بسم الله الرحمن الرحيم
جماع أمثال الخلة والإخاء
باب مثل المتخالين المتصافيين اللذين لا يفترقان:
قال أبن الكلبي وغيره من علمائنا: من أمثالهم السائرة في الرجلين المتآخيين قولهم: هما كندمانى جذيمة.
قال أبن الكلبي: وهو جذيمة الابرش الملك وكان أبن أخته عمرو بن عدي قد فقده جذيمة الابرش دهراً، ثم إنَّ رجلين من بلقين يقال لأحدهما: مالك، والآخر: عقيل وجداه فقدما به على جذيمة، فعظم موفعه منه، وقال: سلاني ما شئتما، فسألاه أنَّ يكونا نديمية ما عاش وما عاشا، فأجابهما إلى ذلك، فهما ندامانا جذيمة، وفيهما يقول متمم بن نويرة اليربوعي في نفسه وأخيه مالك بن نويرة:
وكنا كندمانى جذيمة حقبة ..، من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ..، لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وتمثل عمر بن الخطاب بهذا في نفسه وأخيه زيد بن الخطاب، وفي هذين النديمين يقول الشاعر في سالف الدهر:
ألم تعلمي أنَّ قد تفرق قبلنا ..، نديما صفاءٍ مالك وعقيل
وهما القينيان مالك وعقيل نديما جذيمة، ومن هذا المعنى البيت السائر في العالم:
وكل أخٍ مفارقه أخوه ..، لعمر أبيك إلاّ الفرقدان
قال أبو عبيد: القينان هما من بلقين، يريد بني القين، فحذف النون والياء، كقولهم: بلعنبر وبلهجيم، وما شابه ذلك، ومنه قولهم في بني شمام، وهما جبلان.

باب الخليل الخاص بأخيه ومؤانسه:
قال الأحمر: من أمثالهم في هذا قولهم: فلان أبن انس فلانٍ.
أي إنّه صفيه وخاصته وأنيسه ومن هذا قولهم في المنامس، وأصله من الناموس، وهو خاصة الرجل وصاحب سره، ومنه قول ورقه بن نوفل في النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّه يأتيه الناموس صاحب موسى " يعني جبريل عليه السلام أجمعين، وكذلك عيبة الرجل: وهم خاصته وأصحاب نصحته وسره، ومنه الحديث في خزاعة " انهم كانوا عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنهم وكافرهم".

باب عناية الأخ بأخيه وإيثاره إياه على نفسه:
قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا: لك ما أبكي ولا عبرة بي.
يضرب للرجل يشتد اهتمامه بشأن أخيه، قال أبو عبيد: ومن الإيثار قولهم:
هذا جناى وخياره فيه ..، إذ كل جان يده إلى فيه
وأخبرني أبن الكلبي إنَّ هذا المثل لعمرو بن عدي اللخمي أبن أخت جذيمة الأبرش، وكان جذيمة قد نزل منزلا، وأمر الناس أنَّ يجتنوا له الكمأ، فكان بعضهم إذا وجد منها شيئاً يعجبه فربما آثر نفسه به على جذيمة، وكان عمرو بن عدي يأتيه بخير ما يجده، فعندها يقول عمرو:
هذا جناى وخياره فيه ..، إذ كل جان يده إلى فيه
يعني: أوثرك به على نفسي إذ كان غيري يأكله دونك، قال أبو عبيد: وهذا المثل تكلم به علي بن أبي طالب، رحمة الله عليه وصلواته، لمّا جبيت إليه العراق، فنظر إلى ذهبها وفضتها فقال: "يا حمراء يا بيضاء أحمري وأبيضي وغري غيري".
هذا جناى وخياره فيه ..، إذ كل جان يده إلى فيه
هكذا يرويه أصحاب الحديث بالواو، والذي أراد علي رضي الله عنه أني أعطي المال غيري، وامنعه نفسي، ومن الإيثار قول الشاعر يخاطب امرأته:
أرد شجاع الجوع قد تعلمينه ..، وأوثر غيري من عيالك بالطعم
و من الإيثار حديث العابد الذي أراد الإفطار، فقدم قرصيه ليتعشى، وعرض له سائل فأعطاه إحداهما، ثم قال: ما ذاك بمشبعه، وما هذا بمشبعي، ولأن يشبع أحد خير من إنَّ يجوع اثنان، ثم ناوله القرص الآخر، فلما نام أتي في منامه فقيل له: سل حاجتك، فقال المغفرة، فقيل له: أما هذه فقد أعطيتها فسل حاجتك، قال: أنَّ يغاث الناس، قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في مواساة الرجل أخاه قولهم: إنَّ أخاك من أساك.
ومثله قولهم: رب أخ لك لم تلده أمك.
يقال: إنَّ المثل للقمان بن عاد، وكان له أصل سوى الموضع الذي يضعه الناس به، وذلك أنَّ لقمان رأى رجلاً مستحلياً بامرأة، فاتهمه وقال: من هذا؟ فقالت: أخي، فقال مجيبا لها: "رب أخ لك لم تلده أمك".

باب صفة الأخ المستمسك بإخاء صديقه المشفق عليه:
قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا أنَّ يقال: ما عقالك بأنشوطةٍ.
وذلك لأن الأنشوطة ينسهل انحلالها، يقول: فليس إخاؤه كذلك، ولكنه عقد مؤكد، وهذا نحو قول ذي الرمة:
وقد علقت مي بقلبي علاقة ..، بطيئا على مر الشهور انحلالها
و يروى " علقت " قال الأصمعي: ومن أمثالهم في بر الرجل بصاحبه إنَّ يقال: أم فرشت فأنامت.
قال الأصمعي: فإذا أرادوا إنّه لا يخالفه في شيء قالوا: هو حبل ذراعك.
قال: والحبل: عرق في اليد، ومن أمثالهم في هذا قولهم: بين العصا ولحائها.

باب سرعة اتفاق الأخوة في التحاب والمودة:
قال أبو زَيد: من أمثالهم في نحو هذا: كانت لقوة صادفت قبيسا.
قال سلمة: هي عندنا لقوة مفتوحة.
قال أبو عبيد: واللقوة هي السريعة الحمل، والقبيس هو الفحل السريع الإلقاح، فمثل هذين لا إبطاء عندهما في النتاج، يضرب للرجلين يكونان متفقين على رأي واحد ومذهب، فيلتقيان، فلا يلبثان أنَّ يتصاحبا على ذلك ويتألفا، وقال الأصمعي: في نحو منه: التقى الثريان.
قال أبو عبيد: والثرى هو التراب الندي، فإذا جاء المطر الكثير رسخ في الأرض حتى يلتقي نداه والندى: الذي يكون في بطن الأرض، فهو التقاء الثريين، يضرب هذا في الأمرين أو في رجلين يكونان متفقين فيلتقان، ومن هذا قول أكثم بن صيفي: إنّما الشيء كشكله.
ومنه حديث عبد الله وغيره: "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " الأصمعي: ومن أمثالهم في هذا قولهم: وافق شناً طبقه.
قال: وأصل الشن الوعاء المعمول من الأدم فإذا يبس فهو شن فكأن قوما كان لهم مثله فتشنن، فجعل له غطاء فوافقه، وقال بعض أهل العلم خلاف ذلك فذكر إنّه شن بن بطن من عبد القيس، والتقوا هم وحي من إياد، يقال لهم: طبق، فاتفقوا على أمر، فقيل في هذا: "وافق شن طبقه" ويقال في نحو منه: وقعت عليه رخمته.
إذا وافقه وأحبه.

باب الإفراط في التودد وما يكره منه ويحب من الاقتصاد:
قال أبو عبيد: بلغني عن بعض الحكماء إنّه قال: "لا تكن في الإخاء مكثرا ثم تكون فيه مدبراً فيعرف سرفك في الإكثار بجفائك في الأدبار " قال أبو عبيد: وهذا نحو مما يروى عن عمر وعلي.
لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفاً.
ومثل الحديث الآخر: أحبب حبيبك هونا ما عسى إنَّ يكون عدوك يوماً ما، وابغض بغيضك هونا ما عسى إنَّ يكون حبيبك يوماً ما.
ومنه قول النمر بن تولب:
وأحبب حبيبك حبا رويداً ..، فليس يعولك أن تصرما

باب اقتداء الرجل بخليله وقرينه:
قال أبو عبيد: جاءنا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم إنّه قال: إنّما المرء بخليله، فلينظر امرؤ من يخال.
ومع هذا إنّه المثل السائر في الناس:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ..، فكل قرين بالمقارن مقتد
و هذا البيت لعدي بن زيد العبادي، ومن أمثال أكثم بن صيفي في نحو هذا: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء.
يعني إنَّ لا دواء له، من أجل أنَّ الغاص بالطعام إنّما غياثه بالماء، فإذا كان الماء هو الذي يغصه فلا حيلة له، فكذلك بطانة الرجل وأهل دخلته، وقال عدي بن زيد:
لو بغير الماء حلقي شرق ..، كنت كالغصان بالماء اعتصاري
يعني: ملجئي، ومن أمثالهم في فساد البطانة المثل المبتذل في العامة: إنَّ الريح إذا هبت خارج البيت استترت منها، وإذا كانت داخل البيت لم يكن إلى الاستتار منها سبيل.

باب تخويف الرجل صديقه بالهجران في الشيء ينكره عليه:
قال الأموي: من أمثالهم في هذا قول الرجل لأخيه: و الله لئن فعلت كذا وكذا لتكونن بلدة ما بيني وبينك.
يعني القطيعة، وقال: الأحمر: ومن أمثالهم في هجر الرجل صاحبه: تركته ترك ظبي ظله.
قال: وذلك إنّه إذا نفر من شيء لم يرجع إليه أبداً.
ضرب في جهازه.
ومن أمثالهم في تخوف الرجل هجر صاحبه قولهم: لا توبسن الثرى بيني وبينك.
أي لا تقطعن الأمر بيننا، وانشد لجرير:
فلا توبسوا بيني وبينكم الثرى ..، فإنَّ الذي بيني وبينكم مثرى

باب استعانة الرجل بإخوانه وأهل ثقته:
قال أبو عبيد: من أمثالهم في نحو هذا: إلى أمه يلهف اللهفان.
واحسبه عن الأصمعي، يعني إلى أهل عنايته والإشفاق عليه يلجأ المستغيث، قال أبو عبيد: ومن هذا المعنى قول القطامي:
وإذا يصيبك والحوادث جمة ..، حدث حداك إلى أخيك الأوثق
و يقال في نحو منه، وليس فيه بعينه: لمثل ذا كنت أحسيك الحسى.
عن الأصمعي، واصله الرجل يغذو فرسه بالألبان، يحسيها إياه، ثم تحتاج إليه في الطلب أو الهرب، فيقول له: فلهذا كنت افعل بك ما كنت أفعل.
ومن أمثالهم في استعانة الرجل بأهل الثقة قول الشاعر:، وهو مسكين الدرامي:
أخاك أخاك، إنَّ من ى أخاً له ..، كساع إلى الهيجاء بغير سلاح
وأم أبن عم المرء فاعلم جناحه ..، وهل ينهض البازي بغير جناح
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في معاونة الأخ ونصرته قولهم: أنصر أخاك ظالما أو مظلوماً.
وهذا الحرف يروى في حديث مرفوع إلاّ إنَّ فيه " قيل يا رسول الله، هذا ينصره مظلوماً فكيف إذا كان ظالما؟ قال: يكفه عن الظلم " قال أبو عبيد: أما الحديث فهكذا هو، وأما العرب فكان مذهبها في المثل نصرته على كل حال.

باب مشاركة الرجل أخاه في الرفاهية وخذلانه إياه في الشدائد:
قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في هذا: يربض حجرة ويرتعي وسطاً.
قال أبو عبيد: ومن أشعارهم في هذا قولهم:
موالينا إذا افترقوا إلينا ..، وإنَّ اثروا فليس لنا موال
و إذا ضيع الرجل حق أخيه في حياته، ثم بكاه بعد موته فإنَّ مثلهم السائر في هذا قول الشاعر:
لأعرفنك بعد الموت تندبني ..، وفي حياتي ما زودتني زادي
و من هذا قولهم:
من فاز بفلان فقد فاز بالسهم الاخيب.
وهذا المثل يروى عن على بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض من كان يستبطئ من أصحابه قال أبو عبيد: ومن أمثالهم في خذلان الإخوان عند الشدائد قولهم: ليس عبد بأخ لك.
وذكروا عن المفضل إنّه كان يخبر أنَّ رجلاً من عاد كان يكرم إخوانه، فقال له أبوه: أختبرهم، وأمره أنَّ يذبح شاة، ثم يلفها في شيء ثم يأتيها فيقول: هذا رجل قتلته فأحب إنَّ تواروه، فحمله على عبد له، ثم أتاهم رجلاً رجلاً، فكلهم يكره ذلك، حتى أتى رجلاً كان أخسهم عنده، فقبله وقال: هل علم بهذا أحد؟ قال: لا، غير غلامي هذا، فأخذ السيف فقتل العبد وقال: "ليس عبد بأخ لك" فأرسلها مثلاً.

باب معاتبة الإخوان وفقدهم:
قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا: معاتبة الأخ خير من فقده.
وهذا المثل يروى ن أبي الدرداء، فإن استعتب الأخ ولم يعتب فإنَّ مثلهم في هذا قولهم: لك العتبي بأن لا رضيت.
وهذا مثل مبتذل في الناس، وهو مثل محول عن موضعه، لأن أصل " العتبى " الرجوع المستعتب إلى محبة صاحبه، وهذا على ضده، يقول: أعاتبك بخلاف رضاك، ومنه قول بشر بن أبي حازم الأسدي:
غضبت تميم أنَّ تقتل عامر ..، يوم النسار فأعتبوا بالصليم
أي أعتبناهم بالقتل، ومن أمثالهم في ترك العتاب قول الشاعر:
وليس عتاب الناس للمرء نافعاً ..، إذا لم يكن للمرء لب يعاتبه
وقال آخر:
فدع العتاب فرب شر ..، هاج أوله العتاب
ويروى عن أوس بن حارثة إنّه كان فيما يقال لابنه مالك: يا مالك: العتاب قبل العقاب، والمنية ولا الدنية.
ومن أمثالهم في فقد الأخ الموثوق به قول الشاعر:
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ..، بيمينك فأنظر أي كف تبدل
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ..، على طرف الهجران إنَّ كان يعقل
ويركب حدّثني السيف من أنَّ يضيمه ..، إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل
و يروى عن الحسن إنّه قال: إنَّ من اشد الناس فقداً عليك أخاك، الذي إنَّ شاورته في أمر دينك أو دنياك وجدت عنده رأيا، ففقدته فالتمس من تجد ذلك عنده فلم تجده.
ومن أمثالهم في الرجل يرزأ بأخيه قولهم: إنّما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
قال أبو عبيد: هذا المثل يروونه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنّه قاله، ثم قال: إنّما وهنت يوم قتل عثمان.

باب إشفاق الرجل على أخيه ومحاذرته لمكروهه:
قال أبو عبيد: من أمثالهم المعروفة قولهم: إنَّ الشفيق بسوء ظن مولع.
وذلك أنَّ المعنى بشأن أخيه لا يكاد يظن به إلاّ المكاره والحدثان كنحو من ظنون الوالدات، فهذا ما في الإشفاق عليه من سوء الظن.
وأمَّا مثلهم في حسن الظن به الجفاء يظهر منه فقول أكثم بن صيفي.
من جعل نفسه من حسن الظن بإخوانه نصيبا أراح قلبه.
يعني إنَّ الرجل إذا رأى من أخيه إعراضا أو تغيرا فحمله منه على وجه جميل، وطلب له المخارج والعذر خفف ذلك عن قلبه، وقل منه غيظه واغتمامه.

باب نصيحة الرجل أخاه:
قال أبو عبيد: من أمثالهم القديمة: أخوك من صدقك.
يعني في النصيحة من أمر الدين والدنيا، وفي بعض الحديث " المؤمن مرآة أخيه " يعني إنّه رأى منه ما ينكره أخبره به، ورووا عن عمر بن عبد العزيز إنّه قال: رحم الله رجلاً أهدى إلى عيوبي.
وفي حديث مرفوع " الدين النصيحة، قيل لمن؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
ويروى عن يونس بن عبيد إنّه قال: "ما رأيت أحدا أنصح للإسلام من الحسن وأيوب " وعن بكر بن عبد الله المزني إنّه قال: "لو دخلت هذا المسجد وهو مفهم من الرجال فقيل لي: من خيرهم؟ لقلت: أنصحهم لهم".