بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمد وآله
ذكر الأمثال في صنوف الجبن وأنواعه
باب ذكر المثل في الجبان وما يذم من أخلاقه:
قال هشام بن الكلبي: من أمثالهم في الجبن: إنَّ الجبان حتفه من فوقه.
قال أبن الكلبي: وأوّل من قاله عمرو بن أمامة في شعر له، وكانت مراد قتلته فقال هذا الشعر عند ذلك ويحكى عن المفضل أنه كان يخبر بحديثه أيضاً وزاد فيه قال: وكان الذي ولي قتله أبن الجعيد، فغزاهم عمرو بن هند طالباً بثأر أخيه فظفر بهم، وأتي بابن الجعيد، فلما رآه قال: بسلاح ما يقتلن القتيل.
فأرسلها مثلاً، قال أبو عبيد: وأما قول عمرو بن أمامة " إنَّ الجبان حتفه من فوقه " فإنَّ أوّله:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ..، إنَّ الجبان حتفه من فوقه
احسبه أراد أنَّ حذره وجبنه ليس بدافع عنه المنية إذا نزل به قدر الله، قال أبو عبيد: وهذا شبيه المعنى بالذي يحدث به عن خالد بن الوليد، فانه قال عند موته: "لقد لقيت كذا وكذا زحفاً وما في جسدي موضع شبر إلاّ وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، ثم هاأنذا أموت حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء " قال أبو عبيد: يقول: فما لهم يجبنون عن القتال ولم أمت أنا به، إنّما أموت بأجلي، ومنه الشعر الذي تمثل به سعد بن معاذ يوم الخندق:
لبث قليلاً يلحق الهيجا حمل ..، ما أحسن الموت إذا حان الأجل
و كذلك قول الأعشى:
أبالموت خشتني عباد وإنّما ..، رأيت منايا الناس يسعى دليلها
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في عيب الجبان قولهم: كل أزب نفور.
أخبرني بعضهم أنَّ المثل لزهير بن جذيمة العبسي، وذلك أنَّ خالد بن جعفر بن كلاب كان يطلبه بذحلٍ، فكان زهير يوماً في إبل له يهنوها ومعه أخوه أسيد بن جذيمة فرأى اسيد خالد بن جعفر قد أقبل ومعه أصحابه، فأخبر زهيراً بمكانهم، فقال له زهير: "كأنَّ أزب نفور " وإنّما قال له هذا لأنَّ أسيداً كان أشعر، فقال: إنّما يكون نفار الأزب من الإبل لكثرة شعره، يكون ذلك على عينيه، فكلما رآه ظن أنه شخص يطلبه فينفر من أجله، ومن أمثالهم في الجبن قولهم: عصا الجبان أطول.
قال أبو عبيد: واحسبه إنّما يفعل هذا لأنّه من فشله يرى أنَّ طولها أشد ترهيباً لعدوه من قصرها، وقد عاب خالد بن الوليد من الإفراط في الاحتراس نحو هذا وذلك يوم اليمامة، لمّا دنا منها خرج إليه أهلها من بني حنيفة، فرآهم خالد قد جردوا السيوف قبل الدنو، فقال لأصحابه: "ابشروا فإنَّ هذا فشل منهم " فسمعها مجاعة بن مرة الحنفي، وكان موثقاً في حبسه فقال: كلا أيها الأمير، ولكنها الهندوانية، وهذه غداة باردة، فخشوا تحمها، فأخرجوها للشمس لتلين متونها، فلما تدنى القوم قالوا له: إنا نعتذر إليك يا خالد من تجريد سيوفنا، ثم ذكروا مثل كلام مجاعة.

باب فرار الجبان وخضوعه واستكانته:
قال أبو زَيد: من أمثالهم في هذا قولهم: روغي جعار وانظري أين المفر.
قال: وجعار هي الضبع.
قال الأصمعي: ومنه قولهم: بصبص إذ حدين بالأذناب.
قال: وكذلك قولهم: دردب لمّا عضه الثقاف.
وكذلك قولهم: و دق العير إلى الماء.
كل هذه الثلاثة عن الأصمعي، وقال أبو عبيد في مثل هذا: كرهت الخنازير الحميم الموغر.
قال: واصله أنَّ النصراني يغلي الماء للخنازير فيلقيها فيه لتنضج، فذلك هو الإغار، قال أبو عبيد: ومنه قال الشاعر:
ولق رأيت فوارساً من قومنا ..، غنظوك غنظ جرادة العيارِ
ولق رأيت مكانهم فكرهتهم ..، ككراهة الخنزير للإغارِ
قال: والغنظ أن يبلغ الركب منه مبلغا يشرف منه على الموت.
قال أبو عبيد: ومثله: حال الجريض دون القريض.
ز هذا المثل لعبيد بن الأبرص، قاله للمنذر حين أراد قتله، فقال له: أنشدني قولك: "أقفر من أهله ملحوب " فقال غبيد عند ذلك: "حال الجريض دون القريض " والجريض هو الغصص قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في الجبان يشتد فزعه: قد اقشعرت منه تاذوائب.
وبعضهم يقول: "الدوائر" ويقال: قد قف منه شعره.
إذا قام من الفزع، قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا: قد كاد يشرق بالريق إذا لم يقدر على الكلام من الرعب والهيبة.

باب إفلات الجبان وغيره من الكرب بعد الإشفاء عليه:
قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم: أفلت وانحص الذنب.
ويروى هذا المثل عن معاوية أنّه أرسل رجلاً من غسان الذي ملك الروم، وجعل له ثلاث ديات على أن ينادى بالأذان إذا دخل عليه، ففعل ذلك الغساني وعند ملك الروم بطاريقته، فوثبوا إليه ليقتلوه، فنهاهم ملكهم وقال: كنت أظن لكم عقولا، إنما أراد معاوية أن اقتل هذا غدراً وهو رسول، فيفعل مثل ذلك بكل مستأمن منا، ويهدم كل كنيسة عنده، فجهزوه وأكرموه وردوه، فلما رآه معاوية قال له: "أفلت وانحص الذنب " فقال: كلا، أنّه لبهلبه، ثم حدثه بالحديث فقال معاوية: لقد أصاب، ما أردت إلاّ الذي قال، ومن أمثالهم في هذا: أفلت وله حصاص.
وهو الذي يروى في الحديث " أنَّ الشيطان إذا سمع الأذان أدبر وله حصاص " وقد فسرناه في غريب الحديث، وقال أبو زَيد: ومن هذا قولهم: أفلتني جريعة الذقن.
إذا كان منه قريباً كقرب الجرعة من الذقن، ثم أفته قال الأصمعي: وإذا أرادوا أنه نفر فلم يعد قالوا: ضرب في جهازه.
قال: واصله في البعير يسقط عن ظهره القتت بأداته فيقع بين قوائمه فينفر منه حتى يذهب في الأرض.

باب الجبان يتوعد صاحبه بالإقدام عليه ثم لا يفعل:
قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا قولهم: الصدق ينبي عنك لا الوعيد.
يقول: إنَّ صدقك في الأمور واللقاء هو الذي يدفع عنك عدوك، لا المقال من غير فعل، قال: وقوله: "ينبي " ليس بمهموز، لأنّه من: نبا الشيء ينبو، وقد أنبيته عني، دفهته، قال الأصمعي: ومثله قولهم: أسمع جعجعة ولا أرى طحناً.
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم المشهورة قولهم: أوسعتهم سباً وأودوا بالإبل.
أي ليس على عدوك منك ضرر أكثر من الوعيد بلا حقيقة، وهذا المثل فيما يقال لكعب بن زهير ، قاله لأبيه، وكانت بنو أسد أغارت على إبله، فهجاهم وتوعدهم، ومن هذا قولهم: محا السيف ما قال أبن دارة أجمعا.
قال أبو عبيد: وهو سالم بن دارة من بني عبد الله أبن غطفان، وكان هجا بعض بني فزارة ففتك به بعضهم، فضربه بسيفه فقتله، فقيل فيه هذا المثل يقول: إنَّ الحقيقة إنّما هي بالفعل لا بالقول، قال الأصمعي: ومن أمثالهم في هذا قولهم: حلبت حلبتها ثم أقلعت.
يضرب للرجل يجلب ويصخب ساعة ثم يسكت من غير أن يكون منه في ذلك أكثر من القول، قال الأصمعي: ومن أمثالهم في توعد الرجل صاحبه وهو عيف أن يقال له: لا تبق إلاّ على نفسك.
يقول: اجهد جهدك، قال أبو عبيد: والعامة تقول في مثل هذا: لا أبقى الله عليك إن أبقيت.

باب تخويف الجبان وإجابته عند أعاده:
قال الأصمعي: من أمثالهم في تخويف الرجل صاحبه وتوعده وهو يعرفه بغير ذلك قولهم: برقي لمن لا يعرفك، وقال أبو زَيد مثله إلاّ أنه قاله بالتذكير " برق لمن لا يعرفك " وقال أبو عبيد: وإذا أرادوا أن يأمروا بالتبريق قيل: خش ذؤالة بالحبالة.
قال الأصمعي: ومن أمثالهم في هذا قولهم: جاءنا ينفض مرويه.
أي يتوعد ويتهدد، قال أبو عبيد: وهذا المثل يروى عن الحسن البصري، قال في بعض أولئك الذين كانوا يطلبون الملك والمذروان: فرغا الأليتين، ولا يكاد يقال هذا إلاّ لمن يتههد من غير حقيقة، قال الأصمعي: ومن أمثالهم في نحو هذا قولهم: اقصد بذرعك.
ومنها قولهم: ارق على ظلعك.

باب كشف الكرب عند المخاوف عن الجبان:
قال أبو عبيد: من أمثالهم المنتشرة في الناس قولهم: أفرخ روعك.
يقول: ليذهب روعك وفزعك، فإنَّ الأمر ليس على ما تحاذر، وهذا المثل لمعاوية، كتب به إلى زياد وذلك أنه كان على البصرة، وكان المغيرة بن شعبة على الكوفة فتوفي بها، فخاف زياد أن يولي معاوية مكانه عبد الله بن عامر، وكان زياد لذلك كارهاً فكتب إلى معاوية يخبره بوفاة المغيرة، ويشير عليه بولاية الضحاك بن قيس مكانه، ففطن له معاوية، وعلم ما أراد فكتب إليه: "قد فهمت كتابك فأفرخ روعك أبا المغيرة، لسنا نستعمل أبن عامر على الكوفة، وقد ضممناها إليك مع البصرة " فلما ورد على زياد كتابه قال: النبع يقرع بعضه بعضاً.
فذهبت كلماتهما مثلين وكان زياد يكنى أبا المغيرة.

باب الرضا بالحاضر ونسيان الغائب:
قال أبو عبيد: من أمثالهم السائرة في هذا قولهم: إن ذهب عير فعير في الرباط.
وهذا مثل لأهل الشام ليس يكاد يتكلم به غيرهم، ومثله قولهم: عير بعير وزيادة عشرة.
وكان اصل هذا أنَّ خلفاءهم كلما مات منهم واحد وقام آخر زادهم عشرة في أعطياتهم، فكانوا يقولون هذا عند ذلك ويقال في نحو منه: رأس برأس وزيادة خمسمائة.
وأوّل من تكلم به فيما يقال الفرزدق وذلك في بعض الحروب وكان صاحب الجيش قد قال: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، فبرز رجل فقتل رجلاً من العدو، فأعطي خمسمائة درهم، ثم برز الثاني فقتل، فبكى أهله عليه، فقال الفرزدق: أما ترضون أن يكون رأس برأس وزيادة خمسمائة درهم، يقول: قد ذهب رأس هذا برأس المقتول وازداد ورثته خمسمائة درهم.و من أمثالهم في الغائب قولهم: من غاب غاب حظه.