السُّنَّةُ النَّبويَّة
السنة النبوية هـي الأصل الثاني للإسلام، وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ رسالته إلى الناس في قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) (المائدة: 67)
ولكن الأمر لم يكن مجرد تبليغ آلي وإنما هـو تبليغ مصحوب بالتبيين، كما ورد في قوله تعالى:
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل: 44).
وفي قوله تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) (النحل: 64).
وقد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به، فكانت سنته المتمثلة في أقواله وأفعاله وتقريراته للقرآن بمثابة (تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره) [1].
وبذلك يكون الارتباط بين القرآن والسنة ارتباطا لا يتصور [ص: 99] أن ينفصم في يوم من الأيام، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتاب الله، وسنتي) [2].
ومن أجل ذلك اهتم المسلمون اهتماما عظيما بالسنة بوصفها الأصل الثاني للإسلام.
وقد كان هـذا الفهم يعد من الأمور البديهية لدى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فعندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل واليا إلى اليمن سأله: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي) [3].
وقد أراد المستشرقون بعد محاولاتهم الفاشلة للتشكيك في القرآن الكريم من جوانب مختلفة، وبعد أن أعياهم البحث ولم يكن لهذه المحاولات أي أثر إيجابي لدى المسلمين المتمسكين بقرآنهم وتبين أن هـذه المحاولات لم تكن إلا كما قال الشاعر العربي:
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
أراد المستشرقون أن يوجهوا محاولات التشكيك إلى ناحية أخرى؛ أي: إلى الأصل الثاني للإسلام وهو السنة، مع الاستمرار في محاولاتهم السابقة الفاشلة.
وأول مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك في الحديث النبوي كان المستشرق اليهودي (جولد تسيهر)، الذي يعده المستشرقون أعمق العارفين بالحديث النبوي.
ويقول عنه كاتب مادة: (الحديث)، في دائرة المعارف الإسلامية: (إن العلم مدين دينا كبيرا لما كتبه (جولد تسيهر) في موضوع الحديث، وقد كان تأثير (جولد تسيهر) على مسار الدراسات الإسلامية الاستشراقية أعظم مما [ص: 100] كان لأي معاصريه من المستشرقين، فقد حدد تحديدا حاسما اتجاه وتطور البحث في هـذه الدراسات) [4].
ويلخص (بفانموللر) عمل (جولد تسيهر) في هـذا المجال فيقول: (لقد كان (جولد تسيهر) أعمق العارفين بعلم الحديث النبوي.
وقد تناول في القسم الثاني من كتابه: (دراسات محمدية) موضوع تطور الحديث تناولا عميقا.
وراح -بما له من علم عميق، واطلاع يفوق كل وصف- يبحث التطور الداخلي والخارجي من كل النواحي... وقد قادته المعايشة العميقة لمادة الحديث الهائلة إلى الشك في الحديث، ولم يعد يثق فيه مثلما كان (دوزي) لا يزال يفعل ذلك في كتابه: (مقال في تاريخ الإسلام).
وبالأحرى كان (جولد تسيهر) يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعي في القرن الأول والثاني.
فالحديث بالنسبة له لا يعد وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول؛ عهد طفولته، وإنما هـو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة لتطور الإسلام.
ويقدم (جولد تسيهر) مادة هـائلة من الشواهد لمسار التطور الذي قطعه الإسلام في تلك العصور التي فيها تشكيلة من بين القوى المتناقضة، والتباينات الهائلة حتى أصبح في صورته النسقية... ويصور (جولد تسيهر) التطور التدريجي للحديث ويبرهن [ص: 101] بأمثلة كثيرة وقاطعة؛ كيف كان الحديث انعكاسا لروح العصر؟ وكيف عملت على ذلك الأجيال المختلفة؟ وكيف راحت كل الأحزاب والاتجاهات في الإسلام تبحث لنفسها من خلال ذلك عن إثبات لشرعيتها بالاستناد إلى مؤسس الإسلام، وأجرت على لسـانه الأقوال التي تعبر عن شعاراتها؟ [5].
وهكذا تم اختراع كم هـائل من الأحاديث في العصر الأموي عندما اشتدت الخصومة بين الأمويين والعلماء الصالحين، ففي سبيل محاربة الطغيان والخروج عن الدين راح العلماء يخترعون الأحاديث التي تسعفهم في هـذا الصدد، وفي الوقت نفسه راحت الحكومة الأموية تعمل في الاتجاه المضاد، وتضع أو تدعو إلى وضع أحاديث تسند وجهات نظرها، وقد استطاعت أن تجند بعض العلماء الذين ساعدوها في هـذا المجال، ولكن الأمر لم يقف عند وضع أحاديث تخدم أغراضا سياسية، بل تعداه إلى النواحي الدينية في أمور العبادات، التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة، وقد استمر هـذا الحال في وضع الأحاديث في القرن الثاني أيضا [6].
هذا هـو ملخص المزاعم التي روجها (جولد تسيهر) ليهدم بها الأصل الثاني للإسلام؛ وهو السُّنَّة.
ولسنا هـنا في معرض الرد التفصيلي على هـذه المزاعم، فقد تكفل بعض أفاضل العلماء بذلك، ومن أهم الكتب القيمة في هـذا المجال كتاب: (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي): للدكتور السباعي.
فمن أراد التفصيل فليرجع إليه.
ولكننا هـنا نود أن نشير إلى أننا لا ننكر أن هـناك الكثير من الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا أصل لها، وأن ذلك لم يكن في يوم من الأيام خافيا على علماء المسلمين في مختلف العصور، ولكن الأمر الذي لا شك فيه [ص: 102] أيضا أن علماء المسلمين الذين اهتموا بجمع الحديث النبوي لم يفرطوا إطلاقا في ضرورة التدقيق الذي لا حد له في رواية الحقائق، فقد وضع القرآن أمامهم أهم قاعدة من قواعد النقد التاريخي في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) (الحجرات:6).
وتتمثل هـذه القاعدة في أن أخلاق الراوي تعد عاملا هـاما في الحكم على روايته، وقد أفاد المسلمون إفادة عظيمة من هـذه القاعدة وطبقوها على رواة الأحاديث النبوية، وقد كان تطبيق هـذا المنهج النقدي على رواة الأحاديث هـو الذي تطورت عنه بالتدريج قواعد النقد التاريخي [7].
ولعلماء الحديث باع طويل في نقد الرواة، وبيان حالهم من صدق أو كذب، فقد وصلوا في هـذا الباب إلى أبعد مدى، وأبلوا فيه بلاء حسنا، وتتبعوا الرواة ودرسوا حياتهم وتاريخهم وسيرتهم، وما خفي من أمرهم وما ظهر، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولا منعهم عن تجريح الرواة والتشهير بهم ورع ولا حرج، قيل ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هـؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة ؟ فقال: لأن يكون خصمي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لم لم تذب الكذب عن حديثي [8].
ويروي الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين قوله: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم). [ص: 103]
"ويقول ابن عباس أيضاً: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف".
ثم أخذ التابعون في المطالبة بالإسناد حين فشا الكذب.
يقول أبو العالية:
(كنا نسمع الحديث من الصحابة فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم).
ويقول ابن المبارك:
(بيننا وبين القوم القوائم)؛ يعني: الإسناد. [9].
وقد وضع رجال الحديث القواعد الدقيقة التي ساروا عليها فيمن يؤخذ منه ومن لا يؤخذ، ومن يكتب عنه ومن لا يكتب.
ويعلم (جولد تسيهر) وغيره من المستشرقين ذلك حق العلم، ويعلمون أيضا أن ما بذله المسلمون في توثيق الحديث لم يبذل أحد من أتباع النصرانية واليهودية عشر معشاره في سبيل توثيق العهدين القديم والجديد، ويعلمون أيضا أن إماما من أئمة الحديث مثل البخاري لم يأخذ في صحيحه بعد حذف المكرر إلا حوالي أربعة آلاف حديث فقط من مجموع حوالي نصف مليون حديث قام بجمعها وغربلتها حتى انتقى منها هـذه الآلاف القليلة؛ نتيجة للمناهج العلمية الدقيقة التي وضعها المحدثون، ولم يكن المسلمون في وقت من الأوقات في حاجة إلى من يعلمهم ذلك من أمثال (جولد تسيهر) ومن سار على نهجه.
أما دعوى أن الحديث أو القسم الأكبر منه كان نتيجة للتطور الديني والسياسي والاجتماعي للإسلام في القرنين الأولين، وما ذكره (جولد تسيهر) من حديث عن طفولة الإسلام ونضوجه... إلخ، فإن الواقع والتاريخ يكذب هـذه المزاعم، فإن الواقع والتاريخ يكذب هـذه المزاعم. [ص: 104]
فقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد أن اكتمل الدين تماما بنص القرآن الكريم، حيث يقول: (اليوم أكملت لكـم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة: 3).
وهذه الآية الكريمة تتضمن أيضا إكمال السنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ ومبين لما في الكتاب كما سبق أن أشرنا، فالحديث عن مرحلة نضوج للإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حديث لا أساس له؛ لأن النضوج كان قد تم بالفعل قبل وفاته.
أما إذا كان المراد بالنضوج هـو تطور الفكر الإسلامي أو الفقه الإسلامي فهذا أمر آخر مع الأخذ في الاعتبار أن تطور الفقه الإسلامي لم يخرج -في أثناء بحثه عن حلول لما جد في المجتمع الإسلامي من مشكلات لم يكن لها نظير من قبل- عن الخطوط العامة التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية.
أما أن الحديث كان انعكاسا للتطورات التي شهدها المجتمع الإسلامي في القرنين الأولين فيكذبه الحديث الشريف الذي سبق أن أوردناه: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتاب الله، وسنتي).
قد كان من نتيجة ذلك جمع المسلمين على كلمة سواء في العقائد والعبادات والأخلاق وأحكام المعاملات في كل بقاع الأرض، فكيف يمكن حدوث ذلك إذا لم يكن الدين قد اكتمل، والقواعد قد ترسخت، والأخلاق قد تمكنت من النفوس، والعبادات قد استقرت أوضاعها؟ إن القول بأن الحديث أو القسم الأكبر منه كان نتيجة للتطور الذي حدث في المجتمع الإسلامي في القرن الأول والثاني يترتب عليه ألا تتحد عبادة المسلم في شمال إفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب الصين، نظرا للاختلاف البعيد [ص: 105] في البيئة في كل منهما، فكيف اتحدا في العبادة والتشريع والآداب وبينهما هـذا البعد وهذا الاختلاف؟ [10].
أمَّا اختلاف المذاهب وتعددها بعد القرن الأول فقد كان نتيجة لاختلاف أفهام المسلمين في فهم الكتاب والسنة، وهو اختلاف في الاجتهادات في الفروع لا في الأصول، وقد أباح الإسلام مثل هـذا الاختلاف في الفهم الناتج عن اجتهاد صادق، فإذا كان اجتهادا خاطئا فلصاحبه مع ذلك أجر واحد، وإن كان اجتهادا صائبا فلصاحبه أجران، ومن هـنا نجد المرونة التي تتلاءم مع كل عصر وكل مكان، وهكذا لم يصل المستشرقون إلى ما يريدون من زعزعة اعتقادات المسلمين وخلخلة تمسكهم بإيمانهم وسنة نبيهم.
وقد ردد بعض من المسلمين بعض الأفكار الاستشراقية [11]، ولكنها لم تجد أيضا آذانا صاغية من المسلمين.
-------------------------------------------------------------------
تفسير الأية:
يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين [ص: 2286] في الآيات السابقة ذكر سبحانه تعالى مواقف اليهود من رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وامتناع أهل الكتاب عن الإيمان بما جاء به تعصبا من عندهم، وإن اختلفوا في معاملتهم، فمنهم من نافق وكذب وغدر، وألب عليه الجموع، وحرض المشركين وحالفهم، ومنهم من اقتصد في المخالفة، وبعض هؤلاء أحسن المعاملة مع الاختلاف ولم يمالئ عليه الأعداء، والمشركون من وراء هؤلاء وأولئك يحاربون، ويحاولون أن ينتهزوا الفرص للانقضاض على المسلمين، فكان البلاء شديدا، حروب وفتن يريدون إثارتها، وخبال يقصدون إليه، ولذلك أمر الله نبيه بأن يمضي في تبليغ الرسالة غير ملتفت لما يدبرون إلا بمقدار إحباطه، مطرحا عداوتهم وبغضاءهم، فالله تعالى عاصمه منهم، ولذا قال تعالت كلماته: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس النداء للنبي -صلى الله عليه وسلم- بوصف الرسالة لتشريفه بهذا الوصف الكريم، ولأنه مصطفى لها: الله أعلم حيث يجعل رسالته وللتمهيد لما يأمره به من التبليغ، وأن يصدع بأمر الله لا يراقب أحدا، ولا يخاف من عدو; لأنه يبلغ ما أنزل الله تعالى إليه، وقد زكى سبحانه وتعالى الأمر بالتبليغ ووثقه بقوله: ما أنـزل إليك من ربك.
بما أنه منزل إليك من الله تعالى، فأنت الأولى بالتبليغ دون غيرك، والمسؤول عن إعلام الناس بما أنزل الله تعالى، وإنك إذ تبلغ الرسالة في حماية الله تعالى وكلاءته، ولذلك قال تعالت كلماته: من ربك.
أي: الذي خلقك ونماك وقام على رعايتك وهو الذي يحميك، ويدفع عنك السوء والشر، ويبلغك مبلغ الحق من نشر الرسالة ليؤمن من يؤمن عن بينة، ويكفر من يكفر عن بينة: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ص: 2287] وقوله: ما أنـزل إليك من ربك.
(ما) فيه دالة على العموم، وهي بهذا العموم تدل على معنى (جميع)، أي: بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، أي: لا تخف شيئا ولا تكتم شيئا.
ولقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تعالى بعثني برسالته فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس يكذبونني، واليهود والنصارى وقريش يخوفونني، فلما أنزل الله هذه الآية: يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك زال الخوف".
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- بلغ الشريعة كلها غير منقوصة، وما كتم شيئا، ولقد قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- وعن أبيها: من قال: إن محمدا كتم شيئا من رسالة الله تعالى فقد أعظم الفرية، ولقد قال عليه السلام: "تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله تعالى، وسنتي".
ولو كان قد ترك شيئا لمن بعده، لكان قد ترك تبليغ الرسالة، ولكن ذلك محال لقوله تعالى: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته.
أي: إن لم تبلغ كل ما أنزل عليك فما بلغت الرسالة; ذلك لأن ترك بعض الرسالة ترك لها، فمن كلف تبليغ كتاب لواحد، فأسقط منه أسطرا لا يعد قد بلغ الكتاب، ومن يؤمر بتبليغ كلام فيحذف بعضه لا يعد قد بلغ الرسالة; لأن الرسالة فيما هو عند الناس كل لا يقبل التجزئة، فكيف تقبل رسالة الله تعالى إلى خلقه، تجزئة فينقل بعضها، ويكتم بعضها، وقد عبر عن هذا المعنى الزمخشري في [ص: 2288] الكشاف، فقال "ذلك" أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، وإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كأن لم يؤمن بكلها; لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها، وكونها كذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغا، وغير مبلغ، مؤمنا به، وغير مؤمن به" أي أن تبليغ بعض الرسالة وترك بعضها معناه ترك وجوب الإيمان به فترة بعد وفاة الرسول، وذلك غير معقول في ذاته، وغير مقبول في هذا الشرع الشريف; لأن الله تعالى عندما تأذن بموت رسوله قال تعالت كلماته: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
وإنه يجب التنبيه إلى أمور ثلاثة:
أولها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما انتقل إلى الرفيق الأعلى حتى أتم الرسالة بيانا، وقد يقول قائل: إن الشريعة منها ما هو ثابت بالنص، وهذا بلا ريب قد تم بيانه قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقسم قد ثبت بغير النصوص، فكيف يكون قد تم بيانه،؟!
والجواب عن ذلك:
أن تبليغ الشريعة كان ببيانها، وليس معنى البيان أن يبين حكم كل جزئي من الجزئيات، بل معنى البيان أن تبين الأحكام الكلية والجزئية التي يحتاج بيانها إلى نص، والجزئيات التي لا تبين يكون من الكليات ما يدل عليها بوجود العلة أو الغاية التي يثبت أن الشارع الحكيم أرادها، ولذلك يقول الإمام الشافعي في الرسالة الأصولية: البيان إما نص قائم، وإما حمل على نص قائم، ولا شك أن كل حكم لا نص عليه يثبت الحكم فيه بالحمل على نص قائم، سواء أكان الحمل بطريق القياس، أي: بإثبات الحكم غير المنصوص عليه في موضعه بالقياس على الحكم المنصوص عليه، في موضع يشبهه، ووجه الشبه العلة المؤثرة في الحكم، أم كان الحمل بطريق وجود المصالح ودفع المضار المتفق مع مقاصد الشرع، وغايات أحكامه، وذلك موضع اجتهاد الفقهاء.
الأمر الثاني:
أنه يجب التنبيه إلى أن الذين يأخذون ببعض أحكام الشريعة مؤمنين بها، ويطرحون الآخر وراءهم ظهريا يحسبون أن ما اطرحوه ليس من [ص: 2289] الشرع ينكرون تبليغ النبي -عليه الصلاة والسلام- للرسالة كاملة، وذلك انحراف يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله.
الأمر الثالث:
في قوله تعالى: وإن لم تفعل فما بلغت رسالته فكيف يكون الشرط والجزاء في معنى واحد؛ لأن الشرط ظاهر معناه أنك إن لم تقم بالتبليغ كاملا صادعا بالحق، فما بلغت الرسالة؛ أي: أنك إن لم تبلغ فما بلغت، وجزاء الشرط يجب أن يكون معنى مترتبا على الشرط، وذلك يقتضي المغايرة بينهما، فلا يمكن أن يكونا شيئا، وظاهر النص أنهما شيء واحد.
وقد أجيب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول:
أن المعنى أنك إن لم تقم بأداء الرسالة كلها بأن تركت بعضها، فإنك تكون كمن ترك الرسالة كلها، وقد اعترض على ذلك الفخر الرازي بأن ترك بعض الرسالة لا يمكن أن يكون كترك كلها، والجرم في ترك بعضها ليس كالجرم في تركها كلها، وإني أرى أن اعتراض الإمام فخر الدين الرازي غير وارد؛ لأن ترك جزء من الرسالة من غير تبليغ يكون تركا للرسالة ذاتها، ولذا عبر في الجزاء بقوله تعالت كلماته: فما بلغت رسالته أي: إن لم تفعل بتبليغها كاملة فما أديت واجب التبليغ، وجرم الجزء كجرم الكل إذا كان يتعلق بالاعتقاد، فمن أنكر بعض ما يجب الإيمان به يكون كمن ينكر كله؛ إذ يكون ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
الجواب الثاني:
أن يكون الكلام من قبيل بيان أن الشرط ذاته يكفي أن يكون فيه كمال التخلي عن التبليغ، والمعنى على هذا أنك لم تقم بالتبليغ فحسبك أنك تخليت عما يجب عليك أن تفعله، وهو عملك كرسول، وإن التبليغ يقتضي جهودا وبلاء، وتعرضا للأذى، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك، وبين أنه في حماية الله تعالى وكفالته؛ ولذا قال سبحانه: والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين العصم: الإمساك، ويتضمن الإمساك الحماية، ومنع الأذى، وجاء في مفردات الأصفهاني: عصمة [ص: 2290] الأنبياء حفظه إياهم أولا بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية ثم بالنصرة، وبتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق قال تعالى: والله يعصمك من الناس.
ومعنى العصمة من الناس على هذا ألا يمكنوا منه -عليه السلام- ومن دعوته، ومن نفسه، فأوهامهم لا تعلق بنفسه ونفاقهم لا يؤثر في دعوته، وخلافهم وعنادهم لا يمنعان الحق من أن يصل إلى قلوب أهل الهداية والإيمان، ولجاجتهم في الكفر لا تثنيه عما يدعو إليه، ويستمسك به، وما يثار عليه من حروب لا تهزمه ما دام هو ومن معه آخذين في الأسباب ناصرين لله وللحق.
وليس عصمة الله تعالى أن يكون الوصول إلى الحق هينا لينا سهلا، بل إنه لا بد من الجهاد، ولا بد من نزول البلاء بل بتوالي الابتلاء، كما قال تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب.
فالعصمة هي عصمة النفس والجسم من القتل، والدعوة من أن يعوق طريقها ويقضى عليها، وإن كان الأذى البدني يقع كشج رأسه وكسر ثنياته، وغير ذلك مما كان يفعله المشركون واليهود معه عليه السلام.
والناس لا يختصون بالمشركين واليهود، بل المراد السلامة مع الجهاد، من كل ما يكون من الناس عامة؛ إذ لا دليل على التخصيص، وكان ممن آذوا النبي عليه السلام كسرى فارس، وما كان من هؤلاء ولا هؤلاء وقد عصمه تعالى منه.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: إن الله لا يهدي القوم الكافرين والهداية التي ينفيها هذا النص الكريم هي الوصول إلى الحق؛ لأن الجحود قد ران على قلوبهم بما كسبوا من شر، وما اجترحوا من سيئات، وما لجت به نفوسهم من عناد، وهم لا يصلون إلى النيل من الحق وتعويق الدعوة، [ص: 2291] وعبر عن الكافرين بالقوم للإشارة إلى أنهم مهما تعددت أجناسهم وتباينت عناصرهم يلتقون عند غاية واحدة، وهي معاندتك والكفر بما جئت به، فهم بذلك التآلف في الإنكار صاروا كأنهم قوم متحدون.
زهرة التفاسير.