ويتضح عدم إدراك برجر للمكون الحلولي في اليهودية في حديثه عن التصور اليهودي للإله باعتباره إلهاً مفارقاً للطبيعة وللإنسان. فاليهودية تركيب جيولوجي تراكمي، ولذا يوجد داخلها التصور التوحيدي للإله، ولكن توجد إلى جواره تصورات أخرى تتناقض مع التصور التوحيدي تماماً، وهي تصورات أكثر شيوعاً ومركزية من التصور التوحيدي. كما أن برجر في حديثه عن الأعياد اليهودية يقول إنها أعياد تحتفل بأحداث تاريخية ولا تحتفل بقوى كونية. وقد بيَّنا في دراستنا للأعياد (انظر الباب المعنون: «الأعياد اليهودية» في المجلد الخامس من الموسوعة) أنها تحتوي على كل من العنصرين، فعيد الفصح هو عيد خروج الشعب من مصر (مناسبة تاريخية) وهو عيد الربيع في آن واحد. أما فيما يتصل بترشيد الأخلاق، فقد قضت عليه الأخلاقيات المزدوجة التي اتسم بها أعضاء الجماعات اليهودية كجماعة وظيفية. ومن المعروف أن اليهودية (مع هيمنة القبَّالاه) سيطر عليها الإيمان بالسحر والتعاويذ وزادت شعائر الطهارة، وهو ما جعلها قريبة من العبادات الوثنية الحلولية القديمة التي يُفتَرض أن اليهودية التوحيدية قد تمردت عليها. وقد أشار فيبر إلى سقوط اليهودية في الحلولية ولكنه قرر، بناءً على هذا، استبعاد اليهودية من نموذجه التفسيري، زاعماً أن التوحيد اليهودي قد استمر من خلال العقيدة المسيحية.
إلى جانب هذا، أهمل كل من فيبر وبرجر رصد تَصاعُد معدلات الحلولية والكمونية في المسـيحية الغربية ذاتهـا (وفي المجتمع الغربي ككل). فلم يتحدثا عن الربوبية والماسونية وظهور القبَّالاه المسيحية وتغلغل الحلولية الكمونية في الفكر الديني المسيحي (وبخاصة في الفرق البروتستانتية). ونحن نذهب إلى أن العلمانية هي شكل من أشكال الكمونية المادية وأن ما حدث أن معدلات الحلولية الكمونية في الحضارة الغربية والمسيحية الغربية تزايدت تدريجياً إلى أن وصل الكمون إلى منتهاه (وأصبح الإله كامناً تماماً في الطبيعة والتاريخ)، فظهرت المنظومة العلمانية. وبهذا المعنى، وُلدت العلمانية من رحم كل من: اليهودية والمسيحية، بعد تراجُع التوحيد والتجاوز ومع تزايُد الحلول والكمون.
والمتتالية التي نقترحها أبسط من متتالية برجر وفيبر، كما أن لها قيمة تفسيرية أعلى. وعلى سبيل المثال، يمكن فهم الإصلاح الديني (وهو أول حلقات عملية العلمنة في الغرب) وانتشار الصوفية الحلولية في صفوف البروتستانت في ضوء هذه المتتالية، وهي تبيِّن علاقة الفكر الإنساني (الهيوماني)، مثلاً، بالفكر البروتستانتي على أساس أنهما نوعان من أنواع الفكر الحلولي الكموني الواحدي؛ حقق الفكر الإنساني الهيوماني الواحدية من خلال استبعاد الإله، وحقق الفكر البروتستانتي الواحدية نفسها إما من خلال حلول الإله في الإنسان والطبيعة أو من خلال مفارقته لهما حتى حد التعطيل، أي أن واحدية الفكر الهيوماني تعبير عن حلولية كمونية مادية بينما واحدية الفكر البروتستانتي تعبير عن حلولية كمونية روحية. ويشكل إسبينوزا نقطة تحوُّل مهمة إذ عبَّر عن توازي هـذين الضربين من الحلوليـة الكمـونية في عبارته «الإله أي الطبيعة». ومن تحت عباءة إسبينوزا خرجت المنظومات العلمانية الفلسفية الغربية، فيأتي هيجل، وهو صاحب نظام حلولي كموني واحدي شامل يتسم بتعددية ظاهرة وواحدية صلبة كامنة تتحد في نهايته الروح بالطبيعة والفكر بالمادة والكل بالجزء والمقدَّس بالزمني. ثم يأتي نيتشه، وهو فيلسوف حلولي كموني آخر، ليشكل القمة (أو الهوة) الثانية في الفلسفة العلمانية، فهو يلغي الثنائية الظاهرة تماماً ويصل بالنسق إلى الواحدية الكاملة فيعلن أنه لا يوجد فكر أو روح أو اسم لإله وإنما مادة محض، وهي مادة سائلة لا قانون لها سوى قانون الغاب ولا إرادة لها سوى إرادة القوة، ولا يوجد سوى أجزاء، فيموت الإله وتسقط فكرة الكل ذاتها.
وإذا كان المشروع التحديثي للاستنارة قد خرج من تحت عباءة إسبينوزا، فقد خرجت ما بعد الحداثة بوجهها القبيح من تحت عباءة نيتشه. ثم جاء دريدا الذي وصل بالسيولة إلى منتهاها وأعلن أن العالم لا مركز له ولا معنى وأنه سيولة لا يمكن أن يصوغها أحد أو يفرض عليها أي شكل، وأننا حينما ننظر لا نرى قانون الطبيعة الهندسي (على طريقة إسبينوزا) ولا الغابة التي تحكمها إرادة البطل (على طريقة نيتشه) وإنما نرى الهوة (أبوريا)، وهذا هو عالم مادونا ومايكل جاكسون (عالم تتساوى فيه مادونا بمايكل جاكسون ووليام شكسبير)، عالم عبارة عن موجات متتالية بلا معنى، عالم علماني صلب تماماً.
ونحن نرى أن بروز اليهود في الحضارة الغربية العلمانية (وليس قبل ذلك) يعود إلى أن مفردات الحلولية هي مفردات هذه الحضارة وإلى أن اليهود (بسبب عمق الحلولية في تراثهم الديني) أكثر كفاءة في الحركة في هذا العالم العلماني الذي يتسم بالواحدية المادية. وقد وُصفت القبَّالاه بأنها تطبيع للإله وتأليه للطبيعة، وهو وصف دقيق للعلمانية التي ترى أن الإله هو المبدأ الواحد الذي يسري في الطبيعة (فيتم تطبيع الإله) والتي تذهب إلى أن العالم مكتف بذاته (واجب الوجود)، يحوي داخله ما يكفي لتفسيره (فيتم تأليه الطبيعة). وهذه المقولة هي نظرية إسبينوزا كاملةً. كما وُصفت القبَّالاه بأنها تُجنِّس الإله (أي تجعل الجنس هو المبدأ الواحد الذي يُردُّ إليه كل شيء) وتُؤلّه الجنس. وهذه المقولة هي نظرية فرويد في حالة جنينية. ومفردات القبَّالاه (والحلولية الواحدية الروحية) الأساسية (الجسد والتنويعات المختلفة عليه: الرحم ـ الأرض ـ الجنس ـ ثدي الأم) هي نفسها مفردات الحلولية الواحدية المادية، أي العلمانية تقريباً. ولذا، فليس من الممكن النظر إلى إسبينوزا وفرويد باعتبارهما «يهوديين» ولا يمكن رؤية بروزهما وعلمانيتهما الشرسة على أنها نتيجة انتمائهما اليهودي، وإنما يجب أن نضعهما في السياق الحلولي الكموني الواحدي الأكبر، وأن نضع الحضارة الغربية العلمانية ذاتها في السياق نفسه، ومن ثم فإن إسبينوزا وفرويد (اليهوديين) وهوبز ويونج (المسيحيين)، على سبيل المثال، هما تعبير عن النمط الحلولي الواحدي المادي (الغنوصي) نفسه، ومن هنا فإن الجميع يؤمن بالرؤية نفسها ويستخدم اللغة والمفردات نفسها ويصبح الانتماء المسيحي أو اليهودي مسألة ثانوية هامشية، ولا تصلح أساساً للتصنيف أو التفسير.
العلمـانية ودور الجمـاعات اليهودية في ظهورهـا
Secularism: Role of the Jewish Communities in its Emergence
ساد بعض الأدبيات العربية والإسلامية القول بأن اليهود هم مخترعو العلمانية ومروجوها في العالم بأسره، بل إنهم المسئولون عن ظهورها. وهذا ما تؤكده بروتوكولات حكماء صهيون التي يقتبس منها البعض وكأنها وثيقة علمية مهمة. وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه الأطروحة ساذجة للغاية وتعطي لأعضاء الجماعات اليهودية وزناً وحجماً يفوقان كثيراً وزنهم وحجمهم الحقيقيين. فالعلمانية ليست مجرد مؤامرة أو حركة منظمة أو فكرة أو أقوال، وإنما هي ظاهرة اجتماعية وحقيقة تاريخية ذات تاريخ طويل ومركب، تعود نشأتها إلى عناصر اقتصادية وفكرية وحضارية عديدة وإلى دوافع واعية وغير واعية أدَّت جميعها إلى انقلابات بنيوية في رؤية الإنسان الغربي لنفسه وللطبيعة والإله، وفي بنية المجتمع نفسه. وهي، شأنها شأن كل الظواهر الاجتماعية والتاريخية، لا تظهر بسبب رغبة بعض الأفراد أو الجماعات في ظهورها وحسب، وإنما تتم أيضاً خارج إرادة الأفراد، ورغماً عنهم أحياناً. وقد تم الانقـلاب العلـماني في الغرب بمـعزل عن أعضـاء الجماعـات اليهودية، كما أن كثيراً من المجتمعات التي لا يوجد فيها يهود على الإطلاق (مثل اليابان)، أو توجد فيها أقليات يهودية صغيرة إلى أقصى حد (مثل يوغوسلافيا وبلغاريا وشيلي وكينيا)، تمت علمنتها بدرجات متفاوتة، وهو ما يدل على أن اليهود ليسوا السبب الوحيد أو الأساسي لظهور العلمانية.
وثمة ظواهر عديدة ساهمت في ظهور العلمانية وتأثرت بها (فهي سبب ونتيجة في آن واحد) مثل الإصلاح الديني، وحركة الاكتشافات، والفلسفة الإنسانية الهيومانية، وفكر حركة الاستنارة (الفكر العقلاني والنفعي)، والدولة القومية المركزية، ثم الثورة الفرنسية والصناعية، والثورة الرومانتيكية، وتزايُد تركُّز الناس في المدن، وهي ظواهر تاريخية غربية لم تلعب الجماعات اليهودية فيها دوراً ملحوظاً. فدورهم في الحضارة الغربية حتى نهاية القرن التاسع عشر كان محدوداً للغاية. ومع هذا، وبعد تأكيد هذه الحقيقة الأساسية والمهمة، لابد أن نشير إلى أن من المحال أن تحدث ظاهرة بنيوية كاسحة عامة مثل الهيمنة التدريجية للرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية التي أثرت في أشكال الحياة كافةً، دون أن يتفاعل معها أعضاء الجماعات اليهودية، ودون أن يساهموا فيها أو يتأثروا بها سلباً أو إيجاباً. فهذه الظاهرة قد وصل أثرها إلى كل أعضاء المجتمع أيَّا ما بلغت هامشيتهم أو تفردهم أو ضآلة شأنهم. ونظراً لخصوصية وضع الجماعات اليهودية في المجتمع الغربي، فإن علاقتهم بالثورة العلمانية الكبرى تتسم بالخصوصية.
ويمكن أن نقسم الموضوع الذي نتناوله إلى أربعة موضوعات:
1+2 ـ علاقة كل من العقائد والجماعات اليهودية بظهور العلمانية.
3+4 ـ أثر الثورة العلمانية الكبرى في كل من العقائد والجماعات اليهودية.
وقد تناولنا علاقة العقيدة اليهودية بالعلمانية في المدخل السابق وسنتناول في هذا المدخل الموضوع الثاني، أي علاقة الجماعات اليهودية بظهور العلمانية (أما الموضوعان الثالث والرابع فسوف نتناولهما في مدخلين مستقلين).
ساهم أعضاء الجماعات اليهودية في حمل الأفكار العلمانية ونشرها. ويجب أن نؤكد، مرة أخرى، أنهم لم يفعلوا ذلك رغبةً منهم في تدمير العالم وإيذاء العباد، بل تحركوا كجماعة في إطار منظومة اجتماعية غربية تتجاوز إرادتهم ورغباتهم وأهواءهم. لكن هذا لا يعني إعفاء الإنسان من المسئولية الخلقية، إذ يظل مسئولاً، على المسـتوى الفردي، عـما يقترفـه من ذنوب وما يأتي به من حسنات. وهناك كثير من أعضاء الجماعات اليهودية ممن تصدوا للعلمانية وحاولوا وقف زحفها. ومن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية اضطلعوا بدور الجماعات الوظيفية الوسيطة في المجتمع الغربي، وهو ما ولَّد لديهم نزعة حلولية خلقت لديهم استعداداً كامناً للعلمنة. ويمكننا أن نضيف هنا أن اضطلاعهم بهذا الدور جعل منهم واحداً من أهم عناصر العلمنة المباشرة في المجتمع الغربي. والعلمنة، في جانب من جوانبها، هي تطبيق القيم العلمية والكمية الواحدية على مجالات الحياة كافة، بما في ذلك الإنسان نفسه، حتى ينتهي الأمر بتحييد العالم تماماً وترشيده وتحويله إلى حالة السوق والمصنع.
وعلاقة التاجر والمرابي بالمجتمع ليست علاقة مباشرة وإنما هي علاقة ثانوية أو هامشية، فهما لا ينتجان شيئاً وإنما يسهلان عملية تبادل السلع التي ينتجها الآخرون من خلال ما يحملون من النقد، وهو أكثر الأشياء تجريداً. والتاجر والمرابي ليسا موضع حب أو كره الناس، فالجميع ينظر إليهم بشكل موضوعي من منظور مدى نفعهم وأهميتهم الوظيفية. وإلى جانب هذا، كان اليهود يشكلون عنصراً متعدد الجنسيات، عابراً للقارات، يقوم بوظيفة التجارة والمصارف الدولية، الأمر الذي عمًَّق تحوسلهم أي تحوُّلهم إلى وسيلة. لكن أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة، إلى جانب هذا، أداة في يد الحاكم يستخدمها في امتصاص الثروة من يد الجماهير، وقد شُبِّهوا بالإسفنجة لهذا السبب. وقد كان اليهود دائماً من ملتزمي الضرائب. ولكل هذا، نجد أن علاقة الجماعة الوظيفية الوسيطة بالمجتمع تتسم بالموضوعية والتعاقدية والتنافسية، الأمر الذي يجعل أعضاء الجماعات اليهودية من أهم عناصر علمنة المجتمع بشكل بنيوي يتجاوز وعي ونوايا أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة وأعضاء المجتمع المضيف في الوقت نفسه.
وكان أعضاء الجماعة الوظيفية الوسيطة يقيمون في الجيتو ليتم عزلهم عن أعضاء المجتمع وتزيد كفاءة المجتمع في استغلالهم وفي تحقيق الفائدة المرجوة من وجودهم فيه. وقد طُبِّقت على الجيتو، من البداية، الأنساق المادية الآلية الترشيدية في الإدراك وتنظيم العلاقة، فكان مجتمع الأغلبية ينظر إلى الجيتو من منظور نفعي، ويدخل معه في علاقة تعاقدية باردة برّانية يحكمها القانون والحسابات والمنفعة لا العواطف أو الأخلاق أو الالتزام الداخلي (الجواني) أو التآلف والتراحم. ولم يكن مجتمع الأغلبية يتواصل مع أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة ولا ينسب إليهم أي معنى إنساني خاص. فاليهود في الجيتو هم مصدر ربح وخدمات وحسب، أي مجرد وسيلة. والعلاقة بين المجتمع والجيتو علاقة تواجُد نفعي في المكان، دون زواج أو حب، ودون مشاركة في الزمان. فالجيتو، مثل الإنسان العلماني النموذجي، كان منعزلاً موضوعياً محايداً مجرداً مباحاً ولا يتمتع بأية قداسة، فهو مادة استعمالية محضة. ومن هنا، كانت البغايا في كثير من الأحيان يقطنَّ إما داخل الجيتو أو بجواره. وبهذا، كان الجيتو أول جيب علماني حقيقي. وقد أدَّى كل هذا إلى أن أصبح أعضاء الجماعات اليهودية من أهم القطاعات البشرية في أوربا التي كانت لديها قابلية للعلمنة ومؤهلة للتحرك داخل المجتمع التعاقدي التناحري، إذ أنهم كانوا مسلحين بالكفاءات اللازمة للتعامل مع عالم تسود فيه العلاقات الموضوعية وبشر لا يقبلون إلا المنفعة قيمة وحيدة مطلقة.
وبالفعل، لعب اليهود، كجماعة وظيفية وسيطة، دوراً في علمنة المجتمع، فوسعوا نطاق القطاع الاقتصادي التبادلي، وكانوا عنصراً شديد الحركية في المجتمع الوسيط الذي يتسم بالسكون. وكانوا دائمي البحث عن زبائن جدد وسلع جديدة وأسواق جديدة، وكان لا يهمهم الإخلال بتوازن المجتمع أو بقيمه، فهم يقفون خارج نطاق العقيدة المسيحية وقيمها، لا يكنون لها أي احترام ولا يشعرون نحوها بأي ولاء، وينظرون إلى أعضاء المجتمع المضيف باعتبارهم شيئاً مباحاً. ولم يكن التاجر اليهودي، على سبيل المثال، يلتزم بفكرة الثمن العادل أو الأجر الكافي، وإنما كان يحمل رؤية صراعية تنافسية تناحرية غير تراحمية. وهكذا لعب اليهود دوراً فعالاً وحاسماً في تقويض الأخلاقيات الدينية، وفي دفع عملية الترشيد والعلمنة إلى الأمام.
وفي القرن السابع عشر، تزايد دور اليهود في عملية العلمنة مع ظهور الدولة المطلقة التي اعتمدت عليهم في عملية علمنة القطاع الاقتصادي والسياسي في المجتمع. وما فعله الأمراء المطلقون في وسط أوربا (في ألمانيا) يصلح مثلاً على ذلك، فقد استخدموا أعضاء الجماعة اليهودية ككل، وكبار المموَّلين اليهود (يهود البلاط على وجه التحديد) في النشاطات الاقتصادية، مثل: التجارة الدولية، وتمويل الجيوش، وعقد القروض والصفقات. وقد كان لانتشار يهود المارانو في أرجاء أوربا دور مهـم في عملية العلمـنة إذ كانوا هامشـيين لا يؤمنون باليهودية أو المسيحية، فإيمانهم بكلتيهما كان سطحياً للغاية. وقد لعب المارانو دوراً مهماً في التجربة الاستيطانية الغربية كمموَّلين للشركات الاستيطانية وكمادة استيطانية. ونحن نرى أن الاستعمار الاستيطاني من أهم التجارب المؤثرة في إنشاء مجتمعات علمانية رشيدة خاضعة للنماذج المادية الهندسية في الإدارة.
ويمكننا أن نرى في إسبينوزا تعبيراً عن العناصر السابقة كلها، فهو من يهود المارانو، وفلسفته واحدية حلولية كمونية، كما أنه ينتمي إلى الجماعة اليهودية في أمستردام التي كانت تضم أنشط الجماعات اليهودية الوظيفية الوسيطة في العالم آنذاك والتي لعبت دوراً مهماً في الاستعمار الاستيطاني، وكان بينهم كثير من يهود البلاط. وكانت أمستردام نفسها مركزاً تجارياً تخلخلت فيه قبضة السلطة الدينية. وقد تمرَّد إسبينوزا على اليهودية الحاخامية، فطُرد من حظيرة الدين اليهودي، ولكنه لم يتبن أي دين آخر، ولذا فإن البعض يرون أنه أول إنسان علماني حقيقي في التاريخ.
ومع هذا، ولأسباب عديدة ربما من أهمها انعزال يهود اليديشية (في شرق أوربا) الذين كانوا يشكلون أغلبية يهود العالم آنذاك داخل الجيتو والشتتل، انفصل أعضاء الجماعات اليهودية عن التحولات الفكرية والبنيوية الضخمة في أوربا. وكان أغلبيتهم من المؤمنين بدينهم، يتبعون حاخاماتهم، أو قياداتهم الدينية غير الحاخامية في حالة الحسيديين، ويتمسكون بتقاليدهم الدينية والاجتماعية. وقد هاجرت أعداد كبيرة من هؤلاء إلى النمسا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا، وقاوموا محاولات العلمنة والتحديث بضراوة. ولكن الدول الغربية قامت بعملية علمنة اليهود، وغيرهم من الجماعات الإثنية والدينية، بشراسة غير عادية ابتداءً من أوائل القرن التاسع عشر. وتمت أهم المحاولات بصورة أكثر منهجية في فرنسا على يد نابليون، ثم تبعتها ألمانيا والنمسا وروسيا القيصرية في منتصف القرن. وتكفلت الولايات المتحدة (المجتمع العلماني شبه النموذجي) بالإجهاز على ما تبقَّى من انتماء ديني بين المهاجرين من يهود اليديشية وغيرهم. ويرى مؤرخو الجماعات اليهودية أن تأخُر بعض الجماعات اليهودية في دخول العصر الحديث العلماني هو جوهر ما يُسمَّى «المسألة اليهودية»، إذ ظلوا يشكلون جيباً دينياً تقليدياً في مجتمع علماني حديث.
وبعد هذا التاريخ، تزايد دور أعضاء الجماعات اليهودية كحَمَلة للفكر العلماني وكأدوات للعلمنة. ويُلاحَظ أنه بعد أن فرضت الدولة المطلقة العلمنة قسراً على أعضاء الجماعات اليهودية، استبطنوا هم أنفسهم الرؤية العلمانية وحققوا درجة عالية من الاندماج وأصبحوا أهم رواد العلمانية ومن أكثر الداعين لها حماسة وتطرفاً، وذلك للأسباب التالية:
1 ـ تمت علمنة أعضاء الجماعات اليهودية بسرعة وفجاجة غير عادية (على عكس أعضاء الأغلبية في المجتمع) قذفت بهم بعنف في عالم العلمانية، الأمر الذي جعلهم يتجاوزون بقية أعضاء المجتمع في معدلات العلمنة، إذ تمت العملية بالنسبة لهؤلاء ببطء وبشكل أقل عنفاً. وقد نوقشت المسألة اليهودية في إطار مدى نفع اليهود (المادي) ولذا سارع أعضاء الجماعات اليهودية الراغبون في الاندماج إلى ترشيد حياتهم وذواتهم من الداخل والخارج حتى يبينوا نفعهم لأعضاء الأغلبية ومقدرتهم على الانتماء.
2 ـ يُلاحَظ أن العلمانية الغربية ورثت بعض الرموز المسيحية وعلمنتها، فإصطلاحات مثل «النهضة» أو«الاستنارة» ذات جذور مسيحية (قيام المسيح وهالات القديسين ونور الإله)، ويمكن من ثم أن تكتسب مضموناً مسيحياً أو شبه مسيحي. كما أن الصورة المجازية العضوية وهي صورة مجازية أساسية في الفكر العلماني (الذي يرى أن ثمة قانوناً واحداً في الكون) ليست بعيدة عن فكرة التجسد المسيحي (نزول الإله ليصبح بشراً) وعن فكرة أن الكنيسة هي جسد المسيح. وتداخُل الرموز الدينية مع الرموز العلمانية يقلل من حدة علمانيتها قليلاً ويخلق قدراً من الاستمرارية، على المستوى الوجداني وعلى مستوى الديباجات أما بالنسبة إلى عضو الجماعة اليهودية، فإن المصطلحات العلمانية تشير إلى مفاهيم علمانية محضة لا تحتوي على أية قداسة أو أصداء للقداسة.
3 ـ كانت أعداد كبيرة من اليهود أعضاء في الطبقة البورجوازية الصغيرة في الغرب، وهي طبقة ساهمت بدور أساسي في الحرب ضد الإقطاع والكنيسة. كما أن أعضاء البورجوازية يلتزمون بشكل شبه مطلق بالحراك الاجتماعي (الآلية الأساسية للبقاء بالنسبة لهم). ولذا، فهم على أتم استعداد للتخلي عن قيمهم أو خصوصيتهم لتحقيق هذا الحراك.
4 ـ كانت أعداد كبيرة من يهود العالم في حالة هجرة من بلد لآخر. والمهاجر، بسبب حركيته وعدم انتمائه، يكون عادةً من حملة الفكر العلماني.
5 ـ يُلاحَظ أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية، سواء في روسيا داخل مناطق الاستيطان (مع هبوط بعض أعضاء البورجوازية الصغيرة اليهودية في السلم الطبقي)، أو في الولايات المتحدة (بعد وصولهم كمهاجرين)، انخرطوا في صفوف الطبقة العاملة المقتلعة من جذورها والتي تشكل العمود الفقري للعلمنة.
6 ـ تركُّز معظم أعضاء الجماعات اليهودية في المدن التي تُعَدُّ دائماً مراكزاً للعلمنة.
7 ـ هناك، أخيراً، السبب العام وهو أن كثيراً من أعضاء الأقليات يتبنون الفكر العلماني لأنهم يتصورون أنه سيخلق الجو الملائم لتحقيق المساواة الكاملة بين أعضاء الأقلية وأعضاء الأغلبية، سواء في عالم الاقتصاد أو في عالم الرموز (وقد أثبتت التطورات التاريخية اللاحقة أنه أمر لم يكن دقيقاً تماماً).
أثــــر العلمانيـــــة فــي اليهوديـــــة
The Impact of Secularism on Judaism
تركت العلمانية أثراً عميقاً في اليهودية. والواقع أنه، حينما تصاعدت معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، كانت اليهودية الحاخامية قد دخلت مرحلة الأزمة، وهيمنت القبَّالاة الحلولية على الجماهير اليهودية بحيث أصبحت رؤيتها للكون حلولية متطرفة. ونتيجةً لذلك، بدأت مرحلة التفجرات المشيحانية ومن أهمها حركة شبتاي تسفي، والتي بدأت في سالونيكا والدولة العثمانية وانتشرت منها إلى أرجاء العالم في القرن السابع عشر، وتبعتها الحركة الفرانكية في بولندا في القرن الثامن عشر، وانتهت بالحركة الحسيدية التي سيطرت على معظم جماهير اليهود في شرق أوربا مع نهاية القرن الثامن عشر. لكل هذا، كانت اليهودية قد وصلت إلى مرحلة تتطلب « الإصلاح الديني». ولكن، بسبب تكلس اليهودية الحاخامية شكلاً ومضموناً بين أوساط النخبة الدينية، وبسبب انتشار الحلولية بين الجماهير، أصبح من العسير إصلاح اليهودية من الداخل. وأخذ الإصلاح شكل تبنِّي الأشكال الدينية الإصلاحية المسيحية، ثم تحوَّلت إلى العلمنة الصريحة بعد فترة. وقد بدأ الإصلاح الديني بمحاولة إصلاح الجانب الجمالي، فأُلقيت المواعظ باللغة السائدة في المجتمع، وأُدخل الغناء في الصلوات حيث كانت تؤديه في البداية جوقة من الذكور ثم جوقة مختلطة، كما أُدخل الأرغن، وهذه كلها عناصر مستمدة من طقوس العبادات المسيحية. ثم تصاعدت درجة الإصلاح الديني وتجاوزت الجانب الجمالي ووصلت إلى الجانب العقيدي، فظهرت اليهودية الإصلاحية والمحافظة والتجديدية، وهي صيغ من اليهودية مخففة للغاية لا تعترف بها اليهودية الأرثوذكسية الحاخامية ولا تعترف بحاخاماتها. ومن هنا كان ظهور مشكلة من هو اليهودي؟
وهذه الفرق الجديدة ذات الطابع الربوبي العقلاني، والتي تذهب إلى أن العقل البشري يمكنه الوصول إلى الحقائق الدينية بدون وحي إلهي، وأن الشريعة اليهودية ليست منزَّلة من الإله، تحاول أن تقلص رقعة الغيب على قدر الإمكان أو تلغيه تماماً أو تستبعده من نموذجها المعرفي والتفسيري والأخلاقي. وبدلاً من ذلك، فإنها تتبنى مطلقات علمانية، مثل روح العصر في اليهودية الإصلاحية، أو روح الشعب في اليهودية المحافظة، أو التقدم (في إطار المجتمع الأمريكي) في اليهودية التجديدية. ثم تزايدت معدلات التحديث والعلمنة على مستوى الشعائر وبشكل جذري، فحدث الاختلاط بين الجنسين، وأُلغي غطاء الرأس، وتم ترسيم النساء كحاخامات، وخُففت شعائر السبت، وتم التخلي عن التلمود كمصدر أساسي للتشريع، وأُقيمت صلوات السبت يوم الأحد. ثم تصاعدت وتيرة الإصلاح إلى أن أصبحت علمانية صريحة، ففي بعض الأبرشيات الإصلاحية أصبحت صلوات السبت تقام في اليوم الذي يتفق عليه المصلون. وقد بدأ مؤخراً قبول الشواذ جنسياً في الأبرشيات اليهودية المختلفة، بل بدأت تظهر أبرشيات مقصورة عليهم، كما قُبل ترسيم الشواذ جنسياً كحاخامات وأنشئت المدارس التلمودية العليا (يشيفا) المقصورة على الشواذ.
ولكن أهم أشكال علمنة اليهود هو ظهور عقائد علمانية قلباً وقالباً، وتُسـمِّي نفسـها مع ذلك «يهودية»، وتسـتخدم ديباجـات يهودية إثنية ودينية. وجوهر هذه العقائد هو أنها تُحل الهوية اليهودية محل العقيدة اليهودية، وتُحل اليهود محل الإله كمركز للقداسة. فظهر ما يُسمَّى «اليهودية العلمانية» و«اليهودية الإثنية» و«اليهودية الإلحادية» و«اليهودية الإنسانية»، وهي عقائد يُقال لها «يهودية» تدور كلها حول مطلق واحد هو الشعب اليهودي وتُسقط الإيمان بالغيب أو الإله، بحيث يصبح الإيمان الديني متمركزاً حول الذات القومية أو مجموعة من المُثُل الدنيوية. وتحوَّلت شعائر اليهودية وعقائدها إلى شكل من أشكال الفلكلور أو التراث القومي، أي أن الدين تحوَّل إلى قومية والقومية تحوَّلت إلى دين، وهذا هو الحل العلماني لمشكلة الهوية: أن تصبح الهوية هي ذاتها مصدر الإطلاق الوحيد وموضع القداسة. بل يمكن القول بأن اليهودية الإصلاحية والمحافظة، والتجديدية على وجه الخصوص، هي في جوهرها في واقع الأمر عقائد علمانية ذات ديباجات دينية.
ومع تزايُد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية، تزايدت معدلات علمنة العقيدة اليهودية، فظهر لاهوت يهودي يستند إلى فكرة موت الإله يجعل من الإبادة النازية ليهود غرب أوربا نقطة ولحظة مرجعية أساسية تحقَّق فيها الشعب اليهودي من موت الإله الذي تخلى عنهم. ودخلت اليهودية كذلك عالم ما بعد الحداثة، فظهرت يهودية لا تدور حول مطلقات وإنما تدور حول لحظات إيمانية تعقبها لحظات شك.
ومن أهم العقائد اليهودية العلمانية ما طرحه دعاة اليديشية الذين يرون أن مضمون الانتماء اليهودي هو تراث ثقافي، وأن ما يجمع يهود اليديشية ليس الإيمان الديني وإنما تراثهم القومي اليديشي الشرق أوربي المشترك. ولذا، طالبوا ببعث قومي يديشي في شرق أوربا. ولكن أهم العقائد العلمانية على الإطلاق هي الصهيونية التي استولت على كل الرموز الدينية اليهودية التقليدية واستخدمت كل الديباجات الدينية بعد أن أفرغتها من مضمونها الديني وأحلت محلها مضموناً قومياً، وجعلت النقطـة المرجعية عناصر دنيوية طبيعية تتسـم بالمطلقية (مطلقات علمانية)، مثل: الدولة الصهيونية واليهود (بدلاً من الإله)، والتاريخ اليهودي الدنيوي (بدلاً من التاريخ المقدَّس)، والهوية اليهودية (بدلاً من الالتزام بالشعائر وتأدية الأوامر والنواهي). كما أكدت الصهيونية (في صيغتها العلمانية وهي أهم الصيغ) أن اليهود مادة بشرية متحركة يمكن تحويلها وتوظيفها إلى مادة نافعة وكذلك حوسلتها. كما أكدت الصهيونية أن اليهود شعب عضوي (وأكدت أوربا العلمانية أنه شعب عضوي منبوذ)، وجماع المفهومين (نفع اليهود وأنهم شعب عضوي منبوذ) هو الصيغة الصهيونية الأساسية.
وقد أكدت الصهيونية، في محاولتها تجاوز اليهودية الحاخامية، على التراث العبراني القديم (فيما قبل ظهور اليهودية)، وعلى البطولات العبرانية غير الدينية وغير الأخلاقية. كما أنها، في كثير من الأحيان، حولت أبطال العهد القديم إلى أبطال قوميين. وكان المؤلفون الصهاينة يمجدون شخصيات شريرة في العهد القديم أو شخصيات معادية لليهودية الحاخامية مثل إسبينوزا وشبتاي تسفي الذي يعده البعض في إسرائيل بطلاً قومياً، وكان هرتزل ينوي تأليف أوبرا عنه. ومن ناحية أخرى، يتم تأكيد المضمون الطبيعي الكوني للأعياد في الدولة الصهيونية على حساب المغزى الديني التاريخي. كما تتبدَّى علمنة اليهودية في الدولة الصهيونية في واقع أن الأعياد تحوَّلت إلى أعياد قومية يحتفل اليهود أثناءها بذاتهم القومية: انتصاراتها وانكساراتها دون الرجوع إلى أية نقطة ميتافيزيقية. وهكذا، بعد أن كانت اليهودية تمنح اليهودي القداسة بمقدار ما يتبع من الشعائر وينفذ من الوصايا والنواهي، صار اليهودي مركزاً للقداسة باعتباره يهودياً وحسب، أي حسب انتمائه الإثني، وأصبحت دولته هي التعبير الأكبر عن القداسة. ومن ثم، أصبح عيد « استقلال إسرائيل » عيداً دينياً. وقد وصلت علمنة يهود العالم، من خلال الصهيونية، إلى درجة أن كثيراً منهم يتصورون الآن أن الدولة الصهيونية هي معبدهم أو هيكلهم، وأن رئيس وزرائها هو حاخامهم الأكبر أو كاهنهم الأعظم. وقد حدا هذا ببعض الحاخامات المتدينين إلى الحديث عن «اليهودية الوثنية» أو عن عبادة الدولة الصهيونية باعتبارها «عودة إلى عبادة العجل الذهبي».
وتجب الإشارة إلى أن النسق الديني اليهودي كان مرشَّحاً لعملية العلمنة من الداخل، أو لعملية الاستيلاء على رموزه من قبل الجماعات العلمانية اليهودية، بسبب حلوليته التي توحِّد بين المطلق والنسبي والمقدَّس والزمني والديني والقومي، إذ يحل الإله في الشعب والأرض حتى يصبحا متعادلين معه في القداسة (الواحدية الكونية) ثم يتفوقان عليه ثم يتلاشى الإله أو يصبح هامشياً ويتم تقديس الأرض والشعب دون الإله، وهذا هو جوهر الأيديولوجيات العلمانية القومية، اليهودية أو غير اليهودية، التي تجعل الأرض والشعب هما مصدر الإطلاق.
يتبع إن شاء الله...