المــادة البشــرية
Human Material
مصطلح «مادة بشرية» يُستخدَم في الأدبيات الصهيونية حتى الوقت الحاضر للإشارة إلى البشر بشكل عام، بما في ذلك أعضاء الجماعات اليهودية. وقد استخدمه هرتزل في كتابه دولة اليهود وفي مذكراته، وكـذا ناحـوم سوكولوف. ولا يزال المصطلح سائداً في إسرائيل. والعبارة تشبه عبارات أخرى مثل «فائض بشري» أو «الفائض اليهودي»، وهي كلها جزء من الخطاب السياسي الغربي العلماني، وتصلح للإشارة إلى الإنسان، لا باعتباره مطلقاً، وإنما باعتباره مادة استعمالية نسبية يمكن توظيفها وحوسلتها. وقد تبنَّى الصهاينة هذا المصطلح، حيث طرحوا المشروع الصهيوني باعتباره مشروعاً يهدف إلى تحويل الفائض البشري اليهودي غير النافع إلى مادة استيطانية نافعة تُوظَّف في خدمة الاستعمار الغربي في أي مكان من العالم (ثم استقر الأمر على فلسطين). وهذا المصطلح متَّسق تماماً مع الرؤية العلمانية للإنسان التي تخلع عنه كل قداسة وتحوسله وتنظر إليه بمقدار نفعه أو ضرره. وهو مصطلح متَّسق تماماً مع الرؤية المعرفية الإمبريالية للعالم الذي تراه كله مسـرحاً لنشـاط الإنسـان الغربي يهيمن عليه ويوظفه لصالحه. والعبارة تصف، وبدقة شديدة، رؤية الإنسان الغربي إلى أعضاء الجماعات اليهودية، حيث كان يُنظَر إليهم ابتداءً من القرن السابع عشر كأداة تُستخدَم ويُحكَم عليها بمقدار نفعها. وقد تبنَّى النازيون المصطلح نفسه بالنسبة إلى الجنس البشري ككل، بما في ذلك أعضاء الجماعات اليهودية.
وفي إسرائيل، أشار أيخمان، في دفاعه عن نفسه، إلى الصفقة التي عقدها الصهاينة مع النازيين، حيث قام الصهاينة بتهدئة اليهود الذين كانوا في طريقهم إلى أفران الغاز في نظير تسليمهم بعض العناصر اليهودية الشابة التي وصفها أيخمان بأنها من أفضل المواد البيولوجية التي يمكن ترحيلها إلى فلسطين. ومصطلح «المادة البشرية» مرتبط، في افتراضاته المعرفية، بمصطلحات أخرى مثل «تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج» و«تطبيع اليهود».
سيمون لوتسـاتو (1583-1663)
Simon Luzzato
حاخام إيطالي، من أهم كتبه مقال عن يهود البندقية (1638) وهو محاولة للدفاع عن اليهود على أساس نفعهم. فهم يضطلعون بوظائف لا يستطيع غيرهم الاضطلاع بها، مثل التجارة، كما يطوِّرون فروعاً مختلفة من الاقتصاد. ولكنهم على عكس التجار الأجانب خاضعون لسلطة الدولة تماماً، ولا يبحثون عن المشاركة فيها، ولا ينقلون أرباحهم خارج البلاد (وهذا وصف دقيق لما نسميه بالجماعة الوظيفية الوسيطة). وقد بيَّن لوتساتو إمكانية زيادة ريع الدولة بتشجيع النشاطات اليهودية، وأشار إلى الفوائد التي جنتها الدولة من علاقتها بهم. وهذه كانت أول مرة تُستخدَم أطروحة نَفْع اليهود التي دافع عنها بعد ذلك جون تولاند في إنجلترا عام 1714، كما دافع عنها مفكرو عصر الاستنارة.
وكان لوتساتو من أوائل المؤلفين الذين قدموا تحليلاً لما يُسمَّى «الشخصية اليهودية»، فوصف اليهود بأنهم جبناء ومخنثون وجهلة لا يمكنهم أن يحكموا أنفسهم، يهتمون بمصالحهم وحسب ولا يهتمون بالصالح العام. وبيَّن لوتساتو أن سلوك اليهود الاقتصادي يُعبِّر عن الطمع والجشع، وأنهم يعيشون أسرى الماضي ولا يهتمون بالحاضر، كما يبالغون في اتباع تعاليم دينهم وشعائره. ولكن اليهود، مع هذا، يتمتعون أيضاً ببعض الصفات الحميدة، مثل الثبات والاحتمال والصمود والحفاظ على العقيدة وعلى نظام الأسرة، وهم مطيعون ويخضعون لأي شخص إلا إخوانهم في الدين. ونقائص اليهود، كما يرى، هي نتيجة الجبن والضعف لا القوة والوحشية. وقد ألَّف لوتساتو كتابه هذا وهو في حالة أزمة، إذ اكتُشف أن بعض العائلات اليهودية التجارية كانت متورطة في عملية غش تجارية على نطاق واسع.
منَسَّـى بــن إســرائيل (1604-1657(
Manasseh Ben Israel
يهـودي من المارانـو، وحاخـام ومؤلف، وُلد في البرتغال وعمل فيها، ثم فر أبواه واستقرا في أمستردام حيث أصبح منَسَّى حاخاماً في أحد المعابد (1622 ـ 1639). أسس أول مطبعة عبرية في أمستردام عام 1626 نشرت عدة كتب من بينها معجم لأحد كتب المدراش وكتاب نحو اللغة العبرية وطبعة لكتاب المشناه. وقد كان منَسَّى نفسه مؤلفاً غزير الإنتاج، وتعرَّف إلى كثير من الشخصيات المهمة في عصره، مثل هيوجو جروتيوس وملكة السويد كريستينا، وكان يعرف كذلك رمبرانت الذي رسم صورته.
ويعد منَسَّى شخصية نماذجية للقيادة الجديدة التي تسلمت زمام الجماعات اليهودية من الحاخامات والتجار الهامشيين. فهو أولاً من يهود المارانو الذين كان تكوينهم الثقافي مُركَّباً، إذ كانوا على معرفة بكلٍّ من الحضارة الغربية المسيحية والتقاليد الدينية اليهودية. وقد انتقل من شبه جزيرة أيبريا إلى أمستردام في هولندا، أي من اقتصاد إقطاعي تقليدي وحضارة كاثوليكية إلى الاقتصاد الجديد والحضارة ذات التوجه البروتستانتي التجاري. وفكَّر منَسَّى في الاستيطان في البرازيل، أي في التحرك مع التشكيل الغربي الاستيطاني. تلقَّى تعليماً حديثاً وتقليدياً وكان يؤمن إيماناً عميقاً بالقبَّالاه، وانشغل بالحسابات القبَّالية لمعرفة موعد وصول الماشيَّح، وتوصل إلى أن ذلك لن يتحقق إلا بعد أن يتم تشتيت اليهود في كل أطراف الأرض. وقد كان هذا المفهوم القبَّالي هو الديباجة التي استخدمها للدفاع عن ضرورة إعادة توطين اليهود في إنجلترا، وذلك في كتابه أمل إسرائيل الذي ترجمه إلى الإنجليزية عام 1650 ولكن إلى جوار الديباجة القبَّالية كانت توجد ديباجة تجارية دنيوية. والواقع أن تداخل الديباجتين الدينية والدنيوية هو إحدى سمات الصهيونية الأساسية. وقد استرعى الكتاب اهتمام كرومويل (حكم في الفترة من 1648 حتى 1668) الذي دعا منَسَّى إلى زيارة إنجلترا لمناقشة الموضوع. وكان منَسَّى على اتصال بجماعات المارانو التي كانت قد استقرت بالفعل في الأراضي البريطانية، وانتهت المفاوضات بالفشل شكلياً. ولكن كرومويل أعطى أمره، مع هذا، للسلطات بالتغاضي عن استقرار اليهود. كما أن كرومويل منح منَسَّى معاشاً سنوياً قدره مائة جنيه.
ويعود اهتمام كرومويل بطلب منَسَّى واليهود عامة إلى عدة أسباب:
1 ـ كان الكسب التجاري هو الحافز الأساسي نحو اتخاذ خطوة توطين اليهود. فالحرب الأهلية التي سبقت العهد البيوريتاني، ألحقت ضرراً بالغاً بمركز إنجلترا كقوة تجارية وبحرية. وحين استقرت المنافسة بين التجار البيوريتان والألمان، أراد التجار الإنجليز الاستفادة من خبرات التجار المارانو واتصالاتهم الدولية، وبخاصة أنهم كانوا يعرفون الإسبانية والبرتغالية لغة الكتلة الكاثوليكية التجارية المعادية للكتلة البروتستانتية الناشئة في هولندا وإنجلترا.
2 ـ كان كرومويل يطمح إلى تحويل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جواسيس يزوِّدونه بمعلومات عن السياسات التجارية للدول المنافسة له، وعن المؤامرات التي يديرها أنصار الملكية في الخارج، بفضل اتصالاتهم وتنقلهم في أوربا، في وقت كان فيه الحصول على معلومات أمراً صعباً للغاية.
3 ـ كان كرومويل يطمح أيضاً إلى أن يستثمر التجار اليهود بعض رؤوس أموالهم الضخمة في الاقتصاد الإنجليزي.
ومن أهم مؤلفات منَسَّى الأخرى، كتابه الموفِّق، الذي حاول فيه أن يُوفِّق بين المتناقضات الواضحة في الكتاب المقدَّس، كما ألَّف كتاباً عن هنـود العالم الجـديد يُوضِّح فيه أنهم أسباط يسرائيل العشرة المفقودة. أما كتابه الدفاع عن اليهود (الذي نُشر بعد وفاته عام 1666) فقد بيَّن فيه أن الدين يجب أن يظل مسألة اختيارية، وبالتالي يجب ألا يُسمح للسلطات الدينية بأن تفرض شيئاً على أتباع الدين قسراً. وقد وجد مندلسون أن الكتاب من الأهمية بمكان بحيث طلب إلى أحد أصدقائه ترجمته، وكتب هو مقدمة له. ويُعَدُّ الكتاب، بذلك، من الكتب التي مهدت لحركة التنوير والعلمنة بين اليهود.
جـون تولانـد (1670- 1722)
John Toland
مفكر إنجليزي ودبلوماسي وعالم إنجيلي، وُلد ونشأ كاثوليكياً، ولكنه هرب وهو في سن السادسة عشرة ودخل الكنيسة الأنجليكانية. كان نشيطاً للغاية في المناقشات الدينية والسياسية في عصره (في بداية القرن الثامن عشر). كما كان من أوائل المفكرين الذين اتخذوا موقفاً عقلانياً من الدين، ومن المدافعين عن فلسفة الربوبية، أي عن الإيمان بالرب دون حاجة إلى دين أو وحي إلهي، وهي أولى حلقات علمنة العقل الغربي. وفلسفته، في جوهرها، فلسفة حلولية. ورغم تأثره بالفلسفة التجريبية الإنجليزية (لوك)، إلا أنه ظل عقلانياً على نمط برونو (ترجم بعض أعماله) وديكارت وإسبينوزا (كتب تعليقات على أعماله) ولايبنتس (تعرَّف إليه وتراسلا بعض الوقت)، وسواء أكان تجريبياً أم عقلانياً، فإن تولاند كان حلولياً. ويُقال إنه هو الذي نحت كلمة «بانثيزم pantheism» الإنجليزية.
نشر تولاند عام 1696 كتابه المسيحية لا تحتوي على أية أسرار حيث يذهب فيه إلى أن المسيحية ديانة عقلية يستطيع العقل البشري أن يدركها دون حاجة إلى وحي إلهي، وهذه هي الربوبية. وقد اتُّهم الكتاب بمعاداة عقيدة التثليث وأثار ضجة في حينه ظهرت في عدد الردود عليه التي زادت عن الخمسين. وفي عام 1698، كتب تولاند حياة ملتون التي يثير فيها قضايا تتصل بالعهد الجديد (وهل نصه محرف أو لا؟). وفي العام الذي يليه، نشر كتاب أمينتورا أو الدفاع عن حياة ملتون (1699) طوَّر فيه أطروحته السابقة. ويمكننا رؤية تَصاعُد معدلات العلمنة في كتابه المنشور عام 1720 بعنوان تيترا ديموس الذي يتضمن مقالاً يُقدِّم تفسيرات علمية طبيعية للمعجزات التي وردت في العهد القديم.
وقد كان تولاند يعرف اللغة السلتية، فدرس العقائد الدينية البدائية في إنجلترا، كما قام بدراسة العقيدة اليهودية في مراحلها الأولى. واستناداً إلى هذا، ألَّف كتابه خطابات لسيرينا عن أصل الأديان، وحاول أن يُبيِّن فيه (على طريقة الربوبيين) أن الكهنة (القساوسة) هم الذين أفسـدوا الدين وتاريخ خلـود الروح بين الوثنيين وأصـل عبادة الأوثان.
وقد بدأ تولاند يتجه نحو الدعوة لما يُسمَّى «الدين الطبيعي» ويُفسِّر معجزات العهد القديم تفسيراً طبيعياً مادياً. وتعمَّقت اتجاهات المادية الواحدية لديه، فترجم أحد أعمال جيوردانو برونو عام 1514 عن العالم اللامتناهي والعوالم اللانهائية. وآخر كتب تولاند هو الحلولية (1720) وهو كتاب غامض يضم شرحاً لفلسفة الحلولية ولبعض الأناشيد الغنوصية التي تسخر من العقيدة المسيحية ومحاولة لتقديم عقائد الحركة الماسونية ودفاع عن الإلحاد.
ولا تنبع أهمية تولاند من كتاباته الحلولية وشبه الوثنية وحسب، وإنما من كتاباته الصهيونية أيضاً، فقد نشر عام 1714 كتاباً يُسمَّى الأسباب الداعية لمنح الجنسية البريطانية لليهود الموجودين في بريطانيا العظمى وأيرلندا. ويطالب الكتاب بمنح الجنسية البريطانية لليهود حتى يتم اجتذاب المزيد منهم ليستوطنوا في إنجلترا كعناصر نافعة. وبعد أربعة أعوام، نشر تولاند كتاباً آخر بعنوان نازارينوس عن الإبيونيين يضم ملحقاً يحتوي على أفكار صهيونية، فرؤية تولاند رؤية حلولية كمونية مادية تُهمِّش الإله أو تلغيه وتضع الإنسان في مركز الكون، ولذا فإن العالم بأسره يصبح بالنسبة له مادة نافعة استعمالية يمكن توظيفها. ولكن الإنسان هنا هو كائن لا حدود له ولا قيود عليه، هو مرجعية ذاته. ولذا، يتحول التمركز الإنساني الهيوماني حول الإنسان إلى تمركز عرْقي مادي حول الإنسان الغربي. وحينما يُطبِّق تولاند هذا على الآخر (اليهود)، فإنه يرفضـهم تماماً ويُعبِّر عن احـتقاره العـميق لهـــم ولتراثهم التلمودي، الذي يرى أنه لا جدوى من ورائه ويؤدي إلى تشوه ما يسميه «الشخصية اليهودية».
وكحل للمسألة اليهودية، يطرح تولاند حلاًّ علمانياً إمبريالياً، فهو ينظر لليهود باعتبارهم مادة نافعة أو على الأقل مادة يمكن إصلاحها لتصبح نافعة، وهنا تظهر الصهيونية كتطبيق عملي للرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، إذ يقترح تولاند أن تقوم القوى العالمية (أي الغربية) بمساعدة اليهود على استرجاع أرضهم.
ويمكن أن نرى في كتابات تولاند كل عناصر المُركَّب الإدراكي الغربي الحديث للعالم ولليهود (مقابل المركب القديم الوسيط) وهي رؤية تدور في إطار رؤية حلولية كمونية.
إسحق دي بنتو (1715-1787)
Isaac De Pinto
أحد أثرياء اليهود، وأحد أكبر المساهمين في شركة الهند الشرقية الهولندية. من أصل ماراني برتغالي، وُلد في هولندا واستقر بين باريس ولندن ابتداءً من عام 1751. له مؤلفات فلسفية عن المادية، ودراسات عن البورصة والترف والثورة الأمريكية. وقد عارض الثورة الأمريكية، وعبَّر عن تأييده للحقوق الاقتصادية للدول المستعمرة. نشر دي بنتو دراسة عن الدورة المالية والائتمان بدأ كتابتها أثناء إقامته في باريس عام 1761، وهي محاولة للرد على نظرية الفيزيوقراط حيث يذهبون إلى أن الزراعة (ومن ثم الأرض) هي المصدر الأساسي لثروة الأمم وليس الصناعة. ودافع عن الائتمان ودورة رأس المال باعتبارهما الأشكال الأساسية في الاقتصاد مقابل ما سماه «جنون الأرض». ورغم أن هذه قضية اقتصادية عامة شغلت المفكرين السياسيين والاقتصاديين في القرن الثامن عشر، إلا أنها ارتبطت بشكل مباشر بالجماعـة اليهـودية التي لم تكن ممثَّلة على الإطلاق في الاقتصاد الزراعي، بل كانت مرتبطة تماماً بالاقتصاد التجاري الصناعي. وقد بيَّن دي بنتو أن الاقتصاد الثابت (الزراعي) يُجمِّد المجتمع بأسره مع أن حركية النشاط التجاري (العناصر الخارجية) يمكن أن تحقق حراكاً اجتماعياً. ولم يذكر دي بنتو اليهود مباشرة إلا في آخر الكتاب، حيث بيَّن أن العهد القديم لا يعارض الإقراض بالربا.
وفي الفترة ذاتها،وإبان إقامته في باريس،نشر فولتير ملحوظاته السلبية عن اليهود، فكتب دي بنتو خطاباً مفتوحاً له عام 1762 بعنوان دفاع الأمة اليهودية: تأملات نقدية.وجاءت في الكتاب أطروحة شديدة الأهمية،وهي أن الجماعات اليهودية في العالم اكتسبت خصائصها الحضارية من المجتمعات التي تعيش فيها،وأنها، لذلك، لا علاقة للواحدة منها بالأخرى. وقد وظَّف هذه الأطروحة في الدفاع عن السفارد البرتغاليين، إذ بيَّن أنهم لا علاقة لهم باليهود الإشكناز، وأنهم (السفارد) لا يختلفون عن شعوب أوربا المستنيرة إلا في العقيدة، بل يتنافسون معهم « في الأناقة والذوق ». ولأن السفارد من نسـل أنبل عائلات قبيلة يهودا وعاشـوا في إسـبانيا منذ السبي البابلي، فليس لهم أدنى علاقة عرْقية أو ثقافية بالإشكناز،بل إن السفارد يرفضون التزاوج أو الاتجار معهم.وبيَّن دي بنتو أنه يوافق فولتير على ما جاء في مقاله بشأن اليهود الإشكناز. غير أنه ينسب اضطلاعهم بوظائف وضيعة غير شريفة، مثل الربا،إلى معاناتهم وعذابهم والإذلال الذي تعرَّضوا ومازالوا يتعرَّضون له.وبهذا، فإن فكر بنتو يعتبر ثمرة من ثمرات عصر الاستنارة الذي يحاول تفسير تدهور أحوال اليهود على أساس تدهور أوضاعهم.
وكذلك، فإن دي بنتو قام بتأييد يعقوب رود ريجيز (1715 ـ 1780) حين تقدَّم بالتماس في عام 1760 إلى لويس الخامس عشر يطلب فيه ضرورة طرد اليهود الألمان (الإشكناز) ويهود أفينيون النازحين من الولايات البابوية. وقد وافقته الحكومة الفرنسية على طلبه الذي نُفِّذ في العام التالي.
آرون إيزاك (1730 – 1816)
Aron Isak
مؤسس الجماعة اليهودية في السويد وأول يهودي يُسمَح له بالإقامة فيها بصفة دائمة. وُلد في ألمانيا، واشتغل بائعاً متجولاً، ثم تعلَّم حفر الأختام ليصبح ماهراً ومتميِّزاً في هذه الحرفة. وخلال حرب السنوات السبع (1756 ـ 1763)، كانت له تعاملات مع الجيش السويدي حيث تعرَّف إلى كثير من ضباطه الذين شجعوه بعد انتهاء الحرب على الهجرة إلى السويد نظراً لعدم وجود أحد يحترف مهنة حفر الأختام بها (أي أن دعوته ليستوطن في السويد تمت باعتباره صاحــب كفــاءة غير متوافرة في المجتمع المضـيف). وبالفعل، وصل إلى السويد عام 1774 ولكنه وجد أن إقامة اليهود بها ممنوعة وفقاً للقانون وتحت تأثير المؤسسة الدينية البروتستانتية اللوثرية، التي كانت تشترط على أي مهاجر لا يعتنق المذهب اللوثري أن يُغيِّر دينه. ورفض إيزاك اعتناق المسيحية ودخل مفاوضات طويلة مع الحكومة السويدية حتى يُسمَح له ولغيره من اليهود بالاستقرار في السـويد وممارسـة شـعائرهم الدينية بشكل شرعي. ولم تكن الحكومة السويدية (وعلى رأسها الملك) تعارض استقرار إيزاك أو غيره من اليهود في السويد. ومن المؤكد أنها كانت على يقين من نَفْع اليهود والفائدة التي يمكن أن تجنيها من وراء استيطان أعضاء الجماعات اليهودية بها باعتبارهم جماعة وظيفية تُحوسَـل لصالح الطبقة الحاكمة والملك بسبب نفعها لهم. ولذلك فقد خططت الحكومة لفتح باب الهجرة أمامهم، ولكن مساعيها في هذا المجال قُوبلَت بالرفض والمقاومة من كلٍّ من المؤسسة الدينية وأعضاء الطبقة المتوسطة والجماهير الشعبية.
ولابد أن أعضاء الطبقة البورجوازية الناهضة في السويد كانوا على علم بدور يهود الأرندا في بولندا، التي كانت على علاقة وثيقة بالسويد والتي احتلت السويد أجزاء منها بعض الوقت، ذلك أن طبقة النبلاء من الشلاختا استخدمت يهود الأرندا في ضرب البورجوازية البولندية وإحباط كل جهودها في تحقيق شيء من التراكم الرأسمالي والمشاركة في السلطة. ولذا، فإننا نجد أن معارضة استقرار أعضاء الجماعات اليهودية لم تكن مقصورة على المؤسسة الدينية، فقد قادها أعضاء البورجوازية في السويد، وبخاصة تلك القطاعات التي كانت ستُضار بشكل مباشر من استقرار اليهود، مثل فئة الصياغ وتجار الجواهر المسيحيين، بل انضم للمعارضة بعض اليهود المتنصرين (ربما بسبب تخوفهم مما قد تشكله هجرة أعضاء الجماعة اليهودية على نطاق واسع من منافسة لهم، ومن تهديد لمكانتهم الاجتماعية).
وبدأت عملية توطين اليهود في السويد بفتح باب الهجرة أمامهم عام 1745، فوقفت المؤسسة الدينية والبورجوازية ضد هذا الإجراء. ولكن عمدة إستكهولم شجع آرون إيزاك على البقاء في السويد بعد أن رُفـض طلـبه أول مرة، أرشده إلى الإجراءات اللازمة لتقديم التماس للمـلك، وقد قُبل هذا الالتماس وسُمح لإيزاك بالإقامة هو وشقيقه وشريكه وأسرهم، كما سمحت السويد عام 1779 بحرية العبادة الدينية.
وتدعَّم وضع إيزاك بالتدريج، وبخاصة بعد أن قدم للملك السويدي خدمات مهمة خلال حربه ضد روسيا (1788 ـ 1789)، واستقر وضع الجماعة اليهودية كما تزايد عدد أفرادها، وترأسها إيزاك بعد أن استقر في إستكهولم حتى وفاته. وفي عام 1804، انتهى إيزاك من كتابة مذكراته التي دبجها باليديشية.
حاييـم سالومون (1740-1785)
Haym Salomon
تاجر ومالي أمريكي يهودي، وأحد الشخصيات البارزة في حرب الاستقلال الأمريكية. وُلد في بولندا ثم هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1775 حيث عمل في عدة مهام من تلك التي كان يضطلع بها أعضاء الجماعات اليهودية (السمسرة ـ العمل كمتعهد عسكري ـ التجسس ـ الترجمة)، وهو ما يُبيِّن تأثير الموروث الاقتصادي فيه. فافتتح أولاً مكتباً للسمسرة والتجارة بالعمولة في نيويورك، واستطاع بفضل درايته الواسعة باللغات وخبرته المالية وعلاقته الوثيقة بالعديد من الشخصيات المالية والتجارية الأوربية أن يتقدم سريعاً في وطنه الجديد. ثم عمل عام 1776 متعهد تموين للجيش الأمريكي. وبعد احتلال البريطانيين لمدينة نيويورك، سُجن بتهمة التجسس، ثم أُفرج عنه وعُيِّن مترجماً في قسم التموين في الجيش البريطاني. كذلك نجح سالومون في إدارة تجارة مربحة للتموين في نيويورك في ظل الوجود البريطاني. ولكنه قام في الوقت نفسه بتقديم المعلومات للجانب الأمريكي والمساعدة في تهريب السجناء الأمريكيين والفرنسيين، وهو ما اضطره إلى الفرار إلى فيلادلفيا عام 1778 عقب افتضاح أمره. وفي فيلادلفيا أسس مكتباً جديداً للسمسرة في الأوراق المالية والتجارية وقدم خدماته المالية للجيش الفرنسي المتمركز في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يعمل سمساراً ومديراً لماليته. وفي عام 1781، اختير سالومون ليصبح مساعداً لروبرت موريـس رئيس مكتب المالية (وقد وصفـه موريـس بأنه "نافع للصالح العام"). وقد أشرف سالومون على أغلب المعاملات المالية المهمة للدولة الأمريكية الجديدة، كما قام بتدبير قروض بلا فائدة لعدد كبير من الشـخصيات الأمريكية المهمة (من بينهم بعض الرؤسـاء اللاحقين). وفي عام 1784، وسَّع نطاق أعماله فافتتح في نيويورك بيتاً للسمسرة والبيع بالمزاد، كما ساهم في تأسيس أول معبد يهودي في فيلادلفيا، وعمل من أجل إقرار حقوق اليهود السياسية، وكان عضواً نشيطاً في الحركة الماسونية. وقد تبيَّن بعد وفاته أنه مات مفلساً.
كريســـتيان دوم (1751-1820(
Christian Dohm
كاتب ومؤرخ ألماني وأحد المدافعين عن إعتاق اليهود وإصلاحهم ودمجهم. درس اللاهوت وانخرط في سلك الحكومة الروسية، وكان يعمل مشرفاً على الأرشيف الملكي حيث قابل موسى مندلسون ونشأت بينهما صداقة. وقد ألَّف كتابه بخصوص إصلاح مكانة اليهود المدنية عام 1781 بناءً على طلب أحد أصدقائه لمناقشة أحوال يهود الألزاس واللورين والدفاع عنهم. وقد طرح دوم فكره منطلقاً من فكرة المنفعة ونفع اليهود، ومن فكر آدم سميث، وكذلك من فكرة القانون الطبيعي وتطبيقها في عالم الاقتصاد. ويعني هذا أنه انطلق من الإيمان بضرورة علمنة القطاع الاقتصادي علمنة تامة وتجريده من أية خصوصية قومية أو أخلاقية، بحيث يصبح الهدف الأوحد هو إنتاج الثروة وتعظيمها بكل السـبل المتاحة. ولتحقـيق هذا، لابد من تجنـيد أكبر عدد ممكن من البشر، فكلما زاد عدد المنتجين زاد النفع ومن ثم زاد الرخاء. وقد أشار دوم إلى الولايات المتحدة (التجربة العلمانية الشاملة الكبرى) باعتبارها مثالاً على دولة نجحت في تجربتها الاقتصادية بسبب عدم التفرقة بين الناس، فهم بالنسبة إليها مادة بشرية منتجة، وأعطتهم جميعهم حقوقهم المدنية حتى يصبحوا نافعين منتجين. وانطلاقاً من هذا المفهوم الليبرالي العلماني، بدأ دوم في النظر إلى المسألة اليهودية مشيراً إلى أن شخصية اليهود الشريرة، ووضعهم المتدني في المجتمع، وضعف خدماتهم للاقتـصاد القومي، ليـست نابعة منهم هم أنفـسهم ولا من دينهم. وقد لاحظ دوم أن العقيدة اليهودية تشجِّع اليهود على ضيق الأفق، وأنهم يتسمون بالمبالغة في البحث عن الربح بأية طريقة وبحب الربا، وهي عيوب ساعدت على تفاقمها العزلة التي يضربونها على أنفسهم بسبب مبادئهم الدينية وسفسطتهم الحاخامية. وأضاف أن الجرائم التي يرتكبها اليهود، مثل خرق قوانين الدولة التي تحدُّ من التجارة واستيراد وتصدير السلع الممنوعة وتزييف النقود والمعادن الثمينة، هي نتيجة طبيعية وحتمية لعيوب الشخصية اليهودية. ولكنه يُلاحظ أن اليهود يتَّسمون أيضاً بالحكمة والعقل الثاقب، وهم مجدُّون ومثابرون ويمكنهم أن يشقُّوا طريقهم في أي موقف. ولنلاحظ أن الصفات الحميدة التي يكتشفها في اليهود هي ما يمكن أن نصنفه باعتباره صفات إجرائية (أو علمانية) لا علاقة لها بالأخلاق، فهم مادة بشرية جيدة.
ماذا حدث إذن لليهود حتى تشوَّهت شخصيتهم على هذا النحو؟ يرى دوم أن عوامل مختلفة مثل التعصب المسيحي، وموقف الدولة منهم منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، ومنعهم من الاشتغال بالزراعة، ولَّدت الشكّ في نفوسهم تجاه المسيحية والدولة القومية، فاهتموا بمصالحهم الاقتصادية دون مصالح الدولة، واشتغلوا بالتجارة اليهودية الصغيرة وحدها، وانهارت شخصيتهم، وازدادوا تمسكاً بديانتهم المفعمة بكره المسيحيين.
ويرى دوم أن اليهود من الممكن أن يصبحوا مواطنين يدينون بالولاء لوطنهم إذا أُلغيَت التفرقة ضدهم واضطهادهم، وإذا تم تلقينهم القيم العلمانية الجديدة التي تضمن الولاء للدولة (المطلق الجديد). ثم يقترح استصدار عدة تشريعات تهدف إلى تحسين وضع اليهود، ومن ثم إصلاح شخصيتهم، فاقترح أن يحصل اليهود على حقوقهم المدنية كاملةً، وإلغاء القيود المفروضة على حركتهم الاقتصادية، وأن يتم تشجيعهم على الاشتراك في الثقافة السائدة (أي أن يتخلوا عن ثقافتهم اليديشية) وإتاحة فرص التعليم العلماني أمامهم. كما ذهب دوم إلى ضرورة الإشراف على مدارس اليهود لاستبعاد العناصر غير الاجتماعية في ثقافتهم التي تشجِّع عداءهم للأغيار. ونادى بضرورة أن يتم تشجيعهم على الاشتغال بالحرف اليدوية، وأن يتعلموا العلوم والفنون كافة، وأن يتعلموا احترام الدول واحترام كل واجباتهم تجاهها. كما طالب دوم بمنحهم حرية العبادة، وبناء المعابد، وحرية الالتحاق بالمدارس المسيحية أيضاً. فاليهود بهذه الطريقة يمكن أن يصبحوا نافعين بالنسبة إلى دولة تريد أن تزيد من عدد سكانها وقوتها الإنتاجية. واليهود على كل حال مفضلون عن أي مستوطنين جدد لأنهم ذوو جذور في البلاد التي يقطنونها أكثر من الأجنبي الذي عاش في البلد بعض الوقت. وقد لاحظ دوم أنه قد بدأ يظهر رعيل جديد من المثقفين اليهود من دعاة التنوير يتبنون هذه الأفكار المستنيرة.
ومـع هـذا، طالب دوم بأن يُعتَق اليهــود لا باعتبـارهم أفـراداً، وإنما باعتبارهم مجموعة عضوية متماسكة، وأن يظلوا جماعة قومية دينية تبقى داخل الجيتو لها مؤسسات الإدارة الذاتية الخاصة بها، وألا يشـغلوا وظائـف عامـة مهمَّة حتى لا يثيروا حفيظة المواطنين المسيحيين. ومعنى هذا أن دوم كان يود تحويل اليهـود إلى مادة نافعة متماسكة تعيش في وسط المجتمع الألماني فيمكنه الاستفادة منها، على ألا تصـبح جــزءاً منه، وأن يظل اليهـود في المجتمع دون أن يكونوا منه. وهذه هي بقايا رؤية اليهود كشعب شاهــد أو أداة للخــلاص أو جمــاعة وظيفــية. وهي الرؤية الصهيونية لليهود ولإسرائيل في الشرق العربي، وهي أيضاً الرؤية النازية لأعضاء الجمـاعة اليهـودية. وانطــلاقاً من هـذا، تم تأسيس معســكرات الاعتـقال النازيـة وجيتو وارسـو النازي. وغني عن القول أن الفيلسوف مندلسون عارض هذا الجانب من المشروع.
نابليــــون بونابــرت (1769-1821)
Napoleon Bonaparte
إمبراطور فرنسا في الفترة بين 1804 ـ 1814، وهو يُعَدُّ من أهم القادة العسكريين في التاريخ ويتمتع بمقدرات إدارية. وُلد نابليون في جزيرة كورسيكا وتولى قيادة الجيش الجمهوري أثناء حروب الثورة الفرنسية، وأحرز نجاحاً كبيراً في حملته على إيطاليا (1796 ـ 1797 ) ، ولكن حملته على مصر (1798 ـ 1799) أخفقت تماماً. وعاد إلى فرنسا والحكومة الثورية على وشك الانهيار، فقام بانقلاب عسكري واستولى على الحكم وقاد حروب فرنسا «الثورية». ثم أدخل إصلاحات على النظام التعليمي وفي مجال القانون ونظَّم العلاقة مع الكنيسة (1801)، ثم أصبح إمبراطوراً عام 1804، وبدأ في تكوين أرستقراطية جديدة وبلاط ملكي. وقد امتدت رقعة الإمبراطورية الفرنسية في عهده لتضم كل أوربا تقريباً. وساهم في تحديث أوربا ومؤسساتها السياسية والإدارية من خلال غزواته. ولكن شوكة نابليون انكسرت حينما حاول غزو روسيا، وانتهى الأمر بأن هُزم تماماً ونُفي إلى جزيرة إلبا (1814) ثم إلى سانت هيلينا (1815).
وتأخذ علاقة نابليون بالجماعات اليهودية ثلاثة أشكال، تستند في معظمها إلى مبدأ نَفْع اليهود:
1 ـ كانت جيوش فرنسا تكتسح النظم الإقطاعية في طريقها وتنصب نظماً أكثر ليبرالية. وقد وصلت هذه الجيوش حتى بولندا، حيث كانت توجد الكثافة السكانية اليهودية. وأينما حلَّت هذه الجيوش، كانت تقوم بإعتـاق أعضـاء الجماعات اليهودية ووضْع أسـس تحديث هوياتهم المختلفة. ورغم هزيمة جيوش فرنسا ونابليون، فإن العملية التاريخية التي بدأتها هذه الجيوش كان لها أعمق الأثر في أعضاء الجماعات اليهودية. ومع هذا، لابد من الإشارة إلى أن نابليون قام بتجنيد بعض أعضاء الجماعة اليهودية في روسيا واستغلهم كطابور خامس خلال حربه مع روسيا، أي أنه حولهم إلى جماعة وظيفية جاسوسية (لكن غالبية يهود روسيا الساحقة وقفت ضد نابليون وساعدت الحكومة القيصرية).
2 ـ كان لعلاقة نابليون بأعضاء الجماعات اليهودية في فرنسا أعمق الأثر فيهم. فبعد اندلاع الثورة وإعتاق اليهود في فرنسا، انتشر يهود الألزاس (الإشكناز) الذين كانوا متخلفين حضارياً ويعملون أساساً بالتجارة والأعمال الطفيلية كما كانوا يعملون بالربا، وهو ما أدَّى إلى ظهور مشكلة بينهم وبين فلاحي الألزاس. وقد نشأت مسألة يهودية إشكنازية في فرنسا لم يكن السفارد طرفاً فيها، فأبدى الإمبراطور اهتماماً بالقضية (عام 1806 ) دعا مجلس وجهاء اليهود في باريس، وجمَّد بشكل مؤقت الديون التي اقترضها الفلاحون من المرابين اليهود. وقام الوجهاء بمناقشة القضايا التي قدمتها لهم السلطات مثل: عادات الزواج بين اليهود، والأعمال التي يقومون بها، وواجبهم تجاه الدولة، ومدى إحساسهم بالولاء تجاهها والانتماء إليها. ووافق المجتمعون على أن ولاءهم يتجه إلى الدولة الفرنسية أساساً، وأن اليهود يشكِّلون جماعة دينية، لا جماعة قومية أو إثنية أو عرْقية. ثم دعا نابليون عام 1807 لعقد السنهدرين الأكبر، وأسَّس إدارة يهودية مركزية تعمل من خلال مجالس مختلفة هي المجالس الكنسية. ولا يزال هذا النمط هو المعمول به في فرنسا بل طُبِّق أيضاً في الجزائر. ثم أصدر نابليون قرارات تحد من النشاط التجاري والمالي لليهود؛ ليتحوَّلوا إلى عناصر نافعة في المجتمع مندمجة فيه، كما أصدر قرارات تشجعهم على الاشتغال بالزراعة والصناعة لدمجهم في المجتمع الفرنسي.
3 ـ قام نابليون بأولى حملات الثورة الفرنسية الاستعمارية في الشرق، فاحتل مصر عام 1798. وكانت حكومة الإدارة الفرنسية قد أعدت خطة لإقامة كومنولث يهودي في فلسطين، وذلك مقابل تقديم المموِّلين اليهود قروضاً مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمر آنذاك بضائقة مالية. وكان المفروض أن يموِّل اليهود الحملة المتجهة صوب الشرق، وأن يتعهدوا ببث الفوضى وإشعال الفتنة وإحلال الأزمات في المناطق التي سيرتادها الجيش الفرنسي لتسهيل أمر احتلالها. ويبدو أن نابليون كان مطلعاً على الخطة. ولذا، فقد أصدر، بمجرد وصوله إلى مصر، بياناً يحث فيه اليهود على الالتفاف حول رايته لإعادة مجدهم الغابر ولإعادة بناء مملكة القدس القديمة، أي أن نابليون أصدر أول وعد بلفوري في تاريخ أوربا.
وكانت أهداف نابليون مركبة:
1 ـ كان نابليون يحذو حذو مؤسسي الإمبراطوريات الذين كانوا يهتمون بفلسطين لأهميتها الإستراتيجية، ولذا كانوا يحاولون غَرْس عنصر سكاني موال لهم. ويبدو أن نابليون وجد في يهود الشرق ضالته، حيث يمكن تحويلهم إلى مادة استيطانية تدور في مدار المصالح الفرنسية وتكون عوناً له في دعم نفوذه وتثبيت سلطانه. واليهود إن وُطِّنوا في فلسطين فإنهم سيكونون بمثابة حاجز مادي بشري يفصل ما بين مصر وسوريا، ويدعِّم الاحتلال الفرنسي، ويهدِّد المصالح البريطانية من خلال إغلاق طرق مواصلاتها إلى الهند. ويبدو أن نابليون كان يحاول كسب رضا وتأييد حاييم فارحي، اليهودي الذي كان يتمتع بنفوذ مالي في عكا ويتولى مسئولية تزويدها بالمؤن الغذائية. وأخيراً، فإن نابليون كان يهمه كسب ثقة يهود فرنسا ودعمهم المالي في صراعه الذي بات وشيك الوقوع مع حكومة الإدارة.
2 ـ ولكن، مهما كانت الدوافع، فإن نابليون كان من نتاج عصر الاستنارة، وكان نفعياً لا يؤمن بأية عقيدة دينية، ولذا فإنه لم يكن ليتوانى عن استغلال الدين أو أية عقيدة أخرى. وعلى هذا، فإنه، في ندائه إلى يهود العالم، يتحدث عن حقوقهم التي وردت في العهد القديم وعن احترام الأنبياء (وهو لا يؤمن بأيٍّ منهم). وحينما يصل إلى مصر، فإنه يتحدث عن الإسلام بإجلال شديد ويعلن أنه لم يأت إلى ديار المسلمين إلا للدفاع عن الإسلام ولحمايتهم من الظلم.
ومما يجدر ملاحظته أنه، على الرغم من أن سياسة نابليون بالنسبة ليهود فرنسا كانت ترمي إلى تحويلهم من جماعة وظيفية وسيطة لها سماتها وخصوصيتها إلى جزء من التشكيل الطبقي والحضاري الفرنسي، لا خصوصية له بل مندمج تماماً في محيطه، فإن سياسته في الشرق كانت تقف على الطرف النقيض من ذلك، فقد كانت ترمي إلى تأكيد خصوصية اليهود باعتبارهم شعباً عضوياً، إذ أن هذه الخصوصية هي مصدر عزلتهم، وعزلتهم هي التي ستجعل بالإمكان تحويلهم إلى جماعة وظيفية قتالية استيطانية تُوطَّن في فلسطين لتقوم على خدمة الاستعمار الفرنسي والغربي.
ويُلاحَظ أن المسألة الشرقية، أي ضعف الدولة العثمانية والميراث الذي ستتركه بعد موتها، قد بدأت تلتقي بالمسألة اليهودية. وتتبدَّى عبقرية نابليون في أنه قرر توظيف المسألة اليهودية والجماعات اليهودية في حل المسألة الشرقية حلاًّ يتناسب مع مصالحه.
والنمط الكامن في تفكير نابليون هو أيضاً النمط الكامن في النظرية الاستعمارية الغربية تجاه الشرق وتجاه أعضاء الجماعات اليهودية، وقد تبدى هذا النمط في وعد بلفور في بداية الأمر، ثم وصل ذروته مع توقيع الاتفاق الإسـتراتيجي بين إسـرائيل والولايات المتحـدة عام 1982.
تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج
Productivization of the Jews
«تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج» عبارة إصطلاحية تُستخدَم للإشارة إلى المحاولات التي قامت بها حكومات فرنسا وروسيا وبولندا، وبعض حكومات وسط أوربا، مثل النمسا، لتحويل اليهود عن الاشتغال بالتجارة البدائية والربا وبعض الحرف الأخرى التي كانوا يقومون بها كجماعة وظيفية وسيطة، وتشجيعهم على الاشتغال بالزراعة والحرف والوظائف الأخرى. وقد نجحت المحاولة في فرنسا، ولكنها تعثَّرت في جاليشيا وروسيا وغيرهما من المناطق، وهو ما اضطر الحكومة الروسية، على سبيل المثال، إلى إصدار قوانين مايو1881. ونحن نفضل استخدام مصطلح «تحديث اليهود» فهو أكثر عمومية وحياداً، ولا يحمل أية تضمينات قدحية، وخصوصاً أن اليهود لم يكونوا قط غير منتجين في المجتمعـات الزراعية التقليدية، وإنما أصبـحوا كذلك نتيجة تطور المجتمع. كما أن المصطلح يؤكد العلاقة بين التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي خاضتها الجماعات اليهودية في شرق أوربا والتحولات الاجتماعية المماثلة التي مرت بها الأقليات الاقتصادية والإثنية التي تلعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة في مجتمعات أخرى، كالصينيين في شرق آسيا.
وقد دخل المصطلح في الأدبيات الصهيونية العمالية التي تنطلق من الإيمـان بهامشـية وطفيلية يهود المنفى والشـتات وتنـادي بضرورة تطبيعهم.
تطبيــــع الشـخصيـــة اليهــوديـــة
Normalization of the Jewish Character
بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد، شاع مصطلح «تطبيع» في الخطاب السياسي في مصر، بمعنى محاولة جعل العلاقات بين مصر والدولة الصهيونية علاقات عادية طبيعية مثل العلاقات التي تنشأ بين أي دولتين. ولكن المصطلح في الأدبيات الصهيونية، حينما يُستخدَم للإشارة إلى ما يُسمَّى «الشخصية اليهودية»، تكون له مدلولات مختلفة تماماً. وقد شاع المصطلح في أوربا ابتداءً من القرن الثامن عشر مع مصطلحات أخرى إما مشابهة أو مرتبطة به، مثل «تحويل اليهود إلى قطاع منتج» أو «نفع اليهود»، وهي كلها مصطلحات تفترض شذوذ وضع اليهود وهامشيتهم، وتؤكد الحاجة إلى تغييره عن طريق «إصلاح اليهود» وتحويلهم إلى مادة بشرية استعمالية نافعة يمكن توظيفها في خدمة المجتمع، وهذا يعني أن يصبح اليهودي إنساناً طبيعياً لا يختلف عن غيره من البشر (والإنسان الطبيعي هو مفهوم محوري في فكر عصر الاستنارة) الذي ركَّز على العناصر العامة في البشر، وحاول أن يقلل من أهمية الخصوصيات وأن يلغيها تماماً.
ولكن الظاهرة نفسها، بغض النظر عن المصطلح، تعود إلى تواريخ قديمة، فقد كانت الحاجة إلى تطبيع اليهود أو إصلاحهم تنشأ حينما يواجهون حضارة متفوقة، كما حدث عند التهجير البابلي. وبرزت الظاهرة ذاتها بشكل أكثر إثارة في العصر الهيليني، إذ بدأ أعضاء الجماعة اليهودية التي كانت متركزة أساساً في فلسطين ثم في مصر يشـعرون بالإحسـاس بالنقص وبالتدني الحضـاري إزاء الحضارة المتفوقة، فاصطنعوا أساليبها، وتأغرقت أعداد كبيرة منهم، وبخاصة أعضاء الطبقات الثرية، وبذلوا جهداً غير عادي ليصبحوا مثل الإغريق. وعلى سبيل المثال، كان بعض اليهود الذين يشتركون في الألعاب الأولمبية يجرون عملية جراحية تجميلية حتى يبدو وكأنهم لم يُختنوا (أي حتى يبدوا وكأنهم مواطنون طبيعيون) فلا يكونوا محط سخرية المشاهدين أو نساء الأغيار. ويمكن اعتبار الحركات المشيحانية أول محاولات تطبيع اليهود في الواقع. ولذا، كان من أهداف هذه الحركات إسقاط الأوامر والنواهي المسئولة عن تميُّز اليهود وعزلتهم.
ولكن عملية التطبيع التي تهمنا هي التي بدأت في نهاية القرن الثامن عشر نتيجةً للانقلاب الصناعي الرأسمالي في الغرب، والتحولات البنيوية التي خاضتها المجتمعات الغربية، إذ أدَّت هذه التحولات إلى ظهور الدولة القومية الحديثة والرأسمالية الرشيدة والاقتصاد الحديث مما أدَّى إلى الاستغناء عن الجماعات الوظيفية، اليهودية وغير اليهودية، وقد تطلَّب هذا التحول نوعية جديدة من المواطنين ذوي كفاءات وولاءات محددة يختلفون بشكل جوهري عن عضو الجماعة الوظيفية. وقد كان مؤسسو الدولة القومية الحديثة في غرب أوربا ووسطها وشرقها يرون أن اليهود، بوضعهم الذي كانوا عليه، كجماعات وظيفية وسيطة، أصبحوا شخصيات هامشية غير منتجة وغير محددة الولاء أو الانتماء ودون دور محدد تلعبه، أي أن وَضْعهم لم يعُد طبيعياً في الإطار القومي المركزي الجديد. ولذا، ينبغي تطبيعهم، أي صبغهم بالصبغة القومية ليتم دمجهم في المجتمع. فأصدرت حكومة فرنسا ثم النمسا وروسيا وغيرها قرارات لإعادة صياغة هوية أعضاء الجماعات. وقد تفاوتت درجات نجاح المحاولة وإخفاقها من بلد إلى آخر.
والتطبيع هو أيضاً من أهـم المفاهيم المحـورية في الفكر الصهيوني، فهو العملية التي يتخلَّص اليهودي من خلالها من أمراض المنفى أو الشـتات (الانتشـار في العـالم) خـارج الوطن القومي، والتي تتمثل في عقلية استجداء الأغـيار والاعتماد السياسي عليهم وتتمثَّل كذلك في ازدواج الولاء. وهي تعني أيضاً التخلُّص من أية قداسة يخلعها عليه تراثه الديني، وبالتالي يتعيَّن على اليهود الجدد من المستوطنين الصهاينة ألا ينغمسوا في أعمال السمسرة والمضاربات والأعمال الهامشية غير المنتجة مثل بني ملتهم أو جلدتهم من يهود المنفى، وعليهم أن يتحولوا إلى شعب يهودي منتج بمعنى الكلمة، يسيطر على كل مراحل العملية الإنتاجية، وبالتالي على مصيره الاقتصادي والسياسي. كما أن عليهم أن يطرحوا كل المفاهيم الدينية مثل «الشعب المختار» و«الالتزام بأداء الأوامر والنواهي»، وأية مطلقات دينية أو أخلاقية. وقد عبَّر المفكر الصهيوني العمالي دوف بير بوروخوف عن القضية نفسها بقوله إن اليهود أعضاء في هرم إنتاجي (أي أنهم مادة إنتاجية)، وأن الحل الصهـيوني يتلخَّص في أن يقـف الهــرم الإنتاجي اليهودي على قاعدته، بحيث يتركز اليهود في العمليات الإنتاجية في قاعدة الهرم ويعملون بأيديهم وتصبح أغلبيتهم من العمال والفلاحين، أما المهنيون والعاملون في القطاع التجاري والمالي فإنهم يصبحون قلة في قمة الهرم، شأنهم في هذا شأن قرنائهم في أي مجتمع آخر. وهذا ما يُطلَق عليه مصطلح «العمل العبري» و«غزو العمل»، أي أن يستولى الصهيوني على الأرض عن طريق العنف الذي يُطهِّره من مخـاوف المنفى، ويعمل فيهـا بيديه ويسيـطر على كل مراحـل الإنتاج. وهو، إن فعل، يكون قد أنجز الثورة الصهيونية الحقَّة، فاستولى على الأرض وزرعها، وعلى الهيكل الاقتصادي وعمل فيه، وعلى الهيكل السياسي وتحكَّم فيه. ثم تحوَّل هو نفسه من شخصية هامشية خائفة لا سيادة لها، إلى شخصية شجاعة منتجة ذات سيادة قومـية، وبذلك يكـون قد تم تطــبيعه، ويصير اليهود شعباً، مثلهم مثل كل الشعوب، لهم وطنهم ولغتهم وجيشهم. ومن هنا، لا يكون الاستيطان الإحلالي (الاستيلاء على الأرض وطرد سكانها والعمل فيها) مجرد فعل خارجي يحمل مدلولاً اقتصادياً محدوداً، وإنما فعل شامل ذو أبعاد سياسية وقومية، وفي نهاية الأمر نفسية. وهو أيضاً يحل مشكلة المعنى بالنسبة للصهاينة، ويُعقلن وجـودهم في فلسـطين التي تلفظـهم والتي يقاتل أهلها ضدهم.
يتبع إن شاء الله...