منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية Empty
مُساهمةموضوع: الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية   الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية Emptyالأربعاء 11 ديسمبر 2013, 10:33 pm

الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية
علــم الاجتمــاع والجماعـــات اليهوديــة 
Sociology and the Jewish Communities 
من الصعب تعيين نقطة محدَّدة ظهر عندها الفكر الاجتماعي (السوسيولوجي)، ذلك أن أي مؤرخ أو فيلسوف يتعرض لموضوعه الأساسي، وهو حياة البشر في جماعات، يجد نفسه ـ شاء أم أبى ـ يتطرق إلى موضوعات أصبحت في صميم علم الاجتماع. وهذا القول ينطبق على هيرودوت والبيروني وأرسطو. ولكن التطرق لحياة الجماعات البشرية يختلف إلى حدٍّ ما عن المحاولة الواعية أو شبه الواعية لدراسة حركة المجتمعات وقوانين تطورها. 
ولعل من أول المفكرين الذين حاولوا ذلك المفكر العربي ابن خلدون. ثم تصاعدت وتيرة هذه المحاولة في عصر النهضة في الغرب في كتابات فيكو وتوماس هوبز ثم في كتابات الفلاسفة الأخلاقيين الإسكتلنديين (آدم فرجسون وديفيد هيوم وآدم سميث). ولكن كلمة «علم الاجتماع» (سوسيولوجي) ذاتها لم يتم نحتها إلا على يد أوجست كونت، ولم يظهر العلم إلا بعد الثورتين الفرنسية والصناعية ومع التحولات الطبقية التي خاضها المجتمع الغربي إبّان عمليات تحديثه وعلمنته والتي تصاعدت وتيرتها بشكل ملحوظ مع منتصف القرن التاسع عشر. 
ويُلاحَظ أنه، حتى ذلك التاريخ، لم تكن هناك أية إسهامات تُذكَر لأي مفكرين يهود، وبعد ذلك يُلاحَظ تزايد مساهمة المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية في هذا الحقل.
وفي محاولة تفسير هذا الوضع، يمكن أن نسوق الأسباب التالية: 
1 ـ ينتمي أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية تنظر إلى المجتمع نظرة محايدة موضوعية. 
2 ـ يميل أعضاء الجماعات اليهودية (بسبب وضعهم الوظيفي) إلى التفكير في الواقع من خلال جوهر ثابت (الذات الوظيفية المقدَّسة) ومن خلال علاقات دينامية،أي من خلال حركيتها ورؤيتها للآخر المباح. 
3 ـ يميل أعضاء الجماعات الوظيفية والهامشية إلى النظر بطريقة نقدية إلى المجتمع. 
4 ـ تم إعتاق اليهود في أوربا في منتصف القرن التاسع عشر وكان من مصلحتهم معرفة القوانين التي تحكم المجتمع حتى يمكنهم التكيف معه والاستفادة من هذه القوانين. 
5 ـ يُقال إن النزعة المشيحانية عند اليهود لها أثر في إقبال بعض المفكرين اليهود على علم الاجتماع حتى يمكنهم اكتشاف نقائص المجتمع ومن ثم تثويره وتغييره. 
6 ـ تصوَّر كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية أن علم الاجتماع سيساهم في عملية علمنة المجتمع عن طريق كشف قوانينه. ولكننا سنلاحظ أن هؤلاء المفكرين اليهود الذين أقبلوا على دراسة علم الاجتماع هم يهود غير يهود، أي يهود فقدوا الأواصر الدينية أو الإثنية التي تربطهم بالجماعة اليهودية، فهم غرباء بالمعنى الحرفي للكلمة لا ينتمون إلى عالم اليهود ولا إلى عالم الأغيار، وهم نموذج جيد لإنسان العصر الحديث اللا منتمي الذي سقط في العدمية ونُزعت عنه القداسة فلا يملك إلا أن ينزع القداسة عن كل شيء. ويمكن أن نذكر بعض الأسماء الأساسية حتى تتضح هذه الفكرة: كارل ماركس وإميل دوركهايم وجورج زيميل ولودفيج جومبلوفيتش وكارل مانهايم وجورج لوكاش وماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو وهربرت ماركوز وريمون آرون وجورج فريدمان ودانيال بل. 
ولا يمكن فهم هؤلاء إلا بوضعهم في سياقهم الحضاري والاجتماعي والفكري الغربي. ولا يمكن بأية حال أن نعيّن خاصية محددة مشتركة بينهم نسميها «خاصية يهودية» فمنهم اليميني ومنهم اليساري، ومنهم المتفائل ومنهم المتشائم (وإن كانت أغلبيتهم تميل إلى التشاؤم). ومع هذا، يمكن أن نلاحظ أنهم جميعاً غير مستقرين تماماً في أي تيار فكري ينتمون إليه. ولكن هذه هي سمة كل المفكرين العظماء، الذين لا يمكنهم الاستقرار الكامل في أي نسق فكري مهما بلغ من أصالة وتركيب ولا تتسم أنساقهم الفكرية بالتناسق الهندسي البسيط. 
ويُلاحَظ كذلك أن معظم هؤلاء العلماء لا يهتمون بالموضوع اليهودي اهتمـاماً خاصاً ولا يتعـرضون له إلا في إطـار اهتمامهم بالحضارة الغربية. فهم يتعرضون للموضوع اليهودي باعتباره موضوعاً غربياً حديثاً كما فعل ماركس في المسألة اليهودية حيث وضعها في إطار إشكالية ظهور الرأسمالية، وكما فعل دوركهايم في موضوع ظاهرة الانتحار بين اليهود (والكاثوليك والبروتستانت)، وكما فعل زيميل مع الغريب، وكما فعل لودفيج جومبلوفيتش مع الأمة اليهودية حيث توقَّع اختفاءها. وهم في هذا لا يختلفون البته عن ماكس فيبر أو ورنر سومبارت اللذين تناولا الموضوع اليهودي بشيء من الإسهاب في سياق الحديث عن أصول الرأسمالية الرشيدة. أما الصهيونية، فمعظم علماء الاجتماع من اليهود غير مكترث بها ولم يكتب عنها لا معها ولا ضدها. 
إمــيل دوركهـايم (1858-1917)
Emile Durkheim 
أول عالم اجتماع فرنسي أكاديمي. وُلد في أبينال في مقاطعة اللورين التي لم تضمها فرنسا إلا في القرن السادس عشر، ولذا ظلت محتفظة إلى حد ما بطابعها الألماني. وكان أعضاء الجماعة اليهودية فيها من يهود اليديشية؛ يتحدثون رطانة ألمانية، ويعملون بالتجارة والربا، وغير مندمجين في المجتمع الفرنسي أو الثقافة اللاتينية (على عكس اليهود السفارد في الجنوب). ويمكن القول بأن التنظيم الاجتماعي للجماعة اليهودية في اللورين كان بسيطاً يتسم بما سماه دوركهايم فيما بعد «التضامن الآلي»، فقد كانت جماعة صغيرة يديرها الحاخام أو أحد الرؤساء (بارناسيم). وكانت عائلة دوركهايم تنتمي إلى هذه القيادة، فقد كان أبوه حاخاماً، كما أن أجداده كانوا من الحاخامات. 
وكان من المفترض أن يتبع دوركهايم نفسه هذا التقليد العائلي الراسخ ويصبح حاخاماً، فدرس العبرية والعهد القديم والتلمود وتلقى في الوقت نفسه تعليماً علمانياً. وبعد أن وصل إلى سن التكليف الديني (برمتسفاه)، خاض تجربة صوفية قصيرة ذات مضمون كاثوليكي. ولكنه، بعد ذلك، ترك الإيمان الديني تماماً وإن لم يفقد اهتمامه بالدين كظاهرة. ولا شك في أن عملية الانفصال عن الجماعة اليهودية الصغيرة كانت تجربة قاسية لأقصى حد. 
غير أن المجتمع الفرنسي كان مجتمعاً مركباً يستند إلى التضامن العلماني (العضوي)، فكان يفتح ذراعيه لمن ينضم إليه ويتيح أمامه فرص الاندماج (ولذا وُصفت فرنسا بأنها البلد الذي يأكل اليهود). وكان دوركهايم من أكثر الفرنسيين فرنسية ومن أكثر العلمانيين علمانية، ولا شك في أن انتقاله من اللورين إلى باريس، من مجتمع صغير متزمت ضيق إلى مجتمع رحب، جعله يشعر بالحرية والانعتاق. ولذا، فإننا لا نجد في دراساته أي حنين للجماعة الصغيرة « المترابطة » (كما هو الحال في علم الاجتماع الألماني) وإنما الانتماء الكامل للمجتمع التعاقدي. 
ومن هنا حماسه الشديد، بل والمفرط، للبحث عن أساس أخلاقي للمجتمع الجديد الذي انتمى إليه ليحل محل القيم الدينية التي تركها، ومن هنا أيضاً إيمانه الديني بالمجتمع (المدني) وتأليهه المجتمع (ثم تأليهه الذات القومية بعد ذلك). ويُلاحَظ أن الفرنسيين عادةً ما ينتمون إلى بقعة أو منطقة محلية معينة على عكس دوركهايم الذي كانت تُعبِّر كتاباته عن الانتماء إلى كل فرنسا دون تفرقة، وإلى المجتمع الفرنسي في أعلى درجات تجريده. وقد كان انتماؤه إلى هذا البلد انتماءً مباشراً دون وساطة أية تقاليد أو تاريخ خاص، ولذا كان دوركهايم إنساناً علمانياً تماماً، يقترب إلى حدٍّ كبير من الإنسان العام الذي كان فلاسفة الاستنارة يحلمون به. 
التحق دوركهايم بمدرسة المعلمين العليا. وكانت المدرسة مركزاً فكرياً مهماً في ذلك الوقت، إلا أن علم الاجتماع لم يكن قد احتل مكانته اللائقة بعد. وقد التقى هناك بزملاء كانوا فيما بعد رواد الفلسفة والعلم مثل الفيلسوف برجسون. ولم يكن دوركهايم طالباً متفوقاً وإن كان قد حظي ببعض كبار الأساتذة هناك من بينهم فوستيل دي كولانج وإميل بترو، كما تأثر بأعمال أوجست كونت وسان سيمون. وبعد تخرجه قرر أن يكرس نفسه للدراسة العلمية لعلم الاجتماع واشتغل بالتدريس في الجامعات الفرنسية كما اشتغل بتحرير حولية علم الاجتماع التي ظهر العدد الأول منها عام 1898. 
إن الجذور الفكرية لدوركهايم هي جذور أي مفكر غربي حديث، فقد استوعب فكر ديكارت (وثنائيته الصلبة) وفكر حركة الاستنارة والعقلانية المادية (البحث الدائب عن أساس عقلي) وأعمال روسو (مفهوم الإرادة العامة والتفرقة بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة النفسية) ومونتسكيو (ترابط المجال الثقافي والاجتماعي)، وأعمال كونت (تقسيم العمل كمصدر للتضامن وفكرة الإجماع)، وفكر سان سيمون (علم الاجتماع كعلم مستقل) والفكر المعادي للاستنارة (أسبقية المجتمع على الفرد، والحاجة إلى السلطة والالتزام الخارجي) وآراء فوستيل دي كولانج (المنهج التاريخي ودور الدين) وأفكار إميل بترو (مستويات الواقع المختلفة) وتشارل رينوفييه (رفض الحتمية التاريخية ومركزية الاعتبارات الأخلاقية في البحث الفلسفي، والحاجة إلى علم أخلاق لإعادة بناء الجمهورية، ورؤية العنف باعتباره شراً). 
كما تأثر دوركهايم بهربرت سبنسر (الرؤية التطورية) ووليام سميث (أهمية الطقوس في الدين). أما في ألمانيا، فتأثر بكانط (فلسفة الأخلاق) وبزيميل وجومبلوفيتش وتونيز وبالفكر العضوي الألماني، وأخيراً بفيلهلم فوندت (فكرة روح الجماعة) وبمعمل علم النفس والأبحاث العلمية التي أجراها فوندت وشاهدها دوركهايم. 
أما خلفية دوركهايم الاجتماعية، فهي تحوُّل فرنسا إلى مجتمع صناعي وتصاعد وتيرة هذا التحول. وقد واكبت ذلك أحداث سياسية واجتماعية أخرى مثل هزيمة فرنسا أمام ألمانيا، الأمر الذي ولَّد الحاجة إلى إعادة بناء الجمهورية. وقد نشب صراع شرس بين الكنيسة والقطاعات العلمانية في فرنسا حول حادثة دريفوس، فتصاعدت المطالبة بفصل الدين عن الدولة. وشهدت هذه المرحلة تصاعد أهمية الفكر القومي العضوي حتى أصبح الإطار المرجعي لرؤية الإنسان الأوربي للكون. 
وثمة موضوعان أساسيان في علم الاجتماع عند دوركهايم، أولهما مشكلة النظام الاجتماعي في مجتمعات وصل فيها تقسيم العمل إلى درجات عالية من الشمول والتنوع، ويوجد فيها صراع بين الطبقات؛ مجتمع تصاعدت فيه معدلات التصنيع والتحديث والعلمنة، وغاب فيه اليقين الأخلاقي والتوقعات الاجتماعية المعتادة، وتُرك فيه الأفراد دون توجيه أخلاقي جماعي في محاولتهم الوصول إلى أهدافهم، وهذا هو ما أدَّى إلى تفكُّك المرجعية وغيابها وتزايد الأنانية والنفعية. وتمخض كل هذا عن حالة الأنومي أو اللا معيارية، فاللا معيارية ليست حالة عقلية فردية وإنما هي ظاهرة اجتماعية. والإنسان حسب تصور دوركهايم حيوان لا يشبع (على عكس الحيوانات الأخرى)، وكلما ازداد ما يحصل عليه يزداد نهمه. ولذا، فلابد أن توضع رغباته الفردية داخل حدود خارجية جماعية. ولنا أن نلاحظ أن هذه الأفكار هي إعادة إنتاج للأفكار المسيحية، والكاثوليكية على وجه التحديد، الخاصة بالخطيئة الأولى للإنسان وبأنه لا خلاص للفرد خارج الكنيسة، فالخلاص لا يتم إلا بشكل مؤسسي. 
أما الموضوع الثاني، فهو طريقة حل هذه المشاكل. وكان دوركهايم يرى أن علم الاجتماع يمكنه أن يلعب دوراً حاسماً في البحث عن أساس جديد للتماسك الاجتماعي في المجتمع الحديث العلماني، ولذا فقد انصب اهتمامه على محاولة أن يجعل علم الاجتماع تخصصاً أكاديمياً مستقلاًّ وعلماً ذا أسس منهجية ومعرفية مستقلة. 
درس دوركهايم ظاهرة الانتحار في إطار علم الاجتماع، فبيَّن أن الانتحار ليس انحرافاً نفسياً فردياً كما كان متصوَّراً وإنما حقيقة اجتماعية، فحاول الربط بين معدلات الانتحار كما حدده والفروق في التضامن الاجتماعي بين الجماعات المختلفة، فوجد أنه كلما تآكلت الضوابط المجتمعية والروابط الأسرية ضعف التضامن وزادت عزلة الفرد الاجتماعية وتعرَّض النظام السياسي والاجتماعي للانهيار، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور حالة اللا معيارية، وتزايد معدلات الانتحار. فالانتحار يرتبط ارتباطاً عكسياً بدرجة التكافل في المجتمع.
وبيَّن دوركهايم أن معدل الانتحار في أوربا يزداد في الدول البروتستانتية عنه في الدول الكاثوليكية، وتقل نسبة الانتحار بين اليهود عنها بين الكاثوليك والبروتستانت، ويرجع هذا إلى ما يتمتع به البروتستانت من حرية البحث فضلاً عما يشيع بينهم من فردية نتيجة ضعف التضامن بين جماعاتهم. أما انخفاض معدلات الانتحار بين اليهود، فيرجع إلى شعورهم غير العادي بالتضامن الذي ولَّده بينهم ما تعرضوا له من مذلة وما تتميز به حياتهم من انعزالية. 
وما أنجزه دوركهايم في دراسته عن الانتحار هو توضيح الأبعاد الاجتماعية لظاهرة قد تبدو نفسية، وتأكيد إسهام علم الاجتماع في كشف أسباب اللا معيارية التي تؤدي إلى هذه الظاهرة، ومن ثم يصبح علم الاجتماع قادراً على اقتراح حلول لمشاكل المجتمع الحديث، وهذا هو جوهر مشروع دوركهايم المعرفي. وفي كتابه الأخير والمهم الأشكال الأساسية للحياة الدينية يطرح دوركهايم رؤيته للدين وللعلاقة بين الدين والمجتمع. وينتمي دوركهايم لخط طويل من المثقفين الفرنسيين المؤمنين بحتمية الدين كظاهرة. 
فالدين ليس سمة من سمات السلوك الفردي، ولا هو اختيار شخصي، وإنما بُعد أساسي في الحياة الجماعية لا يستقيم المجتمع بدونه. وقد واجه هؤلاء المثقفون الإشكالية التي يمكن أن نُطلق عليها «إشكالية موت الإله في المجتمعات العلمانية»، وهي الإشكالية التي اكتشفها دوستويفسكي حين قال: إذا لم يكن الإله موجوداً، فكل شيء يصبح مباحاً. ويمكن أن نعيد صياغة هذه الفكرة على النحو التالي: إذا مات الإله اختفى المطلق المتجاوز للواقع المادي الذي تؤمن به الجماعة، أي اختفت المرجعية ومن ثم لم تَعُد هناك حدود للفرد، وأصبح كل فرد مرجعية ذاته وحاول تحقيق ذاته وصالحه كفرد. 
ومن ثم تظهر الإشكالية التالية: 
كيف يمكن التوفيق بين الصالح العام والاتجاهات الفردية في المجتمع؟ كيف نحمي المجتمع من السقوط في الإشكالية الهوبزية: حرب الجميع ضد الجميع؟ هذه هي الإشكالية الأساسية الكامنة في فلسفة المنفعة العلمانية التي تذهب إلى أن مصدر التماسك في المجتمع ومصدر حركته هو سعي كل فرد نحو مصلحته الشخصية لتحقيقها، وأن الفرد حين يحقق مصلحته الشخصية فهو يحقق الصالح العام بشكل تلقائي، وأن التناسق يتم من خلال الصراع بشكل آلي. إذ أن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يحدث هذا؟ لماذا لا يستمر الإنسان الفرد في تحقيق مصالحه حتى يدمر نسيج المجتمع ذاته؟ أفليست المصلحة الذاتية هي الحقيقة المطلقة (لوجوس) وتحقيقها هو الهدف (تيلوس)، خصوصاً أن دوركهايم أكد أن الإنسان حيوان شره لا تتوقف رغباته عند أية حدود؟ الدين حتمي إذن، ولكن الميتافيزيقا غير مقبولة في عصر العقل المادي والعلم والاستنارة والتفسيرات المادية، فما المخرج إذن؟ لقد حاول هؤلاء المثقفون الفرنسيون أن يحلوا المشكلة بالتوصل إلى دين جديد إنساني مُخلَّق يتوصل إلىه العقل البشري ليحل محل الدين التقليدي الذي يفترض المؤمنون به أنه مُرسَل من السماء. 
وبدأت هذه المحاولة بعبادة العقل إبّان الثورة الفرنسية، وحاول سان سيمون طرح رؤيته للمسيحية الجديدة، وطرح أوجست كونت رؤيته لديانة الإنسانية، وهو تقليد ليس مقصوراً بأية حال على المثقفين الفرنسيين وإنما يمتد ليشمل كل المحاولات الرامـية إلى تأسـيس مجتمـع علماني صرف يُغيِّب الإله أو يهمشه، فالفلسفة الماركسية تطرح ديانة الطبقة العاملة الجديدة، وتطرح الليبرالية ذاتها ديانة التقدم الدائم والانتصار المستمر للعقل (حتى أعلن فوكوياما نهاية التاريخ). 
أما دوركهايم، فيحاول حل الإشكالية عن طريق تعريف الدين ليصل إلى ما يمكن تسميته «دين بدون إله» أو «لاهوت بدون إله» (وهو لاهوت موت الإله قبل أن تُطبَّق على الإنسان الغربي رؤيته التشاؤمية بشأن العدمية الكامنة في مثل هذه الرؤية). 
وهو دين ينطلق من مجموعة من الافتراضات: 
1 ـ الدين نسق موحَّد من المعتقدات والممارسات التي تتصل بشيء مقدَّس. والمقدَّس شيء ليس له وظيفة عملية، فهو يتسم بسمات تجعلـه مهماً في حـد ذاته، مكتفياً بـذاته، فالدين نسـق يدور حول مطلق ما، بغض النظر عن طبيعة هذا المطلق. 
2 ـ الإيمان بالإله ليس سمة عامة في الأنساق الدينية جميعاً، فما يميز الأنساق الدينية هو فصلها بين المقدَّس والمدنَّس،أي أن المطلق قد لا يكون الإله،ومن ثم لا حاجة للميتافيزيقا بالضرورة (أو على الأقل لا حاجة للميتافيزيقا التي تستند إلى الغيب وعالم ما وراء الطبيعة). 
3 ـ فكرة الإله مجرد إعلاء لفكرة المجتمع، والدين هو المجتمع بعد أن أصبح موضع القداسة والتبجيل والتقديس. والأفكار والممارسات الدينية التقليدية إنما تشير أو ترمز إلى المجتمع، أي أن الدين إن هو إلا شيء اجتماعي غير نابع من طبيعة الفرد وإنما من طبيعة المجتمع، فالمجتمع هو المصدر أو المنبع الأصلي أو السبب النهائي للخبرة الدينية. 
4 ـ المجتمع، في واقع الأمر، هو المحرك الأول والأخير لكل الظواهر الإنسانية، فقد صرنا إلى ما نحن عليه بسبب المجتمع. 
5 ـ تتمثل وظيفة الدين الرئيسية في تحقيق التضامن الاجتماعي وتدعيمه والمحافظة عليه. 
6 ـ المجتمع يتحرك داخلياً ليسمو بنا، لا كما تفعل الشرارة الإلهية بطريقة غامضة (كما كان الظن في الماضي) وإنما بطريقة مادية يمكن رصدها ومعرفة قوانينها. 
ومن خلال هذا الرصد نكتشف أمرين: 
أ) المعتقدات والممارسات تتحد في مجتمع أخلاقي واحد يُسمَّى «الكنيسة» ويضم كل الذين يرتبطون به. 
ب) الشعائر (البرانية) أكثر أهمية من العقائد (الجوانية) في عملية تنظيم الأنساق الدينية واستمرارها. 
هذا هو موقف دوركهايم من الدين وتعريفه له. ومن الواضح أنه حرَّر المطلق من فكرة الإله، وربطها بشيء آخر مادي تاريخي متعيِّن قابل للرصد هو المجتمع. وبعد تحديد قوانين البنية كما يتخيلها، يرسم لنا دوركهايم ملامح تاريخ عام للبشرية يبين لنا فيه كيف حدث التفتت الاجتماعي وكيف ضاع التماسك (السقوط والخطيئة الأولى في إطار مادي اجتماعي) وكيف يمكن التغلب على التفتت (الخلاص من خلال الكنيسة الجديدة التي تحتكر شعائر الخلاص تماماً مثل الكنيسة الكاثوليكية). 
وبيَّن دوركهايم أن تقسيم العمل هو الآلية الكبرى لكل من السقوط والخلاص، فهو الذي يسبب التحولات العميقة في المجتمع وهو المظهر الأساسي لهذه التحولات. وقد جرد دوركهايم العمل من كل علاقات القوة والهيمنة والسيطرة، ولذا فقد جعله المصدر الحقيقي للتضامن في المجتمع.
ويذهب دوركهايم إلى أن الفرد، باعتباره كياناً مستقلاًّ حراً له ضميره الخاص، لم يكن له وجود في المجتمعات البدائية البسيطة. فالانحراف عن العقل (أو الضمير) الجمعي كان يُعاقَب عليه بشدة من خلال النفي والاستبعاد وأشكال العقاب المختلفة، ولذا يكون التضامن في هذه المجتمعات تضامناً آلياً (برانياً) يستمد قوته من الضمير الجمعي والقانون القهري (لا من قوة الضمير الشخصي). 
ويَنتُج عن هذا الوضع التماثل أو التشابه بين الناس بصورة ملحوظة، وهو تماثل يُعبِّر عن وجود عواطف ومشاعر مشتركة، وعن مشاركة عامة في القيم والمعايير السائدة في المجتمع. وقد حدث تغيُّر في المجتمع البسيط الذي يستند إلى التضامن نتيجة تزايد عدد السكان والتموين والتصنيع، إذ أدَّى هذا إلى تراجع التضامن الآلي وتقويض الضمير الجمعي خلال تدهور العقيدة المشتركة وظهور الفردية. كما أدَّى اتساع نطاق تقسيم العمل (الذي يمتد ليشمل كل أشكال الحياة) إلى تزايد التباين بين الأفراد، وإلى اختفاء التشابه العقلي والنفسي والأخلاقي بينهم وذلك نتيجة زيادة الفردية،ويبدو ذلك واضحاً في تباين أذواق الأفراد ومعتقداتهم وآرائهم وأخلاقياتهم. ومن ثم يقل الدور الذي كانت تلعبه الوراثة في الحصول على المكانة الاجتماعية، وهكذا ينعدم التجانس في هذا المجتمع وتختفي القيم الدينية والأخلاقية المشتركة والممارسات القمعية التي تستند إلى الضمير الجمعي وهو ما يؤدي إلى ظهور حالة الأنومي (اللا معيارية) وانعدام التماسك (لحظة السقوط وغياب المطلق). 
والآن كيف يمكن استعادة التماسك والمركز والمطلق؟ يذهب دوركهايم إلى أن الكنيسة الجديدة (التي سيُزوِّد المجتمع بإطاره العقائدي والتي ستكون الآلية التي يحقق الإنسان من خلالها الخلاص) هي علم الاجتماع، فهو العلم الذي يُبيِّن كيف يتمكن الجزء (الفردي) من أن يتواصل مع الكل (الاجتماعي)، وكيف يمكن أن يحقق النسق تماسكه، وهو العلم الذي سيزوِّد الإنسان بالمعرفة العلمية اللازمة التي يمكن أن يستند إليها التشريع الاجتماعي. فكأن دوركهايم لم يفصل الأخلاق عن العلم وإنما كان يحاول إقامة علم أخلاق مختلف تماماً عن الفلسفة الأخلاقية. 
وعلم الاجتماع قادر على رصد المطلق وتعريفه وهو مطلق لا يتجاوز الزمان والمكان ولكنه مرتبط بهما، ولذا فإن القواعد الأخلاقية التي يطرحها هذا العلم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف الحياة الاجتماعية والتي تعتبر نسبية من حيث الزمان والمكان. وعلم الاجتماع سيكتشف القيم النسبية المناسبة للزمان والمكان، ولذا فهي قيم مطلقة مؤقتة تنبع مطلقيتها من موافقتها لملابسات اللحظة التاريخية والظروف المكانية (ومن ثم، فإن دوركهايم هو من أوائل المبشرين بلاهوت ما بعد الحداثة). 
إنها الأخلاقيات اللازمة لاستمرار المجتمع. وعلى الفرد أن يتبع هذه القوانين وأن يستبطنها تماماً باعتبارها القيمة المطلقة وعليه أن ينفذ الشعائر. وبذا، تحوَّل علم الاجتماع من علم يرصد الآليات بحياد علمي رهيب إلى علم معياري يقنن ويطرح الرؤى الأخلاقية التي تستند إلى قوانين علمية. وهو علم يرصد دائماً النظام والتماسك في المجتمع. وكل هذه الأبعاد تؤدي إلى شمولية كاملة حيث يجتمع التكنوقراط ليقرروا للبشر ما هو المطلق، ثم يطلبون منهم اتباعه باعتبار أن ما قرروه تم تقريره على أساس علمي. 
وبهذا المعنى، فإن علم الاجتماع لم يَعُد مجرد علم وإنما أصبح نوعاً من أنواع الوعي (العلمي العلماني) المناسب للمجتمع الحديث (العلماني) وللحضارة الحديثة التي تعيش في ظلال العقلانية (المادية) الديكارتية. ومن ثم، فإن دوركهايم استمرار للتقاليد الفلسفية الوضعية التي تضرب بجذورها في فلسفة سان سيمون وأوجست كونت، وهي فلسفة تصدر عن الواحدية (المادية) الكونية التي لا تفصل بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان وترى أن ثمة وحدة بينهما، فالثاني جزء لا يتجزأ من الأول. وهي رؤية عضوية للمجتمع، فهي تُشبِّه المجتمع بجسد الإنسان، وتدركه داخل إطار تطوُّري. فإذا مرض جسم الإنسان، فلابد أن يُزوَّد بالعلاج اللازم. وكذلك المجتمع، فإن أصيب بالمرض فلابد أن يُزوَّد بالدواء. 
وقد عرَّف دوركهايم علم الاجتماع بأنه علم طبيعي وموضوعي وشامل للظواهر الاجتماعية التي ترتبط فيما بينها بعلاقات عامة وضرورية مشتقة من طبيعتها الخاصة، أي أنها بعبارة أخرى خاضعة لنفس مبدأ الحتمية الذي تنهض عليه العلوم كافة (طبيعية كانت أم إنسانية)، ومن ثم فإن بوسعنا أن نكشف عن القوانين المعبِّرة عن هذه الروابط الضرورية بين الظواهر مستخدمين في ذلك مناهج الملاحظة الدقيقة والبرهان المنطقي والتعميم النظري، وهي نفسها المناهج التي تستخدمها العلوم الطبيعية. وهذا العلم سيساعد على اكتشاف أن المجتمع مكوَّن من أفراد، إلا أن الحقائق الاجتماعية تشكل واقعاً قائماً بذاته، ولذا فإن للمجتمع وجوداً موضوعياً خارجياً يعلو على الأفراد له قوانين مستقلة عنهم وعن وعيهم، وهو وجود يشكل سلوكهم وإدراكهم ويحدد الإطـار الاجتماعي. 
والفـرد هو الجزء والإطـار الاجتماعي هو الكل، والفرد السوي هو الذي ينجح في تحقيق الاندماج في الكل الاجتماعي. فالمجتمع، إذن، واقع لم تخلقه إرادات فردية. ولكنه، مع هذا، ليس منفصلاً تماماً عن الإنسان، فهو «التمثيل الجماعي للمجتمع»، ولذا فهو موجود داخلياً وخارجياً (ويمكن تشبيهه بالوثبة الحيوية عند برجسون التي لها وجود موضوعي وذاتي في آن واحد). وانطلاقاً من هذا، يكتشف دوركهايم فكرة الضمير الجمعي، فالمجتمع ـ كما أسلفنا ـ يوجد داخل الأفراد وخارجهم، ولذا فهو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبعث الرهبة والورع في نفوسهم، ويرغمهم على الخضوع لقواعد السلوك ولتقديم التضحية التي لا يمكن أن يستمر المجتمع بدونها. 
ولكن المجتمع ليس متعيناً بما فيه الكفاية ليصبح موضع التقديس والتبجيل، ولذا فإن شعور الفرد تجاه المجتمع يتم من خلال وساطة الضمير الجمعي الذي يتألف من التصورات والمعتقدات والرموز المقدَّسة والعواطف الشائعة والعامة بين الأفراد (الذين يشكلون غالبية أعضاء المجتمع) التي تكوِّن نسقاً خاصاً يوجد داخل الأفراد ولكنه مستقل عنهم وله قوة ذاتية مستقلة، ولهذا فإنه يمارس ضغطاً على الأفراد بحيث يُوجد بينهم تماثلاً عقلياً وعاطفياً ويخلق لديهم وعياً بواقعهم، فيدعم الكيان الجمعي لنفوس أولئك الأفراد. 
والضمير العام له وجوده الخاص المتميِّز، وهو كيان لاتاريخي إلى حدٍّ ما يدوم عبر الزمن ويعمل على توحيد الأجيال. والضمير الجمعي، في واقع الأمر، هو المجتمع وقد تحوَّل إلى صورة مجازية أساسية وقيمة حاكمة بإمكان الأفراد استبطانها. وإذا كان المجتمع هو ما يقابل الأب في الثالوث المسيحي، فإن الضمير الجمعي هو الابن المتجسد في التاريخ والذي يستطيع البشر التواصل معه لأنه الإنسان الإله. أما روح القُدُس التي تسري في كل شيء، فهي القوانين الاجتماعية التي يكتشفها كهنة الكنيسة الجديدة الذين قد لا يتحلون بالعصمة النهائية (كبابا روما) ولكنهم يتحلون بقدر من العصمة المؤقتة (التي تجعل منهم باباوات عصرهم). وهم الذين يقيمون شعائر الدين العلمي الجديد الذي سيحقق الخلاص للإنسان الحديث.
كيف يُعبِّر الضمير الجمعي عن نفسه في المجتمع الحديث؟ وجد دوركهايم أن تقسيم العمل الذي أدَّى إلى اللا معيارية هو نفسه الآلية التي تؤدي إلى ظهور الضمير الجمعي في شكله الحديث. ففي المجتمع الحديث، أصبح الفرد غير قادر على الاكتفاء الذاتي، وتم تنظيم المجتمع على أسس جديدة إذ أصبح يتَّسم بالتضامن العضوي، والمجتمع هنا مثل الكائن العضوي لا يشبه أعضاؤه بعضهم بعضاً مادام لكل عضو من هذه الأعضاء المكونة وظيفة محددة يؤديها تختلف عن الوظيفة التي تؤديها بقية الأعضاء، والوظائف المتكاملة هي السبب الرئيسي في استمرار وجود الكائن العضوي وحياته. 
ومن هنا، فإن تماسك المجتمع الحديث يمكن تفسيره بالإشارة إلى عدة عناصر من بينها: 
1 ـ تبادل المصلحة داخل نطاق تقسيم العمل. 
2 ـ ظهور ما يُسمَّى الآن «المجتمع المدني» الذي يستند إلى التنظيمات المدنية الطوعية والروابط المهنية مثل النقابات (التي تربط الفرد بالدولة). 
3ـ ظهور أخلاقيات المهنة والوظيفة التي تُوجِّه سلوك الفرد داخل هذه الروابط. 
4 ـ ظهور التعاقد كأساس للعلاقات الاجتماعية. 
بهذه الطريقة، يكون دوركهايم قد حل مشكلة تماسك المجتمع من خلال الأخلاق المدنية التي يفرضها المجتمع من الخارج ومن خلال آليات التضامن العضوي نفسها، ولكنها تنبع أيضاً من الداخل لأنها راسخة في ذوات الأفراد ونابعة من حاجاتهم. ومن خلال هذا، تظهر مجموعة القيم المتجاوزة للأفراد. وأنجز دوركهايم كل هذا دون اللجوء إلى ميتافيزيقا خارجية ودون حاجة إلى الاهتمام بمطلقات (مثل الإله) أو حتى شبه مطلقات (مثل الضمير الجمعي)، ودون السقوط في الذرية التي يؤدي إليها مذهب المنفعة (ولعل هذا هو الفرق بين الأصول البروتستانتية لعلم الاجتماع الإنجليزي مقابل الأصول الكاثوليكية لعلم الاجتماع الفرنسي). 
اكتشف دوركهايم أن الآلية البرانية لا تكفي قط، وأن البراني لابد أن يصبح جوانياً والخارجي داخلياً، أي لابد من استبطان القواعد، ومن هنا ظهرت الحاجة مرة أخرى إلى الضمير الجمعي. ويُعدِّل دوركهايم موقفه، فبدلاً من علاقات العمل التي تؤدي إلى التماسك العضوي مباشرةً، يعود الضمير الجمعي إلى الظهور شكل القومية العضوية التي ترى أن القومية تسبق الفرد، وأن الفرد جزء من كل عضوي لا يمكنه أن يُوجَد خارجه، وأن ثقافة الإنسان ورؤيته للكون واختياراته الفردية كلها تنبع من كونه جزءاً من هذا الكل العضوي. 
لكل هذا، تم استبعاد الوعي الفردي والذاتية، واستُبعد الإنسان الفرد، واعتُبرت العقائد والقيم أشياء اجتماعية توجد خارج الوعي الذاتي. والقومية العضوية نتاج ذوبان ذات الفرد في ذوات الآخرين بحيث تتحول إلى ذات جمعية عضوية وكيان عضوي منزَّه عن الأفراد، وهو في واقع الأمر جماع ذواتهم، كيان في داخلهم وخارجهم في آن واحد (وهذا وصف دقيق أيضاً للعبادة اليسرائيلية القربانية وللحلولية الوثنية اليهودية القديمة حيث كان اليسرائيليون يعبدون إلهاً مقصوراً عليهم هو تجسد للشعب ورغباته وإرادته؛ إله لا يتجاوز الشعب ولا يتنزه عن الطبيعة والتاريخ وإنما يتوحد بالشعب والأرض). وبذلك يكون دوركهايم قد حوَّل القومية العضوية أو الذات القومية إلى المطلق (بدلاً من المجتمع أو الضمير الجمعي). ولا شك في أن القوانين والشعائر التي تُعمِّق التماسك العضوي لهذه الجماعة القومية هي شعائر هذا الدين الحلولي العضوي الجديد. 
ويمكن القول بأن دوركهايم هو إسبينوزا علم الاجتماع الذي استبعد كل المطلقات من منظومته واستبعد الغائية والهدف. وأدَّى كل هذا إلى استبعاد الإنسان ككائن حر قادر على الاختيار والفرح والحزن، وكلاهما كان يشعر بالغبطة الشديدة لإنجازه الفلسفي، ذلك أنهما لم يدركا ما في موقفهما من شمولية وإطلاق وعداء جذري للإنسان. ولعل الفارق الوحيد بين إسبينوزا ودوركهايم ينبع من واقع أن الأول كان يدور في نطاق الصورة المجازية الآلية على حين أن الثاني كان يدور في إطار صـورة مجـازية عضـوية حيوية (ولكنها، شـأنها شأن صورة المجازية الآلية، تبتلع الإنسان وتفترض أسبقية المجتمع على الفرد كما تفترض أن أفعال الإنسان إن هي إلا جزء لا يتجزأ من حركة اجتماعية تطورية كبرى). 
وكلاهما يدور في إطار حلولية بدون إله أو وحدة الوجود المادية. وإذا كان إسبينوزا قد احتفظ بالإله وساوى بينه وبين الطبيعة، فإن دوركهايم ألغاه وخلع صفاته وقدراته على المجتمع. ورغم هذا الاختلاف، فإن كليهما وضع المطلق في نهاية الأمر داخل المادة، وجعل المادة (الطبيعة أو المجتمع) شيئاً مكتفياً بذاته ومصدراً للتماسك والحركة، فكلاهما يؤمن بأن ثمة نظاماً ضرورياً وكلياً للأشياء، نظاماً ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. وهو نظام كامن في الطبيعة عند إسبينوزا وكامن في المجتمع عند دوركهايم. 
فأين تكمن خصوصية دوركهايم اليهودية؟ إن السياق الكلي والأساسي الذي يتحرك داخله دوركهايم هو الفكر الغربي العلماني الحديث الذي لا تختلف بنيته عما بيَّنا من قبل، ولا يمكن فهم فكره إلا في إطار هذا الفكر، بل لا يمكن فهم خصوصيته إلا في إطار خصوصية الفكر الفرنسي العقلاني المادي (الكاثوليكي في بعض أشكاله). ولا شك في أن جذور دوركهايم اليهودية لعبت دوراً في تأكيد بعض العناصر (الحلولية المتطرفة) وفي بلورة بعض العناصر الأخرى (أهمية التضامن في المجتمع والفكر العضوي)، ولكن المنظومة بقضها وقضيضها تظل منظومة علمانية عقلانية مادية بكل ما تتسم به هذه المنظومة من وضوح ومادية وتبسيط.
جــورج زيميـل (1858-1918)
Georg Simmel 
يُعتبَر جورج زيميل مؤسِّس ما يُسمَّى «علم الاجتماع الشكلي»، وأحد رواد علم النفس الاجتماعي واتجاه التفاعلية الرمزية. كما يرتبط اسمه بعلم اجتماع الجماعات الصغيرة. وقد ظهرت معظم أعماله في شكل مقالات انطباعية، ولم تشمل أية معالجة منهجية شاملة للعلاقات الاجتماعية.
ولعل هذا يعود للعناصر الثلاثة التالية: 
1 ـ وُلد زيميل في وسط برلين في منتصف القرن التاسع عشر، أي أنه وُلد في مدينة كبيرة تخوض ثورة تجارية وصناعية واجتماعية، وفي بيئة حضرية لا تسمح للإنسان بالانتماء الكامل. 
2 ـ وُلد زيميل لأب كان يهودياً ثم تنصَّر وأصبح كاثوليكياً مثله مثل كثير من يهود برلين في ذلك الوقت، ومات والد زيميل وهو بعد طفل، ويبدو أنه لم يكن على علاقة طيبة بأمه التي كانت يهودية وأصبحت بروتستانتية لوثرية، أي أن انتماءه الديني لم يكن واضحاً، وحياته العائلية لم تُزوِّده بالطمأنينة اللازمة، ورغم أنه تم تعميده إلا أنه فقد الإيمان الديني. 
3 ـ درس زيميل الفلسفة والتاريخ في جامعة برلين على يد بعض أشهر الأساتذة في عصره. وبعد حصوله على الدكتوراه، استقر في برلين، ولكنه لم يعيَّن في جامعتها وإنما حصل على وظيفة أستاذ جامعي لا يتقاضى مرتباً ويعتمد على المصروفات التي يدفعها الطلبة للتسجيل في المادة المقررة. 
ولا شك في أن العناصر الثلاثة السابقة جعلت منه شخصية هامشية تقف على حدود الأشياء دون أن تصبح جزءاً منها (كما هو الحال مع الغريب). وتأثر زيميل بمعظم التيارات الفكرية في عصره، فاستوعب نتائج الرؤية التطورية في فلسفة برجسون ونيتشه، كما تأثر بفلسفة كانط. ولعل نظريته في الأشكال الثابتة نسبياً وفي المضامين المتغيرة، هي نتاج التزاوج بين فلسفة كانط والرؤية التطورية الحيوية. 
وانصب اهتمام زيميل في المرحلة الأولى من حياته الفكرية على الدراسات الفلسفية، فكتب دراسة عن كلٍّ من شوبنهاور ونيتشه، واهتم في آخر حياته بفلسفة الحضارة باعتبارها المجال الذي تمكَّن من خلاله من أن يناقش تحوُّل التجربة الإنسانية إلى ذرات متناثرة في مجتمع أدَّى تقسيم العمل فيه إلى ظهور أفراد متخصصين لا يمتلكون رؤية كلية للواقع. 
ويذهب زيميل إلى أن من العسير فهم المجتمع باعتباره وحدة سوسيولوجية مستقلة عن عقول الأفراد. وأن من الخطأ كذلك أن نعتقد أن للأفراد وحدهم وجوداً واقعياً. فالمجتمع ـ في رأيه ـ يُوجَد من خلال الأفراد، والأفراد إن هم إلا ذرات اجتماعية (أي المادة التي يتكون منها المجتمع). المجتمع عند زيميل هو، إذن، وحدة موضوعية تتبدَّى من خلال العلاقات المتبادلة (التعاونية والصراعية) بين العناصر الإنسانية المختلفة في المجتمع (ويتضح هنا أثر كانط حين ذهب إلى أن الإنسان لا يُدرك الطبيعة بشكل مباشر، أي باعتبارها مادة محضة، وإنما يُدركها من خلال مقولات عقلية قَبْلية. وكذا المجتمع، فهو لا يتبدى بشكل مباشر وإنما من خلال الأشكال الثابتة التي تأخذ شكل علاقات). 
ومهمة علم الاجتماع تحديد أشكال العلاقات الاجتماعية وتجريدها، وهي الأشكال التي تتسم بدرجة من الاستقرار النسبي وتتخذ شكلاً نمطياً يتميَّز عن المضمون أو المحتوى الذي يخضع للتغير المستمر. وتحليل هذه الأشكال أو الصور تحليلاً مجرداً وتحويلها إلى إطار تفسيري هو ـ حسب رؤية زيميل ـ جوهر الدراسة الاجتماعية إذ يقتضي دراسة البناء الواقعي للمجتمع. 
وتتضمن صور التنظيم المتشابهة (الأشكال الثابتة) محتويات مختلفة توجهها مصالح متضاربة، بينما المصالح الاجتماعية المتشابهة (المحتويات) تتحقق في أشكال مختلفة تماماً عن التنظيمات 
وعلى سبيل المثال، نجد أن التفاعل داخل الأشكال الثنائية يختلف تماماً عن التفاعل داخل الأشكال الثلاثية، فالأشكال الثلاثية تسمح بتكوين إستراتيجيات مركبة للتحالف بغض النظر عن طبيعة المتحالفين الذين يشكلون المحتوى، أي أن من الممكن دراسة شكل التفاعل بدون الإشارة لمحتواه المتعيِّن، وهذا ما تعنيه عبارة «علم الاجتماع الشكلي»؛ إنه علم متجاوز للتعاقب التاريخي، ويركز على الأشكال الثابتة التي تتسم بقدر من التجاوز للزمان ولتنوع المحتوى، بمعنى أن شكلاً اجتماعياً ما يمكن دراسته من خلال محتويات (ظواهر) مختلفة منتقاة من مراحل تاريخية مختلفة. وقد كان زيميل مهتماً في المحل الأول بتحديد مهمة علم الاجتماع باعتبارها دراسة الصور الخاصة للمجتمع والأشكال أو الأنماط المتواترة له، مجردةً من محتوياتها المادية ومضامينها الخاصة. 
لكن هذا لا يعني أن الأشكال أصبحت من الأفكار الأفلاطونية الثابتة أو المطلقة، فالشكل (أو النمط أو البنية المجردة) لا وجود له خارج المحتوى الاجتماعي. وهو لا يُوجَد قط في حالة صافية، فالأشكال هي مفاهيم أو بنى تركيبية تحليلية تُضخِّم بعض جوانب الواقع لتُظهر شكل بعض العلاقات الخاصة في الواقع ولا تتحقق تحققاً كاملاً قط. ومع هذا، فلابد من استخدامها لفهم هذه العلاقات (وهي في هذا تشبه الأنماط أو النماذج المثالية عند فيبر). 
وبالفعل، رصد زيميل مجموعة من الصور أو الأشكال أو الأنماط الاجتماعية، ومن أهـم هـذه الأشـكال أو الأنماط الاجتماعية نمط «الغريب». فالغريب ليس مجرد متجول يأتي اليوم ويذهب غداً، لا دور ولا مكان له في البنية، وإنما الغريب هو على العكس شخص يأتي اليوم ويبقى غداً ويتم تثبيته داخل جماعة مكانية محددة وتتحدد صفته باعتباره شخصاً غير منتم. فالغريب هو عنصر في الجماعة ولكنه ليس جزءاً منها، ولذا فله دور محدَّد ليس بإمكان أعضاء الجماعة أنفسهم أن يلعبوه. وبسبب وضعه هذا، وبسبب علاقته الخاصة مع الجماعة، فإنه قادر على الوصول إلى درجة من الموضوعية لا يستطيع أعضاء الجماعة أن يصلوا إليها. 
والغريب باعتبار أنه غير منتم، لا يشعر بأي التزام جذري تجاه المكونات الفريدة للجماعة ولا يشعر بأي احترام خاص تجاه توجهاتها الخاصة. ولذا، فإنه ينظر لها بموضوعية. وعلاوة على هذا، ونظراً لقربه وبُعده في آن واحد، فإن أعضاء الجماعة يمكنهم أن يجعلوه موضع ثقتهم وأن يسروا له بأسرارهم، وهي أسرار لا يمكن أن يدلوا بها لأحد أعضاء الجماعة، ذلك لأن الغريب لا يشكل أي تهديد لهم إن هو اطلع على خباياهم. ولهذا كله، بإمكان الغريب أن يكون قاضياً موضوعياً ووسيطاً محايداً في عملية تبادل السلع والعواطف. إن الغريب ليس غريباً لأنه خارجي، وإنما هو غريب بسبب علاقات التفاعل التي تربطه بالمجتمع، فهو مخلوق اجتماعي ويجب عليه أن يلعب دوره. 
يتبع إن شاء الله...


الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية Empty
مُساهمةموضوع: رد: الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية   الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية Emptyالأربعاء 11 ديسمبر 2013, 10:42 pm

ومن الأشكال والأنماط الأخرى التي رصدها زيميل، نمط الأشكال الثنائية مقابل الأشكال الثلاثية، فالأشكال الثنائية لا تسمح للمشتركين في العلاقة بتجاوزها والوصول إلى مستوى موضوعي غير شخصي، ومن ثم لا تسمح بدرجة من القهر الخارجي البراني. ولكن غياب بنية موضوعية برانية في العلاقات الثنائية يؤدي إلى استيعاب المشتركين في علاقاتهم الثنائية هذه إذ أن العلاقة في كليتها تعتمد بشكل واضح وصريح على المشتركين فيها، ففي جميع أشكال العلاقات الأخرى يستطيع المشتركون فيها أن يفوضوا سلطاتهم وواجباتهم إلى طرف آخر. أما في العلاقة الثنائية، فإن كل شريك في العلاقة مسئول بشكل مباشر وشخصي وكامل عن كل شيء، كما لا يستطيع أي شريك أن يتملص من المسئولية ولا يمكنه إلقاء تبعة فشل ما على «المجموع» أو على «الكل» لأنه لا يتعامل إلا مع شخص واحد في إطار العلاقة الثنائية.
وحينما تتحول العلاقة الثنائية إلى علاقة ثلاثية، فإن ظهور العضو الثالث يُغيِّر العلاقة لا بشكل كمي وإنما بشكل كيفي. ففي العلاقة الثنائية يتم اتخاذ القرار من خلال الشخصية مباشرة، أما في العلاقة الثلاثية فبإمكان شخصين أن يتحالفا ضد الثالث ويسلبانه إرادته، والعلاقة الثلاثية أبسط العلاقات التي يصبح بإمكان الجماعة فيها أن تهيمن على أحد أعضائها، وهي تُجسِّد بشكل واضح جدلية العلاقة الاجتماعية: جدلية الحرية والقهر، والاستقلال وفقدانه. 
والعلاقة الثلاثية يمكن أن تُولِّد ثلاثة أدوار لا يمكن أن تولدها العلاقة الثنائية: دور الوسيط الذي يتوسط بين الاثنين، أو دور المستغل الذي يمكن أن يوظِّف الخلافات بين الآخرين لصالحه، وأخيراً دور المفرِّق الذي يُفرق بين الآخرين ليصبح سيد الموقف. 
ويُطبِّق زيميل هذه الأشكال الاجتماعية على ظواهر (محتويات) أو مواقف اجتماعية مختلفة. فيقارن بين التنافس الذي يتم بين رجلين على امرأة بأحداث كبرى مثل توازن القوى في أوربا، ويقارن إستراتيجيات أُم الزوج في تعاملها مع ابنها وزوجته بإستراتيجية روما في علاقتها بكلٍّ من أسبرطة وأثينا بعد أن هيمنت عليهما. 
ودراسة زيميل هذه، تبيِّن أن محاولة تفسير الظواهر الاجتماعية على أُسُس نفسية محاولة ساذجة، إذ أن بنية الموقف نفسه وشكله (ثنائي أو ثلاثي) يُولِّد أنماطاً من السلوك وحالات عقلية جديدة تماماً، رغم أن الأشخاص أنفسهم لم يتغيَّروا، فما تغيَّر هو الشكل أو البنية. وقد طبق زيميل المنهج نفسه على الجماعات الصغيرة والكبيرة، ففي الجماعات الصغيرة يستطيع الأفراد أن يتعاملوا الواحد مع الآخر مباشرة بينما في حالة الجماعات الكبيرة لابد من وجود ترتيبات شكلية موضوعية مؤسسية لا شخصية سابقة يتم من خلالها تنظيم العلاقات المركبة. ولذا، فإن الجماعات الكبيرة لابد أن يظهر فيها التفاوت. 
ويُلاحَظ أن درجة التزام الأعضاء وحماسهم في الجماعات الصغيرة يفوق كثيراً درجة التزام وحماس أعضاء الجماعات الكبيرة، كما أن عضو الجماعة الصغيرة ينخرط في نشاطه بكل شخصيته وكيانه، أما في الجماعات الكبيرة فهو ينخرط في نشاط ما بجانب واحد من شخصيته. ولكن، رغم موضوعية العلاقات في الجماعات الكبيرة وبرودها (بسبب انقسام شخصية المرء)، إلا أن وجود الفرد في الجماعة الكبيرة يحميه من الهيمنة المباشرة والتقييم المستمر والفحص الدائم، كما تتيح له الفرص تنمية جوانب من شخصيته قد لا يوافق عليها أعضاء الجماعة الكبيرة. 
وطبق زيميل كثيراً من مفاهيمه هذه على المجتمع الحديث، فالحضارة الحديثة تتجه نحو أن يتحقق للمرء مزيد من التحرر من العلاقات الاجتماعية ومن الاعتماد على الآخرين. ولكن هذه العملية ينتج عنها تزايد هيمنة المنتجات الحضارية التي صنعها الإنسان عليه. ففي المجتمعات البدائية يعيش الإنسان في دوائر اجتماعية ضيقة تحيط به وتستغرقه تماماً وتستوعب جماع شخصيته ويدين لها بالولاء. وكانت الهيمنة كاملة والتبعية كاملة، فالنبيل الإقطاعي لم يكن يهيمن سياسياً وحسب على الفلاح وإنما كان يهيمن عليه في كل المجالات الاقتصادية والقضائية والاجتماعية، وكان التنظيم الاجتماعي العام يأخذ شكل دوائر متداخلة بحيث تكون الدائرة الصغيرة جزءاً من دائرة أكبر. وهكذا، فإن القبيلة لا تتكون من أفراد وإنما من عائلات وأفخاذ وعشائر. 
أما طريقة التنظيم الاجتماعي الحديثة فمختلفة تماماً، فلا توجد دائرة واحدة تستوعب شخصية الإنسان في كليتها، إذ يجد الإنسان نفسه عضواً في عدة دوائر غير متداخلة، فيشعر بولاءات مختلفة، فيكون ولاؤه الديني منفصلاً عن ولائه الوطني، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الوعي بالذات. ولا توجد سلطة واحدة تهيمن على الشخصية إذ تهيمن عدة مراكز على بعض جوانب من الشخصية وكيانه الاجتماعي، وهو ما يترك له حيزاً ضخماً من الحرية. 
ويؤدي هذا إلى ظهور ما يُسميه زيميل «مأساة الحضارة»، فالإنسان يصل إلى الحضارة من خلال استيعاب القيم الحضارية التي تحيط به، ومن خلال استخدام تراث الحضارة الذي صنعته يداه. ولكن الإنسان يجد نفسه يواجه، وبشكل مستمر، عالماً من الأشياء الحضارية المتنوعة والمتعددة والمتجددة التي يجب عليه أن يستوعبها ويستبطنها، ولكنه يفشل في ذلك نظراً لتنوعها وتعددها وتجددها، ولذا فإنها تصبح بعد قليل غريبة عنه ومصدر خطر على هويته، بل على كينونته الإنسانية. 
ولذا، تكتسب هذه الأشياء بعد قليل سمة برانية وتواجه الإنسان (الذي صنعها) باعتبارها الآخر، إذ تصبح لها بالفعل حركتها المستقلة عنه. وهكذا يجد الإنسان الحديث أنه يزداد تقدماً وهيمنة على العالم وإنتاجاً لمزيد من السلع، ولكنه يجد نفسه نتيجة ذلك محاطاً بعالم من الأشياء التي تقهره وتهيمن عليه على حاجاته ورغبـاته لأنه لا يمكـنه اسـتيعابها ولا السـيطرة عــلى تراكمها أو تطوُّرها. فالتكنولوجيا تخلق منتجات لا ضرورة لها لتلبي احتياجات غير طبيعية، فهي نتيجة تطوُّر النشاط التكنولوجي في مسار مستقل، ويُولِّد العلم معرفةً لا ضرورة لها، معرفة لا قيمة متعينة لها، فهي نتيجة التطور المستقل للنشاط العلمي. 
وبالتدريج، تتشابك الأشياء الحضارية والمفاهيم التكنولوجية والعلمية وتصبح عالماً مستقلاًّ قائماً بذاته يفـقد صلته بالتدريـج بذات الإنسـان ورغـباته الأساسية. وهكذا، فرغم أن هذه الأشكال الحضارية ظهرت لتكون بمنزلة مكان الاستقرار الإنساني، فإنها تصبح سجناً له ( «سجن المستقبل» على حد قول زيميل). ولذا، يقول بعض مؤرخي علم الاجتماع الغربي إن زيميل هو مؤسس سوسيولوجيا ما بعد الحداثة، إذ أدرك أنها حضارة الوفرة وفائض السلع التي تفوق مقدرة الإنسان على هضمها واستيعابها، وأنها حضارة تطمح إلى التحكم في الواقع وتنتهي إلى العكس. 
وهذا هو الإطار الذي تدور فيه دراسة زيميل للنقود، فهو يرى أن ماركس أخطأ تماماً حينما تصوَّر أن النقود مقولة اقتصادية وحسب، ومن ثم أهمل سماتها الأخرى ووظائفها الرمزية. فالنقود مجردة وغير شخصية، ولذا فإن عملية التبادل التي تتم من خلال النقود مختلفة تماماً عن عملـية التبادل المباشـرة التي تتم من خلال المقايضـة. فالنقـود مجردة، ومن ثم فإنها تنمي الاتجاه نحو الحسابات الرشيدة الدقيقة، سواء في التبادل الاقتصادي أو في العلاقات الإنسانية. وهي طريقة تحويل الذاتي إلى موضوعي، والمباشر إلى غير مباشر، والمتعيِّن إلى مجرد، والخاص إلى عام. 
ولذا، حينما يسود الاقتصاد النقدي، نجد أن العلاقات الشخصية المغروسة في العواطف العامة تَضمُر وتذوي لتحل محلها علاقات غير شخصية محدَّدة بهدف محدَّد. ومن ثم تبدأ الحسابات المجردة تغزو كل مجالات الحياة الاجتماعية ويبدأ الإنسان في تحويل كل شيء إلى كم بما في ذلك رؤيته سمات الآخرين الكيفية وعلاقاته معهم. ومن ثم، فإن النقود هي الآلية الكبرى في تحويل الجماعة المترابطة (التراحمية أو التكافلية) إلى مجتمع تعاقدي، فهي تُقسِّم التجربة الإنسانية إلى ذرات مبعثرة فيتحوَّل الفرد إلى ذرة مستقلة ويتم تنميط كل أشكال الاختلاف ويتشيِّأ الوعي، وهي في النهاية تؤدي إلى ترشيد المجتمع والعلاقات الإنسانية. وقد بيَّن زيميل أيضاً أن ثمة ترابطاً بين تزايد استخدام النقود في المجتمع وتصاعد معدلات الترشيد وزيادة هيمنة المناهج العلمية والطبيعية في دراسة ظاهرة الإنسان. 
ويبدو أن زيميل، في نهاية حياته، قد أصابه الإعياء من عدم الانتماء ومن الوقوف على هامش الأشياء وحدودها، ولذا فإنه، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، ألقى بنفسه تماماً في أحضان القومية العضـوية الألمانية وكـتب يقـول: « إني أحـب ألمانيا، ولذا أريدها أن تبقى، والجحيم لكل التبريرات الموضوعية لإرادة الحياة هذه باسم الحضارة والأخلاق والتاريخ وخلافه ». وقد أخبر صديقه إرنست بلوخ أنه وجد المطلق في خنادق الحرب. وهكذا، فإن المفكر الذي طالما احتفظ بمسافة بينه وبين الظواهر والأشياء قرر فجأة أن يتجاوز كل المسافات ويسد كل الثغرات ويهتف مع الجماهير بحياة الفولك، وهي ذات الجماهير التي ستهتف بحياة الفوهرر بعد بضع سنوات. 
وقد ترك زيمـيل أثراً عـميقاً في كـثير من المفكرين وعلماء الاجتماع، من بينهم: جورج لوكاتش وإرنست بلوخ وماكس شيلر وكارل مانهايم وتيودور أدورنو وكل أعضاء مدرسة فرانكفورت ومارتن بوبر ومارتن هايدجر. وموضوعات زيميل هي نفسها موضوعات علم الاجتماع الألماني، ولعل أصوله اليهودية لا تظهر إلا في تركيزه على أنماط بعينها مثل نمط «الغريب». ومع هذا، يمكن القول بأن هذا النمط نمط أساسي ومركزي في الحضارة العلمانية الحديثة.
لودفيـج جومبلوفيـتش (1838-1909) 
Ludwig Gumplowicz 
عالم اجتماع يهودي من ممثلي الداروينية الاجتماعية. وُلد في جاليشيا حينما كانت تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية في وقت كان فيه الصراع العرْقي مسيطراً على المسرح السياسي، فكان يهود جاليشيا أنفسهم مقسمين إلى عدة أقسام أهمها: أنصار الثقافة الألمانية، وأنصار الثقافة البولندية. وقد اشترك جومبلوفيتش في التمرد البولندي ضد النمسا. درس جومبلوفيتش القانون في جامعة فيينا ثم عمل في جامعة جراتس الإقليمية في النمسا حتى وفاته، وتأثر بأعمال كونت وسبنسر وجوبينو. أما أهم مؤلفاته، فهي: العنصر والدولة (1875) ، و صراع الأجناس (1883) ، و موجز في علم الاجتماع (1885). 
كان جومبلوفيتش يرى ضرورة رَبْط علم الاجتماع بالميدان العام للعلم، إلا أنه كان يصر على أن الظواهر الاجتماعية تشكل طائفة متميزة بين جميع الظواهر الأخرى وأن علم الاجتماع هو العلم الذي يدرس هذه الظواهر، فهو علم المجتمع الإنساني والقوانين الاجتماعية وهو علم المجموعات البشرية وعلاقاتها المتبادلة. كما أن الفرد ليس له وجود بمعزل عن الجماعة، فالفرد إن هو إلا نتاج المجتمع، فالمجتمع أو الجماعة هي التي تفكر من خلال الفرد، والقول الذي يذهب إلى أن الإنسان يفكر كفرد إنما هو ضرب من الهذيان. ويذهب جومبلوفيتش بنزعته الداروينية إلى أن التطور (الثقافي والاجتماعي) هو نتاج خالص للصراع بين الجماعات الاجتماعية. فالإنسان مجموعة من الحاجات المادية وكل دوافعه مادية وأنانية، كما أن الظواهر الاجتماعية تحكمها قوانين عامة تعمل بطريقة مادية صرفة لا علاقة لها بالاعتبارات الدينية أو الأخلاقية ولابد من دراستها بالطرق العلمية. 
وعلم الاجتماع يرفض أية أحكام قيمية إذ أنها لا جدوى منها، والتطور الثقافي والاجتماعي نتاج خالص للصراع المادي بين الجماعات، والمجتمع إن هو إلا جماعات متصارعة يرتبط أعضاء كل منها بمصلحة مشتركة أو أكثر، ويتجه الناس الذين يشعرون بتقاربهم ويرتبطون بمصلحة أو مصالح مشتركة إلى أن يعملوا معاً بوصفهم وحدات تصارع من أجل السيطرة، ومن هنا تتشكل الجماعات ويظل الصراع حاداً لا يهدأ. وأهم أسباب الصراع رغبة البشر في تحسين أحوالهم الاقتصادية، ويذهب جومبلوفيتش إلى أن الجنس البشري لم يتطور من نوع إنساني واحد وإنما من عدة أنواع قديمة مختلفة ومتعددة في أماكن مختلفة وعصور مختلفة، ولذلك فليست هناك رابطة بين الأجناس (ومعنى هذا أنه لا يوجد جنس بشري واحد وإنما عدة أجناس مختلفة ذات أصول مختلفة). 
ويرى جومبلوفيتش أن الحروب في العصور القديمة كانت تنتهي بإبادة الجماعة المهزومة، ولكن الناس رأوا في عصور لاحقة أن من الأفضل لهم أن يستعبدوا المهزومين ويستغلوهم اقتصادياً، ولذلك ظهرت الدولة من خلال تسلط جماعة على أخرى بهذه الطريقة. ثم ازدادت حدة الصراع بسبب الرغبة المتأججة في الغزو بين الدول، كما ظهر بالإضافة إلى ذلك الصراع الطبقي داخل هذه الدول. ومع أن الطبقات المتصارعة تغيرت عبر التاريخ، وتغيرت أهدافها أيضاً، إلا أن الطبقة التي تحتل مركز القوة تدرك دائماً أنها تستطيع أن تحافظ بسهولة على سيطرتها وأن تُوسِّع نطاقها من خلال تأسيس نظم قانونية وسياسية تخدم مصلحتها. 
وكان جومبلوفيتش، شأنه شأن كثير من المفكرين الألمان في عصره (بما في ذلك الصهاينة)، يذهب إلى المطابقة بين الدولة والمجتمع، فالدولة أرقى أنواع الاجتماع الإنساني وتنمو من خلال صراع الجماعات بعضـها مع البعـض الآخر، وهي الإطار الأسـاسي للجماعة الإنسانية، وهي تُعبِّر عن إرادة الجماعة (كمجموعة من الأفراد لهم مصلحة مشتركة) في صراعها مع الجماعات الأخرى، والتاريخ الإنساني هو تاريخ ظهور الدول واختفائها.
وكانت رؤية جومبلوفيتش للتاريخ دائرية، فرغم إيمانه بالتطور لم ير أن هذا التطور سينتهي بالضرورة إلى تقدم الجنس البشري (فمثل هذا الجنس غير موجود بسبب الأصول المتعددة للأنواع البشرية). بل وكان يرى أن من المستحيل التخطيط للمستقبل أو تحسين حال البشر من خلال التخطيط الاجتماعي ودولة الرفاه، كما كان يرى أن فائدة علم الاجتماع تكمن في أنه سينقذ الجنس البشري من أن يُضيِّع وقته بلا جدوى في مشروعات طوباوية للإصلاح. 
وقضى جومبلوفيتش معظم حياته يُدرِّس القانون، ونظرياته في القانون ترتبط تماماً برؤيته الاجتماعية، فالقوانين تنمو من خلال صراع الطبقات والمصالح داخل الدولة الواحدة، وهي تتولد نتيجة الصراع وليست ثمرة تفكير رشيد، ولا يوجد قانون طبيعي كما كان يرى مفكرو الاستنارة إلا بمقدار ما يكون القانون نتاج طبيعة الإنسان والعمليات الاجتماعية. ولذا، لا يمكن تصنيف القوانين باعتبارها خيرة أو شريرة، عادلة أو ظالمة، فالقانون يهدف إلى مساعدة الطبقة المهيمنة على أن تستمر في استغلال الطبقات الأخرى. والعدالة لا تقرر الحقوق السياسية أو القانونية وإنما هي قيمة تَنتُج عن الصراع بين الطبقات الاجتماعية، والمنتصر هو الذي يحدد ما هي العدالة. 
ومن هنا، فإن مفهوم حقوق الإنسان التي لا تُمس يستند إلى تأليه غير منطقي للإنسان وتقدير زائد لقيمة حياة الإنسان وعدم فهم للأساس الوحيد للدولة. والحقوق لا تستند إلى العدالة، وإنما على العكس تظهر العدالة تعبيراً عن الحقوق السائدة في الدولة، فهي تجريد بسيط لما هو قائم. 
ويتَّسم فكر جومبلوفيتش بالعلمانية الصارمة التي طهرت النسق الفكري من أية غائية إنسانية أو أخلاقية والتي تنظر للكيان الاجتماعي باعتباره كياناً مادياً صرفاً يتحرك بالآليات المادية للصراع، ولا يمكن الحكم عليه بأي معيار خارج عنه، فهو لا يشير إلا إلى ذاته (ومعنى ذلك أن جومبلوفيتش يكتشف أن منطق مكيافيللي وهوبز وداروين هو الحقيقة الأساسية للمجتمع، ولعل هذا هو الذي دفعه إلى أن يكتب لصديقه هرتزل ليذكره بأنه لا يمكن تأسيس الدولة الصهيونية دون اللجوء للعنف والخديعة). 
وكان جومبلوفيتش مهتماً باليهود واليهودية، وله دراسة طويلة عن تاريخ الجماعة اليهودية في بولندا. وكان يؤمن بأن اليهود كيان غير تاريخي وليست لهم أرض مشتركة أو لغة مشتركة، وبالتالي لا تتـوافر فيهم مواصـفات القـومية، وتنبأ باختفائهم ككيان قومي مستقل. ومع هذا، لا يمكن تفسير فكر جومبلوفيتش بالعودة إلى يهوديته، وإنما يمكن تفسيره بالعودة إلى تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، خصوصاً في منتصف القرن التاسع عشر حين وصل الفكر الدارويني الإمبريالي إلى قمته. 
وفي آخر حياته، تنصَّر جومبلوفيتش. ولكن إيمانه الجديد لم يُجْده فتيلاً، ففي عام 1894 انتحر أحد أبنائه، وفي عام 1909 انتحر هو وزوجته. وكان جومبلوفيتـش مهـتماً بشـكل خــاص بالمؤرخ العربي ابن خلدون. وقد كتب ابنه ماكسيمليان جومبلوفيتش دراسة عام 1903 دافع فيها عن نظرية الأصول الخزرية ليهود اليديشية. 
ماكس هوركهـايمر (1895-1973) 
Max Horkheimer 
عالم اجتماع وفيلسوف ألماني يهودي، وأحد أهم أعضاء مدرسة فرانكفورت. وُلد في شتوتجارب ودرس الفلسفة وعلم الاجتماع في الجامعات الألمانية، وحصل على درجة الدكتوراه عام 1922 من جامعة فرانكفورت عن فلسفة كانط الذي ترك أثراً عميقاً في فكره. وتأثر هوركهايمر بفكر كلٍّ من ماركس ونيتشه وبرجسون وديلثي وفرويد. اشتغل بالتدريس في جامعة فرانكفورت عام 1930، وترأس معهد فرانكفورت للبحوث الاجتماعية عام 1931 الذي كان يهتم في بداية تأسيسه بالدراسات العمالية، خصوصاً تاريخ الطبقة العاملة في ألمانيا. ولكن هوركهايمر ساهم هو وأدورنو وليو لوينثال في إعادة توجيه سياسة المعهد واهتماماته البحثية بحيث بدأ يركز على الفلسفة الاجتماعية ونظرية النقد الاجتماعي. 
لكن المعهد لم يضع ضمن أولوياته الالتزام السياسي المباشر. وقد أصبح هوركهايمر مديراً للمعهد ومحرراً لمجلته التي بدأت في الصدور عام 1932 والتي نشرت مقالات لريمون آرون وإريك فروم وولتر بنجامين. وبعد مجيء النازي إلى الحكم، انتقل مقر المعهد إلى جنيف ثم إلى باريس، ثم انتقل إلى نيويورك حيث استقر هوركهايمر عام 1934. وفي عام 1939، كتب مقالاً تحت عنوان « اليهود وأوربا » اعتُبر محاولة جادة ومهمة لتفهُّم الفاشية ونزعة معاداة اليهود. وترأس هوركهايمر قسم البحوث للجنة الأمريكية اليهودية في الفترة بين عامي 1945 و1947، وأشرف على إصدار سلسلة من الدراسات الاجتماعية والنفسية تحت عنوان « دراسات في التحيز» كانت من أهم ثمراتها ذلك العمـل المهم الشخصية المتسلطة الذي كتبه تيودر أدورنو عام 1950. 
ويدور فكر هوركهايمر حول ما يُسميه الدور النقدي للنظرية، فالنظرية في تصوره تقوم دائماً بتوجيه النقد للأيديولوجيا لصالح المجتمع الحر العقلاني إذ أنها تأخذ موقف النفي من الواقع الاجتماعي القائم وتحاول أن تبلور الاحتياجات الكامنة لدى الجماهير والتي لا يتأتى لها الإفصاح عنها. فالفكر الأيديولوجي ليس منفصلاً عن الواقع الاجتماعي المادي، بل هو متواطئ دائماً مع المؤسسات الاجتماعية القمعية. وفي منظومة هوركهايمر، لم تَعُد البروليتاريا حاملة الفكر التقدمي بحكم موقفها من علاقات الإنتاج فهي الأخرى مُستوعَبة في النظام القائم ومُهيمَن عليها. وعلى هذا، فإن النظرية التعددية أصبحت الآلية الوحيدة تقريباً التي يمكن أن تكشف إمكانية الحرية والعقل في المجتمع الإنساني والتي يمكن عن طريقها الكشف عن أشكال الوعي الزائف. وبيَّن هوركهايمر في كتابه خسوف العقل (1947) أن الفلسفات الإجرائية (الوضعية ـ البرجماتية ـ العلمية) إن هي إلا تعبير عن العقل الأداتي ولا يمكنها أن تُوصِّل إلى الحقيقة أو القيمة أو العقل الحقيقي (العقل النقدي). 
وصدر لهوركهايمر، بالاشتراك مع أدورنو، كتاب جدل الاستنارة وهو نقد شـامل لفلسـفة الترشـيد المتزايد ورفض لفكرة التقدم. ويذهب المؤلفان إلى أن الترشيد المتزايد للعلاقات الاجتماعية في العصر الحديث أدَّى إلى تناقص استقلال الفرد وأدَّى في نهاية الأمر إلى الشمولية والعنصرية (خصوصاً معاداة اليهود). فالرأسمالية ترجمت مُثُل الاستنارة إلى واقع معسكرات الاعتقال. 
وأكد هوركهايمر أولوية الأخلاقيات على القضايا المعرفية أو الوجودية، وانتقد المنهج الوضعي للعلوم الاجتماعية ووجد أن النظرية أو العقل تُشكِّل مطلقاً يرفض أن يُرَّد إلى الإجراءات أو المادة ويحقق تجاوزاً للعملية التاريخية ذاتها، ولا شك في أن هذا تعبير عن نزعة التمركز حول الإنسان (الذات) التي تتصارع داخل الحضارة الغربية جنباً إلى جنب مع نزعة التمركز حول المادة (الموضوع). ولذا، فإننا نجد أنه مع حماسه للفكر الماركسي ينتقد التطبيق الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي ويهاجم وحشية ستالين. 
وقد عاد هوركهايمر إلى ألمانيا عام 1949 وأصبح أستاذاً في جامعة فرانكفورت، وأعاد تأسيس معهد البحوث الاجتماعية وترأسه حتى عام 1959، كما قام بالتدريس في جامعة شيكاغو. وقد ترك فكره أثراً عميقاً في جماعات اليسار الجديد في أوربا في الستينيات. ولا يمكن وضع فكر هوركهايمر في سياق ديني أو فكري يهودي، كما لا يمكن فهم توجهاته وحديثه عن الدور النقدي للنظرية إلا في إطار الفكر الألماني أو تطور الحضارة الغربية الحديثة. 
تيــودور أدورنــو
(1903-1969(Theodor Adorno 
عالم اجتماع ألماني وأهم مفكري مدرسة فرانكفورت. وُلد في فرانكفورت لأب يهودي وأم إيطالية كاثوليكية. واتخذ اسم والدته «أدورنو» بدلاً من اسم والده «فيزنجروند Wiesengrund» (وأصبح اسمه تيودور ف. أدورونو). درس الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الموسيقى. وفي عام 1931، اشتغل بالتدريس في جامعة فرانكفورت، كما ارتبط بشكل وثيق بمعهد البحوث الاجتماعية. وبعد صعود النازيين في ألمانيا إلى الحكم، هاجر إلى إنجلترا عام 1934 ثم إلى الولايات المتحدة عام 1938. 
وفي الفترة ما بين عامي 1941 و1948، شارك في رئاسة مشروع بحث في جامعة كاليفورنيا حول التمييز الاجتماعي. وأصدر خلال هذه الفترة عدة أعمال من أهمها جدل الاستنارة الذي أصدره بالاشتراك مع ماكس هوركهايمر عام 1947 ويُعَدُّ أهم أعمال مدرسة فرانكفورت، و فلسفة الموسيقى الجديدة (1949)، و الشخصية المتسلطة الذي كتبه أيضاً بالاشتراك مع عالم النفس الاجتماعي الأمريكي نفيث سانفورد عام 1950. 
وصدر هذا البحث الأخير تحت رعاية اللجنة الأمريكية اليهودية، فهو يتناول ظاهرة معاداة اليهود بالدرجة الأولى ويُعتبَر واحداً من أهم الدراسات التجريبية (الإمبريقية) في علم الاجتماع الحديث. ومـن مؤلفاته الأخرى دراساـت أخــلاقية صغيرة (1951)، و رطــانة الأصـالة (1964)، و ملاحظات عن الأدب (في جزأين 1958 و1969). وتتمحور هذه الأعمال وأغلب كتاباته الغزيرة الأخرى حول المشاكل الثقافية والاجتماعية ودور الفرد في المجتمع. وتأثر أدورنو بفكر هيجل وماركس وفرويد وزيميل، وتُعتبر نظريته حول المجتمع مزيجاً من أفكارهم ونظرياتهم. 
ويرى أدورنو أن ظهور العقل في عصر الاستنارة وتحرره من الأساطير لم يؤد بالضرورة إلى نتائج إيجابية، فقد تحول العقل نفسه إلى قوة غير عقلانية تسيطر على الطبيعة وعلى الإنسان، كما رأى أن المجتمعات الحديثة تطمس الفرد تماماً وأن البشرية في طريقها إلى شكل جديد من أشكال البربرية، وأن ما جرى في معسكرات الإبادة النازية لا يُعَدُّ انحـرافاً عن مسـيرة التاريـخ والمجتمع، وإنما هـو جزء عضـوي من « تقدمها نحو الجحيم ». وعلى عكس علم الاجتماع الأكاديمي التقليدي، أكد أدورنو أن الفاشية هي النتاج الطبيعي للرأسمالية، ولكنه في الوقت نفسه رفض جميع أشكال التسلط والديكتاتورية وانتقد بشدة نظام ستالين في الاتحاد السوفيتي وآمن بإمكانية إقامة مجتمع يستند إلى العدل والمساواة. 
ويُعَدُّ كتابه الجدل السلبي (1966) من أهم كتبه إذ يضم بعض أفكاره الكلية عن العصر الحديث والإنسان والكون، ويُعَدُّ كتابه النظرية الجمالية نظريته في الفن حيث يطرح تصوره بشأن استقلال العـمل الفني وفكرته القائلة بأن الأعمال الفنية الأصيلة تميل إلى «الكلية». ولذا، فالفن هو الذي يحيي الحق ويمثل دور المعارضة الحقيقية والدعوة إلى الانعتاق في « حضارة الصناعة ». 
وقد عاد أدورنو إلى ألمانيا عام 1953، وأصبح أستاذاً في علم الاجتماع في جامعة فرانكفورت ثم رئيساً لمعهد البحوث الاجتماعية، ولاقت فلسفته قبولاً كبيراً لدى التيار اليساري الراديكالي بين الشباب الألماني، ولكنه هوجم فيما بعد بسبب انتقاده لاستخدام العنف. وتُوفي أدورنو في سويسرا عام 1969. 
ويرد اسم أدورنو في كثير من المعاجم والموسوعات اليهودية باعتباره يهودياً مع أنه وُلد لأم كاثوليكية، ومن ثم فهو ليس يهودياً من منظور الشرع اليهودي، كما أنه أسقط اسم والده بسبب نبرته اليهودية الفاقعة. أما من منظور الرؤية فرؤيته تعود إلى التقاليد النقدية الفلسفية الألمانية وإلى نقد حركة الاستنارة والترشيد الذي يُعَدُّ موضوعاً أساسياً فيها. وهو عضو في مدرسة فرانكفورت التي تضم عدداً من المفكرين ذوي الأصول اليهودية والمسيحية، ولا تظهر الموضوعات اليهودية في كتابات هؤلاء المفكرين مثل موضوع الإبادة النازية ليهود غرب أوربا إلا باعتبارها تعبيراً عن شيء مهم وجوهري ووحشي في الحضارة الغربية الحديثة. 
أدورنــــو وهوركهــــايمر والمســـألة اليهوديـــة 
Adorno and Horkheimer on the Jewish Question 
كان اهتمام هوركهايمر وأدورنو باليهود واليهودية كبيراً، ولكنه لم يكن مركزياً، إذ ينبع من اهتمامهم العميق بقضية أشمل هي قضية القمع والتسلط (التي تشكل الانشغال الأساسي بالنسبة لهما). فالعداء لليهود ليس ظاهرة مستقلة من وجهة نظرهما، وإنما هو جزء من التعصب ضد الأقليات والعداء للديموقراطية على وجه العموم، والعداء للرأسمالية في بعض الأحيان، فاليهودي لا يسقط ضحية عداء خاص موجَّه نحوه هو بالذات (ومع هذا يوجد في كتاب الشخصية التسلطية مقياسان واحد لقياس التسلطية، وآخر لقياس درجة العداء لليهود). 
وظاهرة القمع ذاتها مرتبطة في فكر هوكهايمر وأدورونو بالعقل الأداتي وبرغبة الإنسان الغربي في السيطرة على الطبيعة، بل إن الحضارة بالنسبة للإنسان الغربي إن هي إلا طقوس الهيمنة الكاملة على الطبيعة، ولذا فهي في واقع الأمر ليست حضارة وإنما مدنية وحسب. ويربط أدورنو وهوركهايمر بين العداء لليهود من جهة والعقل الأداتي من جهة أخرى، أي أن ظاهرة العداء لليهود تخرج من نطاق الاقتصادي والسياسي، لتدخل نطاق المعرفي والحضاري. والعقل الأداتي عقل يود السيطرة الكاملة على الطبيعة، وهو اتجاه يتصاعد مع الفاشية. ولكن هذه الرغبة في السيطرة غير المحدودة تُولِّد عند صاحبها إحساساً بالذنب، ولذا فالفاشي يُسقط طموحه وطمعه على اليهودي فيحوّله إلى الباحث عن السيطرة الكاملة. 
ولكن هوركهايمر وأدورنو لا يكتفيان بهذا التفسير بل يتعمقان في تحليل الظاهرة. فهما يذهبان إلى أن من يحاول السيطرة على الطبيعة لا يرى سوى القوة، ولذا فصورة السعادة بلا قوة أو سلطة أو هيمنة تستفزه إلى درجة لا يمكنه تحملها، لأن مثل هذه السعادة ستكون سعادة حقيقية (على عكس السعادة الزائفة التي تستند إلى القوة). واليهود ـ حسب رأي هوركهايمر وأدورنو ـ يتمتعون بسعادة لا تستند إلى أية قوة أو سلطة. بل يتم خلط اليهود بالطبيعة ذاتها في الوجدان الغربي فهم يتقاضون أجوراً بلا عمل (الربا)، ولهم منزل ووطن بلا حدود (التلمود)، ولهم دين بلا أساطير. ولكن المفارقة الكبرى تكمن في أن اليهودي رمز الطبيعة هو أيضاً رمز المدنية في الوجدان الغربي، والمدنية معادية للطبيعة. 
فاليهودي مرتبط دائماً بعمليات الريادة والتقدم والهيمنة على الطبيعة. ولذا حينما تمردت الطبيعة على الحضارة (أي المدنية) كما حدث مع ظهور اللاعقلانية في الغرب، أصبح اليهود موضع الكره. فالفاشية تجعل الثورة ضد قمع الطبيعة آلية لقمع الطبيعة. وهكذا تمت التضحية باليهود الذين كانوا آلية الهيمنة على الطبيعة، من أجل آلية أكثر شمولاً للهيمنة علىها. إن هوركهايمر وأدورنو يذهبان إلى أن ظاهرة العداء لليهود ليست انحرافاً عن مسار الحضارة الغربية فهي مرتبطة بظهور العقل الأداتي الذي لا يضطهد اليهود وحسب بل كل البشر والطبيعة بأسرها، ولذا فإن إنهاء ظاهرة العداء لليهود لن يتحقق إلا مع محاولة قمع الطبيعة ذاتها. 
ولكن بعد عام 1947 وبعد سقوط هتلر أضاف هوركهايمر وأدورنو بُعداً جديداً لإدراكهما لظاهرة العداء لليهود. فقد أصبحا يريان أن العداء لليهود ليس مرتبطاً بالعقل الأداتي وحسب، وإنما مرتبط بالعقلية الاختزالية " عقلية التذاكر" ككل. والفكر الفاشي (في تصورهما) ليس مهماً في ذاته، وإنما تعود أهميته إلى أنه تعبير عن هذه العقلية التي تتَّسم بالإسقاط الزائف ومحاولة إلغاء الموضوع تماماً وتصفية الآخر. فمعاداة اليهود متجذرة في اتجاه العقل الغربي نحو إنكار ما ليس شبيهاً لي (الآخر) والذي يُشجِّع نزوع الحضارة الغربية الشمولي إلى الهيمنة. واليهود بهذا المعنى برفضهم أن يندمجوا في هذه الحضارة يشكلون عقبة أمام عملية دمج البشر وإدخالهم شبكة السببية والهيمنة والإدارة الرشيدة حتى يصبح المجتمع الإنساني مجتمعاً ذا بُعد واحد. 
ثم بدأ هوركهايمر يحاول تفسير بعض جوانب فكره ورؤيته للكون بالعودة لبعض العناصر الأساسية في العقيدة اليهودية. فصرح بأن رفض مدرسة فرانكفورت أن تصف المجتمع المثالي هو المعادل الحديث للحظر اليهودي القديم على النطق باسم الإله. وفي محاولة للتفرقة بين فكره وفكر ماركس، يرى هوركهايمر أن ماركس تأثر بالمشيحانية اليهودية (التي تركز كثيراً على فكرة المجتمع الطوباوي). أما هو فيرى أنه تأثر بتحريم تصوير الإله، ولكن رغم هذا التحريم يظل الإله محل التطلع والتشوق. 
إن ما يحاول هوركهايمر قوله هنا أن فكر مدرسة فرانكفورت لم تسقط في عقلية نهاية التاريخ المشيحانية على طريقة ماركس، بل احتفظ بالنسق مفتوحاً وبالتجاوز حقيقة لا نهائية. وهو يرى أن ذلك هو الترجمة العلمانية لبعض المفاهيم اليهودية (مثل تحريم نطق اسم الإله وتحريم تصويره). وإذا أردنا ترجمة هذا المصطلح شبه الديني إلى مصطلحنا الفلسفي لقلنا إنه بينما ورث ماركس الحلولية اليهودية والنزعة نحو التجسد فيها، فقد ورث هوركهايمر النزعة التوحيدية اليهودية التي ترى الإله منزَّهاً عن المادة (الطبيعة والتاريخ) لذا لا يمكن أن يتجسد الإله وينتهي التاريخ، وينغلق الجدل وينتهي التجاوز. ويرى هوركهايمر أن اليهود في علاقتهم بالبشر يمثلون عنصر النفي (بالمعنى الفلسفي) وهو ظاهرة صحية إيجابية، فبدون هذا النفي يصل التاريخ إلى نهايته وتسود الشمولية. 
وتطوُّر موقف هوركهايمر من اليهود هو تعبير عن تطور موقفه من الماركسية. فقد انتقل من الإيمان بالبروليتاريا كآلية استرجاع الكل، إلى الإيمان بأن أكثر ما يمكن أن يؤمل فيه الإنسان هو الاحتفاظ بجيوب من النفي، ومن ثم تزايَد اهتمامه باليهود وبالمسألة اليهودية وبالعقيدة اليهودية. ومن هذا المنظور أصبح المفكر صاحب العقل النقدي (مقابل العقل الأداتي) هو اليهودي الذي يرفض أن يُستوعَب في آليات المجتمع وأصبحت معاداة اليهود تعبيراً عن تلك الاتجاهات في المجتمعات التي تنحو نحو الشمولية والسيطرة على الطبيعة والإنسان. 
لكل هذا كانت استجابة هوركهايمر لتأسيس الدولة الصهيونية مبهمة للغاية، فاليهود بعد أن كانوا جيباً من جيوب النفي الأساسية ورمزاً للأمل في تحقيق العدل في نهاية الزمان تحولوا إلى مجرد أمة مثل كل الأمم لها دولة قوية يتبعها جيشٌ له قياداته العسكرية وأصبحت تتبعها صناديق الجباية الخاصة بها (أي أن هوركهايمر كان يرى، شأنه في هذا شأن روزنزفايج أن اليهود " شعب غير تاريخي" وأن دخوله التاريخ ومعترك السياسة هو تصفية لهويته اللاتاريخية هذه!). 
إن الصهيونية في تصور هوركهايمر تعبير عن عدم الإيمان بالتعددية السياسية والثقافية، فإسرائيل مجرد دولة، قد تكون دولة مُضطهَدة تأوي المضطهدين ولكنها مع هذا ليست صهيون التي وردت في العهد القديم حيث يعيش كل الأتقياء من كل الشعوب في سلام. 
ريمـــــون آرون (1905-1982) 
Raymond Aron 
عالم اجتماع وفيلسوف وكاتب فرنسي بارز. وُلد في باريس لعائلة فرنسية بورجوازية من المثقفين. ويُعتبر آرون ممثلاً لجيل المفكرين والسـياسيين الفرنسـيين اليهود، من أمثال ليون بلوم وبيير منديس فرانس، الذين عبَّرت أفكارهم وسياستهم عن التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة داخل المجتمع الفرنسي بصفة خاصة والمجتمع الأوربي الأوسع بصفة عامة، والذين تحددت علاقتهم باليهودية ومواقفهم تجاه إسرائيل من خلال انتمائهم الفرنسي والأوربي بالدرجة الأولى. 
تخرَّج آرون في مدرسة المعلمين العليا عام 1928، ثم قام بالتدريس في جامعات ألمانية وفرنسية. وعُيِّن عام 1955، أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة السوربون، وفي عام 1960 عُيِّن مديراً للدراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس. وخلال الحرب العالمية الثانية، عمل آرون مديراً لتحرير جريدة فرانس ليبر التي كانت تصدر في إنجلترا، واستمر في نشاطه الصحفي بعد الحرب حيث سـاهم، سواء بكتاباته أو بوصفه مديراً للتحرير، في الفيجارو، و الإكسبرس ، و المجلة الأوربية لعلم الاجتماع وغير ذلك من الدوريات. وتأثر آرون بالمفكرين الفينومولوجيين وبعلم الاجتماع الألماني (خصوصاً نظريات ماكس فيبر). 
ويدور فكر آرون حول فكرة رئيسية: نفى ما هو خارج الوجود المادي أو ما يقع وراء نطاق الخبرة أو المعرفة، أي رفض أي تسام أو تجاوز، بما في ذلك ما يُسمَّى «الديانات العلمانية»، وهي الأيديولوجيات التي تطرح إمكانية أن يتجاوز الانسان الواقع المادي من خلال الإيمان بمطلق ما يوجد داخل الطبيعة مثل التقدم وحتميته. ومن ثم نجده يرفض أي نوع من الحتمية ويتبنى بدلاً من ذلك مفهوماً للتاريخ لا يخضع للقوانين ولكنه نتاج مزيج من الصدفة والضرورة. 
وقد اهتم آرون بصفة خاصة بالمجتمع الصناعي الحديث، واعتبر أن العامل الرئيسي في تحديد وتفسير حركيات هذه المجتمعات ليس الصراع الطبقي بقدر ما هو الصراع والتنافس بين النظم السياسية. كما بيَّن وجود سمات مشتركة بين كل المجتمعات الصناعية تعود كلها إلى التكنولوجيا لا الأيديولوجيا وتنبع من روح الإبداع والتقدم التي تسود المجتمع الصناعي والتنظيم البيروقراطي الرشيد. ولذا، فهو من دعاة نظرية التلاقي، أي أن المجتمعات الصناعية (رأسمالية كانت أم اشتراكية) ستلتقي في نهاية الأمر. 
وكان آرون من كبار دعاة الحرب الباردة. ففي الخمسينيات، تناول موضوع الحرب في العصر الحديث وأشار إلى أن عملية توازن الرعب قد قوَّضت رغبة الكثيرين في أن يفكروا في الحرب. فالحرب جزء من الحياة اليومية، وهي تصوغ المجتمع تماماً مثل الصناعة، ويجب أخذها جدياً في الاعتبار عند صياغة السياسة حتى ولو أدَّت هذه السياسة إلى هولوكوست نووية تنتج عنها إبادة الجنس البشري. وإن أحجم الإنسان عن مثل هذا التفكير وعن تقبُّل نتائجه فقد تخلى عن العقل الإنساني وعن مقدرته على التحكم في مصائرنا. وتناول آرون في كتاباته العديدة أيضاً العلاقات الدولية، وتناقضات الديموقراطية، والعلاقة الجدلية بين الديموقراطية والشمولية. 
وأكد آرون انتماءه للثقافة والفكر والمجتمع الفرنسي كبُعد أساسي من أبعاد شخصيته وهويته. أما اليهودية، فلم تكن سوى رمز احتفظ به تعبيراً عن أصوله وجذوره العائلية دون نفيها. ورفض آرون مفهوم الشعب اليهودي واعتبر أن اليهود شكلوا على مر التاريخ جماعات متفرقة لا تجمعهم أرض أو لغة أو نظام سياسي واحد وأن ما يربطهم هو العقيدة والشعائر والممارسات الدينية. واعتبر أن ميلاد الصهيونية، ومن ثم إسرائيل، ارتبط بظهور القومية في المجتمع الأوربي الحديث في القرن التاسع عشر، وما صاحب ذلك من اتجاهات للاندماج ومعاداة اليهود. كما اعتبر أن ميلاد الصهيونية انعكاس لمدى قوة الأسطورة في التاريخ. 
ونبعت مواقفه من قضايا الشرق الأوسط من رؤيته الغربية للأمور، ومن منطلق المصالح الفرنسية والغربية، أي أنها تخلو من أية أبعاد يهودية خاصة. وقد بدأ اهتمامه بالصراع العربي الإسرائيلي عام 1956 بعد أن ارتبط بالصراع بين الشرق والغرب، فأدان العدوان الثلاثي على مصر، كما أيَّد استقلال الجزائر إلا أنه أيَّد التحالف الإسرائيلي الفرنسي، وتضامن مع إسرائيل خلال حرب 1967 وكتب سلسلة من المقالات بعنوان ديجول وإسرائيل واليهود انتقد فيها إدانة ديجول لإسرائيل عقب حرب 1967 واعتبرها مثيرة ومشجعة للعناصر المعادية لليهود في المجتمع الفرنسي. إلا أنه حذر من استمرار احتلال إسرائيل للأراضي العربية باعتبار أن ذلك سيؤدي حتماً إلى حرب جديدة، مثلما حدث بالفعل عام 1973. 
دانيــال بــل (1919-) 
Daniel Bell 
عالم اجتماع أمريكي يهودي، وُلد في نيويورك، وتلقَّى فيها تعليمه. درَّس في العديد من الجامعات والمعاهد الأمريكية، وترأس تحرير عدد من المجلات العلمية الليبرالية مثل دايدالوس، و ناشيونال إنترست أي الصالح العام. ويُعَدُّ بل من أهم علماء الاجتماع الأمريكيين. وقد كتب العديد من الدراسات، وأظهر في كتاباته الأولى اهتماماً خاصاً بمسائل العمال والرأسمالية الأمريكية إذ حذر من احتمال أن تقوم الاحتكارات بالهيمنة على المجتمع الأمريكي بل وحذر من الحكومة نفسها، خصوصاً إذا ما أصبح قطاع اقتصاد الحرب قطاعاً ثابتاً. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصدر بل عدة كتب تتَّسم بأنها مشبعة بروح التفاؤل بشأن المستقبل الديموقراطي للمجتمع إذ كان يرى أن المجتمع الأمريكي مجتمع مركب للغاية، ويختلف عن المجتمعات الغربية في العالم القديم، وتسود فيه روح شعبوية (شعبية) وعداء متأصل للتجريد الفكري. وذهب بل إلى أن هذه كلها ضمانات أكيدة ضد الشمولية، وأن منطق المجتمع الحديث الشمولي ومؤسساته الاقتصادية البيروقراطية لن تسود في الولايات المتحدة. 
وفي عام 1960، ظهرت أهم أعمال بل وهو نهاية الأيديولوجيا وهو عبارة عن مجموعة من المقالات كتبها عبر عدة سنوات، دعا فيها إلى ظهور علم اجتماع جديد ونظرية اجتماعية جديدة أكثر برجماتية إذ ينبغي على المثقفين ألا يقبلوا أيديولوجيات الستينيات بل عليهم أن يدركوا أهمية دور جماعات المصالح وطبيعة المساومة والإجماع في المجتمع الليبرالي. 
وبل من دعاة نظرية التلاقي، أي أن المجتمعين الرأسمالي والاشتراكي هما في نهاية الأمر مجتمع صناعي واحد، ولذا فإن هناك سمات حضارية مشتركة بين المجتمعات، ومن ثم فإن طبيعة تطورهما ستؤدي بهما إلى التلاقي أو التماثل. وهو بالتالي من دعاة دولة الرفاه الرأسمالية التي ستقوم بالاستعانة بخبرة المتخصصين (التكنوقراط) لاكتشاف أحسن السبل لإدارة المجتمع ولحسم الصراعات بين جماعات المصالح المختلفة دون أية أعباء أيديولوجية تثقل كاهلها أو وعيها. وهذه مسألة ـ في تصوره ـ ليست عسيرة إذ أن الصراعات الطبقية والعرْقية ليست بالعمق الذي تُصوِّره نظريات الصراع المختلفة. وكان بل مؤمناً تماماً بأن المجتمع ما بعد الصناعي سينجح في التغلب على التوترات الاجتماعية وفي الإبقاء على المجتمعات الشمولية. ويُعتبَر كتابه ما بعد الأيديولوجيا من أول الكتب التي بشرت بظهور عصر البعديات في الحضارة الغربية (ما بعد التاريخ ـ مابعد الإنسانية ـ مابعد الحداثة). 
ولكن، مع نهاية الستينيات، عزف بل نغمة أخرى تماماً في كتابه ظهور المجتمع ما بعد الصناعي (1973)، وفي كتابه تناقضات الرأسمالية الحضارية، إذ بيَّن أن ثمة تآكلاً في المنظومة القيمية في المجتمع الرأسمالي (أخلاقيات العمل ـ إرجاء الإشباع ـ الإحساس بالرسـالة وبالمســئولية الاجتماعية) التي كانت مصدر تماسـكه في الماضي. فالنظام السياسي في المجتمع الرأسمالي في الوقت الحاضر يدور حول مجموعة من المصالح المتضاربة، ويشعر الأفراد بنهم لا يمكن إشباعه، ومع هذا فإنهم يصرون على حقهم في الإشباع (وهذا ما نسميه تصاعد معدلات الترشيد والعلمنة). 
والمجتمع التكنولوجي هو مجتمع الإنتاج الرشيد الذي يكافئ من يساهمون في العملية الإنتاجية الرشيدة، ومثل هذا المجتمع الذي تم ترشيده يبتعد بالأفراد تدريجياً عن عالَم السياسة (العام) الذي يوازن عالَم المصالح (الخاص). كما أن عزلة الفنون تساهم بشكل أعمق في هذا الاتجاه، ولذا كان بل يذهب إلى أن الثقافة الحداثية ثقافة معادية للإنسان ومضمونها السياسي تافه. وعلى هذا النحو، فقد انضم بل إلى زمرة المثقفين الذين يدركون أزمة المجتمع الحديث وأنه لا مخرج منها، ومن ثم فقد تفاؤله القديم.


الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الباب الرابع عشر: علماء النفس من أعضاء الجماعات اليهودية
» الباب السادس: هجرات وانتشار أعضاء الجماعات اليهودية
» الباب الثامن: رأسماليون من أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة
» الباب السادس: إشكالية التعاون بين أعضاء الجماعات اليهودية والنازيين
» الباب السابع: رأسماليون من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم (ما عدا الولايات المتحدة)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: الـثـقــافـــــــــة والإعـــــــــلام :: مـوسـوعة الـيـهـــود-
انتقل الى: