اُولئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَاُولئِكَ هُم المُفْلِحُونَ 5
(اُولئِك عَلَى هُدىً مِنْ رَبٍّهِمْ)
اعلم! ان المظان التي تتلمع فيها النكت: هي نظمها مع سابقتها، ثم المحسوسية في "اولئك"، ثم البُعْدية فيها، ثم العلو في "على"، ثم التنكير في "هدى"، ثم لفظ "من"، ثم التربية في "ربهم".
اما النظم، فاعلم! ان هذه 1 مرتبطة بسابقتها بخطوط مناسبات.
منها الاستيناف أي 2 جواب لثلاثة اسئلة مقدرة:
منها: السؤال عن المثال،كأن السامع بعدما سمع ان القرآن من شأنه الهداية لاشخاص من شأنهم - بسبب الهداية - الاتصاف بأوصافٍ، أحبَّ أن يراهم وهم بالفعل تلبسوا بتلك الاوصاف متكئين على ارائك الهداية. فأجاب مُريئاً للسامع بقوله (اولئك على هدى من ربهم).
ومنها: السؤال عن العلة ، كأن السائل يقول: ما بال هؤلاء استحقوا الهداية واختصوا بها؟ فأجاب: بأن هؤلاء الذين امتزجت واجتمعت فيهم تلك الاوصاف - إن تأملت - لجديرون بنور الهداية.
فان قلت: التفصيل السابق أجلى للعلة من الاجمال في "اولئك"؟
قيل لك: قد يكون الاجمال اوضح من التفصيل لاسيما اذا كان المطلوب متولداً من المجموع؛ اذ بسبب جزئية ذهن السامع، والتدرج في اجزاء التفصيل، وتداخل النسيان بينها، وتجلي العلة من مزج الاجزاء قد لايُتفطن لتولد العلة. فالاجمال في "اولئك" لاجل الامتزاج أجلى للعلية.
ومنها: السؤال عن نتيجة الهداية وثمرتها، والنعمة واللذة فيها. كأن السامع يقول: ما اللذة والنعمة؟ فاجاب بأن فيها سعادة الدارين. أي ان نتيجة الهداية نفسها وثمرتها عينها، اذ هي بذاتها نعمة عظمى ولذة وجدانية، بل جنة الروح؛ كما ان الضلالة جهنمها، ثم بعد ذلك تثمر الفلاح في الآخرة.
_____________________
1 ان هذه الآية (ش).
2 اى انها جواب
واما المحسوسية في (اولئك) فاشارة الى ان ذكر الاوصاف الكثيرة سبب للتجسم في الذهن، والحضور في العقل، والمحسوسية للخيال. فمن العهد 1 الذِكري ينفتح باب الى العهد الخارجي، ومن العهد الخارجي ينتقل الى امتيازهم، وينظر الى تلألئهم في نوع البشر كأنه من رفع رأسه وفتح عينيه لا يتراءى له الا هؤلاء.
واما البُعدية في (اولئك) مع قُربيتهم في الجملة فللاشارة الى تعالي رتبتهم؛ اذ الناظر الى البعداء لا يرى الا اطولهم قامة، مع ان حقيقة البعد الزماني والمكاني اقضى لحق البلاغة؛ اذ هذه الآية كما ان عصر السعادة لسان ذاكر لها وهي تنزل، كذلك كلٌّ من الاعصار الاستقبالية كأنه لسان ذاكر لها، وهي شابة طرية كأنها اذ ذاك نزلت لا انها نزلت ثم حكيت.فاوائل الصفوف المشار اليهم بـ "اولئك" يتراؤن من بُعْدٍ. ولأجل الرؤية مع بُعدهم يُعلم عظمتهم وعلوّ رتبتهم.
واما لفظ (على) فاعلم! ان سر المناسبة بين الاشياء صيَّر اكثر الامور كالمرايا التي تتراءى في أنفسها؛ هذه في تلك وتلك في هذه. فكما ان قطعة زجاجة تريك صحراء واسعة؛ كذلك كثيراً ماتذكِّرك كلمةٌٌ فذة خيالا طويلا، وتمثل نصب عينيك هيئة كلمة حكاية عجيبة. ويجول بذهنك كلام في عالم المثال المثالي. كما ان لفظ "بارَزَ" يفتح لك معركة الحرب، ولفظ "ثمرة" في الآية يفتح لك باب الجنة وقس! فعلى هذا لفظ "على" للذهن كالكُوَّة الى اسلوب تمثيلي هو ان هداية القرآن بُراقٌ إلهي أهداه للمؤمنين ليسلكوا، وهم عليه في الطريق المستقيم سائرين الى عرش الكمالات.
واما التنكير في (هدى) فيشير الى انه غير (هدى للمتقين) اذ المنكّر المكرر غير الاول في الاغلب 2. فذاك مصدر وهذا حاصل بالمصدر.. وهو صفة محسوسة قارة 3 كثمرة الاول.
_____________________
1 حيث ذكرت اوصافهم فاصبحت معهودة (ت: 65).
2 حيث ان النكرة اذا كررت بصورة معرفة، فتلك المعرفة هى عين تلك النكرة، اما اذا ذكرت النكرة نكرة فلا تكون عين النكرة في الاغلب (ت: 67).
3 قارة : ثابتة.
واما لفظ (من) فيشير الى ان الخلق والتوفيق في اهتدائهم - المكسوب لهم - من الله. 1
واما لفظ الـ "رب" فيشير الى ان الهداية من شأن الربوبية فكما يربيهم بالرزق يغذيهم بالهداية.
(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
اعلم! ان مظان تحري النكت هي: عطف "الواو"، ثم تكرار "اولئك"، ثم "ضمير الفصل"، ثم الالف واللام، ثم إطلاق "مفلحون" وعدم تعيين وجه الفلاح.
اما العطف فمبني على المناسبة؛ اذ كما ان (اولئك) الاول اشارة الى ثمرة الهداية من السعادة العاجلة؛ فهذه اشارة الى ثمرتها من السعادة الآجلة. ثم انه مع ان كلاً منهما ثمرة لكل ما مر، الا ان الأَولى أَن (اولئك) الاول يرتبط عِرْقُه بـ(الذين) الاول، الظاهر انهم المؤمنون من الأميين، ويأخذ قوته من اركان الاسلامية، وينظر الى ماقبل (وبالآخرة هم يوقنون). و (اولئك) الثاني ينظر برمز خفي الى (الذين) الثاني، الظاهر انهم مؤمنو اهل الكتاب. ويكون مأخذه اركان الايمان واليقين بالآخرة. فتأمل!
واما تكرار (اولئك) فاشارة الى استقلال كل من هاتين الثمرتين في العلة الغائية للهداية والسببية لتميزهم ومدحهم، الا ان الأولى ان يكون (اولئك) الثاني اشارة الى الاول مع حكمه كما تقول: ذلك عالم وذلك مكرّم.
واما ضمير الفصل فمع انه تأكيد الحصر الذي فيه تعريض بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبيّ عليه السلام، فيه نكتة لطيفة وهي: ان توسط (هم) بين المبتدأ والخبر من شأنه أن يحول المبتدأ للخبر الواحد موضوعاً لاحكام كثيرة يُذكَر البعضُ ويُحال الباقية على الخيال؛ لان (هم) ينَبِّه الخيال على عدم التحديد ويشوّقه على تحري الاحكام المناسبة. فكما انك تضع زيداً بين عيني السامع فتأخذ تغزل منه الاحكام قائلا: هو عالم، هو عامل، هو كذا وكذا. ثم تقول قس! كذلك لما قال (اولئك) ثم جاء (هم) هيّج الخيال لان يجتني ويبتني بواسطة الضمير أحكاماً مناسبة لصفاتهم،كـ: اولئك هم على هدى.. هم مفلحون.. هم فائزون من النار.. هم فائزون بالجنة.. هم ظافرون برؤية جمال الله تعالى الى آخره.
_____________________
1 اذ الاهتداء، اى سلوك طريق الصواب، هو ضمن اختيارهم وداخل كسبهم، مع ان الهداية التى هى صفة ثابتة، فهى من الله تعالى (ت: 67).
وأما الألف واللام فلتصوير الحقيقة. كأنه يقول: ان أحببت أن ترى حقيقة المفلحين، فانظر في مرآة (اولئك) لتمثل لك.. أو لتمييز ذواتهم، كأنه يقول: الذين سمعت أنهم من أهل الفلاح ان أردت ان تعرفهم فعليك بـ (اولئك) فهم هم.. او لظهور الحكم وبداهته نظير "والده العبد" اذ كون والده عبداً معلوم ظاهر..
وأما إطلاق "مفلحون" فللتعميم؛ اذ مخاطب القرآن على طبقات مطالبهم مختلفة. فبعضهم يطلب الفوز من النار.. وبعض إنما يقصد الفوز بالجنة.. وبعض انما يتحرى الرضاء الالهي.. وبعض مايحب الا رؤية جماله.. وهلم جرّا.. فاطلق هنا لتعم مائدة احسانه فيجتني كلٌّ مشتهاه.
اِنًّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَاَنْذَرْتَهُمْ اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لايُؤْمِنُونَ 6
وجه النظم:
اعلم! ان للذات الاحديِّ في عالم صفاته الازلية تجلِّيَيْن جلاليّ وجماليّ. فبتجليهما في عالم صفات الافعال يتظاهر اللطف والقهر والحسن والهيبة. ثم بالانعطاف في عالم الافعال يتولد التحلية والتخلية والتزيين والتنزيه. ثم بالانطباع في العالم الأُخروي من عالم الآثار يتجلى اللطف جنة ونوراً، والقهر جهنم وناراً. ثم بالانعكاس في عالم الذكر ينقسم الذكر الى الحمد والتسبيح. ثم بتمثلهما في عالم الكلام يتنوع الكلام الى الأمر والنهي. ثم بالارتسام في عالم الارشاد يقسمانه الى الترغيب والترهيب والتبشير والانذار. ثم بتجليهما على الوجدان يتولد الرجاء والخوف.. وهكذا. ثم ان من شأن الارشاد ادامة الموازنة بين الرجاء والخوف، ليدعو الرجاء الى ان يسعى بصرف القوى، والخوف الى ان لايتجاوز بالاسترسال فلا ييأس من الرحمة فيقعد ملوماً، ولا يأمن العذاب فيتعسف ولا يبالي. فلهذه الحكمة المتسلسلة مارغّب القرآن إلاّ وقد رهَّب، وما مدح الابرار الا وقرنه بذمّ الفجار.
ان قلت: فلِمَ لم يعطف هنا كما عطف في (اِنَّ الابْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ _ وَاِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) 1.؟
قيل لك: ان حسن العطف ينظر الى حسن المناسبة، وحسن المناسبة يختلف باختلاف الغرض المسوق له الكلام. ولما اختلف الغرض هنا وهنالك، لم يستحسن العطف هنا؛ اذ مدحُ المؤمنين منجر ومقدمة لمدح القرآن، ونتيجة له، وسيق له. وأما ذم الكافرين فللترهيب لايتصل بمدح القرآن.
ثم انظر الى اللطائف المندمجة في نظم اجزاء هذه الآية!
فأولا: استأنس بـ (إنّ) و(الذين) فانهما أجْوَلُ وأسْيَرُ ما يصادفك في منازل التنزيل. ولأمر مّا أكثر القرآنُ من ذكرهما؛ اذ معهما من جوهر البلاغة نكتتان عامتان غير ماتختص كل موقع.
_____________________
1 سورة الانفطار: 13،14
أما (إنّ) فان من شأنها ان تثقب السطح نافذة الى الحقيقة، وتوصل الحكم اليها؛ كأنها عرق الدعوى اتصلت بالحق. مثلا: ان هذا كذا.. أي الحكمُ وهذه الدعوى ليست خيالية ولا مبتدعة ولا اعتبارية ولا مستحدثة؛ بل هي من الحقائق الجارية الثابتة. وما يقال من أن "إنّ" للتحقيق فعنوان لهذه الحقيقة والخاصية. والنكتة الخصوصية هنا هي أن "إنّ" الذي شأنه رد الشك والانكار مع عدمهما في المخاطب للاشارة الى شدة حرص النبي عليه السلام على ايمانهم.
واما (الذين) فاعلم! ان "الذي" من شأنه الاشارة الى الحقيقة الجديدة التي أحس بها العقل قبل العين، وأخذت في الانعقاد ولم تشتد، بل تتولد من امتزاج أشياء وتآخذ أسباب مع نوع غرابة. ولهذا ترى من بين وسائط الاشارة والتصوير في الانقلاب المجدد للحقائق لفظ "الذي" أسيرَ على الالسنة وأكثر دورانا. فلما ان تجلى مؤسس الحقائق وهو القرآن، اضمحل أنواعٌ ونقضت فصولُها وتشكلت انواع اُخر وتولدت حقائق اخرى. اما ترى زمان الجاهلية كيف تشكلت الانواع على الروابط الملّية وتولدت الحقائق الاجتماعية على العصبيات القومية؟ فلما ان جاء القرآن قطع تلك الروابط وخرب تلك الحقائق فأسس بدلاَ عنها انواعاً، فصولها الروابط الدينية. فتأمل!.. فلما أشرق القرآن على نوع البشر تزاهر بضيائه واثمر بنوره قلوب فتحصلت حقيقة نورانية هي فصل نوع المؤمنين. ثم لخبث بعض النفوس تعفنت في مقابلة الضياء تلك النفوسُ فتولدت حقيقة سمّية هي خاصة نوع مَن كفر 1..
وايضا بين "الذين" و"الذين" تناسب. 2
اعلم! ان الموصول كالالف واللام يستعمل في خمسة معان اشهرها العهد. فـ"الذين" هنا اشارة الى صناديد الكفر امثال ابي جهل وابي لهب وأُمية بن خلف وقد ماتوا على الكفر. فعلى هذا في الآية إخبار عن الغيب. وامثال هذا لمعاتٌ يتولد منها نوعٌ من الاعجاز من الانواع الاربعة للاعجاز المعنوي.
واما لفظ (كفروا) فاعلم! ان الكفر ظلمة تحصل من انكار شئ مما عُلِمَ ضرورةً مجئ الرسول عليه السلام به.
_____________________
1 فلأجل الاشارة الى هذه الحقيقة الكفرية، ذكر "الذين"(ت: 72)
2 لأن كلاً منهما يدلان على حقيقة مضادة للاخرى (ت: 72)
ان قلت: ان القرآن من الضروريات وقد اُختلف في معانيه؟
قيل لك: ان في كل كلام من القرآن ثلاث قضايا:
احداها: "هذا كلام الله".
والثانية: "معناه المراد حق"؛ وانكار كلٍّ من هاتين كفر.
والثالثة: "معناه المراد هذا"؛ فان كان مُحْكَماً أو مفسراً فالايمان به واجب بعد الاطلاع، والانكار كفر. وان كان ظاهراً، او نصاً يحتمل معنى آخر، فالانكار بناء على التأويل - دون التشهّي - ليس بكفر 1.
ومثل الآية الحديث المتواتر؛ الا ان في انكار القضية الاولى من الحديث تأملا. 2
ان قلت: الكفر جهل وفي التنزيل (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ اَبْنَاءهُمْ) 3 فما التوفيق؟
قيل لك: ان الكفر قسمان:
جهليّ ينكِر لأنه لا يعلم. والثاني جحودي تمردي يعرف لكن لايقبل، يتيقّن لكن لايعتقد، يصدِّق لكن لايذعن وجدانُه. فتأمل!..
ان قلت: هل في قلب الشيطان معرفة؟
قيل لك: لا، اذ بحكم صنعته الفطرية يشتغل قلبُه دائما بالاضلال ويتصور عقلُه دائماً الكفر للتلقين فلا ينقطع هذا الشغل، ولا يزول ذلك التصور عن عقله حتى تتمكن فيه المعرفة.
ان قلت: الكفر صفة القلب فكيف كان شدّ الزُنّار - وقد قيس عليه "الشَّوْقَة" 4 - كفراً؟
قيل لك: ان الشريعة تعتبر بالامارات على الامور الخفية حتى اقامت الاسباب الظاهرية 5 مقام العلل. ففي شد الزُنَّار المانع بعضُ نوعه عن اتمام الركوع، وإلباس "الشَوْقَة" المانعة عن تمام السجود علامة الاستغناء عن العبودية، والتشبه بالكفرة المومِئ باستحسان مسلكهم وملّيتهم. فما دام لم يُقطَع بانتفاء الامر الخفي يُحكَم بالامر الظاهر.
_____________________
1 واختلاف المفسرين ليس الاّ في هذا القسم (ت: 73).
2 اى ثبوت صحته وتواتره (ت: 73).
3 سورة البقرة: 146.
4 القبعة.
5 التى هى ليست عللاً (ت: 74).
ان قلت: اذا لم يُجدِ الانذار فلِمَ التكليف؟
قيل لك: لإلزام الحجة عليهم. 1
ان قلت: الاخبار عن تمردهم يستلزم امتناع ايمانهم فيكون التكليف بالمحال؟
قيل لك: ان الاخبار وكذا العلم والارادة لا تتعلق بكفرهم مستقلا مقطوعاً عن السبب، بل انما تتعلق بكفرهم باختيارهم. كما يأتيك تفصيله. ومن هنا يقال: "الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار".
ان قلت: ايمانهم بعدم ايمانهم 2 محال عقليّ يشبه "الجذر الاصم الكلاميّ".؟ 3
قيل لك: انهم ليسوا مكلفين بالتفصيل حتى يلزم المحال.
ثم في ايراد (كفروا) فعلاً ماضياً، اشارة الى انهم اختاروا الكفر بعد تبين الحق فلذا لايفيد الانذار.
واما (سواء) فمجاز عن: "انذارك كعدم الانذار في عدم الفائدة او في صحة الوقوع" اي لاموجب للانذار ولا لعدمه.
واما (عليهم) ففيه ايماء الى انهم اخلدوا الى الارض فلا يرفعون رؤوسهم ولا يصغون الى كلام آمرهم.. وفيه أيضا رمز الى انه ليس سواء عليك، لان لك الخير في التبليغ؛ اذ (مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاّ البَلاغُ) 4.
_____________________
1 اذ يمكنهم ان يقولوا لم نبلّغ بالتكليف ولا علم لنا به، ويكون هذا مدار نجاتهم من الجزاء (ت: 74)
2 كما في "لايؤمنون" وامثالها من الآيات (ت: 74).
3 مغلطة الجذر الاصم هى هذه: قيل ان اجتماع النقيضين واقع، لانه لو قال قائل كل كلامي في هذه الساعة كاذب والحال انه لم يقل في تلك الساعة غير هذا الكلام، فلا يخلو من ان يكون هذا الكلام، صادقاً أوكاذباً. وعلى التقديرين يلزم اجتماع النقيضين. اما اذا كان صادقاً فيلزم كذب كلامه في تلك الساعة، وهذا الكلام مما تكلم به في تلك الساعة ولم يتكلم بغيره؛ فيلزم كذب كلامه. والتقدير انه صادق فيلزم اجتماع النقيضين وان كان كاذباً يلزم ايضاً اجتماع النقيضين لانه يلزم ان يكون بعض افراد كلامه صادقاً في تلك الساعة لكن ما وجد عنه في تلك الساعة سوى هذا الكلام فيلزم صدقه، والمفروض كذبه فيلزم اجتماع النقيضين. وهذه المغلطة مشهورة تحير جميع العلماء في حلّها. (ب).
4 سورة المائدة: 99.
_____________________
واما (ءَاَنذرتهم ام لم تنذرهم) فالهمزة واَمْ هنا في حكم "سواء حرفي"، تأكيد لسواء الاول. أو تأسيس نظراً الى اقتسامهما المعنيين المذكورين للمساواة.
ان قلت: فلِمَ عبّر عن المساواة بصورة الاستفهام؟
قيل لك: اذا اردت ان تنبه المخاطب على عدم الفائدة في فعل نفسه بوجه لطيف مقنع لابد ان تستفهم ليتوجه ذهنُه الى فعله فينتقل منه الى النتيجة فيطمئن.. ثم العلاقة بين الاستفهام والمساواة تضمنه لها؛ اذ السائل يتساوى في علمه الوجود والعدم.. وايضا كثيرا مايكون الجواب هذه المساواة الضمنية.
ان قلت: لِمَ عبّر عن الانذار في "أنذرتهم" بصورة الماضي؟
قيل لك: لينادي "يا محمد قد جرَّبْتَ" فقس!
ان قلت: لِمَ ذكر (ام لم تنذرهم) مع ان عدم فائدة عدم الانذار ظاهر؟
قيل لك: كما قد ينتج الانذار اصراراً، كذلك قد يجدي السكوت انصاف المخاطب.
ان قلت: لِمَ انذر بالترهيب فقط مع انه بشير نذير؟
قيل لك: اذ الترهيب هو المناسب للكفر، ولان دفع المضار أولى من جلب المنافع وأشد تأثيراً، ولأن الترهيب هنا يهز عِطف الخيال ويوقظه لان يتلقى ويجتني بعد قوله (لايؤمنون) "أبشّرتهم ام لم تبشرهم".
ثم اعلم! كما ان لكل حكمٍ معنى حرفياً ومقصدا خفياً؛ كذلك لهذا الكلام معان طيارة ومقصد سيق له هو تخفيف الزحمة، وتهوين الشدة عن النبي عليه السلام، وتسليته بتأسّيه بالرسل السالفين. اذ خوطب اكثرهم بمثل هذا الخطاب، حتى قال نوح بعده (لا تَذَرْ عَلَى الاَرْضِ مِنَ الْكَافِرينَ دَيَّاراً) 1.. ثم لأن آيات القرآن كالمرايا المتناظرة، وقصص الانبياء كالهالة للقمر تنظر الى حال النبي عليه السلام؛ كان كأن هذا الكلام يقول: هذا قانون فطريّ الهيّ يجب الانقياد له.
_____________________
1 سورة نوح: 26
واعلم بعد هذا التحليل!
ان مجموع هذه الآية الى (ولهم عذاب عظيم) سيقت: مشيرةً بعقودها الى تقبيح الكفر وترذيله، والتنفير منه والنهي الضمني عنه، وتذليل أهله، والتسجيل عليهم، والترهيب عنه، وتهديدهم.. منادية 1 بكلماتها بأن في الكفر مصائب عظيمة، وفوات نِعَم جسيمة، وتولد آلام شديدة، وزوال لذائذ عالية.. مصرحةً بجملها بأن الكفر أخبث الاشياء وأضرها.
اذ أشار بلفظ (كفروا) بدل "لم يؤمنوا" الى انهم بعدم الايمان وقعوا في ظلمة الكفر الذي هو مصيبة تفسد جوهر الروح وايضا هو معدن الآلام.
وبلفظ (لايؤمنون) بدل "لايتركون الكفر" الى انهم مع تلك الخسارة سقط من ايديهم الايمان الذي هو منبع جميع السعادات.
وبلفظ (ختم الله على قلوبهم) الى ان القلب والوجدان - الذي حياته وفرحه وسروره وكمالاته بتجلي الحقائق الالهية بنور الايمان - بعدما كفروا صار كالبناء الموحش الغير المعمور المشحون بالمضرات والحشرات، فاُقْفِل واُمْهِر 2 على بابه ليُجتَنب، وتُرك مفوضاً للعقارب والافاعي.
وبلفظ (وعلى سمعهم) الى فوات نعمة عظيمة سمعية بسبب الكفر؛ اذ السمع من شأنه - اذا استقر خلف صماخه نورُ الايمان واستند اليه - الاحتساس بنداء كل العالم وفهم اذكارها، وسمع صياح الكائنات وتفهم تسبيحاتها.. حتى ان السمعَ ليسمعُ من ترنمات هبوب الريح، ومن نعرات رعد الغيم، ومن نغمات امواج البحر، ومن صرخات دقدقة الحجر، ومن هزجات نزول المطر، ومن سجعات غناء الطير كلاماً ربانياً، ويفهم تسبيحا علويا، كأن الكائنات موسيقية عظيمة له، تهيّج في قلبه حزناً علوياً وعشقاً روحانياً فيحزن بتذكر الأحباب والانيس فيكون الحزن لذة؛ لا بعدم الاحباب فيكون غماً.. واذا اظلم ذلك السمع بالكفر صار اصم من تلك الاصوات اللذيذة، ولايسمع من الكائنات إلا نياحات المأتم ونعيات الموت، فلا يلقي في القلب الا غم اليتمة -اي عدم الاحباب- ووحشة الغربة -اي عدم المالك والمتعهد- فبناء على هذا السر أحل الشرع بعض الاصوات وهو ماهيّج عشقاً علوياً وحزناً عاشقياً، وحرّم بعضها وهو ما انتج اشتهاء نفسياً وحزناً يتمياً، ومالم يُرِكَ الشرع فمَيِّزْه بتأثيره في روحك ووجدانك.
_____________________
1 بالنصب، عطف على قوله: مشيرةً. وكذا مصرحة.
2 اى ختم على بابه. والمهر- بالضم - هو الختم الذى يطبع ويوقع به. والكلمة اعجمية استعملها تفنناً. وله من الحسن مقام(ش)
وبكلمة (وَعلى ابصارهم غشاوة) الى زوال نعمة جسيمة بسبب الكفر؛ اذ البصر من شأنه اذا استضاء نوره واتصل بنور الايمان الساكن خلف شُبيكته ممداً ومحركاً له كان كل الكائنات كجنة مزينة بالزهر والحور، ويصير نور العين نحلا تطير عليها فتجتنى من تلك الازاهير عصارة العبرة والفكرة والانسية والاستيناس والتحبب والتهنئة، فتأخذ حميلتها فتتخذ في الوجدان شهد الكمالات.. واذا أظلم - العياذ بالله - ذلك البصرُ بالكفر طمس، وصارت الدنيا في نظره سجناً، وتسترت عنه الحقائق وتوحشت عليه الكائنات وتلقى الى قلبه آلاماً تحيط بوجدانه من الرأس الى القدم..
وبلفظ (ولهم عذاب عظيم) الى ثمرة شجرة زقوم الكفر في العالم الاخروي من عذاب جهنم ومن نكال الغضب الالهي. هذا.
واما "لايؤمنون" فتأكيد لـ "سواء" ينص على جهة المساواة.
خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ 7
مقدمة
اعلم! انه لزمنا ان نقف هنا حتى نستمع لما يتكلم به المتكلمون؛ اذ تحت هذه الآية حرب عظيمة بين اهل الاعتزال واهل الجبر واهل السنة والجماعة. ومثل هذه الحرب تستوقف النُظّار. فناسب ان نذكر اساسات لتستفيد منها:
ان مذهب اهل السنة والجماعة هو الصراط المستقيم، وماعداه إما افراط او تفريط.
منها: انه قد تحقق "اَنْ لا مُؤَثِّرَ فِي الْكَوْنِ اِلاّ الله" فإذاً لا تفويض. 1
ومنها: "ان الله حكيم" فلا يكون الثواب والعقاب عبثين فحينئذ لا اضطرار. فكما ان التوحيد يدفع في صدر الاعتزال؛ كذلك التنزيه يضرب على فم الجبر.
ومنها: ان لكل شئ جهتين: جهة مُلكية هي قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة تتوارد عليها الاشكال كظهر المرآة. وجهة ملكوتية تنظر الى الخالق. وتلك شفافة في كل شئ كوجه المرآة. فخلقُ القبيح ليس قبيحاً؛ اذ الخلق من جهة الملكوتية حسن، ولان خلقه لتكميل المحاسن فيحسن بالغير. فلا تصغ الى سفسطة الاعتزال!
ومنها: ان الحاصل بالمصدر 2 أمر قارٌ مخلوق جامد لا يشتق منه الصفات 3. واما المصدر فمكسوب نسبيّ اعتباريّ يشتق منه الصفات. فلا يكون خالق القتل قاتلا.. فَذَرْ اهلَ الاعتزالِ في خوضهم يَلْعَبُون!..
ومنها: ان الفعل الظاهريّ في الاغلب نتيجة لافعال متسلسلة منتهية الى ميلان النفس الذي يسمّى "بالجزء الاختياري". فتدور المنازعات على هذا الاساس.
_____________________
1 كما يقول اهل الاعتزال من ان العبد خالق لافعاله (ت: 79).
2 كالألم والموت الحاصلين بالضرب والقتل (ت: 79).
3 اى لا يشتق من الجامد اسم الفاعل كما هو معلوم في علم الصرف (ت: 80).
ومنها: ان الارادة الكلية الالهية ناظرة بعادته تعالى الى الارادة الجزئية للعبد، فلا اضطرار.
ومنها: ان العلم تابع للمعلوم، فلا يتبعه المعلوم حتى يدور. فلا يُتعلل في العمل باحالة مقاييسه على القدر.
ومنها: ان خلق الحاصل بالمصدر متوقف على كسب المصدر بجريان عادة الله تعالى باشتراطه به. والنواة في كسب المصدر والعقدة الحياتية فيه هي الميلان، فبحلّه تنحل عقدة المسألة.
ومنها: ان الترجح بلا مرجح محال دون الترجيح بلا مرجح فلا تُعلّلُ أفعالُه تعالى بالاغراض؛ بل اختياره تعالى هو المرجح.
ومنها: ان الامر الموجود لابد له من مؤثر وإلا لزم الترجح بلا مرجح وهو محال كما مر. واما الامر الاعتباري 1 فتخصصه بلا مخصص لا يلزم منه المحال.
ومنها: ان الموجود يجب ان يجب ثم يوجد 2. واما الامر الاعتباري فالترجح بلا انتهاء الى حد الوجوب كاف فلا يلزم ممكن بلا مؤثر.
ومنها: ان العلم بوجود شئ لايستلزم العلم بماهيته، وعدم العلم بالماهية لايستلزم العدم. فعدم التعبير عن كُنهِ الاختيار لاينافي قطعية وجوده.
واذا تفطنت لهذه الاساسات فاستمع لما يُتلى عليك:
فنحن معاشر اهل السنة والجماعة نقول: يا اهل الاعتزال! ان العبد ليس خالقاً للحاصل بالمصدر كالحاصل من المصدر 3، بل هو مصدر المصدر فقط 4؛ اذ "لا مؤثر في الكون الا الله"، والتوحيد هكذا يقتضي. ثم نقول: يا اهل الجبر! ليس العبد مضطراً بل له جزء اختياري لان الله حكيم. وهكذا يقتضي التنزيه.
فان قلتم: كلما يُشرّح الجزء الاختياري بالتحليل لايظهر منه الا الجبر.
قيل لكم: اولاً: ان الوجدان والفطرة يشهدان ان بين الامر الاختياري والاضطراري امرا خفيا فارقا، وجودُه قطعي. فلا علينا ان لانعبِّر عنه.
_____________________
1 هو الذى لا وجود له الاّ في عقل المعتبر مادام معتبراً (التعريفات).
2 اى لا يأتى الى الوجود شئ مالم يكن وجوده واجباً. فعند تعلق الارادتين الجزئية والكلية في شئ يكون وجود الشئ واجباً، فيوجد حالاً (ت: 80).
3 اى ليس خالقاً للأثر الحاصل بالمصدر، وهو الذى يطلق عليه الكسب (ت: 81).
4 فليس بيد العبد الاّ الكسب (ت: 81).
يتبع إن شاء الله...