منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

soon after IZHAR UL-HAQ (Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.


 

 الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48337
العمر : 71

الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  Empty
مُساهمةموضوع: الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة    الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  Emptyالسبت 08 فبراير 2014, 10:32 pm

الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة 
اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثـة Judaism, Members of Jewish Communities, and Post-Modernism
لوحظ أن كثيراً من دعاة ما بعد الحداثة إما يهود أو من أصل يهودي (جاك دريدا ـ إدمون جابيس ـ هارولد بلوم... إلخ). وقد أثرت ما بعد الحداثة في العقيدة اليهودية، وفي كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية. 
وسنتناول في مداخل هذا الباب جذور ما بعد الحداثة في العقيدة اليهودية، وفي وضـع اليهـود في الحضـارة الغربيــة، وفـكر بعض دعاة ما بعد الحـداثـة من اليهـود. أما أثر ما بعـد الحداثــة فـي العقيدة اليهودية فسندرسه في القسم المعنون «لاهوت موت الإله». 
ونحن نذهب إلى أن العلمانية الشاملة تؤدي في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى فصل كل مجالات النشاط الإنساني عن الإنسان ليشير كل مجال إلى نفسه ويستمد معياريته من ذاته وهذا ما يُسمَّى «التحييد» الذي يتصاعد إلى أن يصبح العالم بأسره مجالات محايدة لا يربطها رابط فيتفكك وتختفي أية معيارية إنسانية عامة. وتتآكل القيم والمفاهيم الكلية وتسود النسبية التي تنكر على الإنسان المقدرة على تجاوز صيرورة عالم الطبيعة المادة والحركة فيسقط في قبضتها تماماً وتسقط فكرة الحقيقة والحق والخير والجمال والكل، ثم تسقط فكرة الطبيعة نفسها (البشرية والمادية) في قبضة الصيرورة، أي تسقط كل المنظومات المعرفية والأخلاقية والجمالية، فهي عملية تفكيك كاملة. وهذا الانتقال من عالم متماسك فيه مرجعية ومعيارية (حتى لو كانت مادية) إلى عالم متفكك بلا مرجعية أو معيارية، هو الانتقال من عصر التحديث والحداثة (الصلب) إلى عصر ما بعد الحداثة (السائل). 
والعلمانية الشاملة شكل من أشكال الحلولية الكمونية. ونذهب إلى القول بأن المتتالية النماذجية العلمانية تبدأ بحلول مركز الكون في الكون نفسه. ورغم حلوله في الكون إلا أنه يظل مصدر تماسك الكون ويمكن أن يتم التجاوز باسمه، وفي هذا الإطار يحاول الإنسان أن يستمد معياريته من الطبيعة، وهذه هي مرحلة التحديث البطولية والثنائية الصلبة. ولكن درجات الحلول تزداد تدريجياً ويتوزع المركز الكامن في أكثر من عنصر واحد حتى تصبح كل عناصر الواقع موضع الحلول والكمون فتصبح كل الأشياء مقدَّسة، ويتساوى المقدَّس والمدنَّس، والمطلق والنسبي، ويختفي المركز وتصبح كل الأمور نسبية، وهذه مرحلة وحدة الوجود المادية الكاملة وما بعد الحداثة. 
ويمكننا أن نصف ما بعد الحداثة بأنها حالة من التعددية المفرطة التي تؤدي إلى اختفاء المركز وتساوي كل الأشياء وسقوطها في قبضة الصيرورة بحيث لا يبقى شيء متجاوز لقانون الحركة (المادية أو التاريخية)، فتصبح كل الأمور نسبية وتغيب المرجعية والمعيارية، بل ويختفي مفهوم الإنسانية المشتركة (باعتباره معيارية أخيرة ونهائية). فتَفْسُد اللغة كأداة للتواصل بين البشر وينفصل الدال عن المدلول وتطفو الدوال وتتراقص دون منطق واضح فيما يُطلَق عليه «رقص الدوال»، وتختفي فكرة الكل تماماً. وما بعد الحداثة تعبير عن انتقال الفكر الغربي من مرحلة الثنائية الصلبة إلى مرحلة الحلولية الكمونية الكاملة والسيولة حيث يختفي المركز تماماً. 
التبـادل الاختياري بين اليهودية وأعضاء الجماعات اليهـودية وما بعد الحداثة 
Elective Affinity between Judaism and Members of Jewish Communities and Post-Modernism 
يرى بعض دعاة ما بعد الحداثة (من أعضاء الجماعات اليهودية ومن غير اليهود) أن ثمة عناصر في اليهودية وفي وضع أعضاء الجماعات اليهودية تجعلهم يتجهون نحو ما بعد الحداثة فيتأثرون بها ويساهمون في فكرها بشكل ملحوظ. وفي بقية هذا المدخل سنورد بعض آرائهم ونعبِّر عنها بمصطلحاتهم، ولكننا نستخدم أحياناً مصطلحنا لفك شفرة مصطلحاتهم ولتوضيح أبعادها الفلسفية الكامنة. 
ولنبدأ بالعناصر الموجودة داخل التراث اليهودي: 
1 ـ نحن نذهب إلى أن العقيدة اليهودية تضم عدداً من العقائد غير المتجانسة والمتناقضة بشكل عميق (ومن هنا إمكانية الحديث عن «يهودي ملحد» داخل إطار العقيدة اليهودية). ولذا فنحن نستخدم عبارة «اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي» لنصف هذا الوضع. فالتركيب الجيولوجي يتسم بأنه يتكون من طبقات جامدة مستقلة، تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تلغ أية طبقة جديدة ما قبلها، ولذا تتجاور الطبقات وتتزامن وتتواجد مع بعضها البعض، ولكنها لا تتمازج ولا تتفاعل ولا تلغي الواحدة الأخرى. وقد أشار الفيلسوف إسبينوزا، حين طُرد من حظيرة الدين اليهودي، إلى أن مجلس السنهدرين، أعلى سلطة دينية يهودية في عصر المسيح وهو الذي قام بمحاكمته، كان يسيطر عليه فريقان دينيان: الصدوقيون والفريسيون. وبينما كان الفريق الأول لا يؤمن بالبعث أو اليوم الآخر كان الفريق الثاني يؤمن بهما. ومع هذا تعايشا وتقاسما السلطة الدينية. فكأن اليهودية تفتقر إلى معيارية حقيقية واحدة محددة، ولذا فمن الممكن أن يشير الدال الواحد إلى مدلولين متناقضين. 
2 ـ تذهب العقيدة اليهودية (في شكلها الحاخامي) إلى أن التوراة هي الشريعة المكتوبة، ولكنها ليست الشريعة الوحيدة، إذ يؤمن اليهود بأن هناك ما يُسمَّى «الشريعة الشفوية» وأن الإله أعطى كلا من الشريعتين، المكتوبة والشـفهية، لموسى في جبل سـيناء. وقد توارث كل اليهـود الأولى، أما الثانية فقد توارثها الحاخامات، والتفسيرات الحاخامية التي دُوِّنت في التلمود هي هذه الشريعة الشفوية. وتذهب العقيدة اليهـودية (في شـكلها الحاخامي) إلى أن الشـريعتين متساويتان في الأهمية، بل إن الشريعة الشـفوية أكثر أهمـية من الشريعة المكتـوبة وتجُبّها. كل هذا يعني أن الثابت هو المتغير وأن اللامعيارية هي المعيارية، كما تعني أن الدال الإلهي الوارد في العهد القديم لا يتحدد مدلوله إلا من خلال تفسيرات الحاخامات، وهي تفسيرات متغيرة. 
3 ـ سيطرة النسق القبَّالي الحلولي على الفكر الديني اليهودي حتى وصل إلى مرحلة وحدة الوجود المادية، وهو ما يعني أن كل الكلمات تصبح إما مقدَّسة ومتأيقنة تماماً أو عاجزة تماماً عن الإفصاح بسبب امتلاء القداسة وهيمنة النسبية، فالتجربة الحلولية الكاملة تعبِّر عن نفسـها بالصمت كما أن الحلـول الكامل هـو أيضـاً مرحلة سقوط المعيارية. 
4 ـ انتشار الأسلوب الماراني في التفكير بين بعض قطاعات الجماعات اليهودية في الغرب ابتداءً من القرن الثامن عشر. والمارانو هم يهود شبه جزيرة أيبريا الذين أبطنوا اليهودية وادعو الكاثوليكية وأظهروها. وجوهر المارانية أن يقول الإنسان شيئاً وهو يعني عكسه تماماً. ومما له دلالته أن إسبينوزا ودريدا وجابيس كلهم ينتمون للتراث السفاردي الذي دخل فيه مكون ماراني قوي. 
5 ـ توجد مدارس يهودية في التفسير تفترض أن المعنى الباطني غير المنظور للعهد القديم أكثر دلالة من المعنى الظاهري. وحيث إن المعنى الباطني في بطن المفسر، فإن هذا يفتح الباب على مصراعيه لنسبية لا نهاية لها ولا معيارية كاملة. 
6 ـ توجد مدارس للتفسير ترى أن فَهْم التوراة يشبه الجماع مع أنثى عارية، ولعل هذا يشبه من بعض الوجوه الحديث عن لذة النص وعن أن اللغة الحقيقية هي الصيحات الجنسية أو صيحات الألم ذات المقطع الواحد، إذ أن الدال يلتصق بالمدلول ويصبح الدال مدلولاً. 
7 ـ ثمة مفاهيم دينية يهودية عديدة في تراث القبَّالاه الصوفي الحلولي قريبة في بنيتها من مفاهيم ما بعد الحداثة مثل مفهوم شفيرات هكليم والتسيم تسوم والتيقون، وهي مفاهيم ترى أن الإله لم يكمل عملية الخلق بعد. بل إن الذات الإلهية لم تكتمل بعد، وهو ما يعني أن العالم في حالة صيرورة دائمة. 
8 ـ زادت الخاصية الجيولوجية في اليهودية، وزادت من ثم اللامعيارية في العصر الحديث بظهور بعض المذاهب الدينية مثل اليهودية الإصلاحية والمحافظة، وهي مذاهب علاقتها باليهودية الحاخامية واهية للغاية وتُسمِّي نفسها (مع هذا) يهودية. بل إن أتباع هذه المذاهب يشكلون الأغلبية الساحقة بين يهود العالم، الأمر الذي يعني استحالة التمييز بين الإيمان والهرطقة. 
أما بالنسبة لوضع اليهود (أو الجماعات اليهودية) في العالم (أي في الحضارة الغربية)، وهو الوضع الذي أدَّى إلى زيادة وجود استعداد اختياري عندهم لتبنِّي فكر ما بعد الحداثة وإلى إسهامهم فيه،
فقد أورد بعض مؤرخي ما بعد الحداثة بشأنه العناصر التالية: 
1 ـ النفي هو التجربة التاريخية الأساسية لليهود، والنفي هو تجربة اقتلاع ثم إحلال (بالإنجليزية: ديسبليسمنت displacement). فقد أُقتلع اليهود من وطنهم الأصلي وتم إحلال شعب آخر محلهم، كما تم توطينهم في بلاد غريبة عنهم. واليهودي يعيش في بلاد الأغيار وكأنه مواطن فيها مندمج في أهلها مع أنه في واقع الأمر ليس كذلك. فهو فيها وليس منها. فهو الغريب المقيم أو المقيم الغريب؛ الحاضر الغائب. وهو كذلك المتجول الدائم يحلم دائماً بأرض الميعاد، وعلى وشك العودة دائماً، ولكنه لا يعود، فهو يعيش في المنفى الدائم ولكن المنفى ليس بمنفى لأنه من اختيار الإنسـان، فهو في حالة صيرورة ولا معيارية، الدال المنفصل عن المدلول أو الدال الذي له مدلولات متعددة بشكل مفرط. 
2 ـ اليهود في العالم المسيحي هم قتلة المسيح، ولذا فهم شعب منبوذ، ولكن اليهود في الوقت نفسه شعب شاهد على عظمة الكنيسة ولذا لابد من حمايته. وهو يعيش في المجتمع المسيحي الذي يحميه ولكنه يرفض التجسد فهو لا يزال في انتظار الماشيَّح رغم أن المسيح من وجهة نظر المسيحيين قد جاء وصُلب ثم قام. وهو شعب مختار كما يقول كتابه المقدَّس ولكنه في واقع الأمر شعب منبوذ. وهو شعب ينسب له الأغيار والمعادون لليهود قوى عجائبية (الشر ـ السحر) ولكنه في واقع الأمر لا سلطة له. وكل هذا يجعل من الصعب على أعضاء هذا الشعب تبنِّي مرجعية ثابتـة أو معيارية واحـدة. واليهـود بهذا يصبحـون دالاً بدون مدلول. 
3 ـ يُشار إلى اليهودي باعتباره صاحب هوية واضحة، ولكنه في واقع الأمر مفتقد تماماً للهوية، فهو يزداد اندماجاً في الحضارة الغربية رغم كل محاولات الإفلات من قبضتها. ومن المفارقات أن إسرائيل قامت للدفاع عن الهوية اليهودية ولكنها أصبحت الآلية الكبرى لطمس معالم هذه الهوية. ومن ثم، فإن العودة التي كان المفترض فيــها أن تكـون نقطــة التحقـق والحضور الكامل، أصبحت لحظة الغيـاب الكامل، وهو ما يعني اختـلاط المـدلولات وتعـددها. 
4 ـ ومما زاد من زعزعة ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» تزايد تعريفات اليهودي، فهو يمكن أن يكون إصلاحياً أو محافظاً أو تجديدياً. وهناك اليهودي الملحد واليهودي غير اليهودي واليهودي المتهود واليهودي بالاختيـار. وقد عُرِّف اليهودي بأنـه «من يصفه الناس بأنه كذلك». وهـو في تعـريف آخــر «من يشــعر في قـرارة نفسه أنه كـذلك». ولعـل سـؤال «من اليهـودي؟» المطــروح بحـدة في الدولة اليهودية، هو تعبـير عن هذا الفصل الحاد بين الدال والمـدلول واستحـالة التعريف بسبب سقوط الدال في قبضة الصيرورة. 
الهرمنيوطــيقا المهرطقــة أو التفكيكيـة اليهـودية Heretical Hermeneutics or Jewish Deconstruction 
«الهرمنيوطيقا المهرطقة» يمكن أن نسميها «التفكيكية اليهودية» أو «التقويضية اليهودية». و«الهرمنيوطيقا» فرع من فروع اللاهوت يختص بتفسير النصوص الدينية تفسيراً رمزياً متعمقاً يركز على الجانب الروحي. وقد استُعير المصطلح للعلوم الإنسانية وأصبح يعني علْم تفسير النصوص والظواهر الإنسانية الذي يركز على تميُّز الإنسان عن الظواهر الطبيعيـة. و«الهرمنيوطيقـا المهرطقـة» عبارة تتواتر في عدة أعمال حداثية، وخصوصاً كتابات سوزان هاندلمان (الكاتبة الأمريكية اليهودية المتخصصة في فكر أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب). وتُستخدَم العبارة للإشارة لمحاولة بعض المهرطقين (من المثقفين اليهود) تحطيم النص المقدَّس وتفكيكه (لا تفسيره). ورغم أنها محاولة تقويضية إلا أنها تتلبس لباس الهرمنيوطيقا التقليدية وتستخدم آلياتها. 
ولفهم العبارة، لابد أن نَعرف علاقة النص المقدَّس بالتفسير (الحاخامي) داخل إطار العقيدة اليهودية. وهي علاقة تختلف في كثير من جوانبها عن علاقة النص المقدَّس بالتفسير في الديانات التوحيدية الأخرى. وتلخص سوزان هاندلمان آراء بعض دارسي ظاهرة الهرمنيوطيقا المهرطقة فتبيِّن أنهم يذهبون إلى أن الحضارة اليونانية حضارة مكانية ولذا فهي حضارة رؤية: الصورة أساسية فيها. ولذا، فهي حضارة تحترم الأيقونات بكل ما تتسم به من تَحدُّد وثبات ووضوح. وهي حضارة أفلاطونية في جوهرها تحترم الثبات وتسعى له وتنظر للعالم في إطار ثنائية أساسية: عالم المُثُل (المجردة الثابتة المتجاوزة لعالم الحركة) مقابل عالم المادة (المتغير المحسوس) وهذه هي ثنائية المعقول والمحسوس. 
والمسيحية الغربية استمرار للتقاليد اليونانية في الإدراك ورؤية الكون والثنائية. فهي حضارة متمركزة حول اللوجوس/الكلمة التي تتجاوز عالم المادة المحسوس والتي تشكل نقطة ثبات مطلقة في التاريخ النسبي المتغير. واللوجوس هو المدلول المتجاوز الذي يزوِّد العالم بالمركز وينقذه من السقوط في قبضة العبثية واللامعنى. فهو يعطي الصيرورة حدوداً واتجاهاً فيصبح للتاريخ معنى، وتكتسب اللغة فعاليتها كأداة تفاهم وتواصل بين البشر. واللوجوس، رغم أنه متجاوز للتاريخ، إلا أنه يتجسد فيه للحظات فيصبح الدال مدلولاً، وهذه هي لحظة الحضور الكامل بلا غياب. وحياة المسيحي بأسرها، من هذا المنظور، هي بحث عن هذه اللحظة ومحاولة للوصول إليها للاتحاد بالخالق المطلق. ولذا، تصبح الكلمات (التاريخية ـ النسبية ـ الزمانية) شكلاً من أشكال النفي من الحضور الإلهي واغتراباً عن الجوهر الإلهي وعن الحضور المطلق، وتصبح التعددية اللغوية إحدى علامات السقوط. ولذا، فإن الكتاب المقدَّس يشغل مكانة ثانوية بالنسبة للوجوس في المسيحية الكاثوليكية، بل إن المجاز نفسه (الذي يعني انفصال الدال عن المدلول نسبياً) يصـبح شكلاً من أشكال النفي، وتصبح كل النصوص البشرية حديثاً عن هذا الغياب الذي يشير إلى الحضور بلا غياب! 
لكل هذا، تحاول التفسيرات المسيحية الوصول إلى معنى ثابت، فهناك التفسير الكاثوليكي وهو تفسير رمزي يتم من خلال وسائط رمزية ولكنه يحاول أن يصل إلى معنى محدد ثابت (يستند إلى لحظة التجسد) وراء الدوال. وقد يبدو أن نظرية التفسير البروتستانتية مختلفة، فهي ترفض التفسير الرمزي وتطالب بالعودة إلى النص؛ إلى كلمة الإله التي تتجاوز التفسير؛ إلى الكلمة المطلقة بقدر الإمكان، وذلك بهدف الوصول إلى المعنى المحدد الثابت الأصلي الذي يستند إلى لحظة التجسد! فالتفسيران يختلفان في الآلية ولكنهما يتفقان في النهاية. فكل الكلمات يتحدد معناها من خلال اللوجوس، أي الدال/المدلول المتجاوز الذي يوقف لعب الدوال ويعطي معنى واحداً نهائياً للنص. وثمة عودة، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، إلى المعنى الثابت. وهكذا، رغم أهمية التفسير، يظل النص المقدَّس (الوحي الإلهي) أكثر أهمية من تفسيره (الإنساني) كما هو الحال في كل العقائد التوحيدية. 
تقف اليهودية (من منظور آراء المفكرين اليهود وغير اليهود من دعاة ما بعد الحداثة) على النقيض من كل هذا. فالحضارة العبرية ليست حضارة مكانية وإنما حضارة زمانية، فالارتباط بالمكان (الأرض) مستحيل بالنسبة لليهودي، فالمكان ليس مكانه حيث يعيش في الزمان متجولاً. والزمان نفسه يتم إلغاؤه تقريباً، فالزمان ليس زمانه لأن اليهودي يعيش في بداية الزمان وفي نهايته دون أن يعرف أصله بوضوح ودون أن يصل إلى النهاية. ومع هذا، يظل الزمن العنصر الأساسي والحاسم بالنسبة لليهودية. ولا تشغل الصورة حيزاً أساسياً في الوجدان اليهودي ولا تحظى الأيقونة بكثير من الاحترام، بل إن اليهودية بأسرها تعبير عن رفض للحظة التجسد والثبات هذه (أفلاطونية كانت أم مسيحية). 
ولذا، فإن اليهودي يعيش في عالم الإشارات الزمانية التاريخانية المختلطة، لا يحاول تجاوزها ويصبح هو حامل لوائها. ولأن النفي بالنسبة لليهودي ليس حالة مؤقتة يتغلب عليها المرء وإنما حالة دائمة بل نهائية، ولأن اليهودي يرحل من مكان لآخر دون حلم بالعودة، أي دون حنين للمعنى والحقيقة والبنية الميتافيزيقية الثابتة التي تمنح الاطمئنان، لكل هذا يصبح الانقطاع المستمر جوهر حياته والاقتلاع سمتها. ولذا، فهو يقبل النفى والانقطاع ولا يحاول الاتحاد بنقطة الأصل الثابتة لتجاوز اغترابه، كما أنه لا يحاول تَجاوُز عالم الصيرورة، أي أنه يصل إلى حالة الكمون الكاملة حيث تصبح الصيرورة هي البداية والنهاية، وحيث لا يوجد فارق كبير بين الحضور والغياب، وتصبح التعددية اللغوية أمراً مقبولاً تماماً فتفسد اللغة وينطلق لعب الدوال خارج أية حدود أو قيود أو سدود. وكما قالت سوزان هاندلمان، فإن تَقبُّل التعددية اللغوية هو محاولة لفرض الشرك (أي تعدُّد الآلهة) بدلاً من التوحيد. 
آليـــــات الهرمنيوطـــيقا المهرطقــــة Mechanisms of Heretical Hermeneutics 
يتحقق الإطار العام لظهور الهرمنيوطيقا المهرطقة أو التفكيكية اليهودية من خلال خطوتين أساسيتين: 
1 ـ رؤية يهودية محددة للنص حيث يفقد النص المقدَّس حدوده ويتداخل والنصوص الأخرى ويصبح من الممكن تحميله بأي معنى يشاء المفسر، ومن ثم فهو يصبح نصاً مفتوحاً. 
2 ـ عند هذه اللحظة يمكن تحميل النص المفتوح بالهرطقة باعتبارها المعنى الحقيقي. 
1 ـ عملية فتح النص: 
يمكن وصف عملية فتح النص من خلال النقاط التالية: 
أ ) بالنسبة لليهودي، لا يأخذ الحضور الإلهي في التاريخ شكل تجسد مباشـر في لحظة، فهو يوجد في نص مقدَّس موحى به من الإله. والنص، اللوجوس، وهو تَركُّز القوة الإلهية، يحتوي على كل شيء. ولذا، جاء في التراث الديني اليهودي أن خلق التوراة يسبق خلق العالم، بل إن الإله استخدمها في خلق العالم. 
ب) ولكن هذا لا يعني أن التوراة تصبح، بذلك، نقطة الثبات والحضور الكامل (المطلق) في التاريخ الذي ينقذ التاريخ من قبضة الصيرورة واللامعنى إذ أن الصيرورة تبتلع النص المقدَّس نفسه، فهو ليس كتاباً نهائياً، كما يتضح من « مصادره » المتعددة. وهناك كذلك مشكلة الأصول، فالتراث اليهودي لم يحسم قط مسألة هل التوراة بأسرها كلمات الإله الموحى بها أم أجزاء منها وحسب؟ وهل أُعطيت هذه الكلمات لموسى مباشرة ثم كتبها هو، أم أن الإله خطها بنفسه، أم أعطاها لموسى في حضور الشعب؟ لكل هذا، نجد أن الحضور الإلهي في النص اليهودي المقدَّس ليس حضوراً مطلقاً ثابتاً كاملاً وإنما مجرد أثر أو صدى. 
جـ) والتـوراة، عـلاوة على هـذا، كتاب مُشفَّر لا يمكن فهمه بشكل مباشر. ولذا، حينما أُعطيت التوراة لموسى، أُعطيت له معها آليات التفسير التي استخدمها الحاخامات لتوليد تفسيراتهم المتعددة. والتفسير الحاخامي ليس مجرد مقدمة ضعيفة للمعنى الحقيقي للنص المقدَّس، كما هو الحال في التفسيرات المسيحية، وإنما هو جزء مكمل للوحي الإلهي الأصلي وبالتالي يتداخل النص المقدَّس والتفسير الإنساني وتظهر حالة من التناصّ والسيولة. 
د) والعلاقة بين النص المقدَّس (الثابت) والتفسيرات (المتغيِّرة) علاقة كناية (بالإنجليزية: ميتونومي metonomy) وهي في اللغات الغربية صورة بلاغية تتلخص في استعمال اسم شيء بدلاً من شيء آخر متصل به اتصالاً معيَّناً، كما تقول «جهزوا الأشرعة» أي «جهزوا السفن» فتحل كلمة «الشراع» محل كلمة «السفينة» وهذا ما يحدث في اليهودية إذ نجد أن التفسير متصل بالنص المقدَّس ويحل محله. 
هـ) والتفسيرات الحاخامية هي نفسها متشابكة، فكل تفسير يشير إلى التفسير الذي يسبقه والذي يليه إلى ما لا نهاية (حالة الاخترجلاف). فإن كان ثمة تناص بين النص المقدَّس والتفسير فهو حالة تناص بين كل التفسيرات. وهكذا، يظهر التلمود كتاباً للتفسير الذي يصبح كتاباً مقدَّساً يفوق في قداسته الكتاب المقدَّس، ولكن هذا الكتاب الأكثر قداسة مكتوب بيد إنسانية؛ فهو مطلق غير مطلق، ثابت متغيِّر، إنه الحضور بلا حضور والغياب بلا غياب. 
و ) وهكذا تدخل جرثومة الصيرورة كل شيء حتى في داخل اللوجوس نفسه. ولذا، فإننا نجد جاك دريدا يسخر من المفسرين الذين يحاولون الوصول إلى معنى محدد ونهائي (أو إلى أي معنى على الإطلاق)، فهم مسيحيون بالمعنى النماذجي وغير قادرين على أن يعيشوا التوتر الناجم عن الغياب داخل الحضور والحضور داخل الغياب. وقد شبَّه أحد دعاة ما بعد الحداثة من اليهود التفسير الحاخامي بأنه مثل الأنثى المعوجة اللينة التي تُغوي الحقيقة المستقيمة الصلبة الثابتة فتضيع الحقيقة (المجردة المعقولة) وتظهر الحقائق المتعددة المتغيرة المحسوسة. 
ز ) وتتعمق الصيرورة، ففي داخل هذا الإطار يصبح المفسر (أي من يفك شفرة النص المقدَّس) أهم من النص نفسه، ولذا فإن عبارة «لا يوجد شيء خارج النص» تعني في واقع الأمر لا يوجد شيء خارج المفسِّر/الحاخام، هذا القارئ السوبرمان، وهو ما يعني موت الإله وموت النص ومولد الحاخام. ولكن الحاخام قد ينطق عن الهوى وقد يناقض نفسه، كما أنه لا يوجد حاخام واحد وإنما عدة حاخامات، وهكذا تهيمن التعددية المفرطة. 
والقصة التالية التي وردت في التلمود توضح كل النقاط السابقة. جاء في التلمود أن الحاخام أليعازر كان يتجادل مع بعض الحاخامات بشأن قضية فقهية ويحاول أن يبيِّن لهم أن الشريعة المكتوبة تتفق مع رأيه، بل أتى ببعض المعجزات ليبيِّن أنه مؤيَّد من الإله. فعلى سبيل المثال قال الحاخام أليعازر: «إن كانت الشريعة تتفق معي، فليبرهن النهر على ذلك». وبالفعل، جرى النهر في عكس اتجاهه. وبعد مجموعة من المعجزات، سـئم الحـاخام أليعـازر مـن الجـدل مع الحاخامات وقـال «إن كانت الشريعة تتفق معي، فليأت البرهان من السماء». وهنا سمع الحاخامات صوتاً من السماء يقول: «لماذا تحاجون الحاخام أليعازر بعد أن برهن على أن الشريعة تتفق معه في كل الأمور؟». فرد أحــد الحاخامات «إنها [أي المعنى أو التفسـير] ليسـت في السماء». وأكد الحاخام للإله أن التوراة قد أُعطيت لموسى في سيناء وانتهى الأمر، ومن ثم فإن الحاخامات لا يعيرون الصوت الإلهي أي انتباه. ثم اقتبس الحاخام من التوراة ما يؤيد قوله، وهنا ضحك الإله وقال: «لقد هزمني أبنائي، لقد هزمني أبنائي» (بابا ميتسا 59 أ و59 ب). إن أساس الهرمنيوطيقا اليهودية (حسب تصوُّر دعاة ما بعد الحداثة من أعضاء الجماعات اليهودية وغيرهم) ليس شيئاً في النص وإنما في العقل الحاخامي وهو قلب كامل للأوضاع. 
2 ـ تحميل النص المقدَّس بالهرطقة: 
ولكن ثمة خطوة أخرى أكثر عمقاً وراديكالية من الخطوة السابقة التي تحوِّل الهرمنيوطيقا اليهودية إلى هرمنيوطيقا مهرطقة وهي إعطاء النص المقدَّس مضموناً مهرطقاً بعد فتحه. وهي عملية تتم أيضاً على عدة خطوات: 
أ ) لم يهاجم المفسر اليهودي النص المقدَّس بوضوح وبشكل مباشر كما يفعل المهرطقون عادةً، وإنما لجأ إلى حيلة بارعة تأخذ شكل الالتــفاف. فأعـلن أن النص المقدَّس مصدر الشرعية؛ بل أعلن إيمـانه الكامل به وأنه يتحرك داخل إطار التقاليد الأرثوذكسية اليهودية. 
ب) اكتسب المفسر بذلك شرعية وقداسة، أي باعتباره مفسر النص صاحب الشرعية والقداسة. 
جـ) بدأ المفسـر يـأتي بتفسـيرات حاخـامية يفرضـها على النص فرضاً. 
د) تحولت هذه التفسيرات تدريجياً إلى تفسيرات باطنية غنوصية قبَّالية مهرطقة. 
هـ) كانت هذه التفسـيرات هامشـية ثم أخذت تتحرك تدريجياً نحو المركـز. 
و ) استولى التفسير المهرطق على النص تماماً وأصبحت الهرطقة هي الجوهر، أي أصبحت الهرطقة هي الشريعة، والكفر هو الإيمان، والغنوص هو التوحيد، واللامعنى هو المعنى. 
وقد وردت هذه القصة في أحد أعمال كافكا موضحةً جوهر الهرمنيوطيقا المهرطقة ومتتاليتها. تدخل الفهود (المدنَّسة) المعبد وتشـرب الماء المقـدَّس من الكئـوس المقدَّسة. يحـدث هذا مرة بعـد أخرى. ولذا، وبعد مرور فترة من الوقت، يتوقع الناس وصول الفهود إلى أن تصبح الفهود (المدنَّسة) جزءاً لا يتجزأ من الطقوس (المقدَّسة). 
ترى سوزان هاندلمان أن هذا وصف دقيق لما قام به المثقفون اليهود من دعاة الهرمنيوطيقا المهرطقة. فبعد تحطيم الهيكل، حلت دراسـة التـوراة ودراسـة شـعائر الهيكل محـل تقديم القرابين. ولكن اليهود، بسبب غربتهم ونفيهم وشعائرهم، يقومون بالهجوم على النص لفتحه فيقوم الفهود (الحاخامات) بدخول المعبد (النص) فيشربون الماء المقدَّس من الكئوس المقدَّسة (النص)، وبالتدريج يصبح الفهود (الحاخامات وأصحاب التفسيرات المهرطقة الذين كانوا مغتصبين للمعبد) جزءاً من شعائره، أي أن التفسير المهرطق يصبح هو الشريعة، وهكذا يتم الاستيلاء على الكتاب المقدَّس بدعوى تفسيره. 
ويرى الأديب الفرنسي اليهودي ما بعد الحداثي إدموند جابيس أن أهم نقطة في اليهودية هي اللحظة التي تقع بين تحطيم موسى الوصايا العشر بسبب غضبه من عبادة الشعب للعجل الذهبي وبين تلقىه الوصايا العشر الجديدة. وهذه اللحظة هي لحظة حضور/غياب، شريعة غائبة/موجودة. ويرى جابيس أن الشريعة الشفوية، أي التفسيرات الحاخامية، نشأت في الشقوق التي نجمت عن تحطيم الوصايا العشر كالأعشـاب والطحالب التي تقتل النباتات المزروعة التي تأتي بالثمـر. بذلك، فقد تحوَّلت يسرائيل بأسرها إلى تساؤل مستمر بلا نهاية، وأصبح واجبها هو التفكيك، أي الهرمنيوطيقا المهرطقة؛ وأصبح اليهودي، المتجول المنبوذ، ممثل الأعشاب التي ظهرت في الشقوق، هو عنصر الظلام والشقوق التحتية المظلمة. (وهل يختلف هذا الوصف كثيراً عن وصف أعداء اليهود لدور اليهودي في المجتمعات المختلفة؟(. 
الهـرمنيوطـــيقا المهرطقـــة والمثقفــون اليهــود 
Heretical Hermeneutics and Jewish Intellectuals 
الهرمنيوطيقا المهرطقة (حسب تصوُّر دعاة ما بعد الحداثة من أعضاء الجماعات اليهودية وغيرهم) تعبير عن رغبة اليهود في الانتقام لأنفسهم بسب ما حاق بهم من كوارث تاريخية وبسبب حالة النفي والتبعثر التي يعيشونها وعملية الإحلال التي فُرضت عليهم. إنها محاولة اليهودي الانتقام من العالم اليوناني المسيحي الذي يزعم أن العالم يدور حول اللوجوس وحول نقطة ثبات نهائية، ولكن هذا العالم الذي يبحث عن الثبات قام باقتلاع اليهود وفَرَض عليهم النفي والتحـول والصيرورة. ولذا، فهم رداً على ذلك، يفرضون على النص المقدَّس «التفسير» و«سوء القراءة» المتعمد، الذي هو في واقع الأمر تفكيك وتقويض له وفرض الصيرورة عليه. ولكن التفسير المهرطق، رغم هرطقته، يدَّعي أنه هو نفسه النص المقدَّس حتى يتسنى له أن يحل محله، أي أنها مؤامرة تتم من الداخل باسم التفسير، وهي في واقع الأمر تقويض: إنها فرض اللامعنى باعتباره المعنى، وفرض الظلام باعتباره النور، وفرض الهرطقة باعتبارها الشريعة؛ إنها عملية قلب كامل للمعنى تتم بهدوء ومن خلال الخديعة. 
ولكن الهرمنيوطيقا المهرطقة لم تكن مقصورة على الكتاب المقدَّس المسيحي/اليهودي إذ قام اليهود بتوجيه الهرمنيوطيقا المهرطقة إلى عالم الأغيار الدنيوي أيضاً واستخدموا الخديعة نفسها على الطريقة المارانية التي تجعل اليهودي يظهر غير ما يبطن. وهذا ما يفعله اليهود، فهم في محـاولة ضـرب أعدائهم ادعوا أنهم يقومون بعملية تفسير للتراث الإنساني، لا أكثر ولا أقل. ولكنهم في واقع الأمر يقومون بعملية تقويض جذرية، الهدف منها البقاء الفكري لليهود وتحقيق شيء من الهيمنة. 
والمثقفون اليهود المحدثون - حسب هذه الرؤية - ينتمون إلى تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة، فهم يقعون خارج التراث الغربي (المتمركز حول اللوجوس) يحاولون تحطيمه (ماركس والمجتمع - فرويد والذات البشرية - دريدا والفلسفة - بلوم والأدب)، فهم أيضاً يغوصون في ظلمات النفس البشرية ويصلون إلى عناصر الهرطقة المكبوتة التي تتحدى المعيارية القائمة، فيقومون باكتشافها وبلورتها ودفعها نحو المركز. وكما أن العالم قام بنفي اليهود وإحلال شعب آخر محلهم، فإنهم يقومون بإحلال النص المهرطق محل النص المقدَّس، وهم بذلك يحوِّلون الخارجي إلى داخلي والعكس بالعكس. فيقوم فرويد بتعرية الرغبـات المهرطقة في الذات الإنسـانية، ويقـوم دريدا، سـيد التقويضيين، بتحطيم ركائز الفلسفة الغربية، ويقوم بلوم بتحطيم تقاليد الأدب الغربي الذي يرتكز على المسيحية ويبيِّن الحرب الأزلية الدائرة بين الشعراء. وما يفعله هؤلاء المهرطقون هو أنهم يقضون على النصوص الأصليـة (المقدَّسـة ـ الأبوية ـ السـلطوية ـ الثابتة)، ومن خـلال تفسيرها، يقومون بتفكيكها وتوضيح الظلمات داخلها وإطلاقها من إسارها. وهم يدينون بالولاء للتقاليد الخفية التي يجعلونها التقاليد الحقيقية، ويصبح التفسير المظلم هو الوحي ويصبح اللاوعي هو الوعي الحقيقي. 
وترى سوزان هاندلمان أن تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة لم تَعُد مقصورة على المثقفين اليهود، فهناك في كل أنحاء العالم «مثقفون يهـود» بالمعنى المجازي جعلوا همهم فَتْح النصوص المقدَّسة عن طريق إعلان أن النص المقدَّس صامت يمكن أن يحمل أيَّ معنى يشاء المفسر، ثم قاموا بإعادة تفسيرها وتحميلها معنى مهرطقاً حتى يسود الظلام وتهيمن العدمية (ومما يجدر التنبيه إليه أن كلمات مثل «فوضى» و«ظلام» و«انقطاع» و«عدمية» لا تحـمل أيَّ معنى سـلبي أو قدحي في معـجم سـوزان هاندلمان). 
وهذه الرؤية للمثقفين اليهود تُشيِّئهم تماماً وتجعلهم قوة فريدة من قوى الظلام. ولعل المدافعين عن مثل هذه الرؤية لو دققوا قليلاً لوجدوا أن هؤلاء المثقفين لا ينتمون إلى تقاليد يهودية وإنما إلى تقاليد غربية علمانية. ونحن نذهب إلى أن الحضارة الغربية العلمانية الحديثة هي في جوهرها حضارة تفكيكية. فحين أعلنت هذه الحضارة إلغاء فكرة الإله أو تهميشها، لم يكن هناك بُد من تفسير الإنسان في إطار طبيعي/مادي، فأصبح جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة يُردُّ في كليته إليها، فيتحول من كائن إنساني متجاوز للطبيعة/المادة إلى كائن مادي يمكن تفكـيكه إلى عناصـره المادية الأولية. وهذا هو ما فعله توماس هوبز غير اليهودي الذي أعلن أن الإنسان (الذي يعيش في عالم الطبيعة/المادة وحسب) إن هو إلا ذئب لأخيه الإنسـان. وجـاليلو، ومن بعده نيوتن، كانا «مسيحيين»، وأنكرا على الإنسان أية مركزية، وجاء داروين غير اليهودي، قَبْل فرويد «اليهودي»، واكتشف الظلمات في الطبيعة وفي النفس البشرية. وجاء بعد فرويد عشرات المحللين النفسيين من غير اليهود ممن تبنوا الرؤية الفرويدية بحماس بالغ، وقاموا لا بتطبيقها وحسب وإنما بتعميقها كذلك (هذا مقابل عشرات المثقفين من أعضاء الجماعات اليهودية ممن رفضوا هذه الرؤية التفكيكية العدمية مثل إريك فروم). وهكذا فإن تقاليد التفكيك التقويضي المهرطق، هي تقاليد راسخة في الحضارة العلمانية الغربية. 
يُسقط دعاة ما بعد الحداثة من أعضاء الجماعات اليهودية كل هذه الاعتبارات ويجعلون الهرمنيوطيقا المهرطقة ظاهرة يهودية، وهم في هذا لا يختلفون كثيراً عن رؤية بروتوكولات حكماء صهيون التي تجعل اليهود قوة من قوى الظلام والدمار. ومما يجدر ذكره أن مسألة الاختلاف الجذري بين العقل الهيليني والعقل العبراني هي أحد أسس التفكير العنصري الغربي. ولكن رغم عنصرية سوزان هاندلمان وغيرها من دارسي ظاهرة ما بعد الحداثة بين المفكرين، فإنهم قد وضحوا إحدى السمات الأساسية للإنجازات الفكرية للمثقفين اليهود من دعاة ما بعد الحداثة. 
يتبع إن شاء الله...


الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48337
العمر : 71

الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  Empty
مُساهمةموضوع: بعض مصطلحات ما بعـد الحداثة وعلاقتها باليهـودية وبأعضـاء الجماعات اليهودية    الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  Emptyالسبت 08 فبراير 2014, 11:38 pm

بعض مصطلحات ما بعـد الحداثة وعلاقتها باليهـودية وبأعضـاء الجماعات اليهودية 
Some Post - Modernist Terms and Their Relation to Judaism and Members of Jewish Communities 
تتسم المصطلحات التي يستخدمها دعاة ما بعد الحداثة بالصعوبة البالغة، ولكنها صعوبة ناجمة عن التضخيم الذي لا مبرر له، أي أنها حالة تورُّم لا تركيب. ويتضح مدى بساطة هذه المصطلحات حينما يدرك المرء أساسها الفلسفي. ومعرفة أصولها في العقيدة اليهودية تساهم في عملية التبسيط والتوضيح هذه. وسنتناول في بقية هذه المداخل بعض المصطلحات الأساسية التي يستخدمها دعاة ما بعد الحداثة. ومعظم هذه المصطلحات تدور حول فكرة النص والقراءة. 
الـــدال المتجـــاوز والمــدلول المتجـــاوز Transcendental Signifier and Signified 
«المدلول المتجاوز» هو الركيزة الأساسية لكل الدوال ويقف خارج لعب الدوال، فهو « غير ملوث » بهذا اللعب، وهو ليس جزءاً من اللغة التي تحاول أن تُوقف لعب الدوال وانزلاقيتها وانفصالها عن المدلولات. 
ويُشار إلى «المدلول المتجاوز» أحياناً بأنه «الإله» و«روح العالم» و«المادة» و«الحضور المطلق» و«اللوجوس». ووجود مدلول متجاوز (مفارق) هو الطريقة الوحيدة لكي نخرج من عالم الحس والكمون والصيرورة ونوقف لعب الدوال إلى ما لا نهاية، ونحرز التجاوز والثبات ونؤسس منظومات فلسفية؛ معرفية وأخلاقية. وكل النظم المتمركزة حول اللوجوس لابد أن تتضمن مدلولاً متجاوزاً لعالم الدلالات: هو الإله في المنظومات الدينية، وهو الكل المادي الثابت المتجاوز في المنظومات المادية، ونشـير إليـه أيضاً بأنه «المطلق العلماني». وهو الذي يضمن علاقة الدال بالمدلول. وتتسم العقلانية المادية بوجود مركز فيها، مركز مادي (الإنسان الطبيعي ـ الطبيعة / المادة) ولكنـه مركز (مبدأ واحـد) يعطي النسـق صلابة. 
وقد بيَّن نيتشه الميتافيزيقا الكامنة في فكرة المركز والكل والمعنى المتجاوز للصيرورة، وبيَّن أنه رغم موت الإله فإن ظلاله لا تزال جاثمة، وتتبدَّى في مثل هذه الأفكار. ولذا طالب بمحو ظلال الإله من خلال ضَرْب هذه الأفكار وتقويضها عن طريق ضَرْب الدال المتجاوز (المركز ـ الكل) بحيث لا يبقى سوى لعب الدوال بلا مركز ولا كليات ولا معنى. وهذا ما ترمي ما بعد الحداثة إلى إنجازه، فهي تحاول أن تضرب العلاقة بين الدال والمدلول حتى يتحرر الدال تماماً من المدلول. 
وكما يقول دريدا فإن الدال هو المحسوس والمدلول هو المعقول. وإن ظلت ثنائية الدال والمدلول قائمة فإن هذا يعني أن هناك عالم الدال المحسوس غائص في عالم الصيرورة ولكن يقف إلى جواره عالم آخر، معقول وغير محسوس، عالم المدلول الذي سيفلت بذلك من قبضة الصيرورة. وقد عبَّر دريدا عن هذه الثنائية بقوله إن المدلول المعقول يتجه بوجهه نحو الله، أي إلى عالم الثبات والميتافيزيقا. وما بعد الحداثة تحاول أن توقف هذه السلسلة التي تبدأ بالثنائية وتنتهي عند الله. 
وقد حاول الحاخامات إنجاز شيء من هذا القبيل في اليهودية، فالحاخام المفسر جزء من صيرورة التاريخ والزمان ولكن تفسيراته التي لم تفلت من قبضة الصيرورة مساوية لكلمات الإله (المدلول المتجاوز). ثم تتجاوز كلمات الحاخامات النسبية المبعثرة كلمة الإله الثابتة وتصبح بديلاً لها، وبذلك يسقط كل شيء في قبضة الصيرورة ويصبح العالم بلا مدلول متجاوز، وتتساوى كل الأمور وتصبح نسبية لا معنى لها. 
الحضــور Presence 
«الحضور» من الكلمة الفرنسية «بريزانس presence»، وهو مصطلح استخدمه هايدجر وأشاعه دريدا. و«الحضور» هو ما لا يستند وجوده (حضوره) إلى شيء إلا نفسه. والحقيقة هي التمييز بين الحضور والغياب. ورغم جدة المصطلح، فهو مرادف لكلمات أخرى في الفلسفة الغربية مثل «اللوجوس» (اللوجوس في القبَّالاه اسم الإله الأعظم - أكبر تركيز للحضور الإلهي)، و«الأصل» و«الأساس النهائي» و«الركيزة النهائية» و«المبدأ الواحد، الكلي والنهائي، الروحي أو المادي» و«المركز» و«الأساس القَبَلي» و«الأوَّلي» و«الميتافيزيقا» و«المطلق» و«عالم المثل» و«الكليات الثابتة المتجاوزة» و«المدلول المتجاوز». وقد ذكر دريدا نفسه بعض المرادفات الأخرى، مثل: «الجوهر» و«الحقيقة» و«الوجود» و«الغرض»، وعـرَّفه بأنـه الأسـاس الصـلب الثابت لأي نسق فلسفي. 
و«الحضور» مقولة أولية قَبَلية توجد في البدء قبل تفاعل الذات مع الموضوع، وهو مكتف بذاته ومصدر للوحدة والتناسق والمعنى في الظواهر، وهو يتجاوز الإنسان وواقعه المحسوس، ويتجاوز التفاصيل الحسية ويهرب من قبضة الصيرورة، أي أن الحضور يؤدي إلى ظهور ثنائية الحاضر/الغائب أو ثنائية المتجاوز/الكامن التي هي تعبير عن ثنائية أولية (ثنائية الخالق/المخلوق). وتنتج عن هذه الثنائية ثنائيات أخرى، مثل: الذكر/الأنثى ـ الإنسان/الطبيعة ـ المقدَّس/المدنَّس ـ الثابت/المتحول. ومن خلال «الحضور»، يمكن تنظيم أجزاء الواقع بشكل هرمي والحكم عليها وتقرير ما هو كلي وجزئي، وما هو مركزي وهامشي. 
ويرى دريدا أن النظام الدلالي مبني على الاختلاف والإرجاء (الاخترجلاف) الذي يؤدي إلى عدم تَحدُّد أي معنى وإلى لعب لا متناه للدوال والنصوص، فالمعنى دائماً حاضر/غائب (تحت الممحاة)، وهو ما ينجم عنه انفصال الدال عن المدلول. ولا يمكن أن يتوقف لعب الدوال ويتم التواصل بين البشر إلا من خلال وجود المدلول المتجاوز (الحضور)، وهو النقطة المرجعية النهائية التي توجد خارج الأنساق الدلالية وعالم الصيرورة. وهي نقطة يدركها الوعي مباشرةً، ذلك لأنه مُعطَى مباشر للذات بلا وسيط دلالي. 
ولأنه أساس مطلق، خارج النظام اللغوي والدلالي، فهو لا يشكل جزءاً منه ولا يستند إلى سلسلة الدوال، بل إن النسق اللغوى هو الذي يستند إليه، أي أن وجوده يسبق وجود اللغة. وبهذا المعنى، فإن أية لغة إنسانية (من منظور دريدا) هي لغة أفلاطونية تفترض وجود عالم ثابت يسبق عالم الصيرورة (المدلول المتجاوز/الإله) يضمن الثبات والمعنى. وهذا يعني أن النظام الدلالي ثانوي بالنسبة للمدلول (بسبب أسبقية المدلول المتجاوز على كل الظواهر) ويمكن الاستغناء عنه، فهو يساعد على التذكر أو على التعبير الموجز عن الأفكار، ولكنه في واقع الأمر يقف عائقاً بين الذات والموضوع. 
والمشروع ما بعد الحداثي هو مشروع الحلولية والكمونية الكاملة ومحاولة تأسيس وعي إنساني كامل دون أساس إلهي أو حتى إنساني أو مادي؛ عالم من الصيرورة الكاملة لا حضور فيه ولا مطلقات ولا أي مدلول متجاوز. وهذا يعني ضرورة موت الإله والمطلقات حتى يصبح اللعب الحر للدوال ممكناً وحتى تنتهي النزعة الدينية (مركزية الإنسان التي تستند إلى وجود الإله) والنزعة الإنسانية (مركزية الإنسان التي تستند إلى أسبقية الذات الإنسانية على الطبيعة). وبذا، نصل إلى النهاية الحقيقية لكل أنواع الميتافيزيقا سواء أكانت ميتافيزيقا دينية أم ميتافيزيقا مادية، ولأي نظام فلسفي يعتمد على أسـاس أو مبدأ أول أو أرضية يؤسس عليها التراتب الهرمي. 
ومن ثم، لابد من فك المبدأ الأول والأساس الثابت للوجود الإنساني، ولابد من محو الأصول تماماً، للوصول إلى نقطة بلا أصل، نقطة حلولية، أصولها كامنة فيها تماماً بحيث لا يفلت أيُّ شيء من قبضة الصيرورة، وهي نهاية يرى دريدا أنها لن توصل إلى العدم ولا إلى الغياب (عكس الحضور)، فوجود الغياب شكل من أشكال الوجود يستدعي الحضور، ولذا لابد من الوصول إلى نقطة ليس فيها حضور أو غياب، نقطة بينية مثل الاخترجلاف وهو ليس حضوراً ولا غياباً. 
ونقطة اللاحضور واللاغياب (نقطة الصيرورة الكاملة) مفهوم أساسي في اليهودية. فالإله في اليهودية ليس بشراً ولكنه ذو سمات بشرية، وهو مطلق يتجاوز الطبيعة والتاريخ ولكنه نسبي لأنه مقصور على اليهود، دائم التدخل في الطبيعة والتاريخ، بل يحل في الشعب اليهودي والتاريخ اليهودي. وفي القبَّالاه التراث الصوفي الحلولي اليهودي، هو الأين سوف (الذي لا مثيل له) ولكنه هو أيضاً الآيين (اللاشيء). والكلمتان، كما يشير القبَّاليون، مكونتان من الحروف والأصوات نفسها تقريباً، فكأن الإله لا هو هذا ولا ذاك ولا هو بالغياب ولا هو بالحضور. 
وقصة الخلق في القبَّالاه قد وُلِّدت منها كثير من مفاهيم ما بعد الحداثة وبخاصة مفهوم الحضور/ الغياب هذا. ويبدأ خلق العالم في القبَّالاه بالتسيم تسوم، أي الانكماش، وهي تعني أن الإله خَلَق العالم بأن انكمش في ذاته وانسحب من المادة الأصلية. وبعد ذلك بدأ يوزع الإله ذاته النورانية في أوعية، ولكنها ناءت بحملها فتهشمت في حادثة يُطلَق عليها تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم). وقد نتج عن هذا تَبعثُر الشرارات الإلهية واختلاطها بالمادة الكونية الرديئة. وقد شُبِّهت هذه الحادثة بهَدْم هيكل القدس ونفي اليهود وتَبعثُرهم في بقاع الأرض وإحلال شعب آخر محلهم. وبعد تَهشُّم الأوعية تأتي عملية التيقون، أي الإصلاح الكوني إذ يبدأ الإله في جمع شتات ذاته إلى أن تكتمل. ولكنه لن يصل الإله إلى مرحلة الوحدة والتكامل هذه إلا بمساعدة اليهود. فالإله هنا حاضر/غائب، ومطلـق/نسبي، وثابت/متغـير، ومتجاوز/ حال، وكل غير متكامل. 
والنمط نفسه يوجد في مفهوم الشريعة الشفوية، أي التفسير الحاخامي، ذلك أن قواعد التفسير يُفتَرض أنها أُعطيت لموسى على جبل سيناء مع الشريعة المكتوبة. فالثابت، أي الشريعة المكتوبة، لا يمكن أن يكتمل وجوده دون المتغير، أي التفسير الحاخامي المستمر عبر التاريخ. ولذا، فهي أيضاً حالة حضور وغياب. ويشير جابيس إلى حادثة تحطيم لوحي الوصايا العشر على يد موسى نتيجة غضبه من الشعب لعبادته العجل الذهبي. وما بين لحظة تحطيم الوصايا العشر وإعطاء موسى النسخة الثانية، ثمة حالة من الحضور والغياب، فالشريعة غائبة/حاضرة وحاضرة/غائبة. والوصايا العشر عدة نسخ كلها مختلفة، فهي من ثم حاضرة/غائبة أيضاً. بل إن اليهودي نفسه تجسيد لهذا الحضور/الغياب، فهو منفيٌّ أزلي ولكنه منفيٌّ أزليّ يرفض العودة إلى الدولة اليهودية، وهو صاحب أصول راسخة ولكنه متجول لا حدود له، وهو يبحث دائماً عن جذوره ويعلم مسبقاً أنه لن يجدها، ويُقال إنه صاحب هوية ولكنه في واقع الأمر صاحب هويات لا هوية واحدة، فهو أيضاً المطلق/النسبي، الحاضر/الغائب. 
الثنائيــة Dualism 
يرى أنصار ما بعد الحداثة أن كل النظم المعرفية مبنية على أصل ثابت (الحضور) تنتُج عنه ثنائيات متعارضة، مثل: الفكر/الواقع والمكتوب/المنطوق والحقيقي/الزائف والإنسان/الطبيعة، وتعطي أسبقية للعنصر الأول على الثاني. فالثنائيات المتعارضة هي الطريقة التي تقدم بها أية أيديولوجيا رؤيتـها للواقع. فكل رؤية ترسم حدوداً واضحة بين ما هو مقبول وما هو مفروض، وبين المركز والهامش، وبين الذات والموضوع، وبين الداخل والخارج، وبين الصواب والخطأ، وبين المعنى واللامعنى، وبين العقل والجنون، وبين السطح والعمق، وبين الحلال والحرام، وبين المقـدَّس والمدنـَّس، وبين الأزلي والزمـني وبين الدال والمدلول. 
ويمكن أن يستمر النظام في العمل ما دامت هذه الثنائية قائمة، ولا يمكن أن تقوم للثنائية قائمة بدون الحضور (اللوجوس ـ الأصل ـ لحظة البدء ـ المدلول المتجاوز)، فهو ليس جزءاً من أية ثنائية داخل النظام ويتجاوزها ويتجاوز النظام نفسه فتتوقف عنده سلسلة المعنى المنزلق ولعب الدوال، ويمكن فرض التراتب الهرمي على الواقع من خلاله (ونحن نرى أن النظم التوحيدية تؤدي إلى ظهور مثل هذه الثنائية ولكنها ثنائية فضفاضة تكاملية). 
ومن أهم الثنائيات داخل أي نسق فلسفي ثنائية الإنسان/الطبيعة التي تجعل الإنسان يدرك أنه مختلف عن الطبيعة متميِّز عنها وأنه ليس له ما يماثله في عالم الطبيعة، فهي ثنائية راديكالية. ومن ثم، فإن الإنسان يكتشف أن الحالة الإنسانية حالة متمردة على النظام الطبيعي/المادي، فيشعر الإنسان بكينونته وهويته وحدوده ومقدرته على التجاوز، فيبدأ بالتفكير في أصوله الربانية. وهذا التفكير، إن لم يواكبه إيمان حقيقي بالإله، يؤدي إلى العدمية، إذ أن ذكرى الأصل الرباني تُعذب الإنسان. 
ومن هنا، يرى أنصار ما بعد الحداثة ضرورة إلغاء الثنائية، فإلغاؤها إلغاء للأصل، وإن أُلغي الأصل وأُلغيت الثنائيات تَساقَط النظام تماماً وسادت الواحدية السائلة وتداخلت الحدود والهويات والأشياء (أي تظهر الحالة الرحمية التي لا حدود لها). ولذا، يجعل النقد التفكيكي همه هَدْم الثنائيات وتوضيح انفصالها الكامل أو التحامها الكامل، وذلك بهدف هَدْم الأساس والمبدأ الأول والثابت لتسود حالة الواحدية السائلة والرحمية. وإن ظلت هناك ثنائيات فهي ثنائيات متداخلة يتساوى فيها القطبان ولا تمنع قط لعب الدوال ورقص القلم. 
وما ذكرناه عن الحضو والغياب ينطبق أيضاً على الثنائية، فالتراث الديني اليهودي، بتأكيده حالة الحضور/الغياب هذه، يمحو الثنائيات تماماً. وكل أنواع الحلولية تمحو أية ثنائيات حينما تصل إلى مرحلة وحدة الوجود، حيث لا يبقى إلا جوهر واحد. 
التمركز حول اللوجوس Logocentrism 
«التمركز حول اللوجوس» ترجمة لكلمة «لوجوسنتريك logocentric» المكونة من كلمتي «لوجوس logos» بمعنى «كلمة» أو «حضور» أو «عقل» أو «تجلِّي الإله» أو «المبدأ الثابت الواحـد» وكلمة «سـنتر centre» بمعنى «مركـز». 
ويرى دريدا أن الفكر الغربي فكر متمركز حول اللوجوس (ففي البدء كانت «الكلمة»)، فاللوجوس هي الأصل وكل شيء يستند إليها، ولا يستطيع أحد أن يخرج من نطاق اللوجوس. واللغات الأوربية نفسها متمركزة حول اللوجوس، وبداية الإنسان الغربي متمركزة حول اللوجوس. والأنساق المتمركزة حول اللوجوس تدَّعي لنفسها العالمية والشمول وتدعي أن نقطة مرجعيتها موجودة خارجها، وأنها تستمد معقوليتها ومعياريتها من هذه النقطة. 
كما أن مفهوم الغائية والعلية يستند إلى هذا الأصل الثابت، والتراتب الهرمي والمنظومات الأخلاقية والثنائيات الأنطولوجية والمعرفية والأخلاقيـة (معقـول/غير معقــول ـ خيِّر/شـرير) كلها تستند إليه. ولكن، بمعنى من المعاني، يرى أنصار ما بعد الحداثة أن الفكر الإنساني كله متمركز حول لوجوس ما (بمعنى العقل والمركز والمبدأ الأسـاسي الثابت)، فلا يوجد فكر إنسـاني بدون أسـاس ثابت خارج عنه، ولذلك فإن كل الفكر الإنساني (ربانياً كان أم إلحادياً) ميتافيزيقي (ملوث بالميتافيزيقا) لا يتعامل مع الصيرورة الحسية المباشرة. 
ويهاجم أنصار ما بعد الحداثة التمركز حول اللوجوس، فيطرح دريدا مفهوم الاخترجلاف والتناص والكتابة الأصلية والأثر والهوة (أبوريا) ورقص الدوال والتمركز حول المنطوق والنص المفتوح، وكلها تحاول مهاجمة فكرة الأصل الثابت من خلال محو الثنائيات والحدود حيث يسقط كل شيء في الصيرورة وتسود الانزلاقية. والتمركز حول اللوجوس، في التراث اليهودي، حالة مستحيلة توجد في الماضي السحيق حينما كان يهوه يحل في الشعب ويقوده في البادية ويدخل معه في علاقة حوارية مباشرة. كما يوجد التمركز حول اللوجوس في نهاية التاريخ في اللحظة المشيحانية حين يجمع الإله شعبه المبعثر ويحل فيه ويقـوده مرة أخـرى إلى أرض الميعاد ليسـود العالم. أما ما بين اللحظتين، وهو التاريخ بأسره، فإن الإله غائب واللوجوس غير موجود لا يمكن التمركز حوله (على عكس ما يتصوره المسيحيون)، فهي حالة تبعثر وتشتت وصيرورة عبثية كاملة، وهذا هو المجال البحثي لأنصار ما بعد الحداثة. وقد تطوَّر اللاهوت اليهودي تدريجياً ليصبح لاهوتاً بلا مركز ولا لوجوس، وهو ما يُسمَّى «لاهوت موت الإله». 
القصــص الصغــرى والقصــة الكــبرى Small Narratives and Grand Narrative 
»القصص الصغرى» و«القصة الكبرى» مصطلحان من فلسفة ما بعد الحداثة. وهي، كالمعتاد، لا تقول شيئاً جديداً وإنما تقول القضايا القديمة بطريقة متضخمة متورمة تخبئ أكثر مما تكشف. وما بعد الحداثة ليست معادية للمنظومات الدينية وحسب وإنما معادية للمنظومات الإنسانية الإلحادية أيضاً. ويتضح هذا في استخدامهم كلمة «قصة»، فكلمة «قصة» بديل لكلمة «رؤية» أو «نظرية» أو «نموذج»، وعلاقة القصة الصغرى بالقصة الكبرى هي علاقة الخاص بالعام والحالة بالنظرية والفرد بالمجتمع... إلخ. 
ودعاة ما بعد الحداثة يعادون القصص الكبرى (النظريات الكبرى والرؤى العامة والنماذج) ويرون أنه، منذ عصر النهضة والاستنارة، تحاول المنظومة المعرفية الغربية الحديثة التوصل إلى نظرية (قصة عظمى) تضم كل النظريات (القصص) الصغرى وتتجاوزها. ووصفهم هذا وصف للفلسفات المادية التي تطرح رؤية مادية للكون ترتكز إلى مطلق كامن في المادة (العقل ـ الروح المطلقة ـ البروليتاريا) وتفسر كل شيء بدون ثغرات وبدون أية مسافة بين الكل والجزء، وهو وصف جيد لفلسفة التاريخ المادية بكل حتمياتها وإيمانها بأنها تفسر كل شيء وتَرُدُّ كل الأبنيـة الفوقيـة إلى بنـاء تحتي واحد يُردّ بدوره إلى عنصر مـادي واحد، فتسقط في الواحدية السببية. 
ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا، فقد وُصفت ما بعد الحداثة بطريقة متورمة بأنها فلسفة ضد القصص ذات النزعة الكلية الترانسندنتالية (المتجاوزة) المتمركزة حول اللوجوس (بالإنجليزية: أجينست لوجوسنتريك توتاليزنج ترانسندتال ميتاناراتيفز against logocentric totalising transcendental metanarratives)، أي أنها فلسفة معادية للقصص الكلية التي تستند إلى لوجوس (مركز) متجاوز للصيرورة المادية، أي أنها ببساطة شديدة ضد أية نظرية كلية تشير إلى عالم متجاوز لعالم الجزئيات المحسوسة المباشرة. 
ويستخدم دعاة ما بعد الحداثة كلمة «قصة» بدلاً من كلمة «رؤية» أو «نظرية» لأن الرؤية والنظرية إذا كانت مجرد قصة، فهي إذن نسبية ولا تشير إلى ما هو خارجها (تماماً مثل النظام اللغوي). ولا شك في أن محاولة تأسيس نظرية (عامة) على أساس القصة (الخاصة) هو من قبيل العبث، إذ لا يمكن التعميم من الخاص. فكل النظريات قصص، ومن ثم فالحقيقة الدينية بل الإنسانية غير ممكنة، والمعرفة أمر غير وارد، ولا يوجد أساس لكتابة تاريخ عام، ولا توجد نظرية للكون، ولا توجد حدود إنسانية شاملة ومشتركة؛ ولكن توجد جزر من الحتمية والحرية، والمعرفة كلها مرتبطة بمواقع محلية مختلفة داخل إطار لغوي وتفسيري خاص، ولا يبقى أمامنا سوى القصص الصغرى التي لا تتجاوز شرعيتها ذاتها. 
فهي (كالنظام اللغوي) مغلقة على نفسها تماماً وتمنح صاحبها يقيناً خاصاً عالياً ولكنها لا تجيب عن أية أسئلة كبرى نهائية أو كلية. وهي قصة لا تتطلب أية شرعية من قصة كبرى فمطلقها (مركزها) كامن فيها، مرتبط بالآن الخاص والهنا الخاصة، مرتبط بالموقف المادي المباشر (الزماني المكاني) الذي لا علاقة له بالتاريخ الأكبر أو المطلقات العالمية أو الإنسانية المشتركة. وتفترض القصة العظمى وجود الكليات المتجاوزة للسياق الحسي المباشر مثل الإنسانية المشتركة ووحدة الحق ووحدة الحقيقة ولا تتغير بتغير السياق. 
أما القصة الصغرى، فهي مرتبطة تمام الارتباط بسياقها، فتفترض المطلق الخاص الذي يذكِّرنا بالحلوليات الكمونية الوثنية والوثنيات القديمة، التي لم تكن تؤمن برؤية عالمية ولا أخلاقيات عالمية ولا إنسانية مشتركة، والتي تذكِّرنا كذلك بالقوميات العضوية، وبالحركة النازية والصهيونية وجوش إيمونيم، فهي جميعاً تدور في إطار قصص صغرى يؤمن بها أصحابها ويستمدون قداستهم منها، ويستبعدون الآخر بالضرورة إذ لا توجد قصة إنسانية عظمى تضم الجميع ويمكن الاحتكام لها. ومن ثم، يمكن القول بأن القصة الصغرى قصة علمانية تماماً، فهي تنكر أي تجاوز أو أي ثبات أو أية كليات توجد وراء التجربة الحسية المباشرة أو تقف خلف دوامة الصيرورة. 
والقصة الصغرى قصة الشعب المختار الذي يؤمن بأن الإله غير مفارق له، يسكن في وسطه، ويتحد به، وهم يعاملونه معاملة الند لنده، فيدخلون معه في علاقة حوارية، ويعصون أوامره ببساطة شديدة وفي نهاية الأمر يتحدث الحاخامات بدلاً منه. ولكنهم لا يأتون بقصة كبرى، وإنما بقصص حاخامية متعددة مختلفة، إلى أن نصل إلى اليهودية المحافظة التي تُعلي الذات اليهودية وتجعلها المركز الحقيقي للمنظومة اليهودية، ثم تجعلها مصدر المعيارية. وفي نهاية الأمر ظهرت اليهودية الإنسانية فاليهودية الإلحادية فلاهوت موت الإله. 
الاخــتـلاف La Differance 
»الاخترجلاف» كلمة قمنا بنحتها من كلمتي «اختلاف» و«إرجاء»، على غرار كلمة «لا ديفيرانس la differance» التي نحتها دريدا من الكلمة الفرنسية «differer» بمعنى «أخَّر» أو «أرجأ» و  «difference» بمعنى «اختلاف«. ويُلاحَظ أن الفرق بين «ديفرانس la differance» (الكلمة التي نحتها دريدا) وكلمة «difference» بمعنى «الاختلاف» ليس في النطق وإنما في الكتابة، ففارق النطق بين «ence» و«ance» ضعيف للغاية ويكاد لا يبين للسمع. وتحتوي الكلمة على معنى الاختلاف (في المكان) ومعنى الإرجاء (في الزمان). 
ويرى التفكيكيون أن المعنى يتولَّد من خلال اختلاف دال عن آخر، فكل دال متميِّز عن الدوال الأخرى. ومع هذا، فثمة ترابط واتصال بين الدوال، فكل دال يتحدد معناه داخل شبكة العلاقات مع الدوال الأخرى، لكن معنى كل دال لا يوجد بشكل كامل في أية لحظة (فهو دائماً غائب رغم حضوره) إذ أن كل دال مرتبط بمعنى الدال الذي جاء قبله والذي جاء بعده، ووجوده نفسه يستند إلى اختلافه. ويضرب دعاة ما بعد الحداثة مثلاً بالبحث عن معنى كلمة في القاموس فإن أردت أن تعرف معنى كلمة «قطة» فسيتحدد معناها من خلال اختلافها مع كلمتي «نطة» و«بطة». 
كما أن القاموس سيخبرنا أن «القطة حيوان» فسنذهب لكلمة «حيوان» لنعرف معناها، وهناك سنعرف أنه «كائن ذو أربعة أرجل» فسننظر لمعنى كلمتي «كائن» و«أرجل» إلى ما لا نهاية، أي أن دائرة الهرمنيوطيقا هنا دائرة مفرغة لا تؤدي إلى نهاية أو معنى فكل تفسير يؤدي إلى تفسير آخر. وهذا يعني أن مدلول أي دال مُعلَّق ومؤجل إلى ما لا نهاية، وهو ما يؤدي إلى لعب الدوال اللامتناهي (ولا يمكن أن يوقف هذه العملية سوى المدلول المتجاوز، أي الإله الذي يقف خارج شبكة لعب الدوال). 
والاخترجلاف ليس هوية أو أساساً أو جوهراً أو أصلاً وإنما هو قوة كامنة وحالة في اللغة نفسها يحركها من داخلها فيفصل الدال عن المدلول، ولذا يصبح عالم الدوال مستقلاً عن عالم المدلولات ويخلق الهوة (أبوريا)، ومن ثم تصبح اللغة قوة لا يمكن التحكم فيها. ولأن الاخترجلاف كامن في اللغة، فليس بإمكان أي شيء أن يهرب منه، فهو ممثل الصيرورة داخل النسق اللغوي، وسيلة الإنسان الوحيدة للتعامل مع الواقع والتواصل مع بقية البشر. 
والاخترجلاف يحل محل مفهوم البنية عند البنيويين، ولكنها البنية بعد أن وقعت في دوامة الصيرورة، فالاخترجلاف لا يعرف الثنائية ولا التجاوز ولا الغائية، فهو مجرد منها جميعاً. فالحضور الوحيد بالنسبة له هو عملية لا متناهية في الزمان والمكان ولا يعرف الزمان أو المكان. والاخترجلاف - كما أسلفنا - يتم على أساس الاختلاف في المكان والإرجاء في الزمان، فهو لا يستقر فيهما أبداً ولا يمكن أن يصبح هو هو. والاخترجلاف، على خلاف البنية، لا يعرف أي مركز، ومن ثم لا يوجد أي تراتب هرمي من أي نوع. 
والاخترجلاف لا يشاكل العقل الإنساني بل يتجاوزه ويستوعبه. وهو على عكس البنية ليس مفهوماً، فهو شيء لا يفكر فيه المرء وإنما يحدث له، أو يحدث للنص (ولذا فإن النص يكشف لنا شيئاً عن طبيعة المعنى/اللامعنى التي لا يمكن صياغتها على هيئة أطروحة). الاخترجلاف، إذن، عكس الحضور والغياب، بل يسبقهما (ولذا سمي أنطولوجيا الحضور والغياب الذي لا يمكن معرفته)، وهو لا وعي اللغة والأصل الذي لا يمكن معرفته أو إدراك كنهه، وهو آلية تقويض المعنى والحقيقة والأصل الثابت المتجاوز للغة والإنسان، وهو تأكيد أولوية اللغة على الإنسان. الاخترجلاف، إذن، هو استيعاب المطلق في الصيرورة، فهو المطلق/النسبي. وهو المبدأ المادي الواحد الذي يسري في الكون، وهو القوة الدافعة له الكامنة فيه والتي تتخلل ثناياه وتضبط وجوده وتوحده، وهو النظام الضروري والكلي للأشياء، نظام ليس فقط فوق الطبيعة ولكنه نظام فوق الإنسان أيضاً، إنه مطلق علماني جديد في عصر المادية الجديدة أو اللاعقلانية المادية حيث تغوص كل الأشياء في دوامة الصيرورة. 
ومفهوم الاخترجلاف فيه آثار كثيرة من المفاهيم القبَّالية مثل «إين سوف»، أي «الذي لا نظير له»، ومفهوم «شفيرات هكليم»، أي «تَهشُّم الأوعية»، وعملية «تيقون»، أي «إصلاح»، وكلها عمليات مستمرة بلا نهاية في عالمنا هذا ولا تتوقف إلا في نهاية التاريخ. وثمة صدى من مفهوم الشريعة الشفوية التي تفرض نفسها على الشريعة المكتوبة الموحى بهـا من الإله، والشريعـة الشـفوية عمليـة اخترجلافية لا تنتهي، ولذا يسخر دريدا من المفسرين الذين يودون الوصول إلى معنى نهائي (فهم مسيحيون بالمعنى النماذجي) غير قادرين على أن يعيشوا في التوتر الناجم عـن الغياب داخل الحضـور وعـن الحضور داخل الغياب. ويرى أن اليهودية والقراءة هما شيء واحد، هما الانتظار الإرجاء نفسه؛ الاخترجلاف نفسه؛ التوقع نفسه والأمل نفسه الذي لا يتحقق أبداً. 
الأثــر Trace 
«الأثر» ترجمة لكلمة «تريس trace» الإنجليزية، وهو من المفاهيم الأساسية في فكر دريدا والمرتبط تمام الارتباط بمفهوم الاخترجلاف. والاخترجلاف هو القوة الكامنة في اللغة الدافعة لها والمقوضة للدلالة. ويبيِّن دريدا أن معنى الكلمة (دلالتها) ليـس كامناً فيهـا، فهي لا جـوهر لها، وإنما يتحدد من خلال الاخترجلاف. أي أن مدلول كل كلمة يتحدد من خلال غياب المدلولات الأخرى، فحضور الدال وارتباطه بمدلوله هو غياب الدوال والمدلولات الأخرى. ولكن، رغم غياب الدوال الأخرى، فإن الدال الحاضر يستدعيها عن غير وعي. ولذا، فإنني حينما أفكر في الدال الماثل أمامي وأركز عليه، أفكر عن غير وعي في الدوال الأخرى. 
وكل دال يحتوي على أثر من الدوال التي يختلف عنها سواء وردت قبله أم وردت بعده. ومعنى الدال غائب عنه دائماً وليس له حضور كامل قط، فهو جزء من شبكة العلاقات الدلالية (غائب/حاضر). ومن خلال عملية الاخترجلاف عبر السنين، يحدث تراكُم للآثار. ويبدو هذا التراكم وكأنه المعنى الثابت والمستقر للكلمات، ولكنه في واقع الأمر ليس كذلك، فهو مجرد وهم ـ أثر. وتعني عبارة «سو راتير sous rature» الفرنسية (بالإنجليزية: أندر إريشر under erasure) «تحت الممحاة» أن الكلمة التي نظن أنها مُحيت وزالت تترك وراءها أثراً لا يزول ويمارس وظيفته أو آثاراً من وظيفته. 
والنتيجة أن اللغة ليست طاهرة تماماً، ذلك لأن كل كلمة تحتوي أثراً من الكلمات السابقة وتترك أثراً في الكلمات اللاحقة، ولذا يفيض المعنى عن إرادة الكاتب وعن حدود النص، وبذا يحل الأثر محل الحضور ويمَّحي الأصل تماماً إذ لا يبقى من الأصل سوى الأثر، فالأثر هو الأصل الذي لم يبدأ شيئاً، فهو أصل بلا أصل، ومن ثم فإن الإنسان يجد نفسه بلا أصل رباني أو إنساني ولا يبقى أمامه سوى الصيرورة الثابتة (التي تشبه النفي الأزلي لليهودي). 
ولذا، فإن القارئ لن يجد أساساً قوياً يستند إليه وينزلق لذلك في دوامة الصيرورة. وإذا كانت الحقيقة هي المقدرة على التمييز بين الحضور والغياب، فإن الحقيقة (بذلك) تغيب، والأثر يلقي بظلاله على كل شيء، وهذا يعني استحالة الوصول إلى الحضور الكامل والمدلول المتجاوز الذي يقع خارج نطاق الحسية المباشرة والنص، كما يعني استحالة الوصول إلى أي معنى، فالمعنى متناقض غير محدد ولا يمكن التوصل إليه. وهذا لا يختلف كثيراً عن مفهوم الشريعة الشفوية حيث حل التفسير محل الأصل والنص المقدَّس ولم يبق منه سوى أثر. كما أن التفسيرات نفسها تتلاحق بحيث يجُبُّ بعضها البعض ولا يبقى سوى صدى، أثر لعملية التفسير نفسها والتي أُعطيت آلياتها لموسى مع الشريعة المكتوبة (التوراة)، أي أن التوراة من البداية جاءت ومعها التفسير الذي لا يقل عنها قداسة. 
وبرغم كل هذا، فنحن لا نملك سوى تكرار استخدام الكلمات. ولذا، فإن التكرار هو الذي يعطيها هويتها (الآثار المتراكمة) وهو الذي يهدمها. والتكرار من ثم هو فقدان دائم للبراءة والطهر. ولكن ليس أمامنا سوى التكرار، ولا يوجد أمامنا سوى أن نعني (نقول) شيئاً (بالفعل ـ دائماً ـ كذلك) مختلفاً عما نود أن نوصله (نعنيه ـ نقوله) ونفهم شيئاً ثالثاً، وما نصل إليه من معنى هو نتاج لعب لامتناه للدوال. ولأن الكلمات ليست بريئة، ولأن المعنى وقع في قبضة لعب الدوال ورقص القيم، قرَّر دريدا (مقتفياً أثر هايدجر) أنه لابد أن يخلق لغته الخاصة، زاعماً أنه كلما نحت كلمات جديدة فإن الميتافيزيقا تستوعبها ويصبح لها معنى ثابت.
يتبع إن شاء الله...


الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48337
العمر : 71

الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  Empty
مُساهمةموضوع: تــناثـــر المعنــى Dissemination    الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  Emptyالسبت 08 فبراير 2014, 11:50 pm

تــناثـــر المعنــى Dissemination 
عبارة «تناثر المعنى» هي ترجمتنا لكلمة «ديسمينيشن dissemination» التي يستخدمها دريدا في مقام كلمة «دلالة». والكلمة من فعل «ديسمينيت disseminate» بمعنى «يبث» أو «ينثر الحبوب». والمعروف أن أحد مقاطع الكلمة «سيمين semen» تعني «بذر» أو «سائل المني». والمعنى المباشر للكلمة عند دريدا هو «ينثر المعنى». 
ومع هذا، فإن للكلمة عدة مستويات: 
1 ـ معنى النص منتشر ومبعثر فيه كبذور تُنثَر في كل الاتجاهات، ومن ثم لا يمكن الإمساك به؛ تشتيت المعنى؛ لعب حرّ لا مُتناهٍ لأكبر عدد ممكن من المعاني. 
2 ـ تأخذ الكلمة معنى «وكأن لها دلالة دون أن تكون لها دلالة»، أي أنها تُحدث أثر الدلالة وحسب. 
3 ـ نفي المعنى. 
وهذا المفهوم لا يختلف عن المفاهيم الأخرى مثل «الأثر» و«النسخة» و«الاخترجلاف»، وكلها محاولات تهدف إلى أن يغـوص كل شـيء في دوامة الصيرورة، حتى يفقد كل شيء هويته وحدوده. وتناثُر المعنى مفهوم يشبه تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) في التراث القبَّالي. وهو مرتبط بمفهوم الشعب اليهودي المشتت في عالم بدون مركز، فتناثُر المعنى هو تشتيته في كل النص بلا مركز، فكأن المعنى المتناثر هو الشعب المنفي. واجتماع الشعب مرة أخرى من خلال عملية الإصلاح (تيقون) هو عملية الحضور (الإلهي) الكامل والعودة لحالة البليروما (حالة الامتلاء الأولى). 
الهـوة (أبوريـا) Aporia 
«أبوريا» كلمة يونانية تعني «الهوة التي لا قرار لها». والهوة (أبوريا) عكس الحضور الكامل أو الأساس الذي نطمئن إليه، أو على وجه الدقة هي ما يتجاوز ثنائية الحضور والغياب. وإذا كان الحضور هو الحقيقة والثبات والتجاوز والعلاقة بين الدال والمدلول والتحامهما، فالهـوة هي الصـيرورة الكاملة التي لا يفلت من قبضتها شـيء، فهي دليل على أن الواقـع متـغيِّر بشكـل دائم. ولا هرب من التغير، فحتى التغير نفسه (شكله ـ طريقته ـ نمطه) متغير. والهوة دليل على أن اللغة قوة لا يمكن التحكم فيها. 
إن الهوة هي أحد أسماء المطلق/النسبي ما بعد الحداثي. وقد وصفها دريدا بأنها المحدد غير المحدد، والتناهي غير المتناهي، والحضور/كغياب. وفي لغة أكثر صوفية وإشراقية وبلاهة، وصفها في كتابه علم الكتابة (الجراماتولوجي) بأنها "طريقة التفكير في عالم المستقبل الذي لا مفر منه، والذي يعلن عن نفسه في الوقت الحاضر متجاوزاً انغلاق المعرفة... إنها هي التي ستفصم الوعي تماماً عن المعيارية السائدة... ولا يمكن الإعلان عنها وتقديمها إلا باعتبارها شكلاً من أشكال الوحشية". أما في الكتابة والاختلاف فإنه يشير إليها باعتبارها "الشيء الذي لا يمكن تسميته، النوع الذي لا نوع له.. الشكل الذي لا شكل له.. رؤية الوحشية المخيفة". وهذا خليط من أسماء الإله (شيم هامفوراش ـ إين سوف ـ آيين) والمفاهيم القبَّالية (شخيناه السوداء). 
والهوة (أبوريا) مرتبطة تماماً بالنزعة الرحمية وفقدان الحدود والمسئولية والهوية، فهي تشير إلى عالم لا يوجد فيه أي ثبات ولا يوجد فيه أي توق لثبات. ولن تكون هناك عودة للميتافيزيقا والتمركز حول اللوجوس ولا حتى ما هو خلف الميتافيزيقا (ميتا ميتافيزيقا). فهو دائماً بقاء في براءة الصيرورة، في عالم من الإشارات بلا خطأ، ولا يمكنها أن تخطئ لأنها لا تشير إلى أية حقيقة. فالإشارات بلا أصل (وهذا يعنـي في الخطاب ما بعد الحــداثي، أن أصلها مادي في عالم الصيرورة، وأن الإنسان إنسان طبيعي/ مادي)، فهو عالم "تصاحبه ضحكة ما" و"رقصة ما"... تأكيد فرح للعب العالم ونسيان نشيط للوجود (نيتشه في أصل الأخلاق)، فهو لعب بلا أمن، لعبة الصدفة المطلقة حيث يستسلم الإنسان إلى اللامحدود، فالمستقبل غير مغلق وهو خطر كامل. 
والهوة هي النقطة التي تنفصل فيها سلسلة الدلالات عن سلسلة المدلولات، ويبدأ انزلاق الدوال وتبدأ عملية الاخترجلاف وتناثُر المعنى. والدلالات هي التي تبيِّن الهوة ولكنها هي أيضاً التي تخبئها. وسبب الاخترجلاف هو الهوة (أبوريا)، فوجودها يمنع أن يتطابق الدال وأي مدلول ويظل المعنى مختلفاً ومُرْجَئاً دائماً. وكل النصوص تحوي داخلها هذه الهوة أو نقطة الفراغ أو تحوي عنصراً غير منطقي لا يستطيع النص أن يستوعبه، فهو تناقض داخل النص غير متسق معه. ومهمة الناقد التفكيكي هي أن يبحث عن هذه الهوة ويمسك بها، وقد شبهها أحد الدارسين بأنها مثل الخيط الذي إن أمسك به الناقد وجذبه انهدم البناء تماماً أو هي حجر الأساس داخل جدار ما (حجر مُفكَّك) إن جذبه الناقد تهدَّم البناء بأسره ويُلاحَظ أن المسألة ليست «تفكيكاً» (ديكُنستراكشن deconstruction) كما يدَّعون وإنما هو «تقويض» (ديستراكشن destraction). ومع هذا، يقول التفكيكيون إنهم لم يهدموا البناء وإنما يبينون أنه مفكك وحسب، وأن البنية المتماسكة التي تظهر لعيوننا ليست سوى وهم إذ أنها لا أساس لها. فالتفكيكيون لا يفككون لأن كل شيء مُفكَّك متفكك من تلقاء نفسه، أو على الأقل عنده قابلية كامنة للتفكك! 
الكتابــة/ القــراءة Writing/ Reading 
«الكتابة/القراءة» هي إحدى الثنائيات المتعارضة التي روج لها البنيويون. وقد تطوَّر المفهوم على يد أنصار ما بعد الحداثة (أنصار ما بعد البنيوية). والقراءة في هذا السياق هي النص المغلق الذي ينطوي على معنى ثابت ولا يدعو لمشاركة القارئ في عملية إنتاج المعنى، فهو متمركز حول فكرة (صدى للوجوس، أي الكلمة المطلقة، فالقراءة صدى للتمركز حول اللوجـوس)، أي أن النـص هنا قد أفلت من قبـضة الصيرورة. هذا على عكس الكتابة، فهي منظومة من القوائم التي تنطوي عليها تفاعلات نصية منفتحة دائماً على التفسير، فهي حمَّالة لمعان لا تكف عن التولـد، وعلى نحـو يؤكد إسـهام القارئ في إنتاج الدلالة، فالنص المكتوب نص يدخل عالم التناص والصيرورة. 
وقد قال إدمون جابيس إن الشاعر هو رجل الكلمة والكتابة تماماً، مثل اليهودي، فكلاهما يحلم حلماً منفصلاً عن الواقع، حلم العودة إلى صهيون وحلم كتابة أجمل قصيدة، فالحلم المنفصل عن الواقع يشبه لعب الدوال حين لا تشير الدوال إلى شيء خارجها. وكل من الشاعر واليهودي لا يضرب بجذوره في أي موقف ثابت أو أرض محددة أو وطن دائم، فهم دائماً ليسـوا هنا وإنما هنـاك، على وشك التحقق ولا يتحققون. ووطن الشاعر واليهودي ليس الأرض وإنما الكلمة (ديوان الشاعر وكتاب اليهودي المقدَّس). 
لكن النصوص التي ينتجها اليهودي والشاعر هي نصوص مفتوحة، شكل من أشكال الكلام المنفيّ، كلام ليس له معنى نهائي، فالقصيدة تقع في قبضة الاخترجلاف الدائم والنص المقدَّس يقع في قبضة التفسيرات التي لا تنتهي. وكما أن الشاعر يخلق وطنه من خلال الكتابة، فإن اليهودي يفعل الشيء نفسه، فهو يفرض على النص المقدَّس تفسيرات مستمرة هي وطنه. والكلمات هي التي تختار الشاعر ولكنه هو الذي يلدها، والإله هو الذي اختار اليهود ولكنه لا يكتمل ولا يجمع شتات ذاته إلا من خلال اليهود. فصعوبة أن يكون الإنسان يهودياً هي نفسها صعوبة الكتابة (على حد قول دريدا). 
الكتابــة الكـــبرى أو الأصليــة Archi - Ecriture; Proto - Writing 
«الكتابة الكبرى» أو «الكتابة الأصلية» أو «الكتابة بشكل عام» ترجمة لمصطلح ابتكره دريدا، وهو «آرشي إكرتيير archi-ecriture»، وهي كلمة فرنسية مركبة تُرجمت إلى الإنجليزية بلفظة «بروتو رايتنج proto writing» بمعنى «الكتابة الأصلية أو الأولية»، و«أوريجينال تكست original text» بمعنى «النص الأصلي». كما أن كلمة «ecriture» الفرنسية تعني أحياناً «سكريبتشر scripture» أي «النص المقدَّس». وكل هذا الإسهال اللفظي مرتبط بإحدى الثنائيات التي يود دريدا محوها، وهي ثنائية المنطوق المكتوب وأسبقية الأول على الثاني، أي أسبقية الفكر على اللغة ومن ثم إفلاته من قبضة الصيرورة والاخترجلاف. ولكن لابد من أن تُقلَب الأمور رأساً على عقب حتى يمكن « إثبات» أسبقية اللغة على الفكر، وحتى يقع كل شيء في قبضة الاخترجلاف والصيرورة والحركة الدائمة. ولذا، يقرِّر دريدا أن الكلام المنطوق إن هو إلا صدى لنص أصلي أو أولي يوجد في عقل الإنسان قبل تقسيم الكلمة إلى دال ومدلول ويتجاوز القسمة المبتذلة إلى كلام وكتابة. وبذا، فإن الكلمة المنطوقة التي يتفوه بها الإنسان هي في واقع الأمر صدى لنص مكتوب أولي في عقله. 
ولا يوجد أي دليل أو سند تاريخي لإثبات هذه النظرية، ولكن هناك رغبة أيديولوجية عند دريدا لإثباتها. وهذا يعود إلى أنه يحاول أن يزيح المتكلم الذي ينطق بالكلام، فهو عنصر إنساني واضح متعين له بنية وقصد ووعي، وهو يشير إلى واقع موضوعي يتحدث عنه. فالمتحدث كيان يصعب تفكيكه، فهو ذات تشير إلى موضوع، توجد فكرة في عقله ومن ثم فإن وجوده تأكيد للحضور والتمركز حول اللوجوس. أمـا مفهـوم الكتـابة الأصلية الموجودة في عقل الجميع، فهو يزيح المتحدث تماماً ومن ثم يُنهي وهم الحضور. 
ولا شك في أن أسطورة الكتابة الكبرى أو الأصلية هي محاولة من قبَل دريدا لأن يرفض الرؤية التوحيدية للخلق، أي أن الله خلق آدم وعَلَّمه الأسماء كلها (المعرفة ـ العقل ـ اللوجوس)، وبث النور في صدره، نوراً معقولاً وليس محسوساً، وانطلاقاً من هذا نطق آدم وسمَّى الحيوانات والنباتات، فهي رؤية متمركزة حول اللوجوس. أما دريدا فيرى ضرورة أن يدفع بكل شيء في دوامة الصيرورة، فكل نص يحيلك إلى نص آخر وكل النصوص صدى لهذا النص الأصلي الذي لم ولن يقرأه أحد (يُذكِّرنا بتوراة الفيض الإشراقية الخفية في القبَّالاه اللوريانية المكتوبة بحبر أبيض لا يراه أحد سوى أصحاب الغنوص والعرفان). 
التمركز حول المنطوق Phonocentric 
«التمركز حول المنطوق» ترجمة لكلمة «فونوسنتريك phonocentric» من كلمة «فونو phono» بمعنى «صوت» و«سنتر centre» بمعنى «مركز». وهي إحدى الإشكاليات الفلسفية التي يطرحها دريدا وهي مرتبطة تمام الارتباط بهجومه على الأفكار الكلية، وبفكرة الحقيقة والحضور، بمحاولة دفع كل شيء في قبضة الصيرورة. ويرى دريدا أن الحضارة الغربية (بل الفكر الإنساني) متمركزة حول اللوجوس (مطلق ما متجاوز للتفاصيل الحسية المباشرة يقع خارج شبكة لعب الدوال) يمكن ترتيب الواقع في إطاره. يأخذ هذا الترتيب شكلاً هرمياً داخله ثنائيات متعارضة، وداخل الثنائية نفسها ثمة أسبقية أو أفضلية لأحد طرفيها. ويرى دريدا أن تراث الحضارة الغربية الفكري يقوم على ثنائية المنطوق/المكتوب، وأن المنطوق له أولوية وأسبقية على المكتوب، أي أن اللغة المنطوقة في مرتبة أعلى من اللغة المكتوبة بحيث يمكن اعتبار اللغة المكتوبة تابعة للغة المنطوقة. 
وقد تبدو هذه الإشكالية وكأنها إشكالية أكاديمية خاصة بعلماء اللغة يمكنهم وحدهم النقاش بشأنها. ولكننا سنجد أن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، فهو مرتبط تمام الارتباط برغبة دريدا في إنكار أية أصول متجاوزة وأي ثبات وأية كليات وذلك حتى تسود الصيرورة الكاملة والحسية والجزئية. فالكلام المنطوق يَصدُر عن جسد حي وعقل مفكر بشكل مباشر وذات مستقلة حرة وشخص ممسك بدلالة الكلمات يتحدث إليك مباشرةً، فإن لم تفهم ما يقوله فأنت تطلب منه إيضاحاً فيجيبك، وبوسعه أن يُعدِّل ما يقول أو يتحفظ عليه، فهناك معنى داخله لم يتم الإفصاح عنه. 
والكلام المنطوق يفترض أن فحوى الكلمات موجود بشكل مباشر في وعي الناطق، وهو ما يعني أن كلماته (دواله) تربطها علاقة مباشـرة وذات مغزى بالمدلول. هذا يعني أن المعنى له أسـبقية على الكلام، وأنه منفصل عن النظام الدلالي، وأنه قد هرب من الصيرورة المتمثلة في رقص الدوال، واللغة إن هي إلا أداة (المعنى في بطن الشاعر قبل أن يتحول إلى قصيدة). والشخص الحي الناطق بالكلمات هنا هو الوسيط بين المعنى الذي في عقله واللغة التي ينطقها. إن الكلام المنطوق تنطق به ذات إنسانية متماسكة تتحدث عن أفكار مستقرة في الذهن، فكأن هناك ذاتاً مستقرة وموضوعاً مستقراً. والمنطوق، بذلك، يشير إلى الأصل (الحضور واللوجوس) بشكل مباشر وبدون وساطة، فهو أقرب إليه وهو أكثر قرباً من نقطة الحضور من المكتوب وأكثر شفافية. 
هذا على عكس الكلام المكتوب، فكاتبه غائب بعيد لا يتفاعل مع المتلقين بشكل مباشر، والنص المكتوب يُفترض فيه أنه تعبير غير مباشر يصل إلى المتلقي من خلال القلم والمطبعة والأوراق. فإذا لم يفهم المتلقي ما جاء فيه، فلا يمكنه الاستفسار عن معناه من الكاتب، فالنص المكتوب منفصل عن كاتبه، كُتب على الورق وأصبح نصاً يمكن تداوله وإعادة طبعه وتفسيره، ويمكن استخدامه بطرق لا يمكن أن تطرأ للإنسان الذي كتبه على بال. وبهذا، فإن المكتوب لا يشير إلى الحضور وإنما يعبر عنه وحسب، فهو منفصل عنه. الكتابة، بهذا، تسرق من الإنسان وجوده، فهي طريقة ثانوية للاتصال أكثر بعداً عن اللوجوس، ولذا فإن التراث الغربي (وأي نظام متمركز حول اللوجوس) يفضل المنطوق على المكتوب. وأي تفضيل للمنطوق على المكتوب هو تعبير عن التمركز حول اللوجوس وعن الميتافيزيقا المتعالية المرتبطة بذلك. 
وليس هناك أدلة تاريخية تؤيد ادعاء دريدا عن تمركُز الحضارة الغربية حول المنطوق، فهي شأنها شأن معظم الحضارات الأخرى تُعطي مكانة أعلى لما يُسمَّى في علم الأنثروبولوجيا «التراث السامي» أو «التراث الراقي» أو «التراث الأعلى» (بالإنجليزية: هاي تراديشان high tradition) وهو التراث المكتوب للأرستقراطية، مقابل «التراث الأدنى» أو «التراث الشعبي» (بالإنجليزية: لوتراديشن low tradition) وهو التراث الشعبي الشفهي. كما أن معظم الحضارات الكبرى تدور حول نصوص مقدسة مكتوبة، يحاول البشر توليد معان منها يمكنهم من خلالها ضبط ممارساتهم اليومية وتقييمها. والحضارة الغربية أصبحت تدور، بعد سقوط الوثنية الرومانية على وجه خاص، حول العهدين القديم والجديد (الكتاب المقدَّس). فهم أهل كتاب (حسب التعبير الإسلامي). 
ولذا، فيجب أن نرى هجوم دريدا على المنطوق وتأكيد أسبقية المكتوب باعتباره جزءاً من ترسانته الفكرية التي يطوِّرها للهجوم على اللوجوس باعتباره أساساً فلسفياً وباعتباره مركزاً ومصدراً للمعقولية والمعيارية والثبات، هو هجوم على ما يسميه «المدلول المتجاوز» (الإله ـ الكل المتجاوز) الذي يمكن أن يوقف لعب الدوال والذي يدركه الإنسان مباشرةً من خلال تجربته الإنسانية المباشرة. إن المنطوق هو صدى كلمة الإله المعقولة التي يدركها ويعقلها المرء مباشرةً من خلال تجربته الإنسانية المباشرة، واستناداً لإنسانيته المشتركة مع الآخرين، وهي ليست تجربة مادية محسوسة. والمنطوق من ثم هو صدى الحضور الإلهي أو الكلي في فؤاد الإنسان، فهو يشير إلى أصول الإنسان الربانية. وما يحل محل المنطوق ليس المكتوب، كما يدَّعي دريدا، فنحن نعرف أن المكتوب والمدوَّن أكثر ثباتاً وتركيباً من المنطوق. 
والحضارات المركبة - كما أسلفنا - تعتمد دائماً على نص مقدَّس مكتوب يتجاوز ذاكرة الأفراد وصيرورة حياتهم الفردية المتغيرة. وما يحل محل المنطوق هو ما يسميه دريدا «النص»، والنص هو نص مكتوب فَقَد علاقته بكاتبه. ولذا فإنه، رغم ثباته، مجرد كلمات مثبتة على ورق (حبر على ورق) ومؤلفه قد « مات » وانفصل عن النص وأصبح مجرد علامات محسوسة على الصفحة يمكن أن يفعل بها الناقد ما يريد لأنها دخلت شبكة الدوال والصيرورة، فكل كلمة تشــير إلى كلمة أخرى، وكل نص يشير إلى نص آخر، وهي عملية تستمر إلى ما لا نهاية إن لم يوقفها مدلول متجاوز. 
والهجوم هنا هو هجوم على عالم ما قبل اللغة، عالم الإيمان الذي يحتوي على المفاهيم الكلية، وهو هجوم على أي نص (مكتوباً كان أم منطوقاً) ما دام متمركزاً حول اللوجوس والأصـل والمبدأ، وعلى ما يقترن به من مفهـوم الغائية والعلـم. ويمكن هنـا، أن نتحدث عن موت النص أو تقسيمه أو فقدانه حدوده وهويته. وهنا يصبح الثابت متحولاً والكل جزئياً والمطلق نسبياً. وبدلاً من المؤلف يظهر صاحب الإرادة، وبدلاً من النص الذي ينقل للقارئ معنى كامناً في عقل المؤلف يظهر المفسر الذي يستولي على النص ليولد منه ما يشاء من معان. 
وهذا، في واقع الأمر، صدى لثنائية الشريعة المكتوبة والشريعة الشفهية في العقيدة اليهودية. فالشريعة المكتوبة هي التوراة التي أرسلها الإله، كلامها واضح وبإمكان من يود أن يفهمها أن يفعل، وأن يفسرها دون أن يخل بمعناها، ويمكن الاحتكام لها. ومن هنا، طوَّر الحاخامات فكرة الشريعة الشفوية ومفادها أنه حينما أعطى الإله الشريعة المكتوبة لموسى فوق سيناء، أعطاه أيضاً الشريعة الشفهية (المنطوقة) التي يتوارثها الحاخامات، وتفسيرات الحاخامات هي هذه الشريعة الشفهية. وهي تفسيرات لا تنتهي عبر الأجيال، فهي حالة صيرورة تستبعد الإله وتميت النص فيفرض الحاخام/المفسر إرادته على النص، حتى أن التفسير (التلمود) أصبح يَجُّب الأصل (التوراة) وحلت إرادة المفسر (الحاخام) محل إرادة المؤلف (الإله). 
وقد تدهور الأمر مع التراث القبَّالي (الذي تأثر به كثير من أنصار ما بعد الحداثة) إذ أصبح هناك التصور القائل بأن التوراة المكتوبة المتداولة غير التوراة الباطنية التي لا يراها إلا المفسر القبَّالي، ومن هنا يكون الفرق بين توارة الخلق وتوراة الفيض. ورغم أن التفسيرات الحاخامية يُطلَق عليها تعبير «شريعة شفهية»، إلا أنها تعادل في واقع الأمر ما يسميه دريدا «النص» (المكتوب)، أي الكلام الذي دخل عالم الصيرورة ولعب الدوال وانفصل عن مؤلفه وتعدَّى حدوده وأصبح خاضعاً لإرادة الحاخام/المفسِّر. أما التوراة المكتوبة فهي المنطوق المتمركز حول اللوجوس، وهي ما يُشار إليه بكلمة «العمل» الذي له حدود واضحة. 
القضية، إذن، ليست قضية المنطوق مقابل المكتوب، بل هي قضية المرجعية واللامرجعية، والمكتوب هنا تعني ما لا حدود ولا مرجعية له! كما تعني تأكيد أن الإشارة تسبق المعنى وأن اللغة تسبق الواقع (وأن المادة تسبق الوعي وأن القوة تسبق الحقيقة وأن الحاخام والشعب اليهودي يسبقان الإله، وأن المسألة مسألة إرادة القوة والمفسر/الحاخام) وأن كل شيء في قبضة صيرورة عمياء. 
العـمل والنــص Work and Text 
يطلق أنصار ما بعد الحداثة على النص الذي له حدود ومعنى ومركز كلمة «عمـل» (بالإنجليزية: ويرك work)، مقابل النص الذي لا حدود له ولا مركز. والعمل، في تصوُّرهم، يتسم بأنه متماسك ويشير إلى صانعه الأول وينطوي على معنى الغائية، وهو بهـذا قد أفلت من قبضة الصيرورة وحقَّق ثباتاً وتماسكاً ومن ثم تجاوزاً. وقد تصاعدت النسبية المعرفية، فازداد إحساس الفنان بتفرده وغربته وبعدم اكتراث المتلقين وبَذَل جهوداً غير عادية لكي يخلق مسافة بين العمل الفني والواقع المتشيئ، ولذا يبدأ النص في الاستقلال عن الواقع ويزداد الكاتب إحساساً بذاتيته. ولذا، نجد أن معاني النصوص تختلط بل يرسل كل نص أكثر من رسالة، كما أن كل نص يحاول أن يرسل رسالة فريدة فيتخذ أشكالاً فريدة ويتزايد التجريب. ورغم كل هذا، فإن ثمة محاولة مأساوية ملهاوية عبثية لإرسال رسالة ذات معنى. والناقد، هو الآخر، يزداد انغلاقاً على نفسه فينظر إلى النص مباشرةً ويعزله عن الواقع وعن المؤلف ويلتهمه، ولذا فإنه لا تهمه الخلفـية التاريخـية أو النفسـية ولا يهمه قصد المؤلف أو وعيه. ومع هذا، تستمر محاولة الناقد في التفسير والاجتهاد والوصول إلى الأبعاد الإنسانية الكامنة في العمل الفني التي قد تساعد الإنسان على تجاوز واقعه رغم استحالة التجاوز. 
وفي عصر ما بعد الحداثة (وما بعد البنيوية) تتغيَّر الصورة تماماً إذ تَسقُط الكليات والثوابت، وكل شيء، وضمن ذلك النص، في عالم الصيرورة الذي لا مركز له، والنص نفسه يشبه دوامة الصيرورة. فالنص متعدد المعاني بشكل مطلق لأنه يستحيل الاتفاق على معنى أو معيار متجاوز. ولذا، فإن هناك معاني بعدد القراء، فهي مجرد مجال عشوائي للعب الدوال ورقصها والشفرات المتداخلة، فهي معان لا يربطها مركز واحد وليست مستقرة، إلى أن يتبدَّد المعنى ويصبح البحث عنه نوعاً من العبث النقدي. ويؤدي هذا إلى حالة من السيولة وإلى اختفاء الحقيقة وتَعدُّد المعاني. وتذهب سوزان هاندلمان إلى أن التعددية عند دريدا هي محاولة لنقل الشرك إلى عالم الكتابة، وإنكار إمكانية التجاوز. بحيث يحل تعدد المعنى محل تعدد الآلهة، وتصبح تعددية المعنى إنكاراً للمعنى وإنكاراً للتواصــل بين البشر، أي أن تعددية المعنى هي في واقع الأمر إنكار لمقدرة الإنسان على التجاوز وإنكار لظاهرة الإنسان نفسها. 
وكلما ازدادت تعددية النص، تعذَّر بل استحال الوصول إلى «أصل»، سواء أكان صوت المؤلف أم مضموناً يحاكي الواقع أم حقيقة فلسفية. وإن كانت هناك حقيقة ما، فهي في داخل النص وليست خارجه، ولا يوجد شيء خارج النص. ولكن، إذا كان لا يوجد خارج للنص فلا داخل له أيضاً، فليس هناك مضمون محدد (وهذا تعبير عن محاولة أنصار ما بعد الحداثة لإلغاء الثنائية: ثنائية الداخل والخارج). والنص، في هذا، مثل المجتمع الاستهلاكي، فنحن ننتج لنستهلك ونستهلك لننتج، ولا يوجد شيء خارج حلقة الإنتاج والاسـتهلاك ولا يوجـد شـيء داخلهـا أيضـاً، فهي لا تؤدي إلى تَحقُّق إمكانيات الإنسان وإنما تؤدي إلى مزيد من الاستهلاك. لا يوجد شيء أكيد في النص سوى الحيز والفراغات بين الحروف المكتوبة بالحبر، فالنص أسود على أبيض (بالإنجليزية: بلاك أون بلانك black on blank)؛ مجرد حبر على ورق؛ شيء محسوس مادي؛ علامات بين إشارات صماء بينها فراغات صماء لا تشير إلى شيء خارج نفسها ولكنها لا حدود لها. فلعب الدلالات لا نهاية له ولا يتوقف إلا بشكل عشوائي وعرضي، عند هامش الصفحة وفي نهايتها مثلاً. 
وعبارة «حبر على ورق» تحمل كل تضمينات السطحية كما هو في العبارة العربية، مع فارق أن ما بعد الحداثي يقبل هذا كحقيقة إيجابية إذ يرى فيها حرية وأيما حرية. 
والاخترجلاف هو العنصر الأساسي داخل النص، أما التناص فهو العنصر الأساسي خارجه، فالمعنى داخل النص يَسقُط في شبكة الصيرورة من خلال الاخترجلاف، ويسقط النص ككل في الصيرورة من خلال التناص. فالتناص هو الاخترجلاف على مسـتوى النصوص. فكل نص يقف بين نصين، واحد قبله وواحد بعده، وهو يفقد حدوده في ما قبله وفي ما بعده، وفي كل النصوص الأخرى التي تركت آثارهـا على النصوص التي تسـبقها وعلى النصوص التي تأتي بعدها، فكل نص هو أثر أو صدى لكل النصوص الأخرى حتى يفقد النص هويته ويصبح مجرد وقع. والنص يفيض ويلتحم بالنصوص الأخرى (تماماً كما تفيض اللغة داخل النص بفائض في المعنى لا يُسـتوعَب داخـل حدود النص نفسه، تماماً مثل الذات التي تفقد تماسكها فتلتحم بالذوات الأخرى). كل هذا يعني أن النص يوجد في كل النصوص الأخرى من خلال آثاره التي يتركها ولكنه لا يوجد بشـكل كامل في أي مكان، فهو حاضـر غائب دائماً، إن حالة التناص هذه حالة سيولة رحمية.
والتناص يعني تضاؤل قيمة النص المعرفية أو الأخلاقية. وإذا كان المجاز لا يشير إلى الحقيقة وإنما يخبئها، وإذا كانت الصورة المجازية لا تتسـم بالشـفافية مثلما أن اللغة ليست وسـيلة أو شكلاً وإنما غاية ومضمون، فهذا يعني أن الصور المجازية تصبح مفاهيم والمفاهيم تصبح صوراً مجازية وتصبح النصوص مجموعة من الحيل البلاغية، وبذا تتحول كل النصوص (فلسفية أو إخبارية) إلى نصوص أدبية، أي أن التناص لا يؤدي إلى تداخل كل النصوص الأدبية وحسب وإنما إلى تداخل كل النصوص من كل الأنواع. ومع اختفاء حدود النص وتعدديته، ومع تزايد انفتاحه، زادت إمكانية التفسيرات. وقد عُرِّف النص ما بعد الحداثي بأنه «آلة لتوليد التفسيرات» أي «تكأة» أو «مناسبة» أو «حيز» يمارس فيه الناقد إرادته. والناقد هو القارئ القوي الذي يعيد إنتاج النص ويعمل على تخليقه حسب المواصفات التي يراها.
والقراءة هي أحد الجيوب الأخيرة التي لم تحتلها الحضارة الاستهلاكية بعد. ومن هنا الإصرار على الحرية الكاملة في القراءة وعلى لذة القراءة باعتبارها لذة جنسية؛ ممارسة كاملة للصيرورة دون وسائط ودون قيود، وإحساساً كاملاً بالإرادة (فالناقد هو سوبرمان نيتشه). فهو الذي يفرض المعنى، ولذا فهو حر تماماً، حتى في أن ينحت لغة خاصة به. وما يسيطر هنا هو نموذج صراعي، فاللغة تصارع ضد من يستخدمها وتهزمه، وبدلاً من أن تكون أداة للتعبير تصبح عائقاً. والناقد يضطر إلى قتل الأديب والنص ليفرض معناه. والناقد هنا يشبه تماماً الحاخام المفسر في المنظومة القبَّالية الذي يفرض أي معنى يشاء على التوراة، وذلك من خلال الجماتريا وأشكال التفسير الأخرى. وإرادة الحاخام هي أثر يجري فرضه على التوراة، والتفسير الذي يطرحه هو قراءة تَجبُّ النص الإلهي وتحل محله، ومن ثم حلَّ التلمود (وهو كتاب تفسير التوراة) محل التوراة نفسها. 
والنص، كما أسلفنا، مجرد فراغ تلعب داخله الدلالات، ويمكن للناقد أن ينزلق فيه كما يشاء، ويمارس أقصى حرية يمكن أن يتمتع بها الإنسان في عصر ما بعد الحداثة، وهي لذة التفكيك التي يبيِّن من خلالها أن النص يقول ما لا يعني، ويعني ما لا يقول، حتى نصل إلى الهوة (أبوريا): الطريق المسدود والتناقضات التي لا يمكن أن تُحسَم. والأبوريا هي الحقيقة الوحيدة التي يمكن الوصول إليها. ولكن إذا كانت الحقيقة الوحيدة هي الهاوية، فإن مهمة الناقد هي أن يفتح النص المنغلق على الهوة، وهو انغلاق وهمي على أية حال، وهي هوة للمعاني المختلفة المرجأة التي تقودنا إلى نقطة تليها تحتوي على معان أخرى مختلفة مرجأة أيضاً، وهكذا نظن أننا سنصل إليها ولكننا لا نصل إليها أبداً. 
ولكن حتى الناقد نفسه أسير النص اللغوي وشبكة الدلالات، ولذا فهو حينما يتحدث فإنه يتحدث لنفسه عن نفسه، ذلك لأن الكلمات لا تقول ما يعنيه هو وإنما ما تعنيه هي، فكلماته واقعة في شبكة الصيرورة ولعب الدلالات، ولذا فكل قراءة هي إساءة قراءة (بالإنجليزية: ميس ريدنج misreading). وهـذه هي القراءة الوحيـدة الممكنة. فاللغة لا توصِّل، وكلنا واقعون في شبكة الصيرورة، لا نملك التواصل ولا نستطيع إلا اللعب وإساءة القراءة وسوء التفسير. 
وأفضل النصوص هي النصوص المكتوبة (لا المنطوقة)، فالنص المكتوب ينفصل عن مبدعه ولذا لا يمكن إغلاقه، ويستطيع الناقد أن يتلقاه ويفرض إرادته عليه ويقوم بربط بعض أجزائه التي لم يقم المؤلف نفسه بالربط بينها (أي أن القارئ يصبح هو الكاتب). وهو يرى علامات غير مقصودة وأصداء وآثاراً للنصوص الأخرى. فالقراءة تعكس ذات القارئ وتستبعد ذات الكاتب (مرة أخرى، الصراع بين الإله/الكاتب والحاخام/القارئ المفسر). 
ومن هنا تفضيلهم المكتوب على المنطوق، والنصوص ذات الخصائص الكتابية (الحركية المنفتحة التي ترقص فيها الدوال والتي لا مركز لها ولا أساس) على النصوص ذات الخصائص القرائية (الساكنة الجامدة ذات الهيكل الثابت من القيم التي تخطاها الزمن، أي التي أفلتت من قبضة الصيرورة والتي يرتبط فيها الدال بالمدلول). 
كل هذا يعني، في واقع الأمر، موت المؤلف ثم موت القارئ، وأخيراً موت النص ليقع جثة هامدة أو حيواناً أعجم أو امرأة لعوباً في يد الناقد. وكل هذا يعني أن هذه المرأة اللعوب ستقود الناقد (آخر ممثلي الوعي الإنساني واحتمال التفسير) في هوة الصيرورة! 
ولقد أعطانا دريدا مثلاً للنص ما بعد الحداثي المثالي، وهو عبارة كتبها نيتشه مكوَّنة من كلمتين «نسيت مظلتي». هذا نص منفتح تماماً، فليس له سياق تاريخي، فقد فُقد مثل هذا السياق للأبد ولا نعرف قصد المؤلف، ولا يمكن تحديد اسـتجابة القارئ له. ولأن المؤلف نفسـه قد مات، فإنه لن يشرح لنا المناسبة ولا القصد، ولذا فإن النص متحرِّر من القصد ومن الكلام الشفوي، فهو نص مكتوب. 
ويرفض دريدا كذلك أن تُقرَأ العبارة قراءة فرويدية (فالمظلة وهي مغلقة يمكن أن تكون القضيب وإن فتحت يمكن أن تكون عضو التأنيث، والنسيان هو عملية الإخصاء، وفتح المظلة هو عملية الاقتحام الجنسي... إلخ). ولكن دريدا يرفض التفسير الفرويدي لا لأنه تَعسُّف وتأويل مُبتسَر، بل لأن هذا يعني فرض معنى ما على النص؛ فهذا النص بالنسبة له نص بريء تماماً لا حدود له؛ إشارة بلا شيء يُشار إليه؛ دال بلا مدلول؛ كلمات بلا قصد؛ جُمَل بلا وعي؛ ظاهر أو باطن بلا أصل (رباني). هذا هو لعب الدلالات الحقيقي فهي دلالات تستعصي على كل تفسير، ولذا ستظل بلا معنى تستفز المفسر وتثير أعصابه. 
وقد يمكن أن نقول إن العبارة لا يزيد معناها ولا ينقص عن أية جملة أخرى، ولكن العبارة لا يمكن أن تتركنا وشأننا، فلعب الدوال سيغوينا لنقوم بعملية التفسير، ونحن لا نملك أي تفسير، أي أننا نحن أنفسنا نسقط في الهوة، وهي المنطقة بين الذات والموضوع التي لا هي بالذات ولا بالموضوع ولا هي بالحقيقي ولا بالزائف؛ عالم صيرورة حيث لا حدود ولا هوية وإنما سيولة نصوصية مريحة تشبه الرحم قبل الميلاد والنضج وتشـبه آدم وهـو بعـد طين لم ينفخ الله فيه من روحه ولم يعلمه الأسماء كلها. 
وثمة تَبادُل اختياري بين اليهودية الحاخامية ووضع اليهود من جهة وفكرة النص ما بعد الحداثي من جهة أخرى. فاليهودية الحاخامية تفرض تفسيراً على النص المقدَّس فيتناصّ النص المقدَّس مع النصوص التفسيرية، ثم تتناصّ التفسيرات نفسـها ولا تنتهي هذه العملية. واليهودي المتجول المغترب ليس له مضمون محدد، فهناك اليهودي الأرثوذكسي واليهودي الملحد. وقد عُرِّف اليهودي بأنه «من يراه الآخرون كذلك» كما عُرِّف بأنه «من يشعر في قرارة نفسه بذلك». فتعددية التعريفات تعني أنه لا يوجد يهودي، فاليهودي مثل النص ما بعد الحداثي، ولذا يُسأل في الدولة اليهودية: من اليهودي؟ هو كل شيء ولا شيء، بسبب التعددية المفرطة. 
ويرى جابيس أن أهم نقطة في اليهودية هي النقطة التي حطم فيها موسى الوصايا العشر ولم يكن قد تَلقَّى النسخة الجديدة بعد. هذه اللحظة أهم اللحظات، فهي لحظة حضور/غياب، شريعة غائبة/ موجودة. ويرى جابيس أن النص اليهودي (التفسيرات الحاخامية) نشأ في الشقوق التي نتجت عن تحطيم الوصايا العشر، فهو كالأعشاب والطحالب التي تقتل النباتات.
يتبع إن شاء الله...


الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48337
العمر : 71

الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  Empty
مُساهمةموضوع: جيرشــوم شـوليم (1897 – 1982) Jershom Scholem    الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  Emptyالأحد 09 فبراير 2014, 12:55 am

جيرشــوم شـوليم (1897 – 1982) Jershom Scholem 
مؤرخ يهودي صهيوني من أصل ألماني، تَخصَّص في دراسة القبَّالاه وفك رموزها حتى ارتبط اسمه بها تماماً. وُلد شوليم في ألمانيا لأسرة يهودية مندمجة وقد تمرَّد على هذه الثقافة الاندماجية واتجه نحو حركات الشباب الصهيونية تحت تأثير مارتن بوبر. ولكنه اختلف معه أثناء الحرب العالمية الأولى إذ يبدو أن بوبر أيَّد الحرب، ولكن شوليم تبنَّى موقف جماعة داعية للسلام رافضة للحرب برئاسة جوستاف لانداور. ولكن موقف شوليم كان لا ينبع من أي حب للسلام أو أي عداء للحرب وإنما من موقف انعزالي يرى أن اليهود أمة عضوية لا علاقة لها بأوربا أو بحروبها وأن عليهم أن يهاجروا إلى فلسطين لتأسيس دولة صهيونية، أي أن الخلاف بينه وبين بوبر لم يكن جوهرياً إذ أن بوبر كان هو الآخر من دعاة القومية اليهودية العضوية (أي الصهيونية). 
وقد درس شوليم الفلسفة والرياضيات في بادئ الأمر. ولكنه قرَّر أن يتخصص في القبَّالاه فتَعلَّم قراءة النصوص العبرية وكتب رسالة عن كتاب الباهير نال عنها درجة الدكتوراه من جامعة ميونيخ عام 1922. وفي العام التالي، هاجر شوليم إلى فلسطين حيث عُيِّن في الجامعة العبرية محاضراً في التصوف اليهودي ثم أستاذاً وظل فيها إلى أن تقاعد عام 1965 بعد أن جعل القبَّالاه موضوعاً أساسياً للدراسة ومكوناً أساسياً في تفكير كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية (مثل وولتر بنجامين وهارولد بلوم). 
كان كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية، انطلاقاً من مُثُل عصر الاستنارة، يذهبون إلى أن اليهودية عقيدة عقلانية تزود الإنسان بقوانين عامة لا علاقة لها بالعواطف المشبوبة أو الشطحات الصوفية. ولكن شوليم وقف على الطرف النقيض منهم (فهو من دعاة العداء للاستنارة) إذ ذهب إلى أن الغنوصية هي الجوهر الحقيقي لليهودية وأن الصوفية (القبَّالاه) هي القوة الحيوية الحقيقية في تاريخ اليهودية واليهود وأنه لولاها لتجمدت الفلسفة اليهودية وتيبست الشريعة. 
ويذهب شوليم (متبعاً الإيقاع الثلاثي الهيجلي) إلى أن كل الأديان تمر بثلاث مراحل تاريخية: المرحلة الأسطورية حيث يكون الإنسان في علاقة مباشرة مع الإله (مرحلة الواحدية الكونية الوثنية في مصطلحنا)، ثم المرحلة الفلسفية والقانونية حيث يتم إعطاء الوحي إطاراً مؤسسياً دينياً ويتم تفسير النص المقدَّس وأداء الشعائر من خلال المؤسسات الدينية. ثم تظهر أخيراً المرحلة التصوفية حيث يحاول الإنسان المؤمن أن يستعيد العلاقة المباشرة التي تسم علاقة الخالق بالمخلوق في المرحلة الأولى، بعد أن تجمدت وتيبست نتيجة المرحلة الثانية. 
ومن الواضح أن شوليم يرى أن جوهر التاريخ هو الأسطورة، فهو يبدأ بالأسطورة ثم يعطيها إطاراً مؤسسياً ثم يحاول العودة إليها (أي أن تاريخ الدين هو تاريخ الحلولية الواحدية الكونية ومحاولة العودة إليها). 
ويذهب جيرشوم شوليم إلى أن القبَّالاه إن هي إلا نظام فكري غنوصي وتعبير عن القوى المظلمة الخفية، وأن المتصوفة اليهود توصلوا إلى شكل من أشكال الغنوص متلبساً لباساً توحيدياً، وأن هذه الطبقة الغنوصية ظلت قائمة في أطراف التراث وانتقلت من بابل إلى جنوب فرنسا (عبر إيطاليا وألمانيا) حيث ظهرت بشكل مبدئي في كتاب الباهير ثم بدأت الموضوعات الغنوصية في التبلور وعبَّرت عن نفسها في القـبَّالاه والحــركات الشـبتانية ثم هيمنت تماماً على اليهودية. 
ولكن كيف تمكنت القوى الغنوصية المظلمة الخفية من إنجاز ذلك؟ يرى شوليم أن الشبتانية كانت هناك دائماً داخل المنظومة الحاخامية، لكن المنظومة الحاخامية كانت تنطلق منذ البداية من الإيمان بالشريعة الشفوية التي تذهب إلى أنه لا يوجد نص ثابت وأن الوحي يضم النص وتفسيره وأن التفسير جزء من النص المقدَّس ويحل محله (ومن ثم بدأ يظهر نص مفتوح لا حدود له)، فالتفسيرات متغيرة لا حدود لها وفَتْح النص هو فَتْح الباب على مصراعيه للنسبية والعدمية. وبدأت الهرطقات تدخل عالم التفسـير، كما بدأت المراكز تتعـدد داخـل المنظومـة الحاخامية. وبالتدريج، تزايدت الهرطقات وأخذت شكل القبَّالاه. ولكن القبَّالاه لم تكن غريبة تماماً عن التراث، فالقبَّالاه تعني التقاليد (رغم أنها تقاليد مضادة). وهكذا هيمنت القبَّالاه على اليهودية وأصبحت الهرطقة هي المعيار وأصبح الغنوص هو التوحيد! 
ويذهب شوليم إلى أن هذه الحركات هي التي هزت اليهودية الحاخامية من جذورها وأنها بذلك هي الحدود الفارقة بين العصور الوسطى والعصر الحديث وأنها إرهاص لظهور العلمانية. ولم يكن فكر حركة الاستنارة والحسيدية سوى ردود أفعال للحركة الشبتانية ومن ثم فإن ظهور اليهودية الحديثة كان نتيجة حدوث كارثة داخل التقاليد اليهودية الدينية ولم يكن مجرد نتيجة لقوى خارجية. 
ويرى شوليم أن الدوافع الأسطورية والصوفية في القبَّالاه هي القوى الخفية لليهودية في القرن العشرين وأن الصهيونية أخذت طاقتها من هذه القوى الخفية ولكنها قد تنتهي بكارثة مثل الحركات الشبتانية إن فشلت في تحييد القوى العدمية. وفي محاولته وضع موقفه موضع التنفيذ، انضم شوليم لجماعة بريت شالوم كما هاجم شبتانية جماعة جوش إيمونيم، فكأن شوليم يُظهر حماسه للشبتانية في الماضي كقوة بعْث وحياة ولكنه يرفض القوى نفسها في الواقع التاريخي المعاصر. 
ويرى البعض أن حماس شوليم للحركة الصهيونية تعبير عن أزمة بعض المثقفين العلمانيين من أصل يهودي الذين نشأوا في بيئة اندماجية وفقدوا الإيمان الديني ولكنهم مع هذا يرفضون فكرة الاندماج وفقدان الهوية ومن ثم يحاولون الاستيلاء على اليهودية ورموزها، فهي شخصيات علمانية فقدت انتماءها الديني اليهودي وتحن له في الوقت نفسه فتظهر اليهودية الإلحادية أو الإثنية التي ليس لها مضمون ديني توحيدي. وهذا ما فعله شوليم مع الغنوص اليهودي، فقد بيَّن أن الغنوص (التاريخ المضاد المظلم) هو التاريخ العقلي وجوهر اليهودية وبذلك تتحول الهرطقة إلى الشريعة. 
والصهيونية هي في جوهرها المحاولة نفسها. فالصهاينة يودون الانسلاخ من يهودية المنفى ولكنهم يودون الحفاظ على هوية قومية عضوية (على الطريقة الغربية الألمانية) فنظروا للتاريخ اليهودي وقرروا عدم قبوله في كليته، وبدلاً من ذلك عادوا للمرحلة العبرانية، أي قبل ظهور الأنبياء وظهور اليهودية حيث كان اليهود لا يزالون عبرانيين وشعباً وثنياً لم تُضعف القيم الأخلاقية التوحيدية إرادته بعد. ونادى الصهاينة بأن هذا هو التاريخ اليهودي الحقيقي وأن وثنية مرحلة ما قبل الأنبياء هي اليهودية الحقيقية، وأسست الحركة الصهيونية دولة تبعث هذا التاريخ المضاد. وهكذا تتحول الهرطقة إلى الشريعة في شكل دولة تزعم أنها ليست دولة بعـض اليهـود وحسـب أو حتى كل اليهود وإنما دولة يهودية! 
من أهم مؤلفات شوليم الاتجاهات الأساسية في التصوف اليهودي (1961) حيث يبيِّن أن كتاب الزوهار لم يُكتَب في العصور القديمة (كما كان هو نفسه يظن) وإنما كُتب في القرن الثالث عشر. ومن مؤلفاته الأخرى الفكرة المشيحانية في اليهودية ومقالات أخرى (1971). كما كتب شوليم سيرته الذاتية بعنوان من برلين إلى القدس (1981). 
جــــاك دريـــدا (1930- ) Jacques Derrida 
فيلسوف فرنسي، يهودي من أصل سفاردي، تُعَدُّ منظومته الفلسفية (إن صحت تسميتها كذلك) قمة (أو هوة) السيولة الشاملة والمادية الجديـدة واللاعقلانية المادية. وهو أهم فلاسـفة التفكيكية وما بعد الحداثـة. وُلد باسم جاكي في بلدة البيار (قرب الجزائر العاصمة)، وترك الجزائر عام 1949 لأداء الخدمة العسكرية ولم يَعُد لها قط بعد ذلك (وهو يدَّعي في تصريحاته الصحفية أنه ترك الجزائر لأنه كان قد سئم الحياة في الجيب الاستيطاني). كان دريدا قد عقد العزم أن يصبح لاعباً محترفاً في كرة القدم، لكنه لم يكمل مشروعه هذا. وكتب شيئاً من الشـعر في صـباه. ومع أنه فشـل في امتحان البكالوريا في صيف 1947، إلا أنه أكمل دراسته الجامعية في السوربون وهارفارد. وقد اشترك في مظاهرات الطلبة عام 1967 ضد ديجول. وصدر كتابه الأول أصل الهندسة (عام 1962) وهو عن هوسرل، ولكن أول كتبه المهمة هو الكتابة والاختلاف (1967). ويُقسِّم دريدا وقته بين باريس حيث يُدرِّس في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية (E. H. E. S. S.) والولايات المتحدة حيث يُدرِّس في جامعة ييل. 
خرج دريدا من تحت عباءة نيتشه (الذي مات بمرض سري)، وتأثر في الخمسينيات بوجودية سارتر وهايدجر (وتفكيكيته)، وببنيوية ليفي شـتراوس في السـتينيات. كما تأثر بهيجلية جان هيبـوليت، وبفرويدية جاك لاكان، وبالمفكر الديني اليهودي الفرنسي إيمانويل ليفيناس. 
تعرَّف دريدا إلى مُستوطن فرنسي آخر في الجزائر هو لويس ألتوسير (في دار المعلمين العليا) الذي كان له أكبر الأثر في دريدا. وألتوسير هو الفيلسوف الذي حاول أن «يُطهِّر» المنظومة الماركسية من أية آثار إنسانية غير مادية لتصبح علماً كاملاً يُسقط الذات الإنسانية وكل بقايا الميتافيزيقا (وقد قتل ألتوسير زوجته عام 1980، بأن خنقها ووُضع في مستشفى للأمراض العقلية للمجانين الخطرين). كما تَعرَّف دريدا كذلك إلى ميشيل فوكوه، أهم استمرار لفلسفة القوة النيتشوية وأحد كبار فلاسفة التفكيك وما بعد الحداثة (وفوكوه شاذ جنسياً، سادي مازوكي، حاول الانتحار عدة مرات ومات بالأيدز عام 1981). 
قامت أخت دريدا (حسب روايته) بحبسه وهو صبي في صندوق خشـبي كبير على سـطح المنزل حيث مكـث هناك (حسـب قوله) «الدهر كله». وأثناء ذلك، تصوَّر أنه مات وذهب إلى عالم آخر. ثم أحس بأنه تم خصيه وأنه الإله أوزوريس الذي كان يُقتَل ويُمزَّق إرباً ثم يُعاد جَمْع أعضاء من جسمه (باستثناء قضيبه) (التبعثر والتشتت ومفردات الحلولية الواحدية اليهودية). 
ومن الواضح أن دريدا مهتم، منذ أن بدأ ينشر أعماله، بمشاكل الأصل والبنية والثنائيات وكيف تُختَم الأعمال وعلاقة كل هذه الأمور بالتاريخ والحقيقة والموضوعية العلمية والمعنى. وكان اهتمامه الأكبر هو نفي الميتافيزيقا باعتبارها شكلاً من أشكال الثبات لأن مثل هذا الثبات (من ثم) يشير إلى مفهوم الطبيعة البشرية، وهذا بدوره يشير إلى أصل الإنسان غير المادي (أي أصله الإلهي) الأمر الذي يؤدي إلى التجاوز وظهور المعنى (تيلوس) وأخيراً المطلق (لوجوس). وكان دريدا يرى أن الحل الوحيد لهذا الوضع هو أن يسقط كل شيء في قبضة الصيرورة، بحيث لا يبقى أي أثر لأي ثبات أو تجاوز أو معنى ويهتز كل شيء ومن ضمن ذلك الإحساس بالعدم نفسه. 
ألقى دريدا بحثاً في مؤتمر عُقد في جامعة جونز هوبكنز عام 1966 لتوضيح الفلسفة البنيوية للجمهور الأمريكي. والمؤتمر هو نقطة ميلاد التفكيكية وما بعد الحداثة (وقد ظهر في العام نفسه كتاب سوران سونتاج ضد التفسير، أي أن التفكيك قد بدأ يتحول إلى ظاهرة عامة في الفكر الفلسفي الغربي). وقد بيَّن دريدا أن البنيوية إن هي إلا حلقة في سلسلة طويلة من بنيويات مختلفة مستعدة لأن ترد ذاتها إلى نقطة حضور واحدة أو مركز أو أصل ثابت، لكن هدف هذا المركز ليس تحديد اتجاه البنية أو توازنها أو تنظيمها وإنما الهدف منه وضع حدود للعب البنية. فمركز البنية «يسمح بلعب عناصرها الأساسية، ولكن داخل الشكل الكلي الثابت الذي له مركز وله معنى، فهو لعب يصل إلى نقطة نهائية عند مدلول متجاوز». ويقول دريدا: «وحتى اليوم، يُلاحَظ أن مفهوم بنية ليس لها أي مركز (أو أصل) هو أمر لا يمكن حتى التفكير فيه». ودريدا كعادته لا يقول الصدق، فما يفعله هو أنه يأخـذ جزءاً من الحقيقة ثم يضخمه ويجعل من هذا الجزء الحقيقة كلها. 
والحقيقة أن عالم السفسطائيين (الذين سبقوا دريدا بأكثر من ألفي سـنة) هو عالم بلا مركز، عالم من الصيرورة الكاملة وعدم التواصل، وكذلك عالم القبَّالاه اللوريانية. وكثير من الحركات المشيحانية الشيوعية الحلولية فهي الأخرى تدور جميعاً في إطار عالم سائل تماماً لا مركز له. كما أن الإنجاز الفلسفي الأساسي لنيتشه هو أنه نبَّه الإنسان الغربي إلى أن اختفاء المركز حتمية فلسفية بعد موت الإله (أي في إطار الفلسفة المادية). ومع هذا، يمكن القول بأن دريدا أول من جعل برنامجه الفلسفي يدور حول هذه الفكرة بشكل منهجي صارم. 
يرى دريدا أن ثمة بحثاً دائباً عند الإنسان عن أرض ثابتة يقف عليها خارج لعب الدوال الذي لا يمكن أن يتوقف إلا من خلال المدلول المتجاوز الرباني (الذي هو أيضاً «ميتافيزيقا الحضور» و«اللوجوس» و«الأصل»). وتاريخ الفلسفة الغربية هو البحث عن الأصل، سواء أكان دينياً أم مادياً، لنصل إلى قصة كبرى متمركزة حول اللوجوس وحول المنطوق، أي أن الفلسفة الغربية تتعامل دائماً مع الواقع من خلال نسق مغلق. 
بل إنه يرى أنه، في أكثر الفلسفات الغربية مادية ونسبية، يظل هناك إيمان ما بالكل المادي المتجاوز ذي المعنى (الحضور)، واستناداً إلى هذا الحضور يتم تأسيس منظومات معرفية وأخلاقية وجمالية تتسم بشيء من الثبات وتفلت من قبضة الصيرورة، أي أن الخطاب الفلسفي الغربي ظل ملوثاً بالميتافيزيقا ما دام يصر على البحث عن المعنى وعن الثبات. وقد قرَّر دريدا أن «يفكر في الأمر الذي لا يمكن التفكير فيه» وهو أن ينطلق، كفيلسوف، من الإيمان بعدم وجود أصل من أي نوع، ومن ثم يسقط كل شيء بشكل كامل في هوة الصيرورة (أبوريا) وتتم التسوية بين كل الأشياء من خلال مفاهيم مثل الاخترجلاف (الاختلاف/الإرجاء(. 
وسيُلاحظ القارئ أن دريدا (ودعاة ما بعد الحداثة) يستخدمون مصطلحات كثيرة تبدو جديدة. فهناك مصطلح مثل «القصة الكبرى» (أي النظرية العامة) و«القصص الصغرى» و«التمركز حول اللوجوس» و«التمركز حول المنطوق» و«الأبوريا» و«الاخترجلاف». وهي مصطلحات تدَّعي أنها جديدة وهي أبعد ما تكون عن الجدة، فهي تعبِّر عن أفكار ومفاهيم عدمية. فقد يكون المنطوق نفسه جديداً، ولكن المفهوم وراء المصطلح قديم قدم الفلسفة اليونانية القديمة والكتب العدمية مثل سفر الجامعة في العهد القديم (انظر المداخل الخاصة بكل مصطلح في هذا القسم).
ويمكن القول بأن مشروع دريدا الفلسفي هو محاولة هدم الأنطولوجيا الغربية اللاهوتية (بالإنجليزية: أونطوثيولوجي ontotheology) بأسرها والوصول إلى عالم من صيرورة كاملة عديم الأساس لا يوجد فيه لوجوس ولا مدلول متجاوز، ولذا فهو عالم بلا أصل رباني، بل بلا أصل على الإطلاق، ولذا لا توجد فيه ثنائيات من أي نوع؛ الدوال ملتحمة فيه تماماً بالمدلول، ولذا لا توجد لغة، وإن وجدت لغة فهي الجسد باعتبار أن الجسد يجسد المعنى فلا ينفصل الدال عن المدلول. والنصوص تتداخل بعضها مع بعض، ولا يمكن الحديث عن نص مقابل نص آخر ولا عن نص في مقابل الواقع، كذلك لا يمكن الحديث عن نص مقابل معنى النص، إذ لا يوجد شيء خارج النص ولا يوجد أصل للأشياء، فكل نص يحيل إلى آخر إلى ما لا نهاية، وبذا يكون قد تم إنهاء الميتافيزيقا. وتصبح هذه الرؤية العدمية الفلسفية هي التفكيكية حينما تصبح منهجاً لقراءة النصوص. ولإنجاز هدفه العدمي، يتجه دريدا نحو أحد المفاهيم الأساسية في الفكر البنيوي، أي علاقة الدال بالمدلول، ويبين أنه لا علاقة بين الواحد والآخر، أو أن العلاقة بينهما واهية للغاية. 
وحيث إنه لا يمكن الاحتفاظ بالعلاقة بين الدال والمدلول إلا من خلال ما يُسمَّى «المدلول المتجاوز» (بالمعنى الديني أو الفلسفي)، فإنه يتجه نحو إسقاط هذا المدلول المتجاوز وإثبات تناقضه وكذلك إثبات وجود الصيرورة داخله. وتفكيك النصوص في واقع الأمر إن هو إلا بحث عن المدلول المتجاوز وعن المركز في النصوص، وتوضيح أن ثمة تناقضاً أساسياً فيها لا يمكن حَسْمه. وأن تماسُك النص واتساقه أمر زائف فهو عادةً تعبير عن إرادة القوة لدى صاحب النص، وليس له أي أساس عقلاني عام. 
ومع هذا، يرى دريدا أن التناقض يظل قائماً فعالاً، ولذا فعادةً ما يؤدي بالمؤلف إلى إضافة عناصر هي عكس المعنى المقصود تماماً، وهو ما يجعل النص (أدبياً كان أم فلسفياً) يتجاوز حدود المعنى التي يضعها لنفسه والاتساق الذي يفترضه وتظهر فيه الثغرات والتشققات ويقع في التناقض الذي لا يمكن حسمه. وبهذه الطريقة، يحلل دريدا كل كلاسيكيات الفلسفة الغربية من أفلاطون إلى هيجل، كما يحلل بعض النصوص الفلسفية المعاصرة من ليفي شتراوس إلى لاكان ويقوم بتفكيكها، وهو بهذا يحاول تفكيك الحضارة الغربية نفسها. 
والمشروع الفلسفي عند دريدا مُوجَّه ضد الإنسانية وضد علاقة الدال بالمدلول، ولذا فهو يبحث عن لغة بلا أصل وبلا حدود نظامها الإشاري لا يشير إلى شيء، لغة متأيقنة تماماً لا يوجد فيها أثر للإله أو المعنى أو أية مرجعية، وقد وجد ضالته فيما أسماه أنطوان أرتو (1895 ـ 1946) «الشعر اللفظي» وهو شعر مبني على مجاورة أصوات لا دلالة لها إلا أن تركيباتها النبرية تصنع حالات شعرية أو هكذا كان الظن. وفيما يلي مَثَلٌ من هذا الشعر اللفظي الأيقوني: «أوبيدانا/ ناكوميف/ تاوديدانا/تاوكوميف ـ ناسيدانو/ناكوميف/ تاركوميف/ناكومي»، وتنتهي القصيدة بأصوات أخرى! (ومن الأمور التي قد يكون لها بعض الدلالة أن أنطوان أرتو قد أُودع مصحة عقلية في مقتبل حياته). 
وأسلوب دريدا أمر جديد كل الجدة في الخطاب الفلسفي الغربي، يتسم بكونه طنيناً وجعجة بلا طحن، وإن أخرج طنيناً فهو تقليد مألوف لا يختلف عما قاله السوفسطائيون من قديم الأزل ولا يخرج عن كونه تعبيراً طفولياً غير أنيق عن العدمية. وحتى نعطي القارئ فكرة عن هذا الطنين سنقتبس بعض ما قاله دريدا عن شعر أرتو اللفظي. ينوه دريدا بهذا «الشعر الرائع» لأنه «لا يمثل لغة محاكاتية ولا خلق أسماء. بل يقودنا إلى حواف اللحظة التي لم تُولَد فيها الكلمة بعد والتي لم يَعُد فيها التمفصل [الكلامي] هــو الصرخة، ولا يشكل الخطاب بعد، اللحظة التي يكون فيها التكرار أو الترديد، ومعه اللغة بعامة، مستحيلاً تقريباً: انفصال المفهوم والصوت، المدلول والدال، النقش والكتاب، حرية الترجمة والذات، حركة التأويل، اختلاف الروح والجسد، السيد والعبد، الإله والإنسان، المؤلف والممثل. إنه العشية السابقة لأصل اللغات». وكل هذا الصخب يعني أنها لغة آدم قبل أن يتعلم الأسماء كلها، أي لغة آدم قبل أن ينفخ فيه الإله من روحه، أي لغة آدم حين كان كائناً طبيعياً بلا أصل إلهي غير قادر على الحديث (فوعيه لم يظهر بعد) ولكنه قادر على الصراخ كالحيوان وإصدار أصوات أخرى مرتبطة بالاستجابات الحسية المختلفة. 
ويمكن أن نشير مرة أخرى إلى أنطوان أرتو ولكن باعتباره مؤسس «مسرح القسـوة». وقـد كتب دريدا دراســة عنه في الكتابة والاختلاف، كما حرَّر بالاشـتراك (مع آخر) كتاباً عن رسوم أرتو (1986) وكتب مقدمته. ومسرح القسوة هو مسرح يحاول أن يقلد المسرح البدائي، سواء في الرؤية التي ينبع منها أو في شكله الفني، ويرى أرتو أن المسرح الحديث يتوجه إلى عقل الإنسان وإلى سمعه وبصره وحسب، وأنه يوجد فاصل حاد بين الفن والواقع وبين الممثلين والجمهور ويأخذ النص المسرحي شكل نص محدَّد له مؤلف محدَّد. بدلاً من ذلك، يرى أرتو ضرورة قيام مسرح يمكن أن نسميه (تبعاً لمصطلحنا) «متأيقن»، وهو مسرح يتوجه إلى كيان الإنسان كله. ولذا، لا توجد فيه فواصل بين الدال والمدلول والمسرح والواقع، وبإمكان الجمهور أن يشارك في المسرحية التي تتكون من ملابس ورقص وموسيقى ولا تشغل الكلمات فيهـا إلا حيزاً محدوداً، ويـضرب أرتو مثلاً على ذلك بمـسرح جزيـرة بالي. 
يجد دريدا أن هذا سياق مناسب ليعبِّر عن إشكالية الأصول والمدلول المتجاوز فيقرر أن: «مسرح القسوة يطرد الإله من المسرح، فالمشهد المسرحي يظل لاهوتياً ما دام أنه هيمن عليه الكلام أو إرادة الكلام وما دام أنه هيمن عليه مخطط (لوجوس) لا يقيم في الموضع المسرحي إلا أنه يوجهه ويحكمه من بعيد. يظل المسرح لاهوتياً ما بقيت بنيته تحمل، بمقتضى التراث بأسره، العناصر التالية: مؤلف ـ خالق ـ غائب ـ بعيد ـ مسلح بنص ـ يراقب ويوحِّد ويقود زمن العرض (أو معناه) تاركاً إياه يمثله عبر ما يُدعَى محتوى أفكاره ومقاصده. يمثله عن طريق نواب، مخرجين وممثلين مفردين مُستبعَدين يمثلون شخصيات هي نفسها لا تقوم سوى بتمثيل فكرة الخالق.. عبيد يؤدون (ينفذون بوفاء) مخططات «السيد» الإلهية. ولذا، كي يتحرر المسرح، عليه أن ينفصل عن النص وعن الكلام الخالص وعن الأدب. وبتحرُّره من النص ومن الإله/المؤلف، يُعاد الإخراج المسرحي إلى حريته الخلاقة والمؤسسة». 
وما يفعله دريدا هنا هو أنه يغمر القارئ بفيض من الكلمات ليخلق حالة من السيولة، يمرر معها بعض الافتراضات التي لا يمكن قبولها إلا إذا كان القارئ في حالة غيبوبة نابعة من السيولة والتدفق. فدريدا يقول مثلاً: «إن المسرح يهيمن عليه الكلام»، وهذا طبعاً غير دقيق، فأي طالب يدرس فن المسرح يعرف أن النص المسرحي المكتوب غير الأداء الذي يتضمن عناصر أخرى غير النص المكتوب. كما أن المؤلف قد يكون مجازياً في علاقته بالنص مثل الإله في علاقته بالعالم، ولكن الصورة المجازية لها حدود لأن الممثلين حينما يمثلون النص يعرفون أنه مجرد تمثيل، فالواقع يوجد خارجهم، وهم ليسوا عبيداً يؤدون مخططات «السيد» الإلهية. 
وإن تحرَّر المسرح من النص تماماً، فلن تعود للإخراج المسرحي حركته، إذ أنه (كما يقول دريدا) لن تكون هناك حاجة إلى إخراج مسرحي، أي أن مشروع أرتو يؤدي إلى نفي المسرح (وبالفعل، عبَّر هو عن نفسه عدة مرات عن كراهيته للمسرح وللتمثيل)، فكأن ما يسعى إليه هو إسقاط الحدود، أي حدود، وهو يعلم تماماً أن إسقاط الحدود، هو ذوبان الهوية وهو السيولة الرحمية. وفي الواقع، إذا كان هناك إله/مؤلف في نصٍّ ما، فهو نص مسرحية جزر بالي هذه، فالمسرح هناك جزء من الشعائر الدينية التي تُؤدَّى، ولذا لا توجد مسرحيات وإنما مسرحية/صلاة، وهي إن كانت لا تحتاج إلى مخرج فلأن الجميع يعرف دوره في هذه المسرحية الدينية. 
إن كل ما يفعله دريدا هو أن يحوِّل أرتو إلى تكأة يُصدِّر من خلالها ماديته السائلة الجديدة. يقول دريدا: «الجسد بالنسبة لأرتو قد سُرق منه، سرقه الآخر: النص الواحد العظيم المتسلل، واسمه «الإله»، مكانه هو فتحة صغيرة ـ فتحة الميلاد والتبرز ـ وهي الفتحة التي تشير إليها كل الفتحات الأخرى، وكأنها تشير إلى أصلها». وفي لغة غنوصية واضحة يقول: « إن تاريخ الإله الصانع هو تاريخ الجسد الذي طارد جسدي الذي وُلد وأسقط نفسه على جسدي ووُلد من خلال تمزيق جسدي واحتفظ بقطعة منه حتى يتظاهر أنه أنا. فالإله هو، إذن، عَلَم على ما يحرمنا من طبيعتنا، من ميلادنا، ولذا فهو (دائماً) يكون قد تحدَّث قبلنا بمكر».
وعلى أية حال، فإن الإله الصانع لا يخلق، فهو ليس الحياة وإنما هو صانع الأعمال (بالفرنسية: أوفر oeuvres) والمناورات (بالفرنسية: مان أوفر manouvres)، فهو اللص المحتال المزيف الزائف المغتصب بخـلاف الفنان المبـدع، وهو الكائن الصـانع، وهو كيان الصانع الشيطان، «أنا الإله والإله هو الشيطان».. ويربط دريدا الكينونة بالبراز (كما فعل نيتشه من قبل) لأنه يجب أن يكون للإنسان عقل كي يتبرز، فالجسد المحض لا يمكن أن يتبرز. وقد شبَّه نفسه بالبراز، كما شبه كتابته بأنها براز على الصفحة. 
ثمة شيء طفولي سخيف في كتابات وفكر دريدا لخصه هو نفسه في واحدة من أسخف عباراته وأكثرها طفولية «ما ليس بالتفكيكية؟ كل شيء بطبيعة الحال. ما التفكيكية؟ لا شيء بطبيعة الحال » "What deconstruction is not ? Everything of course! What is deconstruction ? Nothing of course". ومعنى هذه العبارات الفارغة، هو أن التفكيكية أمر فارغ، لا شيء! وهي عبارة تشبه أحجيات الأطفال، التي كنا نتفنن فيها في طفولتنا. ولكن اللعب الطفولي مقبول حينما نكون أطفالاً، أما حينما نكون فلاسفة، رجالاً ناضجين غادورا الرحم، وابتعدوا عن ثدي الأم ودفء غرفة الحضانة ووقعت عليهم مسئولية التفكير بوعي، فإن الأمر جدُّ مختلف. 
وسخافة دريدا تظهر بوضوح في تعليقه على اسمه إذ يقول إنه وُلد باسم جاكي وغيَّره إلى جاك، أي أنه غيره دون أن يتخلص منه تماماً، فاسمه الثاني الجديد يحمل « أثر» اسمه الأول، فالأول هو الثاني، تماماً كما أن الثاني هو الأول. وكيف كان ذلك؟ يجيب دريدا على ذلك بقوله: «الاسم أشبه بعلامة الختان، إشارة متأتية من الآخرين ننصاع لها بسلبية كاملة، ولا يمكنها أن تفارق الجسد». ولكن الاسم قد يكون مثل الختان في بعض الأوجه، ولكنه ليس مثله في كل الأوجه، ولذا فإن المجاز لا يمكن أن يُدفع إلى نهـايته المنطقـية المتوحشـة. ولكـن دريـدا يفعل ذلك لإفساد اللغة. 
ودريدا، المولع بالسيولة، مولع باللعب بالألفاظ بلا هوادة ودائماً. فبطبيعة الحال، يوجد اصطلاح «الاخترجلاف» (بالفرنسية: لاديفرانس la differance)، وهو من كلمتي «الاختلاف» و«الإرجاء»، وهناك كلمة أخرى هي «سيركومفشن circumfession» وهي من كلمتي «سيركموسيشن circumcision» أي «الختان» و«كونفشن confession» أي «الاعتراف»، ونترجمها بكلمة «الختانعراف». وهو يتلاعب بكلمات مثل «ايمين hymen» بمعنى «بكارة/جماع» و«هيمن hymne» بمعنى «نشيد». 
وكلمة «مارج marge» بمعنى «هامش» تتداخل مع كلمة «مارك marque» أي «علامة»، وتتداخل كلتاهما مع كلمة «مارش marche» أي «سير». ومن هذا يستنتج أو يخبرنا أن الهامش علامة فهو يساهم في مسـيرة النص. ويتلاعب باسـم الفيلسـوف هيجل، فهو «إيجيل» بالفرنسية، ولكن الكلمة «إيجل » تعني «نسر»، وقد وجد اللاعب الأعظم ذلك فرصة فريدة للتهكم فيقول: «إن هيجل يستمد قوته الإمبراطورية والتاريخية من اسمه». والمعرفة المطلقة (بالفرنسية: سافوار أبسولو savoir absolu) تصبح «سا sa» التي توحي بأنها الإيدid وهي كذلك الكلمة الألمانية «شتورم أبتايلونجين Sturmabteilungen» أي «قوات العاصفة النازية». 
ولا شك في أن هذا جزء من لعـب الدوال الذي يتحدث عنه دريـدا، ولكن إذا كان هيجـل إمبراطورياً، فهو على الأقل يقدم لنا أعماله فنقرؤها، أما دريدا فهو ينصب شباكه حولنا لننزلق، أو هكذا يظن، إذ أن هناك دائماً من يبحث عن المعنى ويرى أن النكتة قد تكون مقبولة بعض الوقت ولكنها لا يمكن أن تحل محل الحقيقة، ولذا فهي ليست مقبولة طيلة الوقت، ونحن نضحك على النكتة ما دامت في الهامش وليست أساساً للرؤية، وخصوصاً إن كانت النكتة ثقيلة الظل مثل كلمات دريدا. 
ويُصنِّف دريدا نفسه أحياناً كيهودي، بل يوقِّع بعض مقالات بكلمة «رب ريدا Reb Rida» أي «الحاخام رضا»، أو «رب دريسا Reb Derissa» أي «الحاخام دريسا». وهو يرى أن وظيفته كيهودي في الحضارة الغربية المسيحية أن يفكك الأنوطوثيولوجي (لاهوت الأنطولوجيا) أي الأنطولوجيا التي تستند إلى الأصل الإلهي، فهو يرى أن ثنائية الإنسان والطبيعة (وأية ثنائيات أخرى) تفترض وجود عالم متراتب هرمياً يستند إلى لوجوس/مركز يشير إلى إله متجاوز. 
ويرى دريدا أنه، بكونه يهودياً، مرشح أكثر من غيره لأن يقوم بهذه المهمة العدمية التفكيكية فتجربة الشتات اليهودي والرحيل الدائم نحو مكان آخر دون حلم بالعودة (أي دون حنين للمعنى والحقيقة) هو رفض عميق للثبات والميتافيزيقا ولأي شكل من أشكال الطمأنينة. ولكي ينجز هدفه، قرَّر دريدا أن يهاجم الكتابة المتمركزة حول اللوجوس التي ورثتها الحضارة الغربية المسيحية من الآباء المسيحيين، وقد قرَّر أن يواجه هذا بمفهوم آخر للكتابة يتفق مع المفهوم اليهودي للكتابة الذي يتلخص في أن الكتاب المقدَّس ليس هو الحيز الذي تحل فيه الكلمة. وهو يشير إلى فيلسوف يهودي آخر، معلمه إيمانويل ليفناس الذي أكد ضرورة البحث عن العناصر التي تسبب عدم الاتساق في الميتافيزيقا الغربية. 
ويذهب دريدا إلى أن الميتافيزيقا الغربية تعتمد على تهديد خارجي لتحتفظ بتماسكها، وهذا التهديد هو اليهودي، ولذا فإن القضاء على معاداة اليهود يتطلب القضاء على الميتافيزيقا الغربية. وفي كتابه جرس الموت Glas الذي كُتب على هيئة عمودين: العمود الأول في اليسار عن هيجل والعمود الثاني عن جان جينيه ويعارض الواحد منهما الآخر؛ فبينما يؤكد هيجل أهمية الأسرة باعتبارها وحدة تستند إلى العلاقة الجنسية السوية بين ذكر وأنثى، يؤكد جينيه الشذوذ الجنسي. أما المؤلف (أي دريدا نفسه)، فهو اليهودي الذي يقف بين شكلين من أشكال معاداة اليهود (الألماني والفرنسي). وهو، في كتاباته الأخرى، يتحدث عن الهولوكوست وعن كتاب إستير وعن العلاقة بين اللغة والدياسبورا ويعطي محاضرات عن إسبينوزا وهرمان كوهين. 
وفي مقال له عن إدمون جابيس، يتحدث دريدا عن صعوبة أن تكون يهودياً، تلك الصعوبة التي تشبه صعوبة الكتابة "فاليهودية والكتابة هما الشيء نفسه، الانتظار نفسه، الأمل نفسه، عملية إفراغ الشخصية نفسها (بالإنجليزية: ديبليشن depletion)". ولكن اليهودية لم تكن إفراغاً للشخصية وليست تحديداً للهوية؟ للإجابة عن هذا السؤال يحتاج الأمر إلى تفسير جاد لا إلى نكتة. إن دريدا عضو في جماعة وظيفية استيطانية هي جماعة المستوطنين الفرنسيين البيض الذين كانوا مرتبطين عضوياً (مادياً وحضارياً) بالوطن الأم فرنسا، والجماعة اليهودية في الجزائر كانت جزءاً لا يتجزأ من الجماعة الاستيطانية الفرنسية، وقد مُنح يهود الجزائر جميعاً الجنسية الفرنسية عام 1830؛ وبهذا يكون اليهودي الجزائري الذي أصبح جزءاً من الجماعة الاستيطانية شخصاً يمارس الاقتلاع والهامشية مرتين؛ مرة لكونه مستوطناً فرنسياً اغتصب الأرض من أصحابها ويعيش عليها في وسط عربي، ومرة أخرى باعتباره يهودياً نشأ في بلد عربي. 
ولكنه، ومع هذا، حوَّل ولاءه إلى مغتصبي البلد الذي وُلد ونشأ فيه. ولا شك في أن سفارديته ساهمت في عملية تهميشه، فاليهود السفارد كانوا يتمتعون بمركزية ثقافية بين أعضاء الجماعات اليهودية، وكانوا أرسـتقراطيتها الثقافيـة، ولكن عمليـة الطرد والنفـي والتشتيت (بالإنجليزية: ديسبرشن dispersion) والتناثر والتبعثر التي تُذكِّرنا بتناثر المعنى وبعثرته في النص أثرت فيهم بشكل عميق، وكانت لهذا آثاره في القبَّالاه اللوريانية (التي وضع أسسها يهودي سفاردي آخر هو إسحق لوريا). 
كما يُلاحَظ أن التجربة الأساسية في تاريخ اليهود السفارد هي تجربة المارانو (من كلمة «مرائي»، وهم يهود شبه جزيرة أيبريا الذين أبطنوا اليهودية وأظهروا الكاثوليكية) الذين تآكلت يهوديتهم المستبطنة واختفت، ولذا كان اليهودي السفاردي إنساناً هامشياً تماماً في مختلف التقاليد الدينية والثقافية التي يتحرك فيها، فهو لا يؤمن بالكاثوليكية ولا يعرف اليهودية (يهودي غير يهودي على حد قوله)، وهو لا يعرف لا الختان ولا الاعتراف وإنما يعرف شيئاً « تناصياً » يُسمَّى «الختانعراف»، فلا هو كاثوليكي ولا يهودي ولكنه يُفقد الكاثوليكية حدودها وهويتها ويُفقد اليهودية حدودها ومضمونها وهويتها. 
إن هامشية دريدا جعلته مرشحاً لأن يكون فيلسوف التفكيك الأول، فهو نفسه إنسان مفكك تماماً: فهو فرنسي ولكنه من أصل جزائري، وهو جزائري ولكنه عضو في جماعة استيطانية فرنسية، وهو يهودي سفاردي لا ينتمي إلى التيار الأساسي لليهودية، وهو لا يؤمن بهذه اليهودية ولا يكن لها الاحترام ولكنه مع هذا يشير إليها دائماً. وإن كان هناك دال بدون مدلول، فإن جاك دريدا الفيلسوف الفرنسي الجزائري اليهودي السفاردي هو هذه الحالة، فهو ليس فرنسياً ولا جزائرياً ولا يهودياً ولا سفاردياً، كما أن مشروعه الفلسفي هو إنهاء الفلسفة. 
وغني عن القول أن دريدا لا يقدم فلسفة يهودية، ولا يمكن فهم فلسفته إلا في سياق تاريخ الفلسفة الغربية. ورغم وجود أفكار تفكيكية وما بعد حداثية في مدارس التفسير اليهودية (التي اطلع عليها دريدا وتأثر بها فهو تلميذ ليفناس)، إلا أنه يظل مفكراً غربياً بالدرجة الأولى، ولا تشكل يهوديته سوى عنصر مساعد في تصعيد تفكيكيته. ولدريدا العديد من المؤلفات والكتب، أهمها: الصور والظواهر (1970)، و تناثر المعنى (1972)، و في علم الكتابـة (جراماتولوجي) (1972)، و هوامش الفلسفة (1972)، و جرس الموت Glas (1974)، و عن النبرة والرؤية (الأبوكاليبسية) التي تم تبنيها في الفلسفة (1982)، و جرامافون أوليس (1987). وقد صَدَر له مؤخراً كتاب أطياف ماركس (1995).
يتبع إن شاء الله...


الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 48337
العمر : 71

الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  Empty
مُساهمةموضوع: هارولــد بلــوم (1930 – ) Harold Bloom    الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  Emptyالأحد 09 فبراير 2014, 1:02 am

هارولــد بلــوم (1930 – ) Harold Bloom 
ناقد أدبي أمريكي يهودي وُلد في نيويورك. يُدرِّس الأدب الإنجليزي في جامعة ييل منذ عام 1955. وهو حلولي ذو رؤية غنوصية قبَّالية واعية تماماً بغنوصيتها وعدميتها. نشر في الستينيات ثلاث دراسات تدور حول الشعر الرومانتيكي الإنجليزي، هي شيللي وصياغة الأسطورة (1959)، والجماعة الرؤياوية (1961)، ورؤى (أبوكاليبس) بليك (1963). 
وقد استخدم بلوم في هذه الدراسات مقولات تحليلية مستقاة إما من القبَّالاه أو من فلسفة بوبر (الحلولية الحسيدية الجديدة). ويذهب بلوم إلى أن الشعراء الرومانسيين الإنجليز كانوا يرمون إلى تحويل الطبيعة من موضوع إلى ذات من خلال رؤية أسطورية للواقع فيدخلون في علاقة حب مع الطبيعة، وهي ليست علاقة آلية (الأنا مع الهو) وإنما علاقة متعيِّنة مباشرة (الأنا مع الأنت) حيث يصبح الآخر (أي الطبيعة) كياناً حياً مفعماً بالحياة، تماماً مثل الإنسان، فهي لذلك علاقة حوارية يتساوى فيها الإنسان مع الطبيعة ويظهر الإنسان الطبيعي (أو الإنسان / الطبيعة) وتتضخم الأنا الإنسانية لتسم الطبيعة بميسمها، ولكنها في الوقت نفسه تذوب في الطبيعة حيث يصبح هناك كيان واحد تسري فيه الروح المقدَّسة، ومعنى ذلك أن الثالوث الحلولي يكتمل تماماً في شعر كبار الشعراء الرومانتيكيين. 
وأهم الشعراء على الإطلاق هو شيللي، فصوته ـ في تصوُّر بلوم ـ مثل صوت أنبياء العهد القديم بعد أن يتخلوا عن الرؤية التوحيدية التي تفترض انفصال الإنسان عن الطبيعة، وتفترض وجود مساحة بين الخالق والمخلوق، ليصبحوا أنبياء حلوليين لا يتلقون الكلمة الإلهية لإبلاغها وإنما يتوحدون بها ثم يصبحون تجسـيداً لها: صوتهم هو صوت الإله (والطبيعة). وقد قدَّم بلوم تحليلاً كاملاً لنسق بليك باعتباره نسقاً غنوصياً. وفي السبعينيات، صَدَر لبلوم عدة دراسات، هي ييتس (1970)، و قلق التأثر (1973)، وخريطة إساءة القراءة (1975)، و القبَّالاه والنقد (1975)، ولشعر والكبت (1976). كما نشر رواية بعنوان هرب لوسيفر: فانتازيا غنوصية (1979(. 
ولفهم نقد بلوم، لابد أن نفهم منظومته الغنوصية الصراعية التي تضرب بجذورها في كل من الغنوص اليهودي القديم والغنوص العلماني الحديث. وتعود هذه الرؤية الصراعية إلى عالم الجسيلشافت التعاقدي حيث يتشيأ كل من الإنسان والطبيعة وحيث يصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان. ولكن هذه الرؤية تعبِّر عن نفسها في ديباجات غنوصية مثل أصحاب الغنوص الروحانيين (النيوما) الذين يعيشون مغتربين عن أصلهم النوراني. وحتى يتغلب الغنوصي على غربته، فإنه يؤكد اتصاله بالجوهـر الإلهي. بل إنـه يبيِّن أحياناً أنه هو نفسه الإله، فهو خالق وليس مخلوقـاً. وهذا هو ما يفعله بلوم الذي يشير إلى قول نيتشه: «إن كان هناك إله، فماذا أكون أنا إذن؟» فالإنسان حين يكتشف أنه مخلوق وليس خالقاً، أنه إنسان وليس إلهاً، أنه لم يخلق نفسه بنفسه وأن له أصلاً ربانياً فإنه يشعر بالاغتراب، وخصوصاً أنه قُذف به في عالم ليس من صنعه. ولذا، لابد أن يثور الإنسان فينكر أصله الرباني ويمحوه تماماً ليصبح هو نفسه مرجعية ذاته وليكون العبد والمعبود والمعبد، وليس أمامه سوى أن يعيد خلق العالم في صورته. وبذلك يصبح العالم المخلوق من خلقه هو، ويصبح الإنسان خالقاً لنفسه ولعالمه. وإحدى الحيل الأساسية في هذا المضمار هي تأكيد أن العالم صيرورة كاملة ونسبية كاملة بحيث تتساوى كل الأمور ويختفي السبب والنتيجة والخالق والمخلوق وكل ثنائية تدل على وجود أصل يسبق النسخة، فالصيرورة هنا هي الآلية الأساسية حيث لا توجد أية معيارية يمكن الإهابة بها ولذا لا يبقى إلا الصراع اللانهائي في إطار الصيرورة الأزلية. 
هذه المنظومة الغنوصية تكتسب أبعاداً يهودية في كتابات بلوم، فتجربة اليهود الأساسية هي كارثة المنفى حين ينفصل اليهود عن أصلهم النوراني فيتم نفيهم من صهيون ويُقذَف بهم في عالم الأغيار. وكارثة النفي هي كارثة «إحلال» (بالإنجليزية: ديسبليسمنت displacement، من كلمة «ديسبليس displace» الإنجليزية التي تعني «يُشرِّد» و«يزيح» و«يحل محل») إذ تم تشريد اليهود وإزاحتهم من مكانهم وإحلال شعب آخر محلهم. ولم يبق أمام اليهود سوى البكاء أمام حائط المبكى. واليهود، هؤلاء المنفيون الأزليون، هم رمز التجوال الأزلي والصيرورة الأزلية (على عكس المسيحيين الذين أصبحوا إسرائيل الحقيقية الثابتة المستقرة المؤسسية التي فسرت العهد القديم تفسيراً رمزياً مستقراً). وفي مقابل الكنيسة بأيقوناتها المفعمة بالدلالة، يوجد حائط المبكى (بقية الهيكل)، أي أنه مجرد شظايا؛ بقايا معنى؛ دال دون مدلول، أو دال ابتعد مدلوله حتى أمّحي. 
وقد تَعمَّق انفصال الدال عن المدلول عند الشعب اليهودي؛ فهذا الشعب المختار أصبح الشعب المنبوذ، وهذا الشعب صاحب الهوية أصبح بلا هوية، وهذا الشعب الذي كان يحلم بسيادة العالم أصبح مسلوب الإرادة والسلطة. وبدلاً من أرض الميعاد النهائية، توجد أرض المنفى والتجوال الأزلية؛ وبدلاً من دال له مدلول واضح، أصبحت هناك رموز شظايا ليس لها معنى (على عكس التجسد المسيحي حيث يلتصق الدال بالمدلول ويصبح الدال مدلولاً ويصبح تجسُّد المسيح ابن الإله هو ما يعطي معنى لفوضى التاريخ). 
ولهذا السبب، أصبح اليهود قوى الظلام والإحلال والتقويض في العالم. وقد لجأوا لاستراتيجية الهرمنيوطيقا المهرطقة التي تتلخص ببساطة في أن الهرطقات الإلحادية دخلت التراث الديني من خلال التفسيرات الحاخامية الغنوصية التي اكتسبت مركزية في حالة القبَّالاه. ثم تدريجياً أصبحت التفسيرات الغنوصية هي نفسها التراث وحلت محل الكتاب المقدَّس وتداخل المقدَّس والمدنَّس تماماً. إن الهرمنيوطيقا المهرطقة تعبير عن الصراع الماكر بين اليهود والقوى التي نفتهم وشردتهم وأحلت شعباً محلهم، وتعبير عن انتقامهم من عدوهم الهيليني المسيحي الذي يزعم أن العالم يدور حول اللوجوس، ولذا فقد جعلوا همهم ضرب اللوجوس عن طريق تَبنِّي اللامعنى والتغير وانفصال الدال عن المدلول. 
وعلى هذا فإن الناقدة الأمريكية اليهودية سوزان هاندلمان شبَّهت هارولد بلوم بيهوذا الإسقريوطي حواريّ المسيح الذي باعه للرومان بحفنة فضة (ومع هذا لم تهدأ روحه فرفضه الرومان). كما شبَّهته بيهودا الحشموني (المكابي) الذي دخل معبد النقد الأدبي ليطهره من المسيحية ومن رغبتها المحمومة في الاتحاد بالخالق وفي الثبات. تقارن هاندلمان بين بلوم ونقاد (مسيحيين) مثل إليوت وفراي يؤمنون بالتجسد حيث يظهر المسيح في التاريخ فيُنهى التاريخ اليهودي. ولكن تجسد المسيح هو لا تاريخ، هو ثبات وتَوقُّف، هو اللوجوس الذي أدَّى إلى ظهور الفكر الغربي الأونطوثيولوجي، وهو الحضور في التاريخ ونقطة الثبات التي تفلت من قبضة الصيرورة. وانطلاقاً من أرضيتهما المسيحية، يرى إليوت وفراي أن الهرب من الذات (النسبية ـ المتغيرة ـ الضيقة) يتم عن طريقه فهم التقاليد والانتماء إليها أو عن طريق ما سماه فراي « النمط الأوليّ » (وهو شكل من أشكال التجسد). أما بالنسـبة لليهـودي بلوم، فإن الهرب من الذات يتم عن طريق فتـح النص.
كتب بلوم دراسة بعنوان أجون (الصراع) وهي محاولة من جانبه لمراجعة النظرية النقدية الغربية. ويذهب بلوم في هذه الدراسة إلى أن النص الأدبي حلبة صراع بين الشعراء فيما بينهم، وبين الشعراء والنقاد، وبين النص والمفسر، حيث يحاول كل متصارع أن يؤكد إرادته ويمليها على الآخر (يمحو الآخر). والقراءة النقدية شكل من أشكال الصراع المستمر (تماماً مثل قوانين الحركة المادية، فالعالم صيرورة مطلقة وكل شيء يسقط فيها). أما النص نفسه فليس له معنى محدد، فهو صامت (كما يقول الباطنيون) ومن ثم لا توجد قراءة دقيقة وقراءة غير دقيقة. فالقراءة أمر مستحيل لأن القراءة تفسير، والتفسير يفترض وجود مركز ومعنى محدد ومعيارية لم تسقط في قبضة الصيرورة ونص ثابت مستقر وأصل ثابت للنص. ولكن، في واقع الأمر، لا يوجد نص في ذاته ولا توجد قصيدة في ذاتها، ولا يوجد سوى نصوص متداخلة (بالإنجليزية: إنترتكست intertext)، ولا يوجد ما هو داخل النص وما هو خارجه، ولا يوجد سوى مفسر تفسيره هو رؤيته للنص، ولذا فإن ما يوجد هو عبارة عن سوء قراءة ليس إلا. 
ومعنى القصيدة لا يوجد في بطن القصيدة ولا في بطن الشاعر وإنما في بطن الناقد أو في إرادته إن أردنا توخِّي الدقة، والفعل النقدي فعل نيتشوي صراعي يتضمن فرض الإرادة. ومعنى القصيدة، بهذا المعنى، هو قصيدة أخرى، فلا مفر من الذاتية الكاملة ولا مفر من إساءة القراءة. ولهذا، ركَّز بلوم على الناقد صاحب الإرادة النيتشوية (الذي يشبه الحاخام ممثل الشـريعة الشـفوية التي تحل محل الشـريعة المكتوبة). وما يوجد هو، إذن، إساءة قراءة، قد تكون قوية أو ضعيفة، ولكنها قوية كانت أم ضعيفة إساءة قراءة ليس إلا. 
وتمتد الرؤية الصراعية لتتجاوز الصراع بين الناقد والنص لتصبح صراعاً بين الشاعر والشاعر. فكل نص قديم يُشكل أصلاً يترك أثره فيما بعده، فهو حاضر/غائب، ومهمة الشاعر المبدع أن يحاول أن التحرر من أي أصل ثابت، وتتحدد درجة الإبداع بمدى الإفلات من أثر الأسلاف بل من أي أثر لأي أصول، أي أن الإبداع هو إنكار الأصول الربانية أو الإنسانية، هو عملية تأله، فالإله وحده هو الذي لا أصل له. وثمة صور صراعية عديدة في كتابات بلوم فهو يشير إلى واقعة صراع يعقوب مع الإله (في صورة ملاك) فصرع يعقوب الإله/الملاك، ولذا فإنه سُمِّي «يسرائيل» (وهي كلمة معناها «يصارع الإله» أو «صرع الإله»). 
كما يمجد بلوم شيطان جون ملتون (في ملحمة الفردوس المفقود) لأن الشيطان في حالة غيرة من الإله (الأصول) بسبب مقدرة الإله على الخلق وعجزه هو. فالشيطان هو الغنوصي الحقيقي الذي يصر على أنه قديم وليس مخلوقاً، تماماً مثل الإله نفسه وقادر على الخلق مثله. والشيطان يرفض تجسُّد المسيح (لحظة التجسد تشكل لحظة ثبات في الصيرورة التاريخية). ولأن الشيطان يود تأكيد مقدرته على الخلق، فإنه يتزوج من الرذيلة متحدياً الإله فتلد له الرذيلة ابناً يُسمَّى «الموت»، هو القصيدة الوحيدة التي يسمح له الإله بنظمها. فالشيطان هو مثال الشاعر القوي الذي يصارع الإله ويأتي بوحي بديل لوحي الإله والذي يود أن يزيل أثر الإله تماماً. 
وتُشبِّه هاندلمان اليهودي بشيطان الشاعر جون ملتون في ملحمته الفردوس المفقود، فهو أيضاً يرفض التجسد. وعلاقة القبَّالاه بالتوراة تشبه علاقة الشيطان بالإله، فالقبَّالاه تمحو المعنى الإلهي وتأتي بالمعنى الغنوصي البديل. وكما يرفض الشيطان اللوجوس (رمز الثبات ومصدر اليقين)، يرفض اليهودي المسيح (اللوجوس)، فهو يعيش في المنفى الدائم في حالة الإرجاء والاختلاف (الاخترجلاف) وفي حالة تفسير مستمرة لا تنتهي للنص المقدَّس وبذلك يصبح اليهودي عدو التجسد وعدو أي يقين معرفي. والتفسير المستمر للنص هو إستراتيجية اليهودي للتغلب على غربته وهي إستراتيجيته التقويضية لينتقم من الأغيار فيأخذ نصوصهم المقدَّسة أو المركزية ويحل محل معناها الأصلي معنى غنوصياً مظلماً فكأنه انتقم مما حلَّ به من إحلال. والصراع مع الأصل يأخذ شكل الصراع مع الأب، فالأب هو الذي يمنحنا الحياة، فإن قتلنا الأب محونا الأصل ووصلنا إلى عالم بلا أصل ولا ثبات، بلا مركز ولا مطلقات. 
وهنا يشير بلوم إلى أسطورة أوديب (في المصطلح الفرويدي) حيث يدخل الشاعر في صراع مع من سبقه من شعراء (آبائه) فإما أن يصرعهم وإما أن يصرعوه. ويؤكد بلوم دائماً (مثله مثل كثير من دعاة ما بعد الحداثة) أن الرغبة تسبق الفعل أو أن الرغبة هي المحرك، فالرغبة تتجاوز الحدود وتتجاوز التاريخ والزمان والمكان، هي الذاتية الكاملة والنسبية والصيرورة. لكل هذا، نجد أن الموضوعات الأساسية في كتابات بلوم هي التقويض والمراجعة والانقطاع والتفسيرات التفكيكية والإحلال. 
ويرى بلوم أن آليات الدفاع عن الذات هي أشكال بلاغية سماها في البداية بأسماء يونانية، فهناك: كلينامن Clinamen، أي الإنحراف، وتيسيرا Tesera، أي الاكتمال والتناقض، وكينوسيس Kenosis، أي السعي إلى الانقطاع عن الشاعر السابق، والديمنة Daemonization (من «ديمون demon»، أي «الشيطان»)، وهي الشيطنة، ولكنه في دراسة لاحقة أسقط هذه المصطلحات وأحل محلها مصطلحات من القبَّالاه مثل تهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) والانكماش (تسيم تسوم) والإصلاح (تيقون). 
ويثير مفهوم التسيم تسوم على وجه الخصوص اهتمام بلوم. فالخلق، حسب الأسطورة اللوريانية، تم من خلال عملية انكماش أي غياب، ولكن هذا الغياب الإلهي ضروري للحضور الإلهي، فكأن الغياب والحضور يتداخلان. والحضور الإلهي ليس كاملاً فهو عملية مستمرة عبر التاريخ، هو نقطة غياب وحضور. وبهذا، يكون التسيم تسوم تعبيراً عن المفارقة (أيروني irony). كما يربط بلوم بين حادثة تهشُّم الأوعية ونفي اليهود فتهشُّم الأوعية أدَّى إلى تناثُر الأشعة الإلهية واختلاطها بمادة الكون الرديئة. وهذا هو نفسه نفي اليهود وتناثرهم في بقاع الأرض واختلاطهم بالأغيار، كما أن اليهود بعد نفيهم تم إحلال شعب آخر محلهم. ثم يربط بلوم بين هذا كله والكناية حيث يحل الكل محل الجزء. 
وبجسارة غير عادية، ورغم عدم معرفته اللغات القديمة، كتب بلوم مقالاً عن المصدر اليهوي للعهد القديم بيَّن فيه أن يهوه الذي يُشار إليه في هذا المصدر ليس له أدنى علاقة بإله العهد القديم ككل، وأن مؤلف هذا النص ليس رجلاً بل امرأة وأنها امرأة متقدمة في السن تنظر إلى يهوه باعتبارها أماً تنظر إلى ابنها الذي بدأ يشب عن الطوق ويزداد قوة ولكنه ابن سريع الغضب بشكل شاذ. ومن الواضح أن بلوم هنا يغازل حركة التمركز حول الأنثى التي تحاول أن ترد كل شيء إلى الأنثى وتبين أن أصول الإنسان ليست إلهية وإنما أنثوية، فهو حلول أنثوي. 
ولا يركز نقد بلوم الأدبي على النص وإنما يركز على أهم قارئ للنص وهو قارئ يتسم بالقوة: أي الناقد، فكأن النص يموت وكاتب النص يموت وينتصر الناقد الذي يفرض إرادته النيتشوية على الكلمات التي أمامه، ومن ثم يذوب النص المكتوب في صوت الناقد (الذي يصبح اللوجوس في العملية الأدبية). ولذا، يصبح النقد الأدبي مناسبة أو تكأة للناقد لأن يطلق صوته وكأنه كاهن حلولي يتصور أن الإله قد تلبَّسه وأن اللوجوس حل فيه فأصبح هو نفسه اللوجوس. 
ويُلاحَظ أن السيولة الحلولية هنا تؤدي إلى انثيال المصطلحات وتَغيُّرها من عمل إلى عمل، فالمصطلحات البوبرية التي استُخدمت في المرحلة الأولى أُسقطَت في المرحلة الثانية حيث حلت محلها مصطلحات من القبَّالاه اللوريانية ثم من الفكر الغنوصي وأخيراً من فكر التمركز حول الأنثى، ولكن الثابت في كل هذا هو الصيرورة. وعلى كلٍّ، فإن هذه صفة أساسية في النقد الأدبي الحديث لعصر ما بعد الحداثة في الغرب حيث يتسم كل شيء بالسيولة بعد غياب اليقين المعرفي والأخلاقي. ومن ثم، فلا يمكن الحديث عن بلوم باعتباره ناقداً يهودياً، فهو ناقد علماني غربي من نقاد عصر ما بعد الحداثة وقد أصبحت القبَّالاه نفسها جزءاً من التراث الفكري الغربي بحيث لا يوجـد فـارق كبير بين القبَّالاه المســيحية والقبَّالاه اليهودية. 
وقد صَدَر لبلوم مؤخراً كتاب العقيدة الأمريكية: ظهور الأمة ما بعد المسيحية (1992) يذهب فيه إلى أن الأمريكيين يؤمنون بعقيدة واحدة ذات بنية غنوصية تؤله الذات الأمريكية وترى أنها قديمة وليست مخلوقة. والحرية في هذا الإطار هي الخلاص الغنوصي، أي الاتصال الأبدي بالخالق والعودة إلى حالة الامتلاء الأولى (بليروما). ويرى بلوم أن المسيحية الأمريكية لم تَعُد مسيحية رغم استخدامها المصطلحات المسيحية. وأهم تجليات هذه العقيدة شبه المسيحية هي المورمونية وشهود يهوه. ويرى بلوم أن الطوائف المسيحية كلها وجميع الطوائف الدينية الأخرى تتبع هذا الإطار الغنوصي الأمريكي.
الصهيونيــة وما بعــد الحداثــة Zionism and Post-Modernism 
حاولنا في المداخل السابقة أن نكتشف الصلة بين ما بعد الحداثة من جهة، واليهودية واليهود من جهة أخرى، من خلال محاولة الوصول إلى البُعد المعرفي للظاهرة «المعرفي» («الكلي والنهائي») ومن ثم طوَّرنا مقولات مثل الحلول مقابل التجاوز، والصيرورة مقابل الثبات، والتبعثر مقابل الكلية والتكامل. ويمكن أن نطبق المنهج نفسه على علاقة الصهيونية (باعتبارها وريثة بعض جوانب التراث اليهودي الحاخامي) وما بعد الحداثة. 
والصهيونية، في جوهرها، حركة فكرية وسياسية غربية، أي أنها إفراز من إفرازات النموذج الغربي العلماني الشامل، ولذا فثمة علاقة بنيوية وثيقة بينها وبين ما بعد الحداثة، شأنها في هذا شأن معظم الحركات الفكرية السايسية الغربية. بل إنه يمكننا القول بأن كثيراً من مقولات ما بعد الحداثة، كحركة فلسفية متبلورة، كانت قد تبدت في الفكر الصهيوني قبل ظهور ما بعد الحداثة. 
ويمكن أن نوجز هذه المقولات فيما يلي: 
1 ـ تقوم الصهيونية بتفكيك كل من اليهودي والعربي، فكلاهما لا يتمتع بأية مطلقية، وكلاهما ليس له قيمة تذكر في حد ذاته: فاليهودي، شأنه شأن العربي، شخص لا جذور له، ومن ثم يمكن نقله ببساطة من مكان لآخر، ويمكن أن تُفرض عليه هوية جديدة، فيصبح اليهودي المستوطن الصهيوني ويصبح العربي اللاجئ الفلسطيني، وتصبح فلسطين إسرائيل بل ويصبح الوطن العربي السوق الشرق أوسطية! فكأن علاقة الدال بالمدلول في الخطاب الصهيوني مسألة هشة عرضية، قابلة للتغير، أي أن المدلول هنا سقط تماماً في قبضة الصيرورة. 
وينطبق الشيء نفسه على المشروع الصهيوني، فهو يدَّعي أنه مشروع يهودي ولكنه يهدف إلى مَحْو يهودية المنفى (أي اليهودية عبر تاريخها) وإلى محو اليهود عن طريق تطبيعهم ودمجهم في مجتمع الأغيار، فهو دال دون مدلول أو دال مدلوله عكسه. ولا يختلف الأمر كثيراً على مستوى التطبيق، فالدولة التي أسستها الصهيونية هي دولة تزعم أنها يهودية ولكن، مع هذا، ليس لها مضمون يهودي، وهي تُعَدُّ من أكثر الدول علمنة في العالم وتتهدد الهويات اليهودية الدينية والإثنية. 
2 ـ الصهيونية، مثل ما بعد الحداثة، نسبية تماماً تؤمن بالصيرورة الكاملة. وانطلاقاً من هذه الصيرورة، وإنكار الكليات والحق والحقيقة، يُستخدَم العنف لتغيير الوضع القائم لصالح صاحب السلاح القوي. 
3 ـ يتبدَّى هذا الإيمان بالصيرورة في برجماتية الصهيونية (وما بعد الحداثة). فالصهيونية تملك مقدرة هائلة على التحرك دون مطلقات، وقد أسست دولة وظيفية في العالم العربي تغيَّر دورها من مرحلة لأخرى حتى يتسنى لها خدمة المصالح الغربية بكفاءة عالية. 
4 ـ انطلاقاً من هذا الإيمان بالصيرورة، تذهب ما بعد الحداثة إلى أنه لا توجد نظرية (قصة) كبرى تنبع من إنسانيتنا المشتركة، ولذا لا يبقى سوى قصص صغرى ليس بإمكان البشر جميعاً أن يشاركوا فيها. كما أن الصهيونية هي أيديولوجية القصص الصغرى التي لا تؤمن بقصة إنسانية كبرى، فالصهيوني يؤسس نظريته في الحقوق اليهودية في فلسطين انطلاقاً من «شعوره الأزلي بالنفي وحنينه إلى صهيون»، أي أنه يدور في نطاق قصته الصغرى. وحيث إن ارتباط العرب بفلسطين ووجـودهم فيهـا يقع خارج نطاق هذه القصة، فلا شرعية لها بل لا وجود. 
5 ـ يُلاحَظ أن كلاًّ من الصهيونية وما بعد الحداثة يتسمان بالثنائيات المتعارضة المتطرفة التي تؤدي إلى العدمية. فما بعد الحداثة تطرح تصوراً للحقيقة باعتبارها حضوراً كاملاً مطلقاً. وحيث إن مثل هذا الحضور مستحيل، فهي تعلن أنه لا توجد حقيقة على الإطلاق. وهذا لا يختلف كثيراً عن طرح الصهاينة لفكرة اليهودي الخالص (المطلقة) كمعيار وحيد للهوية اليهودية. وحيث إن مثل هذا اليهودي غير موجود في عالم المنفى، فإن عالم المنفى والأغيار يُرفَض بأسره حتى يتم تأسيس الدولة اليهودية الخالصة. ثم تزول الثنائية تماماً حين نكتشف أن الدولة اليهودية الخالصة ستُعيد صياغة اليهودي ليصبح مثل الأغيار وتسود الواحدية،أي أنه تم الانتقال من التعارض الكامل إلى التماثل الكامل وإلى الواحدية التي تمحو الثنائية.


الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة  2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب التاسع: اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الباب الثالث: التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية
» الباب الثانى: العلمانية (والإمبريالية) واليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية
» المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة الباب الأول: من التحديث إلى ما بعد الحداثة
» الجزء الثاني: ثقافات الجماعات اليهودية الباب الأول: ثقافات الجماعات اليهودية
» الباب الثانى: الجماعات اليهودية المنقرضة والهامشية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــــافـــــــــــة والإعـــــــــــلام :: موســـــوعة اليهــــــود-
انتقل الى: