل على انه جدّي حقيقي. وماهو الا بمجئ السعادة الابدية. والاّ لتنزل هذا الوجود منزلة العدم الصرف. وتحول كل شئ عبثاً محضاً.. سبحانك ماخلَقْتَ هذا عَبَثاً.

أما البرهان الرابع الموضح للثالث:

فهو ان لا اسراف في الفطرة بشهادة الفنون. فان تقاصر ذِهْنُك عن ادراك حِكَم الانسان الاكبر وهو "العالم" فأمعن النظر في العالم الاصغر وهو "الانسان". فان فن منافع الاعضاء قد شرح واثبت: ان في جسد الانسان تقريبا ستمائة عظم كلّ لمنفعة.. وستة آلاف عصب هي مجارٍ للدم كلّ لفائدة.. ومائة واربعة وعشرين ألف مسامة وكوّة للحجيرات التي تعمل في كل منها خمس قوى من الجاذبة والدافعة والممسكة والمصوّرة والمولّدة كل منها لمصلحة. واذا كان العالَمُ الاصغر كذا فكيف يكون الانسان الاكبر انقصَ منه؟ واذا كان الجسد الذي لا اهمية له بالنسبة الى لبّه بتلك الدرجة من عدم الاسراف فكيف يُتصور اهمال جوهر الروح؟ واسرافٌ كل آثاره من المعنويات والآمال والافكار؟ اذ لولا السعادة الابدية لتقلصت كل المعنويات وصارت اسرافاً. فبالله عليك أيمكن في العقل ان يكون لك جوهرة قيمتها الدنيا، فتهتم بصدَفها وغلافها حتى لاتخلي ان يصل الغبار اليه، ثم تأخذ الجوهرة فتكسّرها شذراً مذراً 1 وتمحو آثارها؟ كلا ثم كلا! ماتهتم بالغلاف إلاّ لأجل ما فيه.. 

_____________________

1 شذراً مذراً: اى ذهبوا في كل وجه، فالمراد المبالغة في الكسر والتجزئة (ش).

وايضا اذا افهمتك قوةُ البنية في شخص وصحة أعضائه واستعداده، استمرار بقائه وتكمله؛ أفلا تفهّمك الحقيقةُ الثابتة الجارية في روح الكائنات، والقوةُ الكاملة المومية بالاستمرار في الانتظام، والكمال المنجر الى التكمل في النظام: مجئ السعادة الابدية من باب الحشر الجسماني؟ اذ هي المخلصة للانتظام عن الاختلال، والواسطة للتكمل وانكشاف تلك القوة المؤبدة.

واما البرهان الخامس والحدس المرمز الى القصد:

فهو ان وجود نوع قيامات مكررة نوعية في كثير من الانواع يشير الى القيامة العظمى وان شئت تمثُلَ الرمزِ في مثال، فانظر في ساعتك الاسبوعية، فكما ان فيها دواليب مختلفة دوارة متحركة محركة للابر والاَمْيال العادّة واحدة منها للثواني. وهي مقدمة ومخبرة لحركة ابرة الدقائق. وهي مُعدّة ومُعلنة لحركة ميل الساعات. وهي محصلة ومؤذنة لحركة الابرة التي تعد ايام الاسبوع. فاتمام دورة السابقة يشير بأن اختها اللاحقة تتم دورها؛ كذلك ان لله تعالى ساعةً كبرى دواليبُها الافلاكُ تعدّ أميالها الايام والسنين وعمر البشر وبقاء الدنيا، نظير الثواني والدقائق والساعات والايام في ساعتك. فمجئ الصبح بعد كل ليلة، والربيع بعد كل شتاء - بناء على حركة تلك الساعة - يشير اشارة خفية ويرمز رمزا دقيقا بتولد صبح ربيع الحشر من تلك الساعة الكبرى.

ان قلت: القيامة النوعية لاتحشر الاشخاص باعيانهم فكيف ترمز بالقيامة الكبرى لعود الاشخاص هناك باعيانهم؟

قيل لك: ان شخص الانسان كنوع غيره، اذ نور الفكر اعطى لآمال البشر وروحه وُسْعة وانبساطاً بدرجة وسِعَت الازمنة الثلاثة، لو ابتلع الماضي والمستقبل مع الحال لم تمتلء آماله؛ لان نور الفكر صيّر ماهيته علوية، وقيمته عمومية، ونظره كلياً، وكماله غير محصور، ولذته دائمية، وألمه مستمراً. اما فرد النوع الآخر فماهيته جزئية، وقيمته شخصية، ونظره محدود، وكماله محصور، ولذته آنية، وألمه دفعيّ، فوجود نوع قيامة في الانواع، كيف لايشير بالقيامة الشخصية العمومية للانسان؟

واما البرهان السادس الملوّح:

فهو عدم تناهي استعدادات البشر. نعم ان تصورات البشر وافكاره التي لاتتناهى ، المتولدة من آماله الغير المتناهية ، الحاصلة من ميوله الغير المضبوطة، الناشئة من قابلياته الغير المحدودة، المستترة في استعداداته الغير المحصورة، المزروعة في جوهر روحه الذي كرمه الله تعالى؛ كل منها يشير في ماوراء الحشر الجسماني باصبع الشهادة الى السعادة الابدية وتمد نظرها اليه. فتأمل!

وأما البرهان السابع المبشر:

فهو ان رحمة الرحمن الرحيم تبشر بقدوم اعظم الرحمة اعني السعادة الابدية؛ اذ بها تصير الرحمة رحمة، والنعمة نعمة. وبها تخلص الكائنات من النياحات المرتفعة من المأتم العموميّ المتولد من الفراق الابدي المصيّر للنعم نقماً. اذ لو لم يجئ روحُ النِعَم أعني السعادة الابدية، لتحول جميع النعم نقما؛ وللزم المكابرة في انكار الرحمة الثابتة بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة..

فيا ايها الحبيب الشفيق 1 العاشق! انظر الى ألطف آثار رحمة الله أعني المحبة والشفقة والعشق؛ ثم راجع وجدانك لكن بعد فرض تعقب الفراق الابدي والهجران اللايزالي عليها، كيف ترى الوجدان يستغيث.. والخيال يصرخ.. والروح يضجر من انقلاب تلك المحبة والشفقة - اللتين هما أحسن وألطف انواع الرحمة والنعمة - اعظم مصيبة عليك واشد بلاء فيك؟ أفيمكن في العقل ان تساعد تلك الرحمة الضرورية لهجوم الفراق الابدي والهجران اللايزاليّ على المحبة والشفقة؟ لا! بل من شأن تلك الرحمة ان تسلِّط الفراقَ الابدي على الهجران اللايزليّ، والهجران اللايزاليّ على الفراق الابدي والعدم عليهما.

واما البرهان الثامن المصرّح:

فهو لسان محمد عليه السلام الصادق المصدوق، ولقد فتح كلامه أبواب السعادة الابدية، على ان إجماع الانبياء من آدمهم الى خاتمهم عليهم السلام على هذه الحقيقة حجة حقيقية قطعية على هذا المدعى. ولأمر مّا اتفقوا.

واما البرهان التاسع:

 فهو اخبار القرآن المعجز؛ اذ التنزيل المصدق اعجازه بسبعة اوجه 2 في ثلاثة عشر عصرا دعواه عين برهانها. فاخباره كشاف للحشر الجسماني ومفتاح له.

_____________________

1 الحبيب من طلاب المؤلف.

2 تفصيل هذه الاوجه في الكلمة الخامسة والعشرين (المعجزات القرآنية).

واما البرهان العاشر:

 المشتمل على ألوف من البراهين التي تضمنها كثير من الآيات مثل (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْواراً) المشير الى "قياس تمثيلي". و(وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبيد) المشير الى "دليل عدليّ" وغيرهما. فلقد فتح القرآن في أكثر الآيات كُوّاتٍ 1 ناظرة الى الحشر.

اما القياس التمثيلي المشار اليه بالآية الاولى:

فانظر في وجود الانسان فانه ينتقل من طور الى طور.. من النطفة الى العلقة.. ومنها الى المضغة.. ومنها الى العظم واللحم.. ومنه الى الخلق الجديد. ولكلٍّ من تلك الاطوار قوانين مخصوصة، ونظامات معيّنة، وحركات مطّردة يشفّ كلٌّ منها عن قصدٍ وارادةٍ واختيارٍ.. ثم تأمل في بقائه فإن هذا الوجود يجدد لباسه في كل سنة، ومن شأنهالتحلل والتركب. 

اي انقضاض الحجيرات وتعميرها ببدل ما يتحلل من المادة اللطيفة الموزعة على نسبة مناسبة الاعضاء التي يحضرها صانعُها بقانون مخصوص. ثم تأمل في أطوار تلك المادة اللطيفة الحاملة لأرزاق الاجزاء. 

كيف تنتشر في اقطار البدن انتشاراً تحير فيه العقول؟. 

وكيف تنقسم بقانون التقسيم المعين على مقدار حاجات الاعضاء؛ بعد ان تلخصت تلك المادة بنظام ثابت، ودستور معين، وحركة عجيبة من اربع مصفاتات، وانطبخت في اربعة مطابخ بعد اربعة انقلابات عجيبة؛ المأخوذة تلك المادة من القوت المحصل من المواليد المنتشرة في عالم العناصر بدستور منتظم؛ ونظام مخصوص، وقانون معين. 

وكل من القوانين والنظامات في تلك الاطوار يشف عن سائقٍ وقصدٍ وحكمةٍ. كيف لا، ولو تأملت من قافلة تلك المادة اللطيفة في ذرة مثلا، مستترة في عنصر الهواء تصير بالآخرة جزءاً من سواد عين "الحبيب"؛ لعلمت ان تلك الذرة وهي في الهواء معيّنة كأنها موظفة مأمورة بالذهاب الى مكانها الذي عيُنّ لها؛ اذ لو نظرت إليها بنظر فنيّ تيقنت ان ليست حركتها "اتفاقية عمياء" "بتصادف اعمى"، بل تلك الذرة ما دخلت في مرتبة الا تبعت نظاماتها المخصوصة، وماتدرجت الى طور الا عملت بقوانينه المعينة، وما سافرت الى طبقة الا وهي تساق بحركة عجيبة منتظمة. فتمر على تلك الاطوار حتى تصل الى موضعها. مع انها لاتنحرف قطعا مقدار ذرة عن هدف مقصدها.

_____________________

1 الكوة: الخرق في الحائط. ج: كواء وكوى وكوات.

والحاصل: 

ان من تأمل في النشأة الاولى لم يبق له تردد في النشأة الاخرى، ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام (عجباً لمن يرى النشأة الاولى كيف ينكر النشأة الاخرى).

نعم! كما ان جمعَ نفراتِ عسكرِ فرقةٍ أُذِنَ لهم بالاستراحة والانتشار اذا دعوا بالآلة المعروفة - فيتسللون عن كل طرف ومكمن، فيجتمعون متحدين تحت لوائهم - يكون أسهل وأسهل من جلبهم أول الامر الى الانتظام تحت السلاح؛ كذلك ان جمعَ الذرات التي حصلت بينها المؤانسة والمناسبة بالامتزاج في وجودٍ واحدٍ اذا نوديتْ بصُور اسرافيل فينساب الكل من كل فج عميق ملبِّية لأمر خالقها يكون أسهل وأمكن في العقل من انشائها وتركيبها أول المرة.

أما بالنسبة الى القدرة فأعظم الاشياء كأصغرها. ثم الظاهر ان المعاد يعاد باجزائه الاصلية والفضولية معا. كما يشير اليه كبر أجسام اهل الحشر 1 وكراهة قصّ الاظفار والاشعار ونحوها للجُنُب، وسنّية دفنها 2.

والتحقيق:

ان عجب الذَنَب يكفي ان يكون بذراً ومادةً لتشكله. 3

وأما الدليل الذي لوح به (وما ربك بظلام للعبيد):

فاعلم! أنّا كثيراً ما نرى الظالم الفاجر الغدّار في غاية التنعم، ويمرّ عمُره في غاية الطيب والراحة. ثم نرى المظلوم الفقير المتدين الحسن الخلق ينقضي عمره في غاية الزحمة 4 والذلة والمظلومية، ثم يجئ الموتُ فيساوي بينهما. وهذه المساواة بلا نهاية تُري ظلماً. والعدالة والحكمة الإلهيتان اللتان شهدت عليهما الكائناتُ منزّهتان عن الظلم؛ فلابد من مجمعٍ آخر ليرى الاول جزاءه والثاني ثوابه فيتجلى العدالة الإلهية. وقس على هاتين الآيتين نظائرهما. 

_____________________

1 عن ابى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضرس الكافر - أو ناب الكافر - مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث. رواه مسلم (4/2189).

2 ادفنوا ماءكم واشعاركم واظفاركم، لاتلعب بها السحرة» مسند الفردوس 1/102. 

وانظر الفتح الكبير 2/375. كنز العمال 17245. جمع الجوامع رقم 885.

3 عن ابى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم يأكله التراب الاّ عجب الذنب، منه خُلق ومنه يركّب. رواه مسلم وابو داود وابن ماجه. والعجب: اصل الذنب.

4 التعب والمشقة والضيق.

هذا.. أما وجه النظم في اجزاء (وبالآخرة هم يوقنون) فاعلم! ان مناط النكت: "الواو"، ثم تقديم "بالآخرة" ثم الالف واللام فيها، ثم التعبير بهذا العنوان، ثم ذكر "هم"، ثم ذكر "يوقنون" بدل "يؤمنون".

واما "الواو" ففيها التخصيص بعد التعميم، للتنصيص على هذا الركن من الايمان، اذ هو أحد القطبين اللذين تدور عليهما الكتب السماوية.

واما تقديم (بالاخرة) ففيه حصر، وفي الحصر تعريض بأن أهل الكتاب بناء على قولهم (لن تمسَّنا النارُ اِلاّ أيّاماً مَعْدُودةً) 1 ونفيهم اللذائذ الجسمانية، آخرتهم آخرة مجازية اسمية، ماهي بحقيقة الآخرة.

واما الالف واللام فللعهد. اي اشارة الى المعهود بالدوران على ألسنة كل الكتب السماوية.. وفي العهد لمحٌ الى انها حق واشارة الى الحقيقة المعهودة الحاضرة بين اهداب العقول بسبب الدلائل الفطرية المذكورة.. وفي العهد حينئذ رمز الى انها حقيقة.. واما التعبير بعنوان "الآخرة" الناعتة للنشأة فلتوجيه الذهن الى النشأة الاولى، لينتقل الى امكان النشأة الاخرى.

واما (هم) ففيه حصر وفي الحصر تعريض بأن إيمان من لم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب ليس بيقين، بل انما يظنونه يقينا.

وأما ذكر (يوقنون) بدل "يؤمنون" مع ان الايمان هو التصديق مع اليقين، فليضع الاصبع على مناط الغرض قصداً لإطارة الشكوك؛ اذ القيامة محشر الريوب.. وايضا بالتنصيص ينسد طرق التعلل بـ "انا مؤمنون فليؤمن من لم يؤمن".

_____________________

1 سورة البقرة: 80.



السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (01-04) 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (01-04)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (23-25)
» السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (26-28)
» السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (29-30)
» السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (31-33)
» السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (05-08)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: إشارات الإعجاز-
انتقل الى: