بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على محمّد وآله
جماع أمثال المجد والجود
باب المثل في الحض على بذل والإفضال:
قال أبو محمّد الأموي: من أمثالهم في النائل: إنّما سميت هانئا لتهنئ.
قال: ويقال: "لتهنأ " أي لتفضل على الناس، والهانئ هو المعطي، يقال: هنأت الرجل هنا، إذا وهبت له ورفدته، والاسم منه الهنء، وقال أبو عبيدة: في محو هذا: لا ينفعنك من زادٍ تبق.
يقول: إنَّ بقيته صار إلى الفساد والتغير فأعطه الناس وكذلك المال يبقى لك فأنفقه: ومنه الحديث المرفوع: أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا.
وحديثه: "إنّما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، ولبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت، وما سوى ذلك فهو مال الوارث"، ومنه مقالة أبي ذر: "إنَّ لك في مالك شريكين، الحدثان والوارث، فإنَّ قدرت إلاّ تكون أخس الشركاء حظاً فافعل"، ومنه قول الربيع بن خثيم لبعض إخوانه " كن وصي نفسك ولا تجعل أوصياءك الرجال " أي أنفقه وتخلفه بعدك فتوصي به، ومن أمثالهم في اصطناع الخير قولهم: لا يذهب العرف بين الله والناس.
وهذا المثل للحطيئة في شعر له:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ..، لا يذهب العرف بين الله والناس
قال أبو عبيد: وفي بعض الحديث: اصطناع المعروف بقي مصارع السوء.
وفي حديث آخر " أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة " وفي حديث ثالث " السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار " وقال زهير بن أبي سلمى:
هو الجواد الذي يعطيك نائله ..، عفوا ويظلم أحيانا فيظلم
و يروى " فينظلم " قوله " يظلم " أي يسأل فوق طاقته، وقوله " فيظلم " يتكلفه، وروينا في حديث " إنَّ الله يحب الجود ومعالي الأمور، ويبغض سفسافها " وجاءنا عن أبن عباس إنّه قال: "إنَّ أبن أبي المعاصي مشى القدمية وإنَّ أبن الزبير لوى ذنبه " وقال في معاوية: "لله در أبن هند، كان الناس يردون منه على أرجاء وادٍ رحب " قال الأصمعي: ومن أمثالهم في العطايا يقال: أعطاه بقوف رقبته يقال ذلك إذا أعطاه بغيته، ولم يأخذ له ثمناً ولا أجراً، وأمثال الجود في كلامهم وأشعارهم أكثر من يخاط بها.

باب اصطناع المعروف وإنَّ كان يسيراً:
قال الأصمعي: من أمثالهم في هذا: من حقر حرم.
قال أبو عبيد: يريدون أنَّ الإنسان إذا كان يعجز عن الأفضال بالكثير ثم يحقر ما يقدر عليه من اليسير كان فيه الحرمان وتلف الحقوق.
قال أبو عبيد: ومما يقوى هذا المذهب ما روى في الحديث المرفوع، " أنَّ لا ترد السائل ولو بظلف محرقٍ " ومنه قوله: "لا تحقرن شيئاً من المعروف ولو إنَّ تعطى صلة الحبل ولو إنَّ تفعل كذا وكذا " في حديث طويل.
قال أبو عبيد: وإنّما هذا أنَّ الإنسان ربما كان مضطرا إلى ذلك اليسير فيعظم موقعه منه، وإنَّ كانت الموونه فيه على المعطى يسيرة، قال أبو زيد: ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم: إنَّ الرثيئة تفثا الغضب.
قال: وأصله إنَّ رجلاً كان غضبان على قوم، وأحسبه، كان مع غضبه، جائعاً، فسقوه رثيئةً فسكن غضبه، وكف عنهم، والرثيئة: اللبن الحامض، يخلط بالحلو، وقوله: "تفثأ " يعني: تكسر وتكف الغضب، قال أبو عبيد: ومن الرغبة في المعروف وإن كان يسيرا حديث عائشة رضي الله عنها حين سألها سائل وعندها طبق عنب، فأعطيه حبة، وعندها نساء فضحكن من ذلك فقالت: "إنَّ فيما ترين مثاقيل ذر كثير " قال أبو عبيد: تريد قول الله عز وجل: )فمن بعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يره " ويروى عن عبد الحمن بن عوف مثله أيضاً.

باب جود الرجل بما فضل عن حاجته من ماله:
قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم: و حسبك من غنى شبع وري.
وهذا المثل لامرئ القيس بن حجر الكندي، وكانت له معزى، فقال يذكرها:
فتملأ بيتنا أقطاً وسمناً ..، وحسبك من غنى شبعٌ وريٌ
فقد يكون في هذا معنيان، أحدهما أن يقول: أعط الناس كل ما كان وراء الشبع والري، والآخر القناعة باليسير، يقول: فاكتف به ولا تطلب ما سوى ذلك، قال أبو عبيد: والمعنى الأول هو عندي الوجه، لقوله في شعر له آخر:
فلو أنَّ ما أسعى لأني معيشةٍ ..، كفاني ولم أطلب قليل من المالِ
ولكن ما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ ..، وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فأخبر ببعد همته وقدره في نفسه، ومن أمثالهم في نحو هذا قولهم: يكفيك ما بلغك المحلاَّ.
ومنه قول الشاعر:
من شاء أن يكثر أو يقلا ..، يكفيه ما بلغه المحلاَّ
قال أبو عبيد: في هذا مثل في الأول من التأويلين اللذين ذكرنا، ومن أمثالهم في هذا الباب قول الحطيئة:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ..، واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ويروى: فأنت لعمري طاعم كاسي يقول: قد رضيت من المكارم بأن لا تفضل على أحد إلاّ ما تنفق عليك في طعامك وكسوتك، ومثله قول الآخر:
إني وجدت من المكارم حببكم ..، أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا
فإذا تُذُوكرت المكارم مرةً ..، في مجلس أنتم به فتقنعوا
و يقال في مثل تتكلم به العوام من الناس: من أنفق ماله على نفسه فلا يتحمد به إلى الناس.

باب العادة من الجود والخير يعودها الرجل الناس:
قال أبو زَيد: من أمثالهم في هذا: ما حللت بطن تبالة لتحرم الأضياف.
قال: ومعناه انك أم تبتدئ في أوّل أمرك بالتفضيل والنيل وأنت تريد تركه، قال: وتبالة: بلاد باليمن مخصبة، فجعلها مثلاً لنواله، قال أبو عبيد: ومن عادة الخير قول الأعشى:
عودت كندة عادةً فاصبر لها ..، اغفر لجاهلها ورو سجلياها
و قد جاءنا في بعض الحديث: الخير عادة، والشر لجاجة.
وقال بعض الحكماء: انتزاع العادة من الناس ذنب محسوب.
وكان أشياخنا من أهل المعرفة يعلم الناس يحدثون أنَّ المسلمين لمّا انهزموا يوم اليمامة، قالت الأنصار: بئسما عودتم أقرانكم، يعنون الفرار، ثم كروا عليهم حتى أظهرهم الله، وقتل عدوهم، فهذا من عادة الخير.
ومن أمثالهم المشهورة قولهم: العودُ أحمدُ.

باب الرجل تكون شيمته الكرم غير أنه معدم:
قال الأحمر: من أمثالهم في هذا: بيتي يبخل لا أنا.
يقول: ليس البخل من أخلاقي، ولكن ليس لي ما أجود به.
قال: ومن أمثالهم في الاعتذار قولهم: شغلت شعابي جدواي.
يقول: شغلتني أموري عن الناس والإفضال عليهم.
وقال أبو عبيدة في نحو هذا: بالساعد تبطش الكف.
أي إنّما أقوى على ما أراد بالمقدرة الواسعة، وليس ذلك عندي، ولا مقدرة لي، وقد يضرب هذا المثل في قلة الأعوان أيضاً، قال الأموي: ومن أمثالهم في الرجل يذكر الجود ثم يفعله: بأذن السماع سميت.
ومعناه أنَّ فعلك يصدق ما تسمعه الأذن من قولك.

باب الصبر على مكابدة الأمور ومقاساتها لمّا في عواقبها من المحامد:
قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم: عند الصباح يحمد القوم السرى.
يقول: انهم يقاسون في ليلهم مكابدة الليل ومقاساة الإسآد، فإذا أصبحوا وقد خلفوا البعد وراء ظهورهم حمدوا فعلهم حينئذ، ومثله قولهم: غمرات ثم ينجلين.
وهذان المثلان يقال: انهما لأغلب العلجي، ويقال: لغيره، يضربان للرجل يحتمل الأمور العظام رجاءً لنيل المعالي في غبها، وقد يوصفان في أمر الدين والدنيا جميعاً.