الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية
علــم الاجتمــاع والجماعـــات اليهوديــة
Sociology and the Jewish Communities
من الصعب تعيين نقطة محدَّدة ظهر عندها الفكر الاجتماعي (السوسيولوجي)، ذلك أن أي مؤرخ أو فيلسوف يتعرض لموضوعه الأساسي، وهو حياة البشر في جماعات، يجد نفسه ـ شاء أم أبى ـ يتطرق إلى موضوعات أصبحت في صميم علم الاجتماع. وهذا القول ينطبق على هيرودوت والبيروني وأرسطو. ولكن التطرق لحياة الجماعات البشرية يختلف إلى حدٍّ ما عن المحاولة الواعية أو شبه الواعية لدراسة حركة المجتمعات وقوانين تطورها.
ولعل من أول المفكرين الذين حاولوا ذلك المفكر العربي ابن خلدون. ثم تصاعدت وتيرة هذه المحاولة في عصر النهضة في الغرب في كتابات فيكو وتوماس هوبز ثم في كتابات الفلاسفة الأخلاقيين الإسكتلنديين (آدم فرجسون وديفيد هيوم وآدم سميث). ولكن كلمة «علم الاجتماع» (سوسيولوجي) ذاتها لم يتم نحتها إلا على يد أوجست كونت، ولم يظهر العلم إلا بعد الثورتين الفرنسية والصناعية ومع التحولات الطبقية التي خاضها المجتمع الغربي إبّان عمليات تحديثه وعلمنته والتي تصاعدت وتيرتها بشكل ملحوظ مع منتصف القرن التاسع عشر.
ويُلاحَظ أنه، حتى ذلك التاريخ، لم تكن هناك أية إسهامات تُذكَر لأي مفكرين يهود، وبعد ذلك يُلاحَظ تزايد مساهمة المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية في هذا الحقل.
وفي محاولة تفسير هذا الوضع، يمكن أن نسوق الأسباب التالية:
1 ـ ينتمي أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية تنظر إلى المجتمع نظرة محايدة موضوعية.
2 ـ يميل أعضاء الجماعات اليهودية (بسبب وضعهم الوظيفي) إلى التفكير في الواقع من خلال جوهر ثابت (الذات الوظيفية المقدَّسة) ومن خلال علاقات دينامية،أي من خلال حركيتها ورؤيتها للآخر المباح.
3 ـ يميل أعضاء الجماعات الوظيفية والهامشية إلى النظر بطريقة نقدية إلى المجتمع.
4 ـ تم إعتاق اليهود في أوربا في منتصف القرن التاسع عشر وكان من مصلحتهم معرفة القوانين التي تحكم المجتمع حتى يمكنهم التكيف معه والاستفادة من هذه القوانين.
5 ـ يُقال إن النزعة المشيحانية عند اليهود لها أثر في إقبال بعض المفكرين اليهود على علم الاجتماع حتى يمكنهم اكتشاف نقائص المجتمع ومن ثم تثويره وتغييره.
6 ـ تصوَّر كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية أن علم الاجتماع سيساهم في عملية علمنة المجتمع عن طريق كشف قوانينه. ولكننا سنلاحظ أن هؤلاء المفكرين اليهود الذين أقبلوا على دراسة علم الاجتماع هم يهود غير يهود، أي يهود فقدوا الأواصر الدينية أو الإثنية التي تربطهم بالجماعة اليهودية، فهم غرباء بالمعنى الحرفي للكلمة لا ينتمون إلى عالم اليهود ولا إلى عالم الأغيار، وهم نموذج جيد لإنسان العصر الحديث اللا منتمي الذي سقط في العدمية ونُزعت عنه القداسة فلا يملك إلا أن ينزع القداسة عن كل شيء. ويمكن أن نذكر بعض الأسماء الأساسية حتى تتضح هذه الفكرة: كارل ماركس وإميل دوركهايم وجورج زيميل ولودفيج جومبلوفيتش وكارل مانهايم وجورج لوكاش وماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو وهربرت ماركوز وريمون آرون وجورج فريدمان ودانيال بل.
ولا يمكن فهم هؤلاء إلا بوضعهم في سياقهم الحضاري والاجتماعي والفكري الغربي. ولا يمكن بأية حال أن نعيّن خاصية محددة مشتركة بينهم نسميها «خاصية يهودية» فمنهم اليميني ومنهم اليساري، ومنهم المتفائل ومنهم المتشائم (وإن كانت أغلبيتهم تميل إلى التشاؤم). ومع هذا، يمكن أن نلاحظ أنهم جميعاً غير مستقرين تماماً في أي تيار فكري ينتمون إليه. ولكن هذه هي سمة كل المفكرين العظماء، الذين لا يمكنهم الاستقرار الكامل في أي نسق فكري مهما بلغ من أصالة وتركيب ولا تتسم أنساقهم الفكرية بالتناسق الهندسي البسيط.
ويُلاحَظ كذلك أن معظم هؤلاء العلماء لا يهتمون بالموضوع اليهودي اهتمـاماً خاصاً ولا يتعـرضون له إلا في إطـار اهتمامهم بالحضارة الغربية. فهم يتعرضون للموضوع اليهودي باعتباره موضوعاً غربياً حديثاً كما فعل ماركس في المسألة اليهودية حيث وضعها في إطار إشكالية ظهور الرأسمالية، وكما فعل دوركهايم في موضوع ظاهرة الانتحار بين اليهود (والكاثوليك والبروتستانت)، وكما فعل زيميل مع الغريب، وكما فعل لودفيج جومبلوفيتش مع الأمة اليهودية حيث توقَّع اختفاءها. وهم في هذا لا يختلفون البته عن ماكس فيبر أو ورنر سومبارت اللذين تناولا الموضوع اليهودي بشيء من الإسهاب في سياق الحديث عن أصول الرأسمالية الرشيدة. أما الصهيونية، فمعظم علماء الاجتماع من اليهود غير مكترث بها ولم يكتب عنها لا معها ولا ضدها.
إمــيل دوركهـايم (1858-1917)
Emile Durkheim
أول عالم اجتماع فرنسي أكاديمي. وُلد في أبينال في مقاطعة اللورين التي لم تضمها فرنسا إلا في القرن السادس عشر، ولذا ظلت محتفظة إلى حد ما بطابعها الألماني. وكان أعضاء الجماعة اليهودية فيها من يهود اليديشية؛ يتحدثون رطانة ألمانية، ويعملون بالتجارة والربا، وغير مندمجين في المجتمع الفرنسي أو الثقافة اللاتينية (على عكس اليهود السفارد في الجنوب). ويمكن القول بأن التنظيم الاجتماعي للجماعة اليهودية في اللورين كان بسيطاً يتسم بما سماه دوركهايم فيما بعد «التضامن الآلي»، فقد كانت جماعة صغيرة يديرها الحاخام أو أحد الرؤساء (بارناسيم). وكانت عائلة دوركهايم تنتمي إلى هذه القيادة، فقد كان أبوه حاخاماً، كما أن أجداده كانوا من الحاخامات.
وكان من المفترض أن يتبع دوركهايم نفسه هذا التقليد العائلي الراسخ ويصبح حاخاماً، فدرس العبرية والعهد القديم والتلمود وتلقى في الوقت نفسه تعليماً علمانياً. وبعد أن وصل إلى سن التكليف الديني (برمتسفاه)، خاض تجربة صوفية قصيرة ذات مضمون كاثوليكي. ولكنه، بعد ذلك، ترك الإيمان الديني تماماً وإن لم يفقد اهتمامه بالدين كظاهرة. ولا شك في أن عملية الانفصال عن الجماعة اليهودية الصغيرة كانت تجربة قاسية لأقصى حد.
غير أن المجتمع الفرنسي كان مجتمعاً مركباً يستند إلى التضامن العلماني (العضوي)، فكان يفتح ذراعيه لمن ينضم إليه ويتيح أمامه فرص الاندماج (ولذا وُصفت فرنسا بأنها البلد الذي يأكل اليهود). وكان دوركهايم من أكثر الفرنسيين فرنسية ومن أكثر العلمانيين علمانية، ولا شك في أن انتقاله من اللورين إلى باريس، من مجتمع صغير متزمت ضيق إلى مجتمع رحب، جعله يشعر بالحرية والانعتاق. ولذا، فإننا لا نجد في دراساته أي حنين للجماعة الصغيرة « المترابطة » (كما هو الحال في علم الاجتماع الألماني) وإنما الانتماء الكامل للمجتمع التعاقدي.
ومن هنا حماسه الشديد، بل والمفرط، للبحث عن أساس أخلاقي للمجتمع الجديد الذي انتمى إليه ليحل محل القيم الدينية التي تركها، ومن هنا أيضاً إيمانه الديني بالمجتمع (المدني) وتأليهه المجتمع (ثم تأليهه الذات القومية بعد ذلك). ويُلاحَظ أن الفرنسيين عادةً ما ينتمون إلى بقعة أو منطقة محلية معينة على عكس دوركهايم الذي كانت تُعبِّر كتاباته عن الانتماء إلى كل فرنسا دون تفرقة، وإلى المجتمع الفرنسي في أعلى درجات تجريده. وقد كان انتماؤه إلى هذا البلد انتماءً مباشراً دون وساطة أية تقاليد أو تاريخ خاص، ولذا كان دوركهايم إنساناً علمانياً تماماً، يقترب إلى حدٍّ كبير من الإنسان العام الذي كان فلاسفة الاستنارة يحلمون به.
التحق دوركهايم بمدرسة المعلمين العليا. وكانت المدرسة مركزاً فكرياً مهماً في ذلك الوقت، إلا أن علم الاجتماع لم يكن قد احتل مكانته اللائقة بعد. وقد التقى هناك بزملاء كانوا فيما بعد رواد الفلسفة والعلم مثل الفيلسوف برجسون. ولم يكن دوركهايم طالباً متفوقاً وإن كان قد حظي ببعض كبار الأساتذة هناك من بينهم فوستيل دي كولانج وإميل بترو، كما تأثر بأعمال أوجست كونت وسان سيمون. وبعد تخرجه قرر أن يكرس نفسه للدراسة العلمية لعلم الاجتماع واشتغل بالتدريس في الجامعات الفرنسية كما اشتغل بتحرير حولية علم الاجتماع التي ظهر العدد الأول منها عام 1898.
إن الجذور الفكرية لدوركهايم هي جذور أي مفكر غربي حديث، فقد استوعب فكر ديكارت (وثنائيته الصلبة) وفكر حركة الاستنارة والعقلانية المادية (البحث الدائب عن أساس عقلي) وأعمال روسو (مفهوم الإرادة العامة والتفرقة بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة النفسية) ومونتسكيو (ترابط المجال الثقافي والاجتماعي)، وأعمال كونت (تقسيم العمل كمصدر للتضامن وفكرة الإجماع)، وفكر سان سيمون (علم الاجتماع كعلم مستقل) والفكر المعادي للاستنارة (أسبقية المجتمع على الفرد، والحاجة إلى السلطة والالتزام الخارجي) وآراء فوستيل دي كولانج (المنهج التاريخي ودور الدين) وأفكار إميل بترو (مستويات الواقع المختلفة) وتشارل رينوفييه (رفض الحتمية التاريخية ومركزية الاعتبارات الأخلاقية في البحث الفلسفي، والحاجة إلى علم أخلاق لإعادة بناء الجمهورية، ورؤية العنف باعتباره شراً).
كما تأثر دوركهايم بهربرت سبنسر (الرؤية التطورية) ووليام سميث (أهمية الطقوس في الدين). أما في ألمانيا، فتأثر بكانط (فلسفة الأخلاق) وبزيميل وجومبلوفيتش وتونيز وبالفكر العضوي الألماني، وأخيراً بفيلهلم فوندت (فكرة روح الجماعة) وبمعمل علم النفس والأبحاث العلمية التي أجراها فوندت وشاهدها دوركهايم.
أما خلفية دوركهايم الاجتماعية، فهي تحوُّل فرنسا إلى مجتمع صناعي وتصاعد وتيرة هذا التحول. وقد واكبت ذلك أحداث سياسية واجتماعية أخرى مثل هزيمة فرنسا أمام ألمانيا، الأمر الذي ولَّد الحاجة إلى إعادة بناء الجمهورية. وقد نشب صراع شرس بين الكنيسة والقطاعات العلمانية في فرنسا حول حادثة دريفوس، فتصاعدت المطالبة بفصل الدين عن الدولة. وشهدت هذه المرحلة تصاعد أهمية الفكر القومي العضوي حتى أصبح الإطار المرجعي لرؤية الإنسان الأوربي للكون.
وثمة موضوعان أساسيان في علم الاجتماع عند دوركهايم، أولهما مشكلة النظام الاجتماعي في مجتمعات وصل فيها تقسيم العمل إلى درجات عالية من الشمول والتنوع، ويوجد فيها صراع بين الطبقات؛ مجتمع تصاعدت فيه معدلات التصنيع والتحديث والعلمنة، وغاب فيه اليقين الأخلاقي والتوقعات الاجتماعية المعتادة، وتُرك فيه الأفراد دون توجيه أخلاقي جماعي في محاولتهم الوصول إلى أهدافهم، وهذا هو ما أدَّى إلى تفكُّك المرجعية وغيابها وتزايد الأنانية والنفعية. وتمخض كل هذا عن حالة الأنومي أو اللا معيارية، فاللا معيارية ليست حالة عقلية فردية وإنما هي ظاهرة اجتماعية. والإنسان حسب تصور دوركهايم حيوان لا يشبع (على عكس الحيوانات الأخرى)، وكلما ازداد ما يحصل عليه يزداد نهمه. ولذا، فلابد أن توضع رغباته الفردية داخل حدود خارجية جماعية. ولنا أن نلاحظ أن هذه الأفكار هي إعادة إنتاج للأفكار المسيحية، والكاثوليكية على وجه التحديد، الخاصة بالخطيئة الأولى للإنسان وبأنه لا خلاص للفرد خارج الكنيسة، فالخلاص لا يتم إلا بشكل مؤسسي.
أما الموضوع الثاني، فهو طريقة حل هذه المشاكل. وكان دوركهايم يرى أن علم الاجتماع يمكنه أن يلعب دوراً حاسماً في البحث عن أساس جديد للتماسك الاجتماعي في المجتمع الحديث العلماني، ولذا فقد انصب اهتمامه على محاولة أن يجعل علم الاجتماع تخصصاً أكاديمياً مستقلاًّ وعلماً ذا أسس منهجية ومعرفية مستقلة.
درس دوركهايم ظاهرة الانتحار في إطار علم الاجتماع، فبيَّن أن الانتحار ليس انحرافاً نفسياً فردياً كما كان متصوَّراً وإنما حقيقة اجتماعية، فحاول الربط بين معدلات الانتحار كما حدده والفروق في التضامن الاجتماعي بين الجماعات المختلفة، فوجد أنه كلما تآكلت الضوابط المجتمعية والروابط الأسرية ضعف التضامن وزادت عزلة الفرد الاجتماعية وتعرَّض النظام السياسي والاجتماعي للانهيار، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور حالة اللا معيارية، وتزايد معدلات الانتحار. فالانتحار يرتبط ارتباطاً عكسياً بدرجة التكافل في المجتمع.
وبيَّن دوركهايم أن معدل الانتحار في أوربا يزداد في الدول البروتستانتية عنه في الدول الكاثوليكية، وتقل نسبة الانتحار بين اليهود عنها بين الكاثوليك والبروتستانت، ويرجع هذا إلى ما يتمتع به البروتستانت من حرية البحث فضلاً عما يشيع بينهم من فردية نتيجة ضعف التضامن بين جماعاتهم. أما انخفاض معدلات الانتحار بين اليهود، فيرجع إلى شعورهم غير العادي بالتضامن الذي ولَّده بينهم ما تعرضوا له من مذلة وما تتميز به حياتهم من انعزالية.
وما أنجزه دوركهايم في دراسته عن الانتحار هو توضيح الأبعاد الاجتماعية لظاهرة قد تبدو نفسية، وتأكيد إسهام علم الاجتماع في كشف أسباب اللا معيارية التي تؤدي إلى هذه الظاهرة، ومن ثم يصبح علم الاجتماع قادراً على اقتراح حلول لمشاكل المجتمع الحديث، وهذا هو جوهر مشروع دوركهايم المعرفي. وفي كتابه الأخير والمهم الأشكال الأساسية للحياة الدينية يطرح دوركهايم رؤيته للدين وللعلاقة بين الدين والمجتمع. وينتمي دوركهايم لخط طويل من المثقفين الفرنسيين المؤمنين بحتمية الدين كظاهرة.
فالدين ليس سمة من سمات السلوك الفردي، ولا هو اختيار شخصي، وإنما بُعد أساسي في الحياة الجماعية لا يستقيم المجتمع بدونه. وقد واجه هؤلاء المثقفون الإشكالية التي يمكن أن نُطلق عليها «إشكالية موت الإله في المجتمعات العلمانية»، وهي الإشكالية التي اكتشفها دوستويفسكي حين قال: إذا لم يكن الإله موجوداً، فكل شيء يصبح مباحاً. ويمكن أن نعيد صياغة هذه الفكرة على النحو التالي: إذا مات الإله اختفى المطلق المتجاوز للواقع المادي الذي تؤمن به الجماعة، أي اختفت المرجعية ومن ثم لم تَعُد هناك حدود للفرد، وأصبح كل فرد مرجعية ذاته وحاول تحقيق ذاته وصالحه كفرد.
ومن ثم تظهر الإشكالية التالية:
كيف يمكن التوفيق بين الصالح العام والاتجاهات الفردية في المجتمع؟ كيف نحمي المجتمع من السقوط في الإشكالية الهوبزية: حرب الجميع ضد الجميع؟ هذه هي الإشكالية الأساسية الكامنة في فلسفة المنفعة العلمانية التي تذهب إلى أن مصدر التماسك في المجتمع ومصدر حركته هو سعي كل فرد نحو مصلحته الشخصية لتحقيقها، وأن الفرد حين يحقق مصلحته الشخصية فهو يحقق الصالح العام بشكل تلقائي، وأن التناسق يتم من خلال الصراع بشكل آلي. إذ أن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يحدث هذا؟ لماذا لا يستمر الإنسان الفرد في تحقيق مصالحه حتى يدمر نسيج المجتمع ذاته؟ أفليست المصلحة الذاتية هي الحقيقة المطلقة (لوجوس) وتحقيقها هو الهدف (تيلوس)، خصوصاً أن دوركهايم أكد أن الإنسان حيوان شره لا تتوقف رغباته عند أية حدود؟ الدين حتمي إذن، ولكن الميتافيزيقا غير مقبولة في عصر العقل المادي والعلم والاستنارة والتفسيرات المادية، فما المخرج إذن؟ لقد حاول هؤلاء المثقفون الفرنسيون أن يحلوا المشكلة بالتوصل إلى دين جديد إنساني مُخلَّق يتوصل إلىه العقل البشري ليحل محل الدين التقليدي الذي يفترض المؤمنون به أنه مُرسَل من السماء.
وبدأت هذه المحاولة بعبادة العقل إبّان الثورة الفرنسية، وحاول سان سيمون طرح رؤيته للمسيحية الجديدة، وطرح أوجست كونت رؤيته لديانة الإنسانية، وهو تقليد ليس مقصوراً بأية حال على المثقفين الفرنسيين وإنما يمتد ليشمل كل المحاولات الرامـية إلى تأسـيس مجتمـع علماني صرف يُغيِّب الإله أو يهمشه، فالفلسفة الماركسية تطرح ديانة الطبقة العاملة الجديدة، وتطرح الليبرالية ذاتها ديانة التقدم الدائم والانتصار المستمر للعقل (حتى أعلن فوكوياما نهاية التاريخ).
أما دوركهايم، فيحاول حل الإشكالية عن طريق تعريف الدين ليصل إلى ما يمكن تسميته «دين بدون إله» أو «لاهوت بدون إله» (وهو لاهوت موت الإله قبل أن تُطبَّق على الإنسان الغربي رؤيته التشاؤمية بشأن العدمية الكامنة في مثل هذه الرؤية).
وهو دين ينطلق من مجموعة من الافتراضات:
1 ـ الدين نسق موحَّد من المعتقدات والممارسات التي تتصل بشيء مقدَّس. والمقدَّس شيء ليس له وظيفة عملية، فهو يتسم بسمات تجعلـه مهماً في حـد ذاته، مكتفياً بـذاته، فالدين نسـق يدور حول مطلق ما، بغض النظر عن طبيعة هذا المطلق.
2 ـ الإيمان بالإله ليس سمة عامة في الأنساق الدينية جميعاً، فما يميز الأنساق الدينية هو فصلها بين المقدَّس والمدنَّس،أي أن المطلق قد لا يكون الإله،ومن ثم لا حاجة للميتافيزيقا بالضرورة (أو على الأقل لا حاجة للميتافيزيقا التي تستند إلى الغيب وعالم ما وراء الطبيعة).
3 ـ فكرة الإله مجرد إعلاء لفكرة المجتمع، والدين هو المجتمع بعد أن أصبح موضع القداسة والتبجيل والتقديس. والأفكار والممارسات الدينية التقليدية إنما تشير أو ترمز إلى المجتمع، أي أن الدين إن هو إلا شيء اجتماعي غير نابع من طبيعة الفرد وإنما من طبيعة المجتمع، فالمجتمع هو المصدر أو المنبع الأصلي أو السبب النهائي للخبرة الدينية.
4 ـ المجتمع، في واقع الأمر، هو المحرك الأول والأخير لكل الظواهر الإنسانية، فقد صرنا إلى ما نحن عليه بسبب المجتمع.
5 ـ تتمثل وظيفة الدين الرئيسية في تحقيق التضامن الاجتماعي وتدعيمه والمحافظة عليه.
6 ـ المجتمع يتحرك داخلياً ليسمو بنا، لا كما تفعل الشرارة الإلهية بطريقة غامضة (كما كان الظن في الماضي) وإنما بطريقة مادية يمكن رصدها ومعرفة قوانينها.
ومن خلال هذا الرصد نكتشف أمرين:
أ) المعتقدات والممارسات تتحد في مجتمع أخلاقي واحد يُسمَّى «الكنيسة» ويضم كل الذين يرتبطون به.
ب) الشعائر (البرانية) أكثر أهمية من العقائد (الجوانية) في عملية تنظيم الأنساق الدينية واستمرارها.
هذا هو موقف دوركهايم من الدين وتعريفه له. ومن الواضح أنه حرَّر المطلق من فكرة الإله، وربطها بشيء آخر مادي تاريخي متعيِّن قابل للرصد هو المجتمع. وبعد تحديد قوانين البنية كما يتخيلها، يرسم لنا دوركهايم ملامح تاريخ عام للبشرية يبين لنا فيه كيف حدث التفتت الاجتماعي وكيف ضاع التماسك (السقوط والخطيئة الأولى في إطار مادي اجتماعي) وكيف يمكن التغلب على التفتت (الخلاص من خلال الكنيسة الجديدة التي تحتكر شعائر الخلاص تماماً مثل الكنيسة الكاثوليكية).
وبيَّن دوركهايم أن تقسيم العمل هو الآلية الكبرى لكل من السقوط والخلاص، فهو الذي يسبب التحولات العميقة في المجتمع وهو المظهر الأساسي لهذه التحولات. وقد جرد دوركهايم العمل من كل علاقات القوة والهيمنة والسيطرة، ولذا فقد جعله المصدر الحقيقي للتضامن في المجتمع.
ويذهب دوركهايم إلى أن الفرد، باعتباره كياناً مستقلاًّ حراً له ضميره الخاص، لم يكن له وجود في المجتمعات البدائية البسيطة. فالانحراف عن العقل (أو الضمير) الجمعي كان يُعاقَب عليه بشدة من خلال النفي والاستبعاد وأشكال العقاب المختلفة، ولذا يكون التضامن في هذه المجتمعات تضامناً آلياً (برانياً) يستمد قوته من الضمير الجمعي والقانون القهري (لا من قوة الضمير الشخصي).
ويَنتُج عن هذا الوضع التماثل أو التشابه بين الناس بصورة ملحوظة، وهو تماثل يُعبِّر عن وجود عواطف ومشاعر مشتركة، وعن مشاركة عامة في القيم والمعايير السائدة في المجتمع. وقد حدث تغيُّر في المجتمع البسيط الذي يستند إلى التضامن نتيجة تزايد عدد السكان والتموين والتصنيع، إذ أدَّى هذا إلى تراجع التضامن الآلي وتقويض الضمير الجمعي خلال تدهور العقيدة المشتركة وظهور الفردية. كما أدَّى اتساع نطاق تقسيم العمل (الذي يمتد ليشمل كل أشكال الحياة) إلى تزايد التباين بين الأفراد، وإلى اختفاء التشابه العقلي والنفسي والأخلاقي بينهم وذلك نتيجة زيادة الفردية،ويبدو ذلك واضحاً في تباين أذواق الأفراد ومعتقداتهم وآرائهم وأخلاقياتهم. ومن ثم يقل الدور الذي كانت تلعبه الوراثة في الحصول على المكانة الاجتماعية، وهكذا ينعدم التجانس في هذا المجتمع وتختفي القيم الدينية والأخلاقية المشتركة والممارسات القمعية التي تستند إلى الضمير الجمعي وهو ما يؤدي إلى ظهور حالة الأنومي (اللا معيارية) وانعدام التماسك (لحظة السقوط وغياب المطلق).
والآن كيف يمكن استعادة التماسك والمركز والمطلق؟ يذهب دوركهايم إلى أن الكنيسة الجديدة (التي سيُزوِّد المجتمع بإطاره العقائدي والتي ستكون الآلية التي يحقق الإنسان من خلالها الخلاص) هي علم الاجتماع، فهو العلم الذي يُبيِّن كيف يتمكن الجزء (الفردي) من أن يتواصل مع الكل (الاجتماعي)، وكيف يمكن أن يحقق النسق تماسكه، وهو العلم الذي سيزوِّد الإنسان بالمعرفة العلمية اللازمة التي يمكن أن يستند إليها التشريع الاجتماعي. فكأن دوركهايم لم يفصل الأخلاق عن العلم وإنما كان يحاول إقامة علم أخلاق مختلف تماماً عن الفلسفة الأخلاقية.
وعلم الاجتماع قادر على رصد المطلق وتعريفه وهو مطلق لا يتجاوز الزمان والمكان ولكنه مرتبط بهما، ولذا فإن القواعد الأخلاقية التي يطرحها هذا العلم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف الحياة الاجتماعية والتي تعتبر نسبية من حيث الزمان والمكان. وعلم الاجتماع سيكتشف القيم النسبية المناسبة للزمان والمكان، ولذا فهي قيم مطلقة مؤقتة تنبع مطلقيتها من موافقتها لملابسات اللحظة التاريخية والظروف المكانية (ومن ثم، فإن دوركهايم هو من أوائل المبشرين بلاهوت ما بعد الحداثة).
إنها الأخلاقيات اللازمة لاستمرار المجتمع. وعلى الفرد أن يتبع هذه القوانين وأن يستبطنها تماماً باعتبارها القيمة المطلقة وعليه أن ينفذ الشعائر. وبذا، تحوَّل علم الاجتماع من علم يرصد الآليات بحياد علمي رهيب إلى علم معياري يقنن ويطرح الرؤى الأخلاقية التي تستند إلى قوانين علمية. وهو علم يرصد دائماً النظام والتماسك في المجتمع. وكل هذه الأبعاد تؤدي إلى شمولية كاملة حيث يجتمع التكنوقراط ليقرروا للبشر ما هو المطلق، ثم يطلبون منهم اتباعه باعتبار أن ما قرروه تم تقريره على أساس علمي.
وبهذا المعنى، فإن علم الاجتماع لم يَعُد مجرد علم وإنما أصبح نوعاً من أنواع الوعي (العلمي العلماني) المناسب للمجتمع الحديث (العلماني) وللحضارة الحديثة التي تعيش في ظلال العقلانية (المادية) الديكارتية. ومن ثم، فإن دوركهايم استمرار للتقاليد الفلسفية الوضعية التي تضرب بجذورها في فلسفة سان سيمون وأوجست كونت، وهي فلسفة تصدر عن الواحدية (المادية) الكونية التي لا تفصل بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان وترى أن ثمة وحدة بينهما، فالثاني جزء لا يتجزأ من الأول. وهي رؤية عضوية للمجتمع، فهي تُشبِّه المجتمع بجسد الإنسان، وتدركه داخل إطار تطوُّري. فإذا مرض جسم الإنسان، فلابد أن يُزوَّد بالعلاج اللازم. وكذلك المجتمع، فإن أصيب بالمرض فلابد أن يُزوَّد بالدواء.
وقد عرَّف دوركهايم علم الاجتماع بأنه علم طبيعي وموضوعي وشامل للظواهر الاجتماعية التي ترتبط فيما بينها بعلاقات عامة وضرورية مشتقة من طبيعتها الخاصة، أي أنها بعبارة أخرى خاضعة لنفس مبدأ الحتمية الذي تنهض عليه العلوم كافة (طبيعية كانت أم إنسانية)، ومن ثم فإن بوسعنا أن نكشف عن القوانين المعبِّرة عن هذه الروابط الضرورية بين الظواهر مستخدمين في ذلك مناهج الملاحظة الدقيقة والبرهان المنطقي والتعميم النظري، وهي نفسها المناهج التي تستخدمها العلوم الطبيعية. وهذا العلم سيساعد على اكتشاف أن المجتمع مكوَّن من أفراد، إلا أن الحقائق الاجتماعية تشكل واقعاً قائماً بذاته، ولذا فإن للمجتمع وجوداً موضوعياً خارجياً يعلو على الأفراد له قوانين مستقلة عنهم وعن وعيهم، وهو وجود يشكل سلوكهم وإدراكهم ويحدد الإطـار الاجتماعي.
والفـرد هو الجزء والإطـار الاجتماعي هو الكل، والفرد السوي هو الذي ينجح في تحقيق الاندماج في الكل الاجتماعي. فالمجتمع، إذن، واقع لم تخلقه إرادات فردية. ولكنه، مع هذا، ليس منفصلاً تماماً عن الإنسان، فهو «التمثيل الجماعي للمجتمع»، ولذا فهو موجود داخلياً وخارجياً (ويمكن تشبيهه بالوثبة الحيوية عند برجسون التي لها وجود موضوعي وذاتي في آن واحد). وانطلاقاً من هذا، يكتشف دوركهايم فكرة الضمير الجمعي، فالمجتمع ـ كما أسلفنا ـ يوجد داخل الأفراد وخارجهم، ولذا فهو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبعث الرهبة والورع في نفوسهم، ويرغمهم على الخضوع لقواعد السلوك ولتقديم التضحية التي لا يمكن أن يستمر المجتمع بدونها.
ولكن المجتمع ليس متعيناً بما فيه الكفاية ليصبح موضع التقديس والتبجيل، ولذا فإن شعور الفرد تجاه المجتمع يتم من خلال وساطة الضمير الجمعي الذي يتألف من التصورات والمعتقدات والرموز المقدَّسة والعواطف الشائعة والعامة بين الأفراد (الذين يشكلون غالبية أعضاء المجتمع) التي تكوِّن نسقاً خاصاً يوجد داخل الأفراد ولكنه مستقل عنهم وله قوة ذاتية مستقلة، ولهذا فإنه يمارس ضغطاً على الأفراد بحيث يُوجد بينهم تماثلاً عقلياً وعاطفياً ويخلق لديهم وعياً بواقعهم، فيدعم الكيان الجمعي لنفوس أولئك الأفراد.
والضمير العام له وجوده الخاص المتميِّز، وهو كيان لاتاريخي إلى حدٍّ ما يدوم عبر الزمن ويعمل على توحيد الأجيال. والضمير الجمعي، في واقع الأمر، هو المجتمع وقد تحوَّل إلى صورة مجازية أساسية وقيمة حاكمة بإمكان الأفراد استبطانها. وإذا كان المجتمع هو ما يقابل الأب في الثالوث المسيحي، فإن الضمير الجمعي هو الابن المتجسد في التاريخ والذي يستطيع البشر التواصل معه لأنه الإنسان الإله. أما روح القُدُس التي تسري في كل شيء، فهي القوانين الاجتماعية التي يكتشفها كهنة الكنيسة الجديدة الذين قد لا يتحلون بالعصمة النهائية (كبابا روما) ولكنهم يتحلون بقدر من العصمة المؤقتة (التي تجعل منهم باباوات عصرهم). وهم الذين يقيمون شعائر الدين العلمي الجديد الذي سيحقق الخلاص للإنسان الحديث.
كيف يُعبِّر الضمير الجمعي عن نفسه في المجتمع الحديث؟ وجد دوركهايم أن تقسيم العمل الذي أدَّى إلى اللا معيارية هو نفسه الآلية التي تؤدي إلى ظهور الضمير الجمعي في شكله الحديث. ففي المجتمع الحديث، أصبح الفرد غير قادر على الاكتفاء الذاتي، وتم تنظيم المجتمع على أسس جديدة إذ أصبح يتَّسم بالتضامن العضوي، والمجتمع هنا مثل الكائن العضوي لا يشبه أعضاؤه بعضهم بعضاً مادام لكل عضو من هذه الأعضاء المكونة وظيفة محددة يؤديها تختلف عن الوظيفة التي تؤديها بقية الأعضاء، والوظائف المتكاملة هي السبب الرئيسي في استمرار وجود الكائن العضوي وحياته.
ومن هنا، فإن تماسك المجتمع الحديث يمكن تفسيره بالإشارة إلى عدة عناصر من بينها:
1 ـ تبادل المصلحة داخل نطاق تقسيم العمل.
2 ـ ظهور ما يُسمَّى الآن «المجتمع المدني» الذي يستند إلى التنظيمات المدنية الطوعية والروابط المهنية مثل النقابات (التي تربط الفرد بالدولة).
3ـ ظهور أخلاقيات المهنة والوظيفة التي تُوجِّه سلوك الفرد داخل هذه الروابط.
4 ـ ظهور التعاقد كأساس للعلاقات الاجتماعية.
بهذه الطريقة، يكون دوركهايم قد حل مشكلة تماسك المجتمع من خلال الأخلاق المدنية التي يفرضها المجتمع من الخارج ومن خلال آليات التضامن العضوي نفسها، ولكنها تنبع أيضاً من الداخل لأنها راسخة في ذوات الأفراد ونابعة من حاجاتهم. ومن خلال هذا، تظهر مجموعة القيم المتجاوزة للأفراد. وأنجز دوركهايم كل هذا دون اللجوء إلى ميتافيزيقا خارجية ودون حاجة إلى الاهتمام بمطلقات (مثل الإله) أو حتى شبه مطلقات (مثل الضمير الجمعي)، ودون السقوط في الذرية التي يؤدي إليها مذهب المنفعة (ولعل هذا هو الفرق بين الأصول البروتستانتية لعلم الاجتماع الإنجليزي مقابل الأصول الكاثوليكية لعلم الاجتماع الفرنسي).
اكتشف دوركهايم أن الآلية البرانية لا تكفي قط، وأن البراني لابد أن يصبح جوانياً والخارجي داخلياً، أي لابد من استبطان القواعد، ومن هنا ظهرت الحاجة مرة أخرى إلى الضمير الجمعي. ويُعدِّل دوركهايم موقفه، فبدلاً من علاقات العمل التي تؤدي إلى التماسك العضوي مباشرةً، يعود الضمير الجمعي إلى الظهور شكل القومية العضوية التي ترى أن القومية تسبق الفرد، وأن الفرد جزء من كل عضوي لا يمكنه أن يُوجَد خارجه، وأن ثقافة الإنسان ورؤيته للكون واختياراته الفردية كلها تنبع من كونه جزءاً من هذا الكل العضوي.
لكل هذا، تم استبعاد الوعي الفردي والذاتية، واستُبعد الإنسان الفرد، واعتُبرت العقائد والقيم أشياء اجتماعية توجد خارج الوعي الذاتي. والقومية العضوية نتاج ذوبان ذات الفرد في ذوات الآخرين بحيث تتحول إلى ذات جمعية عضوية وكيان عضوي منزَّه عن الأفراد، وهو في واقع الأمر جماع ذواتهم، كيان في داخلهم وخارجهم في آن واحد (وهذا وصف دقيق أيضاً للعبادة اليسرائيلية القربانية وللحلولية الوثنية اليهودية القديمة حيث كان اليسرائيليون يعبدون إلهاً مقصوراً عليهم هو تجسد للشعب ورغباته وإرادته؛ إله لا يتجاوز الشعب ولا يتنزه عن الطبيعة والتاريخ وإنما يتوحد بالشعب والأرض). وبذلك يكون دوركهايم قد حوَّل القومية العضوية أو الذات القومية إلى المطلق (بدلاً من المجتمع أو الضمير الجمعي). ولا شك في أن القوانين والشعائر التي تُعمِّق التماسك العضوي لهذه الجماعة القومية هي شعائر هذا الدين الحلولي العضوي الجديد.
ويمكن القول بأن دوركهايم هو إسبينوزا علم الاجتماع الذي استبعد كل المطلقات من منظومته واستبعد الغائية والهدف. وأدَّى كل هذا إلى استبعاد الإنسان ككائن حر قادر على الاختيار والفرح والحزن، وكلاهما كان يشعر بالغبطة الشديدة لإنجازه الفلسفي، ذلك أنهما لم يدركا ما في موقفهما من شمولية وإطلاق وعداء جذري للإنسان. ولعل الفارق الوحيد بين إسبينوزا ودوركهايم ينبع من واقع أن الأول كان يدور في نطاق الصورة المجازية الآلية على حين أن الثاني كان يدور في إطار صـورة مجـازية عضـوية حيوية (ولكنها، شـأنها شأن صورة المجازية الآلية، تبتلع الإنسان وتفترض أسبقية المجتمع على الفرد كما تفترض أن أفعال الإنسان إن هي إلا جزء لا يتجزأ من حركة اجتماعية تطورية كبرى).
وكلاهما يدور في إطار حلولية بدون إله أو وحدة الوجود المادية. وإذا كان إسبينوزا قد احتفظ بالإله وساوى بينه وبين الطبيعة، فإن دوركهايم ألغاه وخلع صفاته وقدراته على المجتمع. ورغم هذا الاختلاف، فإن كليهما وضع المطلق في نهاية الأمر داخل المادة، وجعل المادة (الطبيعة أو المجتمع) شيئاً مكتفياً بذاته ومصدراً للتماسك والحركة، فكلاهما يؤمن بأن ثمة نظاماً ضرورياً وكلياً للأشياء، نظاماً ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. وهو نظام كامن في الطبيعة عند إسبينوزا وكامن في المجتمع عند دوركهايم.
فأين تكمن خصوصية دوركهايم اليهودية؟ إن السياق الكلي والأساسي الذي يتحرك داخله دوركهايم هو الفكر الغربي العلماني الحديث الذي لا تختلف بنيته عما بيَّنا من قبل، ولا يمكن فهم فكره إلا في إطار هذا الفكر، بل لا يمكن فهم خصوصيته إلا في إطار خصوصية الفكر الفرنسي العقلاني المادي (الكاثوليكي في بعض أشكاله). ولا شك في أن جذور دوركهايم اليهودية لعبت دوراً في تأكيد بعض العناصر (الحلولية المتطرفة) وفي بلورة بعض العناصر الأخرى (أهمية التضامن في المجتمع والفكر العضوي)، ولكن المنظومة بقضها وقضيضها تظل منظومة علمانية عقلانية مادية بكل ما تتسم به هذه المنظومة من وضوح ومادية وتبسيط.
جــورج زيميـل (1858-1918)
Georg Simmel
يُعتبَر جورج زيميل مؤسِّس ما يُسمَّى «علم الاجتماع الشكلي»، وأحد رواد علم النفس الاجتماعي واتجاه التفاعلية الرمزية. كما يرتبط اسمه بعلم اجتماع الجماعات الصغيرة. وقد ظهرت معظم أعماله في شكل مقالات انطباعية، ولم تشمل أية معالجة منهجية شاملة للعلاقات الاجتماعية.
ولعل هذا يعود للعناصر الثلاثة التالية:
1 ـ وُلد زيميل في وسط برلين في منتصف القرن التاسع عشر، أي أنه وُلد في مدينة كبيرة تخوض ثورة تجارية وصناعية واجتماعية، وفي بيئة حضرية لا تسمح للإنسان بالانتماء الكامل.
2 ـ وُلد زيميل لأب كان يهودياً ثم تنصَّر وأصبح كاثوليكياً مثله مثل كثير من يهود برلين في ذلك الوقت، ومات والد زيميل وهو بعد طفل، ويبدو أنه لم يكن على علاقة طيبة بأمه التي كانت يهودية وأصبحت بروتستانتية لوثرية، أي أن انتماءه الديني لم يكن واضحاً، وحياته العائلية لم تُزوِّده بالطمأنينة اللازمة، ورغم أنه تم تعميده إلا أنه فقد الإيمان الديني.
3 ـ درس زيميل الفلسفة والتاريخ في جامعة برلين على يد بعض أشهر الأساتذة في عصره. وبعد حصوله على الدكتوراه، استقر في برلين، ولكنه لم يعيَّن في جامعتها وإنما حصل على وظيفة أستاذ جامعي لا يتقاضى مرتباً ويعتمد على المصروفات التي يدفعها الطلبة للتسجيل في المادة المقررة.
ولا شك في أن العناصر الثلاثة السابقة جعلت منه شخصية هامشية تقف على حدود الأشياء دون أن تصبح جزءاً منها (كما هو الحال مع الغريب). وتأثر زيميل بمعظم التيارات الفكرية في عصره، فاستوعب نتائج الرؤية التطورية في فلسفة برجسون ونيتشه، كما تأثر بفلسفة كانط. ولعل نظريته في الأشكال الثابتة نسبياً وفي المضامين المتغيرة، هي نتاج التزاوج بين فلسفة كانط والرؤية التطورية الحيوية.
وانصب اهتمام زيميل في المرحلة الأولى من حياته الفكرية على الدراسات الفلسفية، فكتب دراسة عن كلٍّ من شوبنهاور ونيتشه، واهتم في آخر حياته بفلسفة الحضارة باعتبارها المجال الذي تمكَّن من خلاله من أن يناقش تحوُّل التجربة الإنسانية إلى ذرات متناثرة في مجتمع أدَّى تقسيم العمل فيه إلى ظهور أفراد متخصصين لا يمتلكون رؤية كلية للواقع.
ويذهب زيميل إلى أن من العسير فهم المجتمع باعتباره وحدة سوسيولوجية مستقلة عن عقول الأفراد. وأن من الخطأ كذلك أن نعتقد أن للأفراد وحدهم وجوداً واقعياً. فالمجتمع ـ في رأيه ـ يُوجَد من خلال الأفراد، والأفراد إن هم إلا ذرات اجتماعية (أي المادة التي يتكون منها المجتمع). المجتمع عند زيميل هو، إذن، وحدة موضوعية تتبدَّى من خلال العلاقات المتبادلة (التعاونية والصراعية) بين العناصر الإنسانية المختلفة في المجتمع (ويتضح هنا أثر كانط حين ذهب إلى أن الإنسان لا يُدرك الطبيعة بشكل مباشر، أي باعتبارها مادة محضة، وإنما يُدركها من خلال مقولات عقلية قَبْلية. وكذا المجتمع، فهو لا يتبدى بشكل مباشر وإنما من خلال الأشكال الثابتة التي تأخذ شكل علاقات).
ومهمة علم الاجتماع تحديد أشكال العلاقات الاجتماعية وتجريدها، وهي الأشكال التي تتسم بدرجة من الاستقرار النسبي وتتخذ شكلاً نمطياً يتميَّز عن المضمون أو المحتوى الذي يخضع للتغير المستمر. وتحليل هذه الأشكال أو الصور تحليلاً مجرداً وتحويلها إلى إطار تفسيري هو ـ حسب رؤية زيميل ـ جوهر الدراسة الاجتماعية إذ يقتضي دراسة البناء الواقعي للمجتمع.
وتتضمن صور التنظيم المتشابهة (الأشكال الثابتة) محتويات مختلفة توجهها مصالح متضاربة، بينما المصالح الاجتماعية المتشابهة (المحتويات) تتحقق في أشكال مختلفة تماماً عن التنظيمات
وعلى سبيل المثال، نجد أن التفاعل داخل الأشكال الثنائية يختلف تماماً عن التفاعل داخل الأشكال الثلاثية، فالأشكال الثلاثية تسمح بتكوين إستراتيجيات مركبة للتحالف بغض النظر عن طبيعة المتحالفين الذين يشكلون المحتوى، أي أن من الممكن دراسة شكل التفاعل بدون الإشارة لمحتواه المتعيِّن، وهذا ما تعنيه عبارة «علم الاجتماع الشكلي»؛ إنه علم متجاوز للتعاقب التاريخي، ويركز على الأشكال الثابتة التي تتسم بقدر من التجاوز للزمان ولتنوع المحتوى، بمعنى أن شكلاً اجتماعياً ما يمكن دراسته من خلال محتويات (ظواهر) مختلفة منتقاة من مراحل تاريخية مختلفة. وقد كان زيميل مهتماً في المحل الأول بتحديد مهمة علم الاجتماع باعتبارها دراسة الصور الخاصة للمجتمع والأشكال أو الأنماط المتواترة له، مجردةً من محتوياتها المادية ومضامينها الخاصة.
لكن هذا لا يعني أن الأشكال أصبحت من الأفكار الأفلاطونية الثابتة أو المطلقة، فالشكل (أو النمط أو البنية المجردة) لا وجود له خارج المحتوى الاجتماعي. وهو لا يُوجَد قط في حالة صافية، فالأشكال هي مفاهيم أو بنى تركيبية تحليلية تُضخِّم بعض جوانب الواقع لتُظهر شكل بعض العلاقات الخاصة في الواقع ولا تتحقق تحققاً كاملاً قط. ومع هذا، فلابد من استخدامها لفهم هذه العلاقات (وهي في هذا تشبه الأنماط أو النماذج المثالية عند فيبر).
وبالفعل، رصد زيميل مجموعة من الصور أو الأشكال أو الأنماط الاجتماعية، ومن أهـم هـذه الأشـكال أو الأنماط الاجتماعية نمط «الغريب». فالغريب ليس مجرد متجول يأتي اليوم ويذهب غداً، لا دور ولا مكان له في البنية، وإنما الغريب هو على العكس شخص يأتي اليوم ويبقى غداً ويتم تثبيته داخل جماعة مكانية محددة وتتحدد صفته باعتباره شخصاً غير منتم. فالغريب هو عنصر في الجماعة ولكنه ليس جزءاً منها، ولذا فله دور محدَّد ليس بإمكان أعضاء الجماعة أنفسهم أن يلعبوه. وبسبب وضعه هذا، وبسبب علاقته الخاصة مع الجماعة، فإنه قادر على الوصول إلى درجة من الموضوعية لا يستطيع أعضاء الجماعة أن يصلوا إليها.
والغريب باعتبار أنه غير منتم، لا يشعر بأي التزام جذري تجاه المكونات الفريدة للجماعة ولا يشعر بأي احترام خاص تجاه توجهاتها الخاصة. ولذا، فإنه ينظر لها بموضوعية. وعلاوة على هذا، ونظراً لقربه وبُعده في آن واحد، فإن أعضاء الجماعة يمكنهم أن يجعلوه موضع ثقتهم وأن يسروا له بأسرارهم، وهي أسرار لا يمكن أن يدلوا بها لأحد أعضاء الجماعة، ذلك لأن الغريب لا يشكل أي تهديد لهم إن هو اطلع على خباياهم. ولهذا كله، بإمكان الغريب أن يكون قاضياً موضوعياً ووسيطاً محايداً في عملية تبادل السلع والعواطف. إن الغريب ليس غريباً لأنه خارجي، وإنما هو غريب بسبب علاقات التفاعل التي تربطه بالمجتمع، فهو مخلوق اجتماعي ويجب عليه أن يلعب دوره.
يتبع إن شاء الله...