أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: الفصل الثاني: رحلة المسلم من الجاهلية إلى الإسلام الخميس 09 فبراير 2012, 4:18 am | |
| الفصل الثاني: رحلة المسلم من الجاهلية إلى الإسلام دفاع الجاهلية عن نفسها ما أخطأ المجتمع الجاهلي فهم هذه الدعوة ومراميها، وما غُمَّ على أهله أمرها، وأدركوا عندما قرع أسماعهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم أن دعوته إلى الإيمان بالله وحده سهم مسدَّد إلى كبد الجاهلية ونعي لها، فقامت قيامة الجاهلية ودافعت عن تراثها دفاعها الأخير، وقاتلت في سبيل الاحتفاظ به قتال المستميت، وأجلبت على الداعي صلى الله عليه وسلم بخيلها ورجلها، وجاءت بحدها وحديدها: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} ووجد كل ركنٍ من أركان هذه الحياة ومن أثافي الجاهلية نفسه مهدداً وحياته منذرة ، وهنا وقع ما تحدث عنه التاريخ من حوادث الاضطهاد والتعذيب. وكان ذلك آية توفيق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أصاب الغرض، وضرب على الوتر الحساس، وأصاب الجاهلية في صميمها وفي مقتلها، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته ثبوتاً دونه ثبوت الراسيات ، لا يثنيه أذى ، ولا يلويه كيد، ولا يلتفت إلى إغراء، ويقول لعمه: (( يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه (137))). في سبيل الدين الجديد : مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة حجة يدعو إلى الله وحده والإيمان برسالته واليوم الآخر في كل صراحة، لا يكنى ولا يلوّح ولا يلين، ولا يستكين ولا يحابي ولا يداهن ويرى في ذلك دواء لكل داء، وقامت قريش وصاحوا به من كل جانب، ورموه عن قوس واحدة، وأضرموا البلاد عليه ناراً ليحولوا بينه وبين أبنائهم وإخوانهم فأصبح الإيمان به والانحياز له جد الجد ، لا يتقدم إليه إلا جاد مخلص هانت عليه نفسه ، وعزم على أن يقتحم لأجله النيران ، وتمشي إليه ولو على حسك السعدان ، فتقدم فتية من قريش لا يستخفهم طيش الشباب ، ولا يستهويهم مطمع من مطامع الدنيا ، إنما همهم الآخرة وبغيتهم الجنة ، سمعوا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فضاقت عليهم الحياة الجاهلية بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وقلقت بهم مضاجعهم ، فكأنهم على الحسك ، ورأوا أنهم لا يسعهم إلا الإيمان بالله ورسوله فآمنوا وتقدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في بلدهم وبين سمعهم وبصرهم فكانت رحلة طويلة شاقة لما أقامت قريش بينه وبين قومه من عقبات، ووضعوا أيديهم في يديه، وأسلموا أنفسهم وأرواحهم إليه ، وهم من حياتهم على خطر ، ومن البلاء والمحنة على يقين ، سمعوا القرآن بقول: { الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } وسمعوا قوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } فما كان من قريش إلا ما توقعوه، وقد نثرت كنانتها، وأطلقت عليهم كل سهم من سهامها، فما زادهم كل هذا إلا ثقة وتجلداً، وقالوا: { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } ولم يزدهم هذا البلاء والاضطهاد في الدين إلا متانة في عقيدتهم وحمية لدينهم ومقتاً للكفر وأهله، وإشعالاً لعاطفتهم وتمحيصاً لنفوسهم فأصبحوا كالتبر المسبوك واللجين الصافي، وخرجوا من كل محنة وبلاء خروج السيف بعد الجلاء . التربية الدينية : هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يغذِّي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل ، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحرراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ، ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس ، لقد رضعوا حب الحرب وكأنهم ولدوا مع السيف ، وهم من أمة ، من أيامها حرب بسوس وداحس والغبراء ، وما يوم الفجار ببعيد . ولكن الرسول يقهر طبيعتهم الحربية ويكبح نخوتهم العربية ، ويقول لهم: { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ }. فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم ، وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس في غير جبن وفي غير عجز ، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي الطبيعية إلى ذلك وقوتها ، وذلك غاية ما روي في التاريخ من الطاعة والخضوع ، حتى إذا تعدت قريش في الطغيان وبلغ السيل الزبى أذن الله لرسوله ولأصحابه بالهجرة : وهاجروا إلى يثرب وقد سبقهم إليها الإسلام . في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم : والتقى أهل مكة بأهل يثرب. لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد. فكان أروع منظر لسلطان الدين شهده التاريخ. وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بعاث. ولا تزال سيوفهم تقطر دماً. فألَّف الإسلام بين قلوبهم. ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعاً ما ألَّف بين قلوبهم. ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المهاجرين . فكانت أخوة تزري بأخوة الأشقاء . وتبذ كل ما روي في التاريخ من خلة الأخلاء . كانت هذه الجماعة الوليدة- المؤلفة من أهل مكة المهاجرين وأهل يثرب الأنصار- نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام ، فكان ظهور هذه الجماعة في هذه الساعة العصيبة وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده . وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها . لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين والأنصار : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } . انحلت العقدة الكبرى : ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة . ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم . ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخاً في الدين وعزوفاً عن الشهوات ، وتفانياً في سبيل المرضاة ، وحنيناً إلى الجنة ، وحرصاً على العلم وفقهاً في الدين ومحاسبة للنفس . يطيعون الرسل في المنشط والمكره . وينفرون في سبيل الله خفافاً وثقالاً . قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعاً وعشرين مرة في عشر سنين . وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة . فهان عليهم التخلي عن الدنيا وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم . ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعودوه . وبكل ما يشق على النفس إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة فنشطوا وخفوا لامتثال أمرها . وانحلت العقدة الكبرى- عقدة الشرك والكفر- فانحلت العقد كلها وجاهدهم الرسول جهاده الأول فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي . وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى- فكان النصر حليفه في كل معركة ، وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ، وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد- نزل تحريم الخمر والكئوس المتدفقة على راحاتهم ، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ، وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة . حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم ، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم . وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم . وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة وفي اليوم رجال الغد . لا تجزعهم مصيبة ولا تبطرهم نعمة ولا يشغلهم فقر ولا يطغيهم غنى ولا تلهيهم تجارة ولا تستخفهم قوة ، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً . وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين . وطَّأ لهم أكناف الأرض وأصبحوا عصمة للبشرية ووقاية للعالم وداعية إلى دين الله . واستخلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عمله ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته .
أغرب انقلاب وقع في تاريخ البشر : لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر ، وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء : كان غريباً في سرعته وكان غريباً في عمقه وكان غريباً في سعته وشموله . وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم . فلم يكن غامضاً ككثير من الحوادث الخارقة للعادة ، ولم يكن لغزاً من الألغاز . فلندرس هذا الانقلاب عملياً ، ولنتعرف مدى تأثيره في المجتمع الإنساني والتاريخ البشري . تأثير الإيمان الصحيح في الأخلاق والميول : كان الناس- عرباً وعجماً- يعيشون حياة جاهلية ، يسجلون فيها لكل ما خلق لأجلهم ويخضع لإرادتهم وتصرفهم ، لا يثيب الطائع بجائزة ولا يعذب العاصي بعقوبة ولا يأمر ولا ينهى ، فكانت الديانة سطحية طافية في حياتهم ، ليس لها سلطان على أرواحهم ونفوسهم وقلوبهم ، ولا تأثير لها في أخلاقهم واجتماعهم . كانوا يؤمنون بالله كصانع أتم عمله واعتزل وتنازل عن مملكته لا ناس خلع عليهم خلعة الربوبية . فأخذوا بأيديهم أزمّة الأمر وتولوا إدارة المملكة وتدبير شئونها وتوزيع أرزاقها ، إلى غير ذلك من مصالح الحكومة المنظمة ، فكان إيمانهم بالله لا يزيد على معرفة تاريخية ، وكان إيمانهم بالله وإحالتهم خلق السموات والأرض إلى الله لا يختلف عن جواب تلميذ من تلاميذ فن التاريخ يقال له : من بنى هذا القصر العتيق ؟ فيسمى ملكاً من الملوك الأقدمين من غير أن يخافه يخضع له ، فكان دينهم عارياً عن الخشوع لله ودعائه ، وما كانوا يعرفون عن الله ما يحببه إليهم ، فكانت معرفتهم مهمة غامضة ، قاصرة مجملة ، لا تبعث في نفوسهم هيبة ولا محبة . وهذه الفلسفة اليونانية قد عرفت بواجب الوجود في سلوب ، ليست فيها صفة مثبتة من صفات القدرة والربوبية والإعطاء المنع والرحمة ، ولم تثبت له إلا الخلق الأول ، ونفت عنه الاختيار والعلم والإرادة ، ونفت الصفات وقرَّرت كليات كلها حط من قدر الخالق وقياس على الخلق ، والسلوب إذا اجتمعت لم تفد فائدة إيجاب واحد ، ولم نعلم مدينة واحدة ولا مجتمعاً ولا نظاماً ولا عملاً ولا بناية قامت على مجرد أسلوب ، فتجردت الديانة في أوساط الفلسفة الإغريقية عن روح الخشوع والاستكانة لله والالتجاء إليه في الحوادث ومحبته بكل القلب . وهكذا فقدت الديانة السائدة على العالم روحها وأصبحت طقوساً وتقاليد وأشباحاً للإيمان . انتقل العرب والذين أسلموا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح ، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع ، ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها ، آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى ، آمنوا برب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، الخالق البارئ المصور ، العزيز الحكيم ، الغفور الودود ، الرؤوف الرحيم ، له الخلق والأمر ، بيده ملكوت كل شيء ، يجير ولا يجار عليه ، إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه ، يثيب بالجنة ويعذب بالنار ، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، يعلم الخبء في السماوات والأرض ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعلمه ، فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلاباً عجيباً ، فإذا آمن أحد بالله وشهد أن لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهراً لبطن ، تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرب إلى جميع عروقه ومشاعره ، وجرى منه مجرى الروح والدم واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها ، وغمر العقل والقلب بفيضانه وجعل منه رجلاً غير الرجل ، وظهر منه روائع الإيمان واليقين والصبر والشجاعة ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حير العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق ، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد ، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق . وخز الضمير : وكان هذا الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تملي على صاحبها الفضائل الخلقية من صرامة إرادة وقوة نفس ومحاسبتها والإنصاف منها ، وكان أقوى وازع عرفه تاريخ الأخلاق وعلم النفس عن الزلات الخلقية والسقطات البشرية ، حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفساً لوَّامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير وخيالاً مروعاً ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ويتحملها مطمئناً مرتاحاً تفادياً من سخط الله وعقوبة الآخرة . وقد حدثنا المؤرخون الثقات في ذلك بطرائف لم يحدث نظيرها إلا في التاريخ الإسلامي الديني فمنها ما روى مسام ابن الحجاج القشيري صاحب الصحيح بسنده عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي ، أتى رسول صلى الله عليه وسلم فقال : (( يا رسول اله إني ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني )) فرده ، فلما كان من الغد أتاه فقال : (( يا رسول الله إني قد زنيت )) فرده الثانية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كانت الرابعة حفر له حفرة ثم أمر فرُجم . قال فجاءت الغامدية فقالت : (( يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني )) وأنه ردها فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لِم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً ، فو الله إني لحبلى . قال : أما لا فاذهبي حتى تلدي . قال : فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت : هذا قد ولدته . قال : فاذهبي فأرضعيه حتى تطعميه . فلما فطمته أتته بالصبي ، في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام . فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين . ثم أمر فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها . فاستقبلها خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسبها ، فسمع نبي الله سبه إياها فقال : (( مهلاً يا خالد ، فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له )) ثم أمر بها فصلى عليه ودفنت(138) . الثبات أمام المطامع والشهوات : وكان هذا الإيمان حارساً لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته ، يملك نفسه النزع أمام المطامع والشهوات الجارفة وفي الخلوة والوحدة حيث لا يراها أحد . وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحداً . وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند المغنم وأداء الأمانات إلى أهلها والإخلاص لله ، ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره ، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان . حدث الطبري قال : لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحُقٍّ معه فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط . ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه . فقالوا : هل أخذت منه شيئاً ؟ فقال : أما والله لولا الله ما أتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني . ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس(139) . يتبع إن شاء الله...
عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 03 مايو 2021, 9:34 pm عدل 1 مرات |
|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: الفصل الثاني: رحلة المسلم من الجاهلية إلى الإسلام الخميس 09 فبراير 2012, 4:30 am | |
| الأنفة وكبر النفس: وكأن هذا الإيمان بالله رفع رأسهم عالياً وأقام صفحة عنقهم فلن تُحنى لغير الله أبداً. لا لملك جبار ولا لحبر من الأحبار ولا لرئيس ديني ولا دنيوي. وملأ قلوبهم وعيونهم بكبرياء الله تعالى وعظمته ، فهانت وجوه الخلق وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة والفخفخة ، فإذا نظروا إلى الملوك وحشمتهم وما هم فيه من ترف ونعيم وزينة وزخرف ، فكأنهم ينظرون إلى صور ودمى قد كسيت ملابس الإنسان . عن أبي موسى قال: انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك، فقال جعفر: لا نسجد إلا لله (140). الاستهانة بالزخارف والمظاهر الجوفاء: أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم ، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير ، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة ، وعلى تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل عليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. الشجاعة النادرة والاستهانة بالحياة: ولقد بعث الإيمان بالآخرة في قلوب المسلمين شجاعة خارقة للعادة وحنيناً غريباً إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة ، تمثلوا الآخرة وتجلت لهم الجنة بنعمائها كأنهم يرونها رأي عين ، فطاروا إليها طيران حمام الزاجل لا يلوي على شيء. تقدم أنس بن النضير يوم أُحُد وانكشف المسلمون فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا سعد بن معاذ ، الجنة ورب الكعبة ، إني أجد ريحها من دون أحد ، قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه(141) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: قوموا إلى الجنة عرضها السموات والأرض ؟ فقال عمير بن الحمام الأنصاري : يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض . قال : نعم ، قال : بخ بخ, قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن يكون من أهلها . قال : فإنك من أهلها . فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ، ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل (142) . عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال : سمعت أبي رضي الله عنه وهو بحضرة العدو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف ، فقام رجل رث الهيئة فقال : يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال : نعم . فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام ، ثم كسر جفن سيفه فألقاه ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب حتى قتل (143). وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج ، وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا ، فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد ، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن بَنيَّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك ، ووالله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد ، وقال لبنيه : وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة فخرج مع رسول الله صل الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيداً (144). قال شداد بن الهاد : جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه فقال أهاجر معك ، فأوصى به بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فقسمه ، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهورهم ، فلما جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا يا رسول الله ؟ قال قسم قسمته لك ، قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أُرْمَى ها هنا- وأشار إلى حلقه- بسهم ، فأموت فأدخل الجنة ، فقال : إن تصدق الله ليصدقك ، ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال : أهو هو ؟ قالوا : نعم ، قال : صدق الله فصدقه(145) . من الأنانية إلى العبودية : وكانوا قبل هذا الإيمان في فوضى من لأفعال والأخلاق والسلوك والأخذ والترك والسياسة والاجتماع ، لا يخضعون لسلطان ولا يقرون بنظام ولا ينخرطون في سلك ، يسيرون على الأهواء ويركبون العمياء ويخبطون خبط عشواء ، فأصبحوا الآن في حظيرة الإيمان والعبودية لا يخرجون منها ، واعترفوا لله بالملك والسلطان والأمر والنهي ، ولأنفسهم بالرعوية والعبودية والطاعة المطلقة ، وأعطوا من أنفسهم المقادة واستسلموا للحكم الإلهي استسلاماً كاملاً ووضعوا أوزارهم ، وتنازلوا عن أهوائهم وأنانيتهم ، وأصبحوا عبيداً لا يملكون مالاً ولا نفساً ولا تصرفاً في الحياة إلا ما يرضاه الله ويسمح به ، لا يحاربون ولا يصالحون إلا بإذن الله ولا يرضون ولا يسخطون ولا يعطون ولا يمنعون ولا يصلون ولا يقطعون إلا بإذنه ووفق أمره . ولما كان القوم يحسنون اللغة التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفوا الجاهلية ونشأوا عليها ، وعرفوا معنى الإسلام معرفة صحيحة ، وعرفوا أنه خروج من حياة إلى حياة ، ومن مملكة إلى مملكة ، ومن حكم إلى حكم ، أو من فوضوية إلى سلطة ، أو من حرب إلى استسلام وخضوع ، ومن الأنانية إلى العبودية ، وإذا دخلوا في الإسلام فلا افتيات في الرأي ولا نزاع مع القانون الإلهي ولا خيرة بعد الأمر ولا مشاقة للرسول ولا تحاكم إلى غير الله ولا إصدار عن الرأي ، ولا تمسك بتقاليد وعادات ولا ائتمار بالنفس ، فكانوا إذا أسلموا انتقلوا من الحياة الجاهلية بخصائصها وعاداتها وتقاليدها إلى الإسلام بخصائصه وعاداته وأوضاعه ، وكان هذا الانقلاب العظيم يحدث على أثر قبول الإسلام من غير تأن . همَّ فضالة بن عمير بن الملوح أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضالة ؟ قال: نعم، فضالة يا رسول الله ! قال : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ قال : لا شيء ، كنت أذكر الله ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : استغفر الله ، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، وكان فضالة يقول : والله ما رفع يده على صدري حتى ما خلق الله شيئاً أحب إليَّ منه، قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلمّ إلي الحديث ، فقلت : يأبى الله عليك والإسلام (146) . المحكمات والبينات في الإلهيات: وقد كان الأنبياء عليهم السلام أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله ، وعن بداية هذا العالم ومصيره ، وما يهجم عليه الإنسان بعد موته ، وآتاهم علم ذلك كله بواسطتهم عفواً بدون تعب ، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مباديها ولا مقدماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول ، لأن هذه العلوم وراء الحس والطبيعة ، لا تعمل فيهما حواسهم ، ولا يؤدي إليها نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأولية. لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة وأعادوا الأمر جذعاً، وأبدوا البحث أُنفاً وبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها مرشداً ولا خِرِّيتاً، وكانوا في ذلك أكثر ضلالاً ، وأشد تعباً وأعظم اشتغالاً بالفضول من رائد لم يقتنع بما أدى إليه العلم الإنساني في الجغرافية، وما حدد وضبط في الخرائط على تعاقب الأجيال، فحاول أن يقيس ارتفاع الجبال وعمق البحار من جديد ، ويختبر الصحارى والمسافات والحدود بنفسه على قصر عمره ، وضعف قوته ، وفقدان آلته ، فلم يلبث أن انقطعت به مطيته وخانته عزيمته، فرجع بمذكرات وإشارات مختلة ، وكذلك الذين خاضوا في الإلهيات من غير بصيرة، وعلى غير هدى ، جاءوا في هذا العلم بآراء فجة ، ومعلومات ناقصة ، وخواطر سانحة ، ونظريات مستعجلة ، فضلوا وأضلوا. وكذلك منحهم الأنبياء عليهم السلام مبادئ ثابتة ومحكمات هي أساس المدنية الفاضلة ، والحياة السعيدة في كل زمان ومكان، فحرموها على تعاقب الأعصار، فبنوا مدنيتهم على شفا جرف هار، وأساس منهار، وعلى قياس واختيار، فزاغ أساس المدنية وتداعى بناؤها، وخر عليهم السقف من فوقهم. وكان الصحابة رضي الله عنهم سعداء موفقين جداً ، إذ عوّلوا في ذلك كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكفوا المئونة وسعدوا بالثمرة ، ووفروا ذكائهم وقوتهم وجهادهم في غير جهاد ، ووفروا عليهم أوقاتهم فصرفوها فيما يعنيهم من الدين والدنيا وتمسكوا بالعُروة الوثقى ، وأخذوا في الدين بلب اللباب .
|
|