الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة
اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثـة Judaism, Members of Jewish Communities, and Post-Modernism
لوحظ أن كثيراً من دعاة ما بعد الحداثة إما يهود أو من أصل يهودي (جاك دريدا ـ إدمون جابيس ـ هارولد بلوم... إلخ). وقد أثرت ما بعد الحداثة في العقيدة اليهودية، وفي كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية.
وسنتناول في مداخل هذا الباب جذور ما بعد الحداثة في العقيدة اليهودية، وفي وضـع اليهـود في الحضـارة الغربيــة، وفـكر بعض دعاة ما بعد الحـداثـة من اليهـود. أما أثر ما بعـد الحداثــة فـي العقيدة اليهودية فسندرسه في القسم المعنون «لاهوت موت الإله».
ونحن نذهب إلى أن العلمانية الشاملة تؤدي في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى فصل كل مجالات النشاط الإنساني عن الإنسان ليشير كل مجال إلى نفسه ويستمد معياريته من ذاته وهذا ما يُسمَّى «التحييد» الذي يتصاعد إلى أن يصبح العالم بأسره مجالات محايدة لا يربطها رابط فيتفكك وتختفي أية معيارية إنسانية عامة. وتتآكل القيم والمفاهيم الكلية وتسود النسبية التي تنكر على الإنسان المقدرة على تجاوز صيرورة عالم الطبيعة المادة والحركة فيسقط في قبضتها تماماً وتسقط فكرة الحقيقة والحق والخير والجمال والكل، ثم تسقط فكرة الطبيعة نفسها (البشرية والمادية) في قبضة الصيرورة، أي تسقط كل المنظومات المعرفية والأخلاقية والجمالية، فهي عملية تفكيك كاملة. وهذا الانتقال من عالم متماسك فيه مرجعية ومعيارية (حتى لو كانت مادية) إلى عالم متفكك بلا مرجعية أو معيارية، هو الانتقال من عصر التحديث والحداثة (الصلب) إلى عصر ما بعد الحداثة (السائل).
والعلمانية الشاملة شكل من أشكال الحلولية الكمونية. ونذهب إلى القول بأن المتتالية النماذجية العلمانية تبدأ بحلول مركز الكون في الكون نفسه. ورغم حلوله في الكون إلا أنه يظل مصدر تماسك الكون ويمكن أن يتم التجاوز باسمه، وفي هذا الإطار يحاول الإنسان أن يستمد معياريته من الطبيعة، وهذه هي مرحلة التحديث البطولية والثنائية الصلبة. ولكن درجات الحلول تزداد تدريجياً ويتوزع المركز الكامن في أكثر من عنصر واحد حتى تصبح كل عناصر الواقع موضع الحلول والكمون فتصبح كل الأشياء مقدَّسة، ويتساوى المقدَّس والمدنَّس، والمطلق والنسبي، ويختفي المركز وتصبح كل الأمور نسبية، وهذه مرحلة وحدة الوجود المادية الكاملة وما بعد الحداثة.
ويمكننا أن نصف ما بعد الحداثة بأنها حالة من التعددية المفرطة التي تؤدي إلى اختفاء المركز وتساوي كل الأشياء وسقوطها في قبضة الصيرورة بحيث لا يبقى شيء متجاوز لقانون الحركة (المادية أو التاريخية)، فتصبح كل الأمور نسبية وتغيب المرجعية والمعيارية، بل ويختفي مفهوم الإنسانية المشتركة (باعتباره معيارية أخيرة ونهائية). فتَفْسُد اللغة كأداة للتواصل بين البشر وينفصل الدال عن المدلول وتطفو الدوال وتتراقص دون منطق واضح فيما يُطلَق عليه «رقص الدوال»، وتختفي فكرة الكل تماماً. وما بعد الحداثة تعبير عن انتقال الفكر الغربي من مرحلة الثنائية الصلبة إلى مرحلة الحلولية الكمونية الكاملة والسيولة حيث يختفي المركز تماماً.
التبـادل الاختياري بين اليهودية وأعضاء الجماعات اليهـودية وما بعد الحداثة
Elective Affinity between Judaism and Members of Jewish Communities and Post-Modernism
يرى بعض دعاة ما بعد الحداثة (من أعضاء الجماعات اليهودية ومن غير اليهود) أن ثمة عناصر في اليهودية وفي وضع أعضاء الجماعات اليهودية تجعلهم يتجهون نحو ما بعد الحداثة فيتأثرون بها ويساهمون في فكرها بشكل ملحوظ. وفي بقية هذا المدخل سنورد بعض آرائهم ونعبِّر عنها بمصطلحاتهم، ولكننا نستخدم أحياناً مصطلحنا لفك شفرة مصطلحاتهم ولتوضيح أبعادها الفلسفية الكامنة.
ولنبدأ بالعناصر الموجودة داخل التراث اليهودي:
1 ـ نحن نذهب إلى أن العقيدة اليهودية تضم عدداً من العقائد غير المتجانسة والمتناقضة بشكل عميق (ومن هنا إمكانية الحديث عن «يهودي ملحد» داخل إطار العقيدة اليهودية). ولذا فنحن نستخدم عبارة «اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي» لنصف هذا الوضع. فالتركيب الجيولوجي يتسم بأنه يتكون من طبقات جامدة مستقلة، تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تلغ أية طبقة جديدة ما قبلها، ولذا تتجاور الطبقات وتتزامن وتتواجد مع بعضها البعض، ولكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تلغي الواحدة الأخرى. وقد أشار الفيلسوف إسبينوزا، حين طُرد من حظيرة الدين اليهودي، إلى أن مجلس السنهدرين، أعلى سلطة دينية يهودية في عصر المسيح وهو الذي قام بمحاكمته، كان يسيطر عليه فريقان دينيان: الصدوقيون والفريسيون. وبينما كان الفريق الأول لا يؤمن بالبعث أو اليوم الآخر كان الفريق الثاني يؤمن بهما. ومع هذا تعايشا وتقاسما السلطة الدينية. فكأن اليهودية تفتقر إلى معيارية حقيقية واحدة محددة، ولذا فمن الممكن أن يشير الدال الواحد إلى مدلولين متناقضين.
2 ـ تذهب العقيدة اليهودية (في شكلها الحاخامي) إلى أن التوراة هي الشريعة المكتوبة، ولكنها ليست الشريعة الوحيدة، إذ يؤمن اليهود بأن هناك ما يُسمَّى «الشريعة الشفوية» وأن الإله أعطى كلا من الشريعتين، المكتوبة والشـفهية، لموسى في جبل سـيناء. وقد توارث كل اليهـود الأولى، أما الثانية فقد توارثها الحاخامات، والتفسيرات الحاخامية التي دُوِّنت في التلمود هي هذه الشريعة الشفوية. وتذهب العقيدة اليهـودية (في شـكلها الحاخامي) إلى أن الشـريعتين متساويتان في الأهمية، بل إن الشريعة الشـفوية أكثر أهمـية من الشريعة المكتـوبة وتجُبّها. كل هذا يعني أن الثابت هو المتغير وأن اللامعيارية هي المعيارية، كما تعني أن الدال الإلهي الوارد في العهد القديم لا يتحدد مدلوله إلا من خلال تفسيرات الحاخامات، وهي تفسيرات متغيرة.
3 ـ سيطرة النسق القبَّالي الحلولي على الفكر الديني اليهودي حتى وصل إلى مرحلة وحدة الوجود المادية، وهو ما يعني أن كل الكلمات تصبح إما مقدَّسة ومتأيقنة تماماً أو عاجزة تماماً عن الإفصاح بسبب امتلاء القداسة وهيمنة النسبية، فالتجربة الحلولية الكاملة تعبِّر عن نفسـها بالصمت كما أن الحلـول الكامل هـو أيضـاً مرحلة سقوط المعيارية.
4 ـ انتشار الأسلوب الماراني في التفكير بين بعض قطاعات الجماعات اليهودية في الغرب ابتداءً من القرن الثامن عشر. والمارانو هم يهود شبه جزيرة أيبريا الذين أبطنوا اليهودية وادعو الكاثوليكية وأظهروها. وجوهر المارانية أن يقول الإنسان شيئاً وهو يعني عكسه تماماً. ومما له دلالته أن إسبينوزا ودريدا وجابيس كلهم ينتمون للتراث السفاردي الذي دخل فيه مكون ماراني قوي.
5 ـ توجد مدارس يهودية في التفسير تفترض أن المعنى الباطني غير المنظور للعهد القديم أكثر دلالة من المعنى الظاهري. وحيث إن المعنى الباطني في بطن المفسر، فإن هذا يفتح الباب على مصراعيه لنسبية لا نهاية لها ولا معيارية كاملة.
6 ـ توجد مدارس للتفسير ترى أن فَهْم التوراة يشبه الجماع مع أنثى عارية، ولعل هذا يشبه من بعض الوجوه الحديث عن لذة النص وعن أن اللغة الحقيقية هي الصيحات الجنسية أو صيحات الألم ذات المقطع الواحد، إذ أن الدال يلتصق بالمدلول ويصبح الدال مدلولاً.
7 ـ ثمة مفاهيم دينية يهودية عديدة في تراث القبَّالاه الصوفي الحلولي قريبة في بنيتها من مفاهيم ما بعد الحداثة مثل مفهوم شفيرات هكليم والتسيم تسوم والتيقون، وهي مفاهيم ترى أن الإله لم يكمل عملية الخلق بعد. بل إن الذات الإلهية لم تكتمل بعد، وهو ما يعني أن العالم في حالة صيرورة دائمة.
8 ـ زادت الخاصية الجيولوجية في اليهودية، وزادت من ثم اللامعيارية في العصر الحديث بظهور بعض المذاهب الدينية مثل اليهودية الإصلاحية والمحافظة، وهي مذاهب علاقتها باليهودية الحاخامية واهية للغاية وتُسمِّي نفسها (مع هذا) يهودية. بل إن أتباع هذه المذاهب يشكلون الأغلبية الساحقة بين يهود العالم، الأمر الذي يعني استحالة التمييز بين الإيمان والهرطقة.
أما بالنسبة لوضع اليهود (أو الجماعات اليهودية) في العالم (أي في الحضارة الغربية)، وهو الوضع الذي أدَّى إلى زيادة وجود استعداد اختياري عندهم لتبنِّي فكر ما بعد الحداثة وإلى إسهامهم فيه،
فقد أورد بعض مؤرخي ما بعد الحداثة بشأنه العناصر التالية:
1 ـ النفي هو التجربة التاريخية الأساسية لليهود، والنفي هو تجربة اقتلاع ثم إحلال (بالإنجليزية: ديسبليسمنت displacement). فقد أُقتلع اليهود من وطنهم الأصلي وتم إحلال شعب آخر محلهم، كما تم توطينهم في بلاد غريبة عنهم. واليهودي يعيش في بلاد الأغيار وكأنه مواطن فيها مندمج في أهلها مع أنه في واقع الأمر ليس كذلك. فهو فيها وليس منها. فهو الغريب المقيم أو المقيم الغريب؛ الحاضر الغائب. وهو كذلك المتجول الدائم يحلم دائماً بأرض الميعاد، وعلى وشك العودة دائماً، ولكنه لا يعود، فهو يعيش في المنفى الدائم ولكن المنفى ليس بمنفى لأنه من اختيار الإنسـان، فهو في حالة صيرورة ولا معيارية، الدال المنفصل عن المدلول أو الدال الذي له مدلولات متعددة بشكل مفرط.
2 ـ اليهود في العالم المسيحي هم قتلة المسيح، ولذا فهم شعب منبوذ، ولكن اليهود في الوقت نفسه شعب شاهد على عظمة الكنيسة ولذا لابد من حمايته. وهو يعيش في المجتمع المسيحي الذي يحميه ولكنه يرفض التجسد فهو لا يزال في انتظار الماشيَّح رغم أن المسيح من وجهة نظر المسيحيين قد جاء وصُلب ثم قام. وهو شعب مختار كما يقول كتابه المقدَّس ولكنه في واقع الأمر شعب منبوذ. وهو شعب ينسب له الأغيار والمعادون لليهود قوى عجائبية (الشر ـ السحر) ولكنه في واقع الأمر لا سلطة له. وكل هذا يجعل من الصعب على أعضاء هذا الشعب تبنِّي مرجعية ثابتـة أو معيارية واحـدة. واليهـود بهذا يصبحـون دالاً بدون مدلول.
3 ـ يُشار إلى اليهودي باعتباره صاحب هوية واضحة، ولكنه في واقع الأمر مفتقد تماماً للهوية، فهو يزداد اندماجاً في الحضارة الغربية رغم كل محاولات الإفلات من قبضتها. ومن المفارقات أن إسرائيل قامت للدفاع عن الهوية اليهودية ولكنها أصبحت الآلية الكبرى لطمس معالم هذه الهوية. ومن ثم، فإن العودة التي كان المفترض فيــها أن تكـون نقطــة التحقـق والحضور الكامل، أصبحت لحظة الغيـاب الكامل، وهو ما يعني اختـلاط المـدلولات وتعـددها.
4 ـ ومما زاد من زعزعة ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» تزايد تعريفات اليهودي، فهو يمكن أن يكون إصلاحياً أو محافظاً أو تجديدياً. وهناك اليهودي الملحد واليهودي غير اليهودي واليهودي المتهود واليهودي بالاختيـار. وقد عُرِّف اليهودي بأنـه «من يصفه الناس بأنه كذلك». وهـو في تعـريف آخــر «من يشــعر في قـرارة نفسه أنه كـذلك». ولعـل سـؤال «من اليهـودي؟» المطــروح بحـدة في الدولة اليهودية، هو تعبـير عن هذا الفصل الحاد بين الدال والمـدلول واستحـالة التعريف بسبب سقوط الدال في قبضة الصيرورة.
الهرمنيوطــيقا المهرطقــة أو التفكيكيـة اليهـودية Heretical Hermeneutics or Jewish Deconstruction
«الهرمنيوطيقا المهرطقة» يمكن أن نسميها «التفكيكية اليهودية» أو «التقويضية اليهودية». و«الهرمنيوطيقا» فرع من فروع اللاهوت يختص بتفسير النصوص الدينية تفسيراً رمزياً متعمقاً يركز على الجانب الروحي. وقد استُعير المصطلح للعلوم الإنسانية وأصبح يعني علْم تفسير النصوص والظواهر الإنسانية الذي يركز على تميُّز الإنسان عن الظواهر الطبيعيـة. و«الهرمنيوطيقـا المهرطقـة» عبارة تتواتر في عدة أعمال حداثية، وخصوصاً كتابات سوزان هاندلمان (الكاتبة الأمريكية اليهودية المتخصصة في فكر أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب). وتُستخدَم العبارة للإشارة لمحاولة بعض المهرطقين (من المثقفين اليهود) تحطيم النص المقدَّس وتفكيكه (لا تفسيره). ورغم أنها محاولة تقويضية إلا أنها تتلبس لباس الهرمنيوطيقا التقليدية وتستخدم آلياتها.
ولفهم العبارة، لابد أن نَعرف علاقة النص المقدَّس بالتفسير (الحاخامي) داخل إطار العقيدة اليهودية. وهي علاقة تختلف في كثير من جوانبها عن علاقة النص المقدَّس بالتفسير في الديانات التوحيدية الأخرى. وتلخص سوزان هاندلمان آراء بعض دارسي ظاهرة الهرمنيوطيقا المهرطقة فتبيِّن أنهم يذهبون إلى أن الحضارة اليونانية حضارة مكانية ولذا فهي حضارة رؤية: الصورة أساسية فيها. ولذا، فهي حضارة تحترم الأيقونات بكل ما تتسم به من تَحدُّد وثبات ووضوح. وهي حضارة أفلاطونية في جوهرها تحترم الثبات وتسعى له وتنظر للعالم في إطار ثنائية أساسية: عالم المُثُل (المجردة الثابتة المتجاوزة لعالم الحركة) مقابل عالم المادة (المتغير المحسوس) وهذه هي ثنائية المعقول والمحسوس.
والمسيحية الغربية استمرار للتقاليد اليونانية في الإدراك ورؤية الكون والثنائية. فهي حضارة متمركزة حول اللوجوس/الكلمة التي تتجاوز عالم المادة المحسوس والتي تشكل نقطة ثبات مطلقة في التاريخ النسبي المتغير. واللوجوس هو المدلول المتجاوز الذي يزوِّد العالم بالمركز وينقذه من السقوط في قبضة العبثية واللامعنى. فهو يعطي الصيرورة حدوداً واتجاهاً فيصبح للتاريخ معنى، وتكتسب اللغة فعاليتها كأداة تفاهم وتواصل بين البشر. واللوجوس، رغم أنه متجاوز للتاريخ، إلا أنه يتجسد فيه للحظات فيصبح الدال مدلولاً، وهذه هي لحظة الحضور الكامل بلا غياب. وحياة المسيحي بأسرها، من هذا المنظور، هي بحث عن هذه اللحظة ومحاولة للوصول إليها للاتحاد بالخالق المطلق. ولذا، تصبح الكلمات (التاريخية ـ النسبية ـ الزمانية) شكلاً من أشكال النفي من الحضور الإلهي واغتراباً عن الجوهر الإلهي وعن الحضور المطلق، وتصبح التعددية اللغوية إحدى علامات السقوط. ولذا، فإن الكتاب المقدَّس يشغل مكانة ثانوية بالنسبة للوجوس في المسيحية الكاثوليكية، بل إن المجاز نفسه (الذي يعني انفصال الدال عن المدلول نسبياً) يصـبح شكلاً من أشكال النفي، وتصبح كل النصوص البشرية حديثاً عن هذا الغياب الذي يشير إلى الحضور بلا غياب!
لكل هذا، تحاول التفسيرات المسيحية الوصول إلى معنى ثابت، فهناك التفسير الكاثوليكي وهو تفسير رمزي يتم من خلال وسائط رمزية ولكنه يحاول أن يصل إلى معنى محدد ثابت (يستند إلى لحظة التجسد) وراء الدوال. وقد يبدو أن نظرية التفسير البروتستانتية مختلفة، فهي ترفض التفسير الرمزي وتطالب بالعودة إلى النص؛ إلى كلمة الإله التي تتجاوز التفسير؛ إلى الكلمة المطلقة بقدر الإمكان، وذلك بهدف الوصول إلى المعنى المحدد الثابت الأصلي الذي يستند إلى لحظة التجسد! فالتفسيران يختلفان في الآلية ولكنهما يتفقان في النهاية. فكل الكلمات يتحدد معناها من خلال اللوجوس، أي الدال/المدلول المتجاوز الذي يوقف لعب الدوال ويعطي معنى واحداً نهائياً للنص. وثمة عودة، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى المعنى الثابت. وهكذا، رغم أهمية التفسير، يظل النص المقدَّس (الوحي الإلهي) أكثر أهمية من تفسيره (الإنساني) كما هو الحال في كل العقائد التوحيدية.
تقف اليهودية (من منظور آراء المفكرين اليهود وغير اليهود من دعاة ما بعد الحداثة) على النقيض من كل هذا. فالحضارة العبرية ليست حضارة مكانية وإنما حضارة زمانية، فالارتباط بالمكان (الأرض) مستحيل بالنسبة لليهودي، فالمكان ليس مكانه حيث يعيش في الزمان متجولاً. والزمان نفسه يتم إلغاؤه تقريباً، فالزمان ليس زمانه لأن اليهودي يعيش في بداية الزمان وفي نهايته دون أن يعرف أصله بوضوح ودون أن يصل إلى النهاية. ومع هذا، يظل الزمن العنصر الأساسي والحاسم بالنسبة لليهودية. ولا تشغل الصورة حيزاً أساسياً في الوجدان اليهودي ولا تحظى الأيقونة بكثير من الاحترام، بل إن اليهودية بأسرها تعبير عن رفض للحظة التجسد والثبات هذه (أفلاطونية كانت أم مسيحية).
ولذا، فإن اليهودي يعيش في عالم الإشارات الزمانية التاريخانية المختلطة، لا يحاول تجاوزها ويصبح هو حامل لوائها. ولأن النفي بالنسبة لليهودي ليس حالة مؤقتة يتغلب عليها المرء وإنما حالة دائمة بل نهائية، ولأن اليهودي يرحل من مكان لآخر دون حلم بالعودة، أي دون حنين للمعنى والحقيقة والبنية الميتافيزيقية الثابتة التي تمنح الاطمئنان، لكل هذا يصبح الانقطاع المستمر جوهر حياته والاقتلاع سمتها. ولذا، فهو يقبل النفى والانقطاع ولا يحاول الاتحاد بنقطة الأصل الثابتة لتجاوز اغترابه، كما أنه لا يحاول تَجاوُز عالم الصيرورة، أي أنه يصل إلى حالة الكمون الكاملة حيث تصبح الصيرورة هي البداية والنهاية، وحيث لا يوجد فارق كبير بين الحضور والغياب، وتصبح التعددية اللغوية أمراً مقبولاً تماماً فتفسد اللغة وينطلق لعب الدوال خارج أية حدود أو قيود أو سدود. وكما قالت سوزان هاندلمان، فإن تَقبُّل التعددية اللغوية هو محاولة لفرض الشرك (أي تعدُّد الآلهة) بدلاً من التوحيد.
آليـــــات الهرمنيوطـــيقا المهرطقــــة Mechanisms of Heretical Hermeneutics
يتحقق الإطار العام لظهور الهرمنيوطيقا المهرطقة أو التفكيكية اليهودية من خلال خطوتين أساسيتين:
1 ـ رؤية يهودية محددة للنص حيث يفقد النص المقدَّس حدوده ويتداخل والنصوص الأخرى ويصبح من الممكن تحميله بأي معنى يشاء المفسر، ومن ثم فهو يصبح نصاً مفتوحاً.
2 ـ عند هذه اللحظة يمكن تحميل النص المفتوح بالهرطقة باعتبارها المعنى الحقيقي.
1 ـ عملية فتح النص:
يمكن وصف عملية فتح النص من خلال النقاط التالية:
أ ) بالنسبة لليهودي، لا يأخذ الحضور الإلهي في التاريخ شكل تجسد مباشـر في لحظة، فهو يوجد في نص مقدَّس موحى به من الإله. والنص، اللوجوس، وهو تَركُّز القوة الإلهية، يحتوي على كل شيء. ولذا، جاء في التراث الديني اليهودي أن خلق التوراة يسبق خلق العالم، بل إن الإله استخدمها في خلق العالم.
ب) ولكن هذا لا يعني أن التوراة تصبح، بذلك، نقطة الثبات والحضور الكامل (المطلق) في التاريخ الذي ينقذ التاريخ من قبضة الصيرورة واللامعنى إذ أن الصيرورة تبتلع النص المقدَّس نفسه، فهو ليس كتاباً نهائياً، كما يتضح من « مصادره » المتعددة. وهناك كذلك مشكلة الأصول، فالتراث اليهودي لم يحسم قط مسألة هل التوراة بأسرها كلمات الإله الموحى بها أم أجزاء منها وحسب؟ وهل أُعطيت هذه الكلمات لموسى مباشرة ثم كتبها هو، أم أن الإله خطها بنفسه، أم أعطاها لموسى في حضور الشعب؟ لكل هذا، نجد أن الحضور الإلهي في النص اليهودي المقدَّس ليس حضوراً مطلقاً ثابتاً كاملاً وإنما مجرد أثر أو صدى.
جـ) والتـوراة، عـلاوة على هـذا، كتاب مُشفَّر لا يمكن فهمه بشكل مباشر. ولذا، حينما أُعطيت التوراة لموسى، أُعطيت له معها آليات التفسير التي استخدمها الحاخامات لتوليد تفسيراتهم المتعددة. والتفسير الحاخامي ليس مجرد مقدمة ضعيفة للمعنى الحقيقي للنص المقدَّس، كما هو الحال في التفسيرات المسيحية، وإنما هو جزء مكمل للوحي الإلهي الأصلي وبالتالي يتداخل النص المقدَّس والتفسير الإنساني وتظهر حالة من التناصّ والسيولة.
د) والعلاقة بين النص المقدَّس (الثابت) والتفسيرات (المتغيِّرة) علاقة كناية (بالإنجليزية: ميتونومي metonomy) وهي في اللغات الغربية صورة بلاغية تتلخص في استعمال اسم شيء بدلاً من شيء آخر متصل به اتصالاً معيَّناً، كما تقول «جهزوا الأشرعة» أي «جهزوا السفن» فتحل كلمة «الشراع» محل كلمة «السفينة» وهذا ما يحدث في اليهودية إذ نجد أن التفسير متصل بالنص المقدَّس ويحل محله.
هـ) والتفسيرات الحاخامية هي نفسها متشابكة، فكل تفسير يشير إلى التفسير الذي يسبقه والذي يليه إلى ما لا نهاية (حالة الاخترجلاف). فإن كان ثمة تناص بين النص المقدَّس والتفسير فهو حالة تناص بين كل التفسيرات. وهكذا، يظهر التلمود كتاباً للتفسير الذي يصبح كتاباً مقدَّساً يفوق في قداسته الكتاب المقدَّس، ولكن هذا الكتاب الأكثر قداسة مكتوب بيد إنسانية؛ فهو مطلق غير مطلق، ثابت متغيِّر، إنه الحضور بلا حضور والغياب بلا غياب.
و ) وهكذا تدخل جرثومة الصيرورة كل شيء حتى في داخل اللوجوس نفسه. ولذا، فإننا نجد جاك دريدا يسخر من المفسرين الذين يحاولون الوصول إلى معنى محدد ونهائي (أو إلى أي معنى على الإطلاق)، فهم مسيحيون بالمعنى النماذجي وغير قادرين على أن يعيشوا التوتر الناجم عن الغياب داخل الحضور والحضور داخل الغياب. وقد شبَّه أحد دعاة ما بعد الحداثة من اليهود التفسير الحاخامي بأنه مثل الأنثى المعوجة اللينة التي تُغوي الحقيقة المستقيمة الصلبة الثابتة فتضيع الحقيقة (المجردة المعقولة) وتظهر الحقائق المتعددة المتغيرة المحسوسة.
ز ) وتتعمق الصيرورة، ففي داخل هذا الإطار يصبح المفسر (أي من يفك شفرة النص المقدَّس) أهم من النص نفسه، ولذا فإن عبارة «لا يوجد شيء خارج النص» تعني في واقع الأمر لا يوجد شيء خارج المفسِّر/الحاخام، هذا القارئ السوبرمان، وهو ما يعني موت الإله وموت النص ومولد الحاخام. ولكن الحاخام قد ينطق عن الهوى وقد يناقض نفسه، كما أنه لا يوجد حاخام واحد وإنما عدة حاخامات، وهكذا تهيمن التعددية المفرطة.
والقصة التالية التي وردت في التلمود توضح كل النقاط السابقة. جاء في التلمود أن الحاخام أليعازر كان يتجادل مع بعض الحاخامات بشأن قضية فقهية ويحاول أن يبيِّن لهم أن الشريعة المكتوبة تتفق مع رأيه، بل أتى ببعض المعجزات ليبيِّن أنه مؤيَّد من الإله. فعلى سبيل المثال قال الحاخام أليعازر: «إن كانت الشريعة تتفق معي، فليبرهن النهر على ذلك». وبالفعل، جرى النهر في عكس اتجاهه. وبعد مجموعة من المعجزات، سـئم الحـاخام أليعـازر مـن الجـدل مع الحاخامات وقـال «إن كانت الشريعة تتفق معي، فليأت البرهان من السماء». وهنا سمع الحاخامات صوتاً من السماء يقول: «لماذا تحاجون الحاخام أليعازر بعد أن برهن على أن الشريعة تتفق معه في كل الأمور؟». فرد أحــد الحاخامات «إنها [أي المعنى أو التفسـير] ليسـت في السماء». وأكد الحاخام للإله أن التوراة قد أُعطيت لموسى في سيناء وانتهى الأمر، ومن ثم فإن الحاخامات لا يعيرون الصوت الإلهي أي انتباه. ثم اقتبس الحاخام من التوراة ما يؤيد قوله، وهنا ضحك الإله وقال: «لقد هزمني أبنائي، لقد هزمني أبنائي» (بابا ميتسا 59 أ و59 ب). إن أساس الهرمنيوطيقا اليهودية (حسب تصوُّر دعاة ما بعد الحداثة من أعضاء الجماعات اليهودية وغيرهم) ليس شيئاً في النص وإنما في العقل الحاخامي وهو قلب كامل للأوضاع.
2 ـ تحميل النص المقدَّس بالهرطقة:
ولكن ثمة خطوة أخرى أكثر عمقاً وراديكالية من الخطوة السابقة التي تحوِّل الهرمنيوطيقا اليهودية إلى هرمنيوطيقا مهرطقة وهي إعطاء النص المقدَّس مضموناً مهرطقاً بعد فتحه. وهي عملية تتم أيضاً على عدة خطوات:
أ ) لم يهاجم المفسر اليهودي النص المقدَّس بوضوح وبشكل مباشر كما يفعل المهرطقون عادةً، وإنما لجأ إلى حيلة بارعة تأخذ شكل الالتــفاف. فأعـلن أن النص المقدَّس مصدر الشرعية؛ بل أعلن إيمـانه الكامل به وأنه يتحرك داخل إطار التقاليد الأرثوذكسية اليهودية.
ب) اكتسب المفسر بذلك شرعية وقداسة، أي باعتباره مفسر النص صاحب الشرعية والقداسة.
جـ) بدأ المفسـر يـأتي بتفسـيرات حاخـامية يفرضـها على النص فرضاً.
د) تحولت هذه التفسيرات تدريجياً إلى تفسيرات باطنية غنوصية قبَّالية مهرطقة.
هـ) كانت هذه التفسـيرات هامشـية ثم أخذت تتحرك تدريجياً نحو المركـز.
و ) استولى التفسير المهرطق على النص تماماً وأصبحت الهرطقة هي الجوهر، أي أصبحت الهرطقة هي الشريعة، والكفر هو الإيمان، والغنوص هو التوحيد، واللامعنى هو المعنى.
وقد وردت هذه القصة في أحد أعمال كافكا موضحةً جوهر الهرمنيوطيقا المهرطقة ومتتاليتها. تدخل الفهود (المدنَّسة) المعبد وتشـرب الماء المقـدَّس من الكئـوس المقدَّسة. يحـدث هذا مرة بعـد أخرى. ولذا، وبعد مرور فترة من الوقت، يتوقع الناس وصول الفهود إلى أن تصبح الفهود (المدنَّسة) جزءاً لا يتجزأ من الطقوس (المقدَّسة).
ترى سوزان هاندلمان أن هذا وصف دقيق لما قام به المثقفون اليهود من دعاة الهرمنيوطيقا المهرطقة. فبعد تحطيم الهيكل، حلت دراسـة التـوراة ودراسـة شـعائر الهيكل محـل تقديم القرابين. ولكن اليهود، بسبب غربتهم ونفيهم وشعائرهم، يقومون بالهجوم على النص لفتحه فيقوم الفهود (الحاخامات) بدخول المعبد (النص) فيشربون الماء المقدَّس من الكئوس المقدَّسة (النص)، وبالتدريج يصبح الفهود (الحاخامات وأصحاب التفسيرات المهرطقة الذين كانوا مغتصبين للمعبد) جزءاً من شعائره، أي أن التفسير المهرطق يصبح هو الشريعة، وهكذا يتم الاستيلاء على الكتاب المقدَّس بدعوى تفسيره.
ويرى الأديب الفرنسي اليهودي ما بعد الحداثي إدموند جابيس أن أهم نقطة في اليهودية هي اللحظة التي تقع بين تحطيم موسى الوصايا العشر بسبب غضبه من عبادة الشعب للعجل الذهبي وبين تلقىه الوصايا العشر الجديدة. وهذه اللحظة هي لحظة حضور/غياب، شريعة غائبة/موجودة. ويرى جابيس أن الشريعة الشفوية، أي التفسيرات الحاخامية، نشأت في الشقوق التي نجمت عن تحطيم الوصايا العشر كالأعشـاب والطحالب التي تقتل النباتات المزروعة التي تأتي بالثمـر. بذلك، فقد تحوَّلت يسرائيل بأسرها إلى تساؤل مستمر بلا نهاية، وأصبح واجبها هو التفكيك، أي الهرمنيوطيقا المهرطقة؛ وأصبح اليهودي، المتجول المنبوذ، ممثل الأعشاب التي ظهرت في الشقوق، هو عنصر الظلام والشقوق التحتية المظلمة. (وهل يختلف هذا الوصف كثيراً عن وصف أعداء اليهود لدور اليهودي في المجتمعات المختلفة؟(.
الهـرمنيوطـــيقا المهرطقـــة والمثقفــون اليهــود
Heretical Hermeneutics and Jewish Intellectuals
الهرمنيوطيقا المهرطقة (حسب تصوُّر دعاة ما بعد الحداثة من أعضاء الجماعات اليهودية وغيرهم) تعبير عن رغبة اليهود في الانتقام لأنفسهم بسب ما حاق بهم من كوارث تاريخية وبسبب حالة النفي والتبعثر التي يعيشونها وعملية الإحلال التي فُرضت عليهم. إنها محاولة اليهودي الانتقام من العالم اليوناني المسيحي الذي يزعم أن العالم يدور حول اللوجوس وحول نقطة ثبات نهائية، ولكن هذا العالم الذي يبحث عن الثبات قام باقتلاع اليهود وفَرَض عليهم النفي والتحـول والصيرورة. ولذا، فهم رداً على ذلك، يفرضون على النص المقدَّس «التفسير» و«سوء القراءة» المتعمد، الذي هو في واقع الأمر تفكيك وتقويض له وفرض الصيرورة عليه. ولكن التفسير المهرطق، رغم هرطقته، يدَّعي أنه هو نفسه النص المقدَّس حتى يتسنى له أن يحل محله، أي أنها مؤامرة تتم من الداخل باسم التفسير، وهي في واقع الأمر تقويض: إنها فرض اللامعنى باعتباره المعنى، وفرض الظلام باعتباره النور، وفرض الهرطقة باعتبارها الشريعة؛ إنها عملية قلب كامل للمعنى تتم بهدوء ومن خلال الخديعة.
ولكن الهرمنيوطيقا المهرطقة لم تكن مقصورة على الكتاب المقدَّس المسيحي/اليهودي إذ قام اليهود بتوجيه الهرمنيوطيقا المهرطقة إلى عالم الأغيار الدنيوي أيضاً واستخدموا الخديعة نفسها على الطريقة المارانية التي تجعل اليهودي يظهر غير ما يبطن. وهذا ما يفعله اليهود، فهم في محـاولة ضـرب أعدائهم ادعوا أنهم يقومون بعملية تفسير للتراث الإنساني، لا أكثر ولا أقل. ولكنهم في واقع الأمر يقومون بعملية تقويض جذرية، الهدف منها البقاء الفكري لليهود وتحقيق شيء من الهيمنة.
والمثقفون اليهود المحدثون - حسب هذه الرؤية - ينتمون إلى تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة، فهم يقعون خارج التراث الغربي (المتمركز حول اللوجوس) يحاولون تحطيمه (ماركس والمجتمع - فرويد والذات البشرية - دريدا والفلسفة - بلوم والأدب)، فهم أيضاً يغوصون في ظلمات النفس البشرية ويصلون إلى عناصر الهرطقة المكبوتة التي تتحدى المعيارية القائمة، فيقومون باكتشافها وبلورتها ودفعها نحو المركز. وكما أن العالم قام بنفي اليهود وإحلال شعب آخر محلهم، فإنهم يقومون بإحلال النص المهرطق محل النص المقدَّس، وهم بذلك يحوِّلون الخارجي إلى داخلي والعكس بالعكس. فيقوم فرويد بتعرية الرغبـات المهرطقة في الذات الإنسـانية، ويقـوم دريدا، سـيد التقويضيين، بتحطيم ركائز الفلسفة الغربية، ويقوم بلوم بتحطيم تقاليد الأدب الغربي الذي يرتكز على المسيحية ويبيِّن الحرب الأزلية الدائرة بين الشعراء. وما يفعله هؤلاء المهرطقون هو أنهم يقضون على النصوص الأصليـة (المقدَّسـة ـ الأبوية ـ السـلطوية ـ الثابتة)، ومن خـلال تفسيرها، يقومون بتفكيكها وتوضيح الظلمات داخلها وإطلاقها من إسارها. وهم يدينون بالولاء للتقاليد الخفية التي يجعلونها التقاليد الحقيقية، ويصبح التفسير المظلم هو الوحي ويصبح اللاوعي هو الوعي الحقيقي.
وترى سوزان هاندلمان أن تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة لم تَعُد مقصورة على المثقفين اليهود، فهناك في كل أنحاء العالم «مثقفون يهـود» بالمعنى المجازي جعلوا همهم فَتْح النصوص المقدَّسة عن طريق إعلان أن النص المقدَّس صامت يمكن أن يحمل أيَّ معنى يشاء المفسر، ثم قاموا بإعادة تفسيرها وتحميلها معنى مهرطقاً حتى يسود الظلام وتهيمن العدمية (ومما يجدر التنبيه إليه أن كلمات مثل «فوضى» و«ظلام» و«انقطاع» و«عدمية» لا تحـمل أيَّ معنى سـلبي أو قدحي في معـجم سـوزان هاندلمان).
وهذه الرؤية للمثقفين اليهود تُشيِّئهم تماماً وتجعلهم قوة فريدة من قوى الظلام. ولعل المدافعين عن مثل هذه الرؤية لو دققوا قليلاً لوجدوا أن هؤلاء المثقفين لا ينتمون إلى تقاليد يهودية وإنما إلى تقاليد غربية علمانية. ونحن نذهب إلى أن الحضارة الغربية العلمانية الحديثة هي في جوهرها حضارة تفكيكية. فحين أعلنت هذه الحضارة إلغاء فكرة الإله أو تهميشها، لم يكن هناك بُد من تفسير الإنسان في إطار طبيعي/مادي، فأصبح جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة يُردُّ في كليته إليها، فيتحول من كائن إنساني متجاوز للطبيعة/المادة إلى كائن مادي يمكن تفكـيكه إلى عناصـره المادية الأولية. وهذا هو ما فعله توماس هوبز غير اليهودي الذي أعلن أن الإنسان (الذي يعيش في عالم الطبيعة/المادة وحسب) إن هو إلا ذئب لأخيه الإنسـان. وجـاليلو، ومن بعده نيوتن، كانا «مسيحيين»، وأنكرا على الإنسان أية مركزية، وجاء داروين غير اليهودي، قَبْل فرويد «اليهودي»، واكتشف الظلمات في الطبيعة وفي النفس البشرية. وجاء بعد فرويد عشرات المحللين النفسيين من غير اليهود ممن تبنوا الرؤية الفرويدية بحماس بالغ، وقاموا لا بتطبيقها وحسب وإنما بتعميقها كذلك (هذا مقابل عشرات المثقفين من أعضاء الجماعات اليهودية ممن رفضوا هذه الرؤية التفكيكية العدمية مثل إريك فروم). وهكذا فإن تقاليد التفكيك التقويضي المهرطق، هي تقاليد راسخة في الحضارة العلمانية الغربية.
يُسقط دعاة ما بعد الحداثة من أعضاء الجماعات اليهودية كل هذه الاعتبارات ويجعلون الهرمنيوطيقا المهرطقة ظاهرة يهودية، وهم في هذا لا يختلفون كثيراً عن رؤية بروتوكولات حكماء صهيون التي تجعل اليهود قوة من قوى الظلام والدمار. ومما يجدر ذكره أن مسألة الاختلاف الجذري بين العقل الهيليني والعقل العبراني هي أحد أسس التفكير العنصري الغربي. ولكن رغم عنصرية سوزان هاندلمان وغيرها من دارسي ظاهرة ما بعد الحداثة بين المفكرين، فإنهم قد وضحوا إحدى السمات الأساسية للإنجازات الفكرية للمثقفين اليهود من دعاة ما بعد الحداثة.
يتبع إن شاء الله...