|
| غزوة تبوك دروس وعبر | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: غزوة تبوك دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 8:03 am | |
|
غزوة تبوك دروس وعبر الحمد لله القوي الجبار، المتين القهار، والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء الأخيار، وعلى آله وصحبه الأطهار، ومن تبعهم من الصالحين الأبرار: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
وبعد.. فإن الحديث عن سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حديثُ تحبُّه النفوس المؤمنة، وتأنس به قلوب بالإيمان مطمئنَّة، فحبه في شغاف الأفئدة مغروس، وتوقيره مشربة به النفوس، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-.
إن سيرة النبي قبل أن تكون علماً يُدرس هي موضوع شيق محبب إلى النفوس، وما ذلك إلا لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- هو أحب الخلق إلى قلوب المؤمنين، فكلما قرأ المؤمن شيئاً من سيرته ازداد له حبًا وشوقًا إلى رؤيته ولقائه، فهو أجود الناس وأشجعهم وأحلمهم وأجملهم، ولا شك أن في مغازي النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفوائد والعبر وترقيق القلوب وربطها بالله تعالى ما لا يوجد إلا في القرآن الكريم.
إلا أن الملاحظ أن أكثر الناس أعرضوا عن دراسة سيرته ومغازيه، كما أعرضوا عن القرآن وهجروه، ولهذا السبب زادت الغفلة بين المسلمين وقلَّت محبة الله ومحبة رسوله في قلوب الناس، حتى ظهر ذلك جلياً في ترك الانصياع لأوامر الله وفي الإعراض عن سنة المصطفى.
ونحن اليوم في أمسَّ الحاجة إلى تعليم أبنائنا ونسائنا بل وأنفسنا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، عوضاً عمّا يُحشى في أدمغتنا من تقديس للكرة وتقدير للفن الهابط وكل ما يُسخط الله ولا يرضيه، ولو أن أحدنا سُئل عن مقدار محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- لعجز عن وصف مشاعره، ولكن تهافته على الدنيا وتعامله بالربا وأكله أموال الناس بالباطل وتهاونه في الصلاة وعدم اهتمامه بدين أبنائه وبناته وتهاونه في حدود الله كل ذلك يكذب زعمه محبة النبي، وإنه من المؤسف أن ترى جهل الناس بسيرة نبيهم وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم إلا من رحم الله. يوم يُقلِّب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا ويقارنه بذلك الماضي، يتحسر يوم يجد البون شاسعا والفرق عظيما، يتحسر يوم يرى تلك الأمة التي كانت قائدة، وقد أصبحت تابعة حينما ابتعدت عن شرع ربها ونهج نبيها، فعودا والعود أحمد، عوداً سريعاً إلى الماضي المجيد، لنستلهم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عودا لسيرة من لم يطرق العالم دعوة كدعوته، ولم يؤرخ التاريخ عن مصلح أعظم منه، ولم تسمع أذن عن داعية أكرم منه، وما أحرانا ونحن في الأيام العصيبة أن تتجاوز المدة الزمنية كي نعيش يوما من أيام محمد، لنأخذ العبر والدروس.
ومن هذا الباب لا زلنا وإياكم في هذه الموسوعة المباركة بإذن الله: (غزوات النبي المصطفى دروس وعبر). ومع (غزوة تبوك دروس وعبر) وأسال الله الكريم الوهاب العزيز التواب أن ينفع بهذا العمل وأن يجعله لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم ألقاه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
غزوة تبوك * غزوة تبوك: التي كان سببها هو استجابة طبيعية لفريضة الجهاد؛ ولذلك عزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتال الروم؛ لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 123].
ولا يمنع ما ذكره المؤرخون بأن سبب الخروج هو عزم الروم على غزو المسلمين في عقر دارهم أن يكون هذا حافزًا للخروج إليهم، لأن أصل الخروج كان واردًا.
* غزوة تبوك: هي الغزوة التي خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها في رجب من العام التاسع الهجري بعد العودة من حصار الطائف بنحو ستة أشهر.
* غزوة تبوك: اشتهرت هذه الغزوة باسم غزوة تبوك، نسبة إلى مكان هو عين تبوك، التي انتهى إليها الجيش الإسلامي، وأصل هذه التسمية جاء في صحيح مسلم, فقد روي بسنده إلى معاذ أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: «ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي».
* غزوة تبوك: لقد سُميت أيضاً غزوة العُسْرَة لشدة ما لاقى المسلمون فيها من الضنك، فقد كان الجو شديد الحرارة، والمسافة بعيدة، والسفر شاقًّا لقلة المؤونة وقلة الدواب التي تحمل المجاهدين إلى أرض المعركة، وقلة الماء في هذا السفر الطويل والحر الشديد، وكذلك قلة المال الذي يجهز به الجيش وينفق عليه.
* غزوة تبوك: لها اسم ثالث هو: الفاضحة, ذكره الزرقاني –رحمه الله– في كتابه «شرح المواهب اللدنية» وسميت بهذا الاسم لأن هذه الغزوة كشفت عن حقيقة المنافقين, وهتكت أستارهم، وفضحت أساليبهم العدائية الماكرة، وأحقادهم الدفينة، ونفوسهم الخبيثة, وجرائمهم البشعة بحق رسول الله والمسلمين.
* غزوة تبوك: نقف مع هذه الغزوة في مثل هذا الزمن الذي تشابكت بأمة الإسلام حلقات من المحن، وتقاذفتها أمواج من الفتن، وصيح بهم من كلّ جانب وتداعى عليهم الأكلة، يجمُل الحديث عن هذه الغزوة في مثل هذه الأوضاع العالمية المتلاحقة التي تكرّس لدى المسلمين جميعًا كل يوم أن رزق هذه الأمة وعزها تحت ظل رمحها وجهادها، وذلتها وصغارها في تركها لجهاد أعدائها وإخلادها لشهواتها ودنياها.
* غزوة تبوك: التي من رسائلها أنَّ الله كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه وتنصره عليه﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾ [الحج: 40].
* غزوة تبوك: التي من دروسها العظيمة أن تمكُّن العقيدة في قلوب رجال الإسلام أقوى من كل سلاح وعتاد، وقضى الله أن الأمة متى ما حادث عن عقيدتها وتعلقت بغيرها، إلا تقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات، حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
* غزوة تبوك: من دروسها أن العدو ما تسلل إلا من خلال صفوف المنافقين والمرجفين، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة إلا من قبل أصحاب المسالك الملتوية والقلوب السوداء،﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 47].
* غزوة تبوك: إنها الغزوة التي متى ذُكِرت ذُكِر معها ذلكم الحدث العظيم، الذي عاشته المدينة وتقلبت مع أحداثه خمسين ليلة، إنه خبر الثلاثة الذين خُلفوا، كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، ولا يصف الحادثة كمَن رآها وشاهدها وسمع أحداثها بل عاشها، وتجرع آلامها وأحزانها. دروس وعبر من غزوة تبوك 1- ليميز الله الخبيث من الطيب: لقد كانت دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للتأهب في وقت عسر وحر وموسم لجني الثمار، فأما المؤمنون الصادقون،فقد سارعوا إلى تلبيتهم للرسول غير عابئين بمشقة ولا حرمان، وأما المنافقون، فقد تخلفوا، واخذوا يعتذرون بشتى الأعذار، وهكذا يتبين المخلصون من المنافقين في أيام الشدائد، وينكشف أمر الأدعياء في أيام الشدائد، وينكشف أمر الأدعياء في أيام المحن، وقد قال الله تعالى: ﴿آلم. أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَليَعْلمَنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَليَعْلمَنَّ الكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 1ـ2].
وإنما تقوم الدعوات، و تنهض الأمم بتطوير صفوفها من المنافقين والمخادعين ولا يثبت للشدة إلا كل صادقة العزيمة، مخلص النية، ثابت المبدأ، كثيراً ما عوق الضعاف والمخادعون سير دعوات الإصلاح في الأمة، وحالوا بينها وبين النصر، أو أخروها ولو إلى حين، ولقد تخلص جيش العُسْرَة في غزوة تبوك من أمثال هؤلاء بفضل افتضاح أمرهم، وانكشاف ضعف إيمانهم، وخور عزائمهم، وإن جيشاً متراض الصف، متحد الكلمة، قوي الإيمان، صادق العهد، أجدى للأمة ـ ولو كان قليل العدد ـ وأدعى لاكتساب النصر من جيش كثير العدد، متفاوت الفكرة والقوة والثبات ﴿ كم مِّنْ فِئَةٍ قَليِلةٍ غَلبَتْ فِئَةً كثِيرَةً بِإذْنِ اللهِ، واللهُ مَعَ الصَّابِرينَ ﴾ [البقرة: 249].
2- الإيمان يصنع العجائب: إن في مسارعة الموسرين من الصحابة إلى البذل والإنفاق دليلا على ما يفعله الإيمان في نفوس المؤمنين من مسارعة إلى فعل الخير, ومقاومة لأهواء النفس وغرائزها, مما تحتاج إليه كل أمة لضمان النصر على أعدائها، وخير ما يفعله المصلحون وزعماء النهضات هو غرس الدين في نفوس الناس غرسًا كريمًا.
وهذا ما نجد أمتنا اليوم اشد الحاجة إليه، فالأعداء كثر، والأعباء ثقيلة، والمعركة رهيبة،والعدو قوي ماكر، فلا نستطيع التغلب عليه إلا بمزيد من التضحيات في الأموال والأنفس والأهواء والشهوات ولا يحق ذلك إلا الدين الصحيح المفهوم على حقيقته الذي يربي النفوس على احتساب الأنفاق والتعب في سبيل الأمة جهاداً يثيب الله عليه كما يثب المجاهدين في ميادين النضال.
وفي قصة الذين جاؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلبون أن يأخذهم معه إلى الجهاد، فردهم لأنه لم يجد ما يحملهم عليه، فولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً على حرمانهم من شرف الجهاد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في هذه القصة التي حكاها الله في كتابه أروع الأمثلة على صنع الإيمان للمعجزات، فطبيعة الإنسان أن يفرح لنجاته من الإخطار، وابتعاده عن الحروب، ولكن هؤلاء المؤمنين الصادقين بكوا رغبة في الجهاد.
3- أمة الجهاد: من دروس هذه الغزوة أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة، وحتى ما تركت الجهاد ضربت عليها الذلة والمسكنة، ولذلك فقد رأينا حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- جهاداً في جهاد، فإذا فرغ من جهاد المشركين رجع إلى جهاد ومقاومة المنافقين ثم جهاد الروم.
4. الإنفاق في هذه الغزوة وحرص المؤمنين على الجهاد: حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابة على الإنفاق في هذه الغزوة لبعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته, وكان عثمان -رضي الله عنه- صاحب القِدْح المُعَلَّى في الإنفاق في هذه الغزوة, فهذا عبد الرحمن بن حباب يحدثنا عن نفقة عثمان حيث قال: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يحث على جيش العُسْرَة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله, عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان، فقال: يا رسول الله, عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله, عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهما قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي -صلى الله عليه وسلم- جيش العُسْرَة، قال: فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبلها بيده ويقول: «ما ضَرَّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم -يُردِّدُها مِرارًا-».
وأما عمر فقد تصدَّق بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبا بكر بذلك, وهذا الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي, فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر -رضي الله عنه- بكل ما عنده، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيءٍ أبداً.
وروى أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنفق ألفي درهم وهي نصف أمواله لتجهيز جيش العُسْرَة.
وكانت لبعض الصحابة نفقات عظيمة، كالعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن عبيد الله، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن عدي رضي الله عنهم. وهكذا يفهم المسلمون أن المال وسيلة, واستطاع أغنياء الصحابة أن يبرهنوا أن مالهم في خدمة هذا الدين، يدفعونه عن طواعية ورغبة، وإن تاريخ الأغنياء المسلمين تاريخ مشرف؛ لأن تاريخ المال في يد الرجال لا تاريخ الرجال تحت سيطرة المال, وكما كان الجهاد بالنفس، فكذلك هو بالمال، وإن الذين ربوا على أن يقدموا أنفسهم، تهون عليهم أموالهم في سبيل الله تعالى، رضي الله عن صحابة رسول الله وجزاهم الله خيرًا عن الأمة.
وهم كما قال ابن القيم رحمه الله: أولئك أتبـاع النبي وحزبـه *** ولولاهم ما كان في الأرض مسلم ولولاهم كادت تميد بأهلهـا *** ولكن رواسيها وأوتـادها هـم ولولاهم كانت ظلامًا بأهلها *** ولكنهم فيهـا بـدور وأنجـم
مواقف مؤثرة وصور معبرة من البذل والعطاء والجهاد والفداء، كل هذا استجابة لنداء ربهم: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 41]، وطمعًا في موعود نبيهم: «من جهز جيش العُسْرَة فله الجنة».
والذي لا إله حق غيره، إن لفي ذلك عبرة أي عبرة، إنه متى صدق المسلمون مع ربهم ووحدوا صفهم وبذلوا وسعهم غنيهم وفقيرهم فإن الله ناصرهم وبالحق مؤيدهم، وأين البخلاء بأموالهم والشحيحون بيسير أرزاقهم عن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟! ولكن: ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ﴾ [محمد: 38]. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة تبوك دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 8:08 am | |
| 4- الإخلاص وحب الجهاد: قدَّم فقراء المسلمين جهدهم من النفقة على استحياء؛ ولذلك تعرَّضوا لسخرية وغمز ولمز المنافقين، فقد جاء أبو عقيل بنصف صاع تمر, وجاء آخر بأكثر منه، فلمزوها قائلين: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت الآية: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾ [التوبة: 79]، وقالوا: ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياء، فكانوا يتهمون الأغنياء بالرياء ويسخرون من صدقة الفقراء.
لقد حزن الفقراء من المؤمنين؛ لأنهم لا يملكون نفقة الخروج إلى الجهاد, فهذا عُلَبة بن زيد أحد البكائين صلى من الليل وبكى، وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرض, فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قد غفر له، وفي هذه القصة وما جرى فيها آيات من الإخلاص وحب الجهاد لنصرة دين الله وبث دعوته في الآفاق, وفيها من لطف الله بضعفاء المؤمنين الذين يعيشون في حياتهم عيشة عملية.
وهذا واثلة بن الأسقع نتركه يحدثنا عن قصته: عندما نادى رسول الله في غزوة تبوك، خرجت إلى أهلي فأقبلت وقد خرج أول صحابة رسول الله فطفقت في المدينة أنادي: ألا من يحمل رجلاً له سهمه؟ فإذا شيخ من الأنصار، فقال: لنا سهمه على أن نحمله عقبة، وطعامه معنا؟ فقلت: نعم، قال فسر على بركة الله، فخرجت مع خير صاحب حتى أفاء الله علينا، فأصابني قلائص، فسقتهن حتى أتيته فخرج، فقعد على حقيبة من حقائب إبله، ثم قال: سقهن مدبرات, ثم قال: سقهن مقبلات، فقال: ما أرى قلائصك إلا كرامًا, إنما هي غنيمتك التي شرطت لك، قال: خذ قلائصك يا ابن أخي فغير سهمك أردنا.
وهكذا تنازل واثلة في بداية الأمر عن غنيمته ليكسب الغنيمة الأخروية، أجرًا وثوابًا يجده عند الله يوم لقائه، وتنازل الأنصاري عن قسم كبير من راحته ليتعاقب وواثلة على راحلته ويقدم له الطعام مقابل سهم آخر هو الأجر والثواب، إنها مفاهيم تنبع من المجتمع الذي تربى على كتاب الله وسنة رسوله، لها نفس الخاصية في الإضاءة وتحمل نفس البريق، متمم بعضها لبعضها الآخر، وجاء الأشعريون يتقدمهم أبو موسى الأشعري يطلبون من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم على إبل ليتمكنوا من الخروج للجهاد, فلم يجد ما يحملهم عليه حتى مضى بعض الوقت فحصل لهم على ثلاثة من الإبل.
وبلغ الأمر بالضعفاء والعجزة ممن أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى حد البكاء شوقًا للجهاد وتحرجًا من القعود حتى نزل فيهم قرآن: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 91-92].
إنها صورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد على عهد رسول الله، وما كان يحسه صادقو الإيمان من ألم إذا ما حالت ظروفهم المادية بينهم وبين القيام بواجباتهم، وكان هؤلاء المعوزون وغيرهم ممن عذر الله لمرض أو كبر سن أو غيرهما يسيرون بقلوبهم مع المجاهدين وهم الذين عناهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم» قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر».
5- جواز التصريح لجهة الغزو إذا لم تقتضِ المصلحة ستره: لقد استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحشد ثلاثين ألف مقاتل من المهاجرين والأنصار وأهل مَكَّة والقبائل العربية الأخرى، ولقد أعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-على غير عادته في غزواته- هدفه ووجهته في القتال، إذ أعلن صراحة أنه يريد قتال بني الأصفر (الروم), علما بأن هديه في معظم غزواته أن يوري فيها, ولا يصرح بهدفه ووجهته وقصده, حفاظًا على سرية الحركة ومباغتة العدو. وقد استدل بعض العلماء بهذا الفعل على جواز التصريح لجهة الغزو إذا لم تقتضِ المصلحة ستره، وقد صرح -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة -على غير العادة- بالجهة التي يريد غزوها وجلى هذا الأمر للمسلمين لأسباب, منها: 1. بعد المسافة، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدرك أن السير إلى بلاد الروم يعد أمرًا صعبًا؛ لأن التحرك سيتم في منطقة صحراوية ممتدة قليلة الماء والنبات، ولابد -حينئذ- من إكمال المؤنة ووسائل النقل للمجاهدين قبل بدء الحركة؛ حتى لا يؤدي نقص هذه الأمور إلى الإخفاق في تحقيق الهدف المنشود. 2. كثرة عدد الروم, بالإضافة إلى أن مواجهتهم تتطلب إعدادًا خاصًّا، فهم عدو يختلف في طبيعته عن الأعداء الذين واجههم النبي -صلى الله عليه وسلم- من قبل، فأسلحتهم كثيرة، ودرايتهم بالحرب كبيرة, وقدرتهم القتالية فائقة. 3. شدة الزمان، وذلك لكي يقف كل امرئ على ظروفه, ويعد النفقة اللازمة له في هذا السفر الطويل لمن يعول وراءه. 4. أنه لم يعد مجال للكتمان في هذا الوقت، حيث لم يبق في جزيرة العرب قوة معادية لها خطرها تستدعي هذا الحشد الضخم سوى الرومان ونصارى العرب الموالين لهم في منطقة تبوك ودومة الجندل والعقبة.
لقد شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنا الأخذ بمبدأ المرونة عند رسم الخطط الحربية، ومراعاة المصلحة العامة في حالتي الكتمان والتصريح, ويعرف ذلك من مقتضيات الأحوال، ولما علم المسلمون بجهة الغزوة سارعوا إلى الخروج إليها, وحَثَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على النفقة قائلاً: «مَنْ جهَّز جيش العُسْرَة فله الجنة».
6- قصة أبي ذر الغفاري والعبر منها: قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سائرًا، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: «دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه»، حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: «دعوه, فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» وتلوَّم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماشيًا، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كن أبا ذر» فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو –والله- أبو ذر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده», ومضى الزمان، وجاء عصر عثمان, ثم حدثت بعض الأمور وسُيِّر أبو ذر إلى الربذة، فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه: إذا مِتُّ فاغسلاني وكفناني ثم احملاني فضعاني على قارعة الطريق, فأول ركب يمرُّون بكم فقولوا: هذا أبو ذر.
فلما مات فعلوا به كذلك فطلع ركبٌ فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكي، فقال: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده»، فنزل فوليه بنفسه حتى دفنه. وفي هذه القصة دروس وعبر منها: 1. ما تعرض له أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه- من الصعوبات والمخاطر التي نجاه الله منها وقوَّاه بالصبر عليها، لقد بذل أبو ذر جهدًا كبيرًا في المشي على قدميه وهو يحمل متاعه على ظهره حتى لحق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين؛ لكي ينال شرف الجهاد في سبيل الله. 2. وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: «رَحِمَ اللهُ أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده»، دلالة واضحة -وضوح الشمس في رابعة النهار- على صدق نبوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ الإخبار بأمور لا تقع ثم تقع بعد الإخبار يدل على معجزة وتكريم من الله لهذا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الوسيلة من إثبات النبوة كثيرة في السيرة النبوية الشريفة.
3. كما أن في القصة دلالة على علم ابن مسعود -رضي الله عنه- وقوة ذاكرته وسرعة استحضاره لما حفظ، حيث تذكَّر بعد سنوات عديدة حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عما سيئول إليه أمرُ أبي ذر في آخر حياته -رضي الله عنه-.
7- قصة أبي خيثمة والدروس منها: قال ابن إسحاق:... ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيامًا إلى أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد رشَّت كل واحدة منهما عريشها، وبرَّدت له فيه ماء، وهيَّأت له فيه طعامًا, فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له، فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ, وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهيئا لي زادًا، ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبًا، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففعل حتى إذا دنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو نازل بتبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق مُقبل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كن أبا خيثمة», فقالوا: يا رسول الله, هو -والله- أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلّم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أولى لك يا أبا خيثمة», ثم أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا، ودعا له بخير.
قال ابن هشام: وقال أبو خيثمة في ذلك شعرًا.
واسمه مالك بن قيس: لما رأيت الناس في الدين نافقوا أتيت التي كانت أعفَّ وأكرما وبايعت باليُمنى يدي لمحمد فلم أكتسب إثماً ولم أغش محرما تركت خضيباً في العريش وصرمة صفايا كرامًا يسرها قد تحمما وكنت إذا شك المنافق أسمحت إلى الدين نفسي شطره حيث يمما |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة تبوك دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 8:12 am | |
| وفي هذه القصة دروس وعبر منها: 1- المسلم صاحب ضمير حي: فقد رأى أبو خيثمة -رضي الله عنه- ما أعدَّت له زوجتاه من الماء البارد والطعام مع الظل المُبرد والإقامة, فتذكَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما هو فيه من التعرُّض للشمس والريح والحر, فأبصر وتذكَّر وتيقّظ ضميرُه وحاسب نفسه، ثم عزم على الخروج، وخرج وحده يقطع الفيافي والقفار حتى التقى بعمير بن وهب الجمحي, ولعله كان قادماً من مَكَّة، فهذه الصورة تُبَيِّنُ لنا مثلاً من سلوك المُتقين الذين تمرُّ عليهم لحظات ضعف يعودون بعدها أقوى إيماناً مما كانوا عليه إذا تذكَّروا وراجعوا أنفسهم, وفي بيان ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]، وقد تذكَّر سريعاً وخرج لعله يُدرك ما فاته، وظل يشعر بالذنب حتى وصل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في تبوك وحصل على رضاه وسروره. 2- معرفة الرسول بأصحابه وبمعادنهم: إن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما قال له أصحابه: هذا راكب على الطريق مُقبل: «كُنْ أبا خيثمة», فلما اقترب وعرفوه قالوا: يا رسول الله, هو -والله- أبو خيثمة، يدل على معرفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه وأنه أعرفهم بمعادن رجاله، يعرف المُستجيب من غيره، ويعرف التائب المُنيب إلى ربه إذ زلّت قدمه بسرعة رجوعه، ومعرفة خصال الرجال ومعادنهم تدلُّ على معرفة واسعة، وخبرة مستوعبة فاحصة نتيجة التعامل والاحتكاك في ميادين الحياة المختلفة، فقد كان يخالط الجميع، يسمع منهم ويسمعهم ويسيرون معه، ويجاهدون تحت رايته. 3- حزم أبي خيثمة وصبره ونفاذ عزيمته: تأمل هذا القرار الذي اتخذه أبو خيثمة -رضي الله عنه- أن يلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحده، في هذه الرحلة المضنية، في هذه الصحراء القليلة الماء ذات الحر اللافح، لقد اتخذ هذا القرار الحازم ونفذه بدقة، فدل على قوة عزيمته وعنفوان إرادته وعلى جلده وصبره.
4- عتاب القائد للجندي له أثره: وصل أبو خيثمة معترفاً بذنبه، يطرح السلاح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعاتبه, -صلى الله عليه وسلم- معاتبة تحمل في طياتها اللوم والتأنيب والتهديد, إذ قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أولى لك يا أبا خيثمة» فهي كلمة فيها معنى التهديد، ومعناها: دنوت من الهلكة. إنه مما لا شك فيه أن هذا الكلام كان له وقعه في نفس الجندي، إذ أوقفه على حقيقة ما ارتكب من الذنب، وهذا منهج نبوي كريم في تعليم القادة عدم السكوت على أخطاء الجنود؛ لأن ذلك يضرهم ويلحق الضرر بغيرهم، بل عليهم أن يسعوا إلى تصويب الخطأ ومحاسبة مرتكبه وتقويمه, وبذلك يكونون معلمين ومرشدين ومربين.
8- الحق لابد له من قوة: ومن دروس هذه المعركة أن الحق لابد له من قوة تحرسه وترهب أعداءه، لا يكفي حق بلا قوة.
دعا المصطفى دهرًا بِمَكَّة لَم يُجَبْ…وقد لان منه جانب وخطاب فلما دعا والسيف بالكف مسلّـط…له أسلموا واستسلموا وأنابوا
9- العقيدة أقوى سلاح: ومن الدروس العظيمة من هذه الغزوة: أن تمكن العقيدة في قلوب رجال الإسلام أقوى من كل سلاح وعَتاد، وقضى الله أن الأمة متى ما غَفلَت عن عقيدتها وتعلَّقت بغيرها تقلَّبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات، حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها، والأمة اليوم بعيدة كل البعد عن العقيدة الصحيحة إلا من رحم الله.
فعلى الدعاة والمصلحين والمربين أن يركزوا في دعوتهم على مسألة التوحيد درسًا وشرحًا وعملاً وتطبيقًا، وأن لا يغتروا بغيرهم ممن يخالفهم في هذه المسألة، فلا صلاح ولا فلاح إلا إذا صحّت عقائد الناس واتضحت لهم معالم وأصول هذه العقيدة.
10- وصايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للجيش عند مروره بحجر ثمود: قال أبو كبشة الأنصاري: -رضي الله عنه- لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنادى في الناس: «الصلاة جامعة» قال: فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ممسك بعيره، وهو يقول: «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم؟» فناداه رجل منهم: نعجب منهم يا رسول الله، قال: «أفلا أنذركم بأعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله عز وجل لا يعبأ بعذابكم شيئًا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئًا».
وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: إن الناس نزلوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرض ثمود، الحجر، واستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصابهم» ثم زجر فأسرع حتى خلفها, وهذا منهج نبوي كريم في توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحابته إلى الاعتبار بديار ثمود، وأن يتذكروا بها غضب الله على الذين كذبوا رسوله، وألا يغفلوا عن مواطن العظة برسومها الدارسة، وأطلالها القديمة، ونهاهم عن الانتفاع بشيء مما في ربوعها، حتى الماء لكيلا تفوت بذلك العبرة، وتخف الموعظة، بل أمرهم بالبكاء، وبالتباكي، تحقيقا للتأثر بعذاب الله, ولو أنهم مروا بها كما نمر نحن بآثار السابقين، لتعرضوا لسخط الله، فإن الغابرين شهدوا المعجزات ودلائل النبوة، وعاينوا العجائب، لكن قست قلوبهم فاستهانوا بها، وحق عليهم العذاب، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون من نقمة الله وغضبه.
إن الله عز وجل ما قص علينا من أنباء الأمم الخالية، إلا لكي نأخذ منها العظة والاعتبار، فإذا شهدنا بأعيننا ديارهم التي نزل فيها سخط المولى عز وجل وعذابه الأليم، وجب أن تكون الموعظة أشد، والاعتبار أعمق، والخوف من سخط المولى –سبحانه- أبلغ، ولهذا تسجى النبي صلوات الله وسلامه عليه بثوبه لما مر بالديار الملعونة المسخوطة واستحث خطا راحلته وقال لأصحابه: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين, حذرًا أن يصيبكم ما أصابهم».
11- وفاة الصحابي عبد الله ذي البجادين -رضي الله عنه-: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: قمتُ من جوف الليل، وأنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، قال: فاتبعتها، أنظر إليها، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المُزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حضرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: «أدنيا إليَّ أخاكما» فدلياه إليه، فلما هيأه بشقه، قال: «اللهم إني أمسيت راضيًا عنه، فارض عنه» قال (الراوي عن ابن مسعود): قال عبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة.
قال ابن هشام: وإنما سمي ذا البجادين؛ لأنه كان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك يُضيقون عليه، حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره, فهرب منهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فلما كان قريباً منه، شق بجاده باثنين، فأتزر بواحد واشتمل بالآخر، ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ذو البجادين، لذلك.
وفي هذه القصة دروس وحكم وفوائد منها: 1- تكريم النبي -صلى الله عليه وسلم- لجنوده أحياءً وأمواتًا: فهذا الفعل مع ذي البجادين يدل على حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تكريم أصحابه حتى في حالة الوفاة؛ لأنهم قدموا أنفسهم للجهاد في سبيل الله تاركين وراءهم أعز ما يملكون، فكانت تلك الرعاية مظهرًا من مظاهر تكريمهم في الدنيا، حيث لم يترك جثثهم تتناوشها الذئاب وغيرها من دواب الأرض؛ لكي يكون هذا التكريم من الأسباب التي تدفع غيرهم إلى الاستبسال والإقدام في ميادين الجهاد, ومن الجدير بالذكر أن هذا المبدأ لم يجد من يدعو إلى تطبيقه إلا في العصر الحديث، وبهذا يمكن أن يقال: إن رعاية القائد المسلم لشئون جنده تعد سبقا عسكريًا لم تعرفه النظم والدساتير الوضعية إلا بعد قرون طويلة، من بزوغ الإسلام.
فهذه صورة من البر والتكريم فريدة يتيمة، لن تجد في تاريخ الملوك والحكام من يبر ويتواضع إلى هذا المستوى، إلى حيث يوسد الحاكم فردا من رعيته بيده في مثواه الأخير، ثم يلتمس له المرضاة من رب العالمين، أما هو فقد أعلن أنه أمسى راضيا عنه.
2- جواز الدفن في الليل, والغبطة مشروعة في الخير: فقد دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذا البجادين ليلاً، والسنة أن يعجل في دفن الميت، كما أن الغبطة وهي أن تتمنى حصول الخير لك كما حصل لغيرك من إخوانك, وهذا عكس الحسد، إذ الحسد تمنى زوال النعمة عن غيرك, والحسد كله شر كما ترى، أما الغبطة فلا تكون إلا في الخير, تأمل قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- حينما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في حق ذي البجادين: «اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه» فقال ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب اللحد إنها كلمة كل مؤمن آمن بالله واليوم الآخر، ووقف موقفه ذاك, فقد عرفوا أين تكون ميادين التنافس.
12- موقف المنافقين من غزوة تبوك: عندما أعلن الرسول -صلى الله عليه وسلم- النفير ودعا إلى الإنفاق في تجهيز هذه الغزوة، أخذ المنافقون في تثبيط همم الناس قائلين لهم: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [التوبة: 81-82].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في جهازه لتبوك، للجد بن قيس: «يا جد, هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبًا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر، فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: «قد أذنت لك» ففيه نزلت الآية: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 49].
وذهب بعضهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مبدين أعذارًا كاذبة ليأذن لهم بالتخلف، فأذن لهم, فعاتبه الله بقوله: ﴿عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43].
وبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ناسًا منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل إليهم من أحرق عليهم بيت سويلم.
وهذا يدل على مراقبة المسلمين الدقيقة ومعرفتهم بأحوال المنافقين واليهود، فقد كانت عيون المسلمين يقظة تراقب تحركات اليهود والمنافقين، واجتماعاتهم وأوكارهم، بل كانوا يطلعون فيها على أدقِّ أسرارهم واجتماعاتهم وما يدور فيها من حبك المؤامرات, وابتكار أساليب التثبيط, واختلاق الأسباب الكاذبة لإقناع الناس بعدم الخروج للقتال، وقد كان علاج رسول الله لدعاة الفتنة وأوكارها حازما حاسما، إذ أمر بحرق البيت على من فيه من المنافقين، وأرسل من أصحابه من ينفذه, ونفذ بحزم, وهذا منهج نبوي كريم يتعلم منه كل مسئول في كل زمان ومكان كيف يقف من دعاة الفتنة ومراكز الشائعات المضللة التي تلحق الضرر بالأفراد والمجتمعات والدول؛ لأن التردد في مثل هذه الأمور يعرض الأمن والأمان إلى الخطر وينذر بزوالها.
لقد تحدث القرآن الكريم عن موقف المنافقين قبل الغزوة وأثناءها وبعدها, ومما جاء من حديث القرآن الكريم عن موقف المنافقين قبل غزوة تبوك ما يتضمن استئذانهم، وتخلفهم عن الخروج، وكان ممن تخلف عبد الله بن أبيّ ابن سلول, وقد تحدث القرآن عنهم فقال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: 42].
فقد بيَّن -سبحانه وتعالى- موقف المنافقين وأنهم تخلفوا بسبب بعد المسافة وشدتها، وأنه لو كان الذي دعوتهم إليه يا محمد عرضًا من أعراض الدنيا ونعيمها وكان السفر سهلا لاتبعوك في الخروج، ولكنهم تخلفوا ولم يخرجوا, فالآية تشرح وتوضح ملابسات موقفهم قبل الخروج إلى الغزوة، وأسباب هذا الموقف, ثم حكى –سبحانه- ما سيقوله هؤلاء المنافقون بعد عودة المؤمنين من هذه الغزوة: ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، كان نزول هذه الآية قبل رجوعه -صلى الله عليه وسلم- من تبوك.
والمعنى: وسيحلف هؤلاء المنافقون بالله -كذبًا وزورًا- قائلين: لو استطعنا -أيها المؤمنون- أن نخرج معكم للجهاد في تبوك لخرجنا، فإننا لم نتخلف عن الخروج معكم إلا مضطرين فقد كانت لنا أعذارنا القاهرة التي حملتنا على التخلف.
وقوله: ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
قال ابن عاشور: أي يحلفون مهلكين أنفسهم -أي موقعينها في الهلك, والهلك: الفناء والموت- ويطلق على الأضرار الجسمية وهو المناسب هنا أي يتسببون في ضر أنفسهم بالأيمان الكاذبة وهو ضر الدنيا وعذاب الآخرة, وفي هذه الآية دلالة على أن تعمد اليمين الفاجرة يفضي إلى الهلاك، ثم عاتب الله تعالى نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ﴿عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا, وهؤلاء هم فريق من المنافقين، منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، والجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، وكانوا تسعا وثلاثين واعتذروا بأعذار كاذبة. والآية الكريمة عتاب لطيف من اللطيف الخبير -سبحانه- لحبيبه -صلى الله عليه وسلم- على ترك الأولى, وهو التوقف عن الإذن إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال ثم قال تعالى: ﴿لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: 44-45].
هذه الآيات أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال، فبين –سبحانه- أنه ليس من شأن المؤمنين بالله واليوم الآخر الاستئذان وترك الجهاد في سبيل الله، وإنما هذا من صفات المنافقين الذين يستأذنون من غير عذر, وصفهم –سبحانه- بقوله: ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي: شكت في صحة ما جئتهم به، وقوله ﴿ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ أي: يتحيرون يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شيء. لقد كانت غزوة تبوك منذ بداية الإعداد لها مناسبة للتمييز بين المؤمنين والمنافقين، وضحت فيها الحواجز بين الطرفين، ولم يعد هناك أي مجال للتستر على المنافقين أو مجاملتهم, بل أصبحت مجابهتهم أمرًا ملحًّا بعد أن عملوا كل ما في وسعهم لمجابهة الرسول والدعوة، وتثبيط المسلمين عن الاستجابة للنفير الذي أعلنه الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- والذي نزل به القرآن الكريم، بل وأصبح الكشف عن نفاق المنافقين، وإيقافهم عند حدهم واجبًا شرعيًّا. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة تبوك دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 8:19 am | |
| 13- جواز القتال في الأشهر الحرم: ومن الدروس جواز القتال في الشهر الحرام إن كان خروجه في رجب محفوظاً على ما قاله ابن إسحاق ولكن ها هنا أمر آخر وهو أن أهل الكتاب لم يكونوا يحرمون الشهر الحرام بخلاف العرب فإنها كانت تحرمه وقد تقدم أن في نسخ تحريم القتال فيه قولين وذكرنا حجج الفريقين. 14- بعض المعجزات التي حدثت في الغزوة: ظهرت في غزوة تبوك معجزات منها: 1- الله تعالى يرسل السحاب لدعاء نبيه بالسقيا: لما جاز النبي -صلى الله عليه وسلم- حجر ثمود، أصبح الناس ولا ماء لهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربه، واستسقى لمن معه من المسلمين، فأرسل الله -سبحانه وتعالى- سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء، فتحدث ابن إسحاق عمن قال لمحمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم والله، إن كان الرجل ليعرفه من أخيه، ومن أبيه، ومن عمه، وفي عشيرته، ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك، ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي، عن رجل من المنافقين معروف نفاقه، كان يسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث سار، فلما كان من أمر الناس بالحجر ما كان، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دعا، فأرسل الله السحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس، قالوا: أقبلنا عليه ونقول: ويحك! هل بعد هذا الشيء؟ قال: سحابة مارة.
2- خبر ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سائرًا في طريقه إلى تبوك، ضلت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها وعند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من أصحابه، يقال له: عمارة بن حزم, وكان عقبيًّا بدريًّا، وهو عم بني عمرو بن حزم، وكان في رحله زيد بن اللصيت القينقاعي, وكان منافقًا، قال زيد بن اللصيت وهو في رحل عمارة، وعمارة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أليس محمد يزعم أنه نبي؟ ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمارة عنده: «إن رجلاً قال: هذا محمد يزعم أنه يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها» فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله، فقال: والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا، للذي قال زيد بن اللصيت، فقال رجل مِمَّنْ كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي, فأقبل عمارة على زيد، يجأ في عنقه (يطعنه فيه) يقول: إليَّ عباد الله، إن في رحلي لداهية، وما أشعر، اخرج أي عدو الله من رحلي فلا تصحبني، قال ابن إسحاق: فزعم بعض الناس أن زيدًا تاب بعد ذلك، وقال بعض الناس: لم يزل متهما بشر حتى هلك.
3- الإخبار بهبوب ريح شديدة والتحذير منها: أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في تبوك بأن ريحًا شديدة ستهب, وأمرهم بأن يحتاطوا لأنفسهم ودوابهم فلا يخرجوا حتى لا تؤذيهم، وليربطوا دوابهم حتى لا تؤذى، وتحقق ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فهبت الريح الشديدة وحملت من قام فيها إلى مكان بعيد فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي حميد قال: وانطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيئ.
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم معقباً على هذا الحديث: هذا الحديث فيه هذه المعجزة الظاهرة من إخباره -صلى الله عليه وسلم- بالمغيب وخوف الضرر من القيام وقت الريح.
4- تكثير ماء عين تبوك والإخبار بما ستكون عليه من خصب: قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك, وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي» فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك, تبض بشيء من ماء، فسألهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «هل مسستما من مائها شيئا؟» قالا: نعم، فسبهما النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلاً حتى اجتمع في شيء,وغسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه يديه ووجهه, ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر حتى استقى الناس.
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا» , لقد كانت منطقة تبوك والوادي الذي كانت فيه العين منطقة جرداء لقلة الماء، ولكن الله -عز وجل- أجرى على يد رسوله -صلى الله عليه وسلم- بركة تكثير هذا الماء حتى أصبح يسيل بغزارة، ولم يكن هذا آتيا لسد حاجة الجيش، بل أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيستمر وستكون هناك جنان وبساتين مملوءة بالأشجار المثمرة، ولقد تحقق ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد فترة قليلة من الزمن، وما زالت تبوك حتى اليوم تمتاز بجنانها وبساتينها ونخيلها وتمورها، تنطق بصدق نبوة الرسول وتشهد بأن الرسول لا يتكلم إلا صدقًا, ولا يخبر إلا حقا, ولا ينبئ بشيء إلا ويتحقق. 5- تكثير الطعام: قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله, لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وأدمنا، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «افعلوا»، فجاء عمر فقال: يا رسول الله, إنهم إن فعلوا قل الظَّهْر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم بالبركة، لعل الله يجعل في ذلك، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنطع فبسطه، ثم دعاهم بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف الذرة، والآخر بكف التمر، والآخر بالكسرة حتى اجتمع على النطع في ذلك شيء يسير، ثم دعا عليه بالبركة، ثم قال لهم: «خذوا في أوعيتكم» فأخذوا من أوعيتهم حتى ما تركوا من المعسكر وعاء إلا ملأوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاكٍٍّ فتحجب عنه الجنة».
هذه بعض المعجزات والكرامات التي أظهرها الله على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك تدل على صدق نبوته ورسالته, وتدل على رفعة منزلته وتكريمه عند ربه.
15- إذا استنفر الإمام الجيش لزمهم النفير: ومن الدروس والعبر أن الإمام إذا استنفر الجيش لزمهم النفير ولم يجز لأحد التخلف إلا بإذنه ولا يشترط في وجوب النفير تعيين كل واحد منهم بعينه بل متى استنفر الجيش لزم كل واحد منهم الخروج معه وهذا أحد المواضع الثلاثة التي يصير فيها الجهاد فرض عين. والثاني: إذا حضر العدو البلد. والثالث إذا حضر بين الصفين.
16- خطر الاستهزاء بالدين والصالحين: قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يومًا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطونا, ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت, ولكنك منافق, لأخبرنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزل القرآن.
قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله والحجارة تنكبه، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟».
وفي رواية قتادة قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات.. فأطلع الله نبيه على ذلك فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: «احبسوا هؤلاء الركب»، فأتاهم فقال: قلتم كذا وقلتم كذا، قالوا: فأنزل الله فيهم ما تسمعون, فأنزل الله تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ [التوبة: 64-65].
والاستفهام في قوله: ﴿قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ استفهام إنكاري.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء موبخًا ومنكرًا: ألم تجدوا ما تستهزئون به في مزاحكم ولعبكم -كما تزعمون- سوى فرائض الله وأحكامه وآياته ورسوله الذي جاء لهدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور؟! ثم بيَّن -سبحانه- أن استهزاءهم هذا أدى بهم إلى الكفر فقال: ﴿لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [التوبة: 66].
ومعنى الآية: أي لا تذكروا هذا العذر لدفع هذا الجرم، لأن الإقدام على الكفر لأجل اللعب لا ينبغي أن يكون, فاعتذاركم إقرار بذنبكم, فهو كما يقال: عذر أقبح من ذنب.
وقوله: ﴿إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ أي: إن نعف عن بعضكم لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم -كمخشن بن حمير- نعذب بعضًا آخر لإجرامهم وإصرارهم عليه.
ب- إيذاء الرسول والمؤمنين ومحاولة اغتيال رسول الله: وقد نزل في هؤلاء المنافقين قول الله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ [التوبة: 74].
وقد ذكر ابن كثير أن الضحاك قال: إن نفراً من المنافقين همُّوا بالفتك بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في غزوة تبوك في بعض الليالي في حال السير, وكانوا بضعة عشر رجلاً نزلت فيهم هذه الآية, وفي رواية الواحدي عن الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، فكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سَبُّوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم رسول الله: «يا أهل النفاق, ما هذا الذي بلغني عنكم؟» فحلفوا ما قالوا شيئاً من ذلك، فأنزل الله هذه الآية إكذابًا لهم.
والمعنى الإجمالي للآية: يحلفون بالله أنهم ما قالوا تلك الكلمة التي نُسِبَتْ إليهم، واللهُ يُكَذِّبُهُم ويُثبت أنهم قد قالوا كلمة الكُفر التي رويت عنهم، ولم يذكر القرآن هذه الكلمة لأنه لا ينبغي ذكرها...).
17- وجوب الجهاد بالمال: ومن الدروس كما يقول بن القيم وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وهي الصواب الذي لا ريب فيه فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر أهم وآكد من الجهاد بالنفس ولا ريب أنه أحد الجهادين كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من جهز غازيا فقد غزا فيجب على القادر عليه كما يجب على القادر بالبدن ولا يتم الجهاد بالبدن إلا ببذله ولا ينتصر إلا بالعدد والعدد فإن لم يقدر أن يكثر العدد وجب عليه أن يمد بالمال والعدة وإذا وجب الحج بالمال على العاجز بالبدن فوجوب الجهاد بالمال أولى وأحرى.
دروس من قصة مسجد الضرار: وفي قصة مسجد الضرار دروس وعبر وفوائد منها: 18- (أ) الكفر ملة واحدة: وقد تبيَّن هذا في موقف أبي عامر الراهب من الإسلام ومن المسلمين؛ إذ غضب غضباً شديداً، وتألّم لهزيمة المشركين في بدر، فأعلن عداءه للرسول, وتوجه إلى عاصمة الشرك مَكَّة يَحُثُّ أهلها على قتال المسلمين, وخرج مقاتلاً معهم في أحُد، وحاول تفتيت الصف الإسلامي وصدق الله تعالى عندما قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73].
19- (ب) محاولة التدليس على المسلمين: حاول المنافقون أن يضفوا الشرعية على هذا البناء وأنه مسجد بنوه لأسباب مقنعة في الظاهر، ولكن لا حقيقة لها في نفوس أصحابها، فقد جاءوا يطلبون من الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصلاة في هذا البناء ليكون مسجدا قد باركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة فيه، فإذا حدث هذا فقد استقر قرارهم في تحقيق أهدافهم، وهذا أسلوب ماكر خبيث قد ينطلي على كثير من الناس.
20- (ج) فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين: إن الباحث ليلاحظ مدى العناية الإلهية بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أطلعه الله -عز وجل- على أسرار هؤلاء المنافقين وما أرادوه من تأسيس هذا المسجد، فلولا إعلام الله لرسوله لما أدرك رسول الله حقيقة نواياهم، ولصلى في البناء فأضفى عليه الشرعية وأقبل الناس يصلون فيه لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى فيه، وبذلك يحدث الاختلاط بين المنافقين وضعاف المسلمين فينفردون بهم وقد يؤثرون عليهم بالشائعات. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة تبوك دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 8:24 am | |
| 21- (د) العلاج النبوي الحاسم: إن ما قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الأمر بهدم مسجد الضرار هو التصرف الأمثل، وهذا منهج نبوي كريم سَنَّهُ لقادة الأمَّة في القضاء على أي عمل يُراد منه الإضرار بالمسلمين وتفريق كلمتهم، فالداء العُضال لا يُعالج بتسكينه والتخفيف منه، وإنما يُعالج بحسمه وإزالة آثاره، حتى لا يتجدَّد ظهوره بصورة أخرى، وإن الثمار العملية، التي لمسها المسلمون على إثر تطبيق الأمر النبوي الحازم لتدلنا على أن هذه المنهجية التي نهجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع هذا المكر الخبيث, هي الطريقة المثلى لقمع حركة النفاق في المجتمع المسلم، فقد أصبح أمرهم بعد ذلك يتلاشى شيئا فشيئا حتى لم يبق منهم بعد لحاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى إلا عدد قليل، ولم يعرف عنهم بعد تدمير مسجد الضرار أن قاموا بأعمال تخدم الهدف نفسه لعلمهم بنتائج العمل بعد انكشافهم.
22- ( هـ) ما يلحق بحكم مسجد الضرار: ذكر المفسرون ما يلحق بمسجد الضرار في الحكم، فهذه بعض أقوالهم: أ- قال الزمخشري:... وقيل كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب, فهو لاحق بمسجد الضرار. علق الدكتور عبد الكريم زيدان على قول الزمخشري فقال: ولكن هل يلحق بمسجد الضرار فيهدم، كما هدم مسجد الضرار الذي بناه المنافقون في المدينة وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهدمه؟ لا أرى ذلك, وإنما يمكن أن يقال إن المسجد الذي بنى لهذه الأغراض يلحق بمسجد الضرار من جهة عدم ابتنائه على التقوى، والإخلاص الكامل لله تعالى.
ب- قال القرطبي في تفسيره: قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه. ج- وقال سيد قطب في تفسيره: هذا المسجد مسجد الضرار الذي اتخذ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكيدة للإسلام والمسلمين، هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى؛ يتخذ في صورة نشاط ظاهره الإسلام وباطنه لسحق الإسلام أو تشويهه... ويتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها، وهي ترمي هذا الدين، ويتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام، لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يُذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب بما توحيه لهم من أن الإسلام بخير، وأنه لا داعي للخوف أو القلق عليه. 23- (و) قاعدة لمعرفة ما يلحق بالمسجد الضرار: قال الدكتور عبد الكريم زيدان: كل ما يتخذ مما هو في ظاهره مشروع، ويريد متخذوه تحقيق غرض غير مشروع، فهو ملحق بالمسجد الضرار، لأنه يحمل روحه وعناصره, وإذا أردنا الإيجاز قلنا في هذه القاعدة: كل ما كان ظاهره مشروعا ويريد متخذوه الإضرار بالمؤمنين فهو ملحق بالمسجد الضرار.
وبناء على هذه القاعدة يخرج من نطاق مسجد الضرار وما يلحق به، ما ذكره الإمام ابن القيم من مشاهد الشرك، ومن أماكن المعاصي والفسوق كالحانات وبيوت الخمر والمنكرات ونحو ذلك؛ لأن هذه المنكرات ظاهرها غير مشروع فلا تلحق به وإن استحقت الإزالة كمسجد الضرار باعتبارها منكرات ظاهرًا وباطنًا.
24- (ز) مساجد الضرار في بلاد المسلمين: لا يزال أعداء الإسلام من المنافقين والملحدين، والمبشرين (المنصِّرين) والمستعمرين, يقيمون أماكن باسم العبادة وما هي لها، وإنما المراد بها الطعن في الإسلام وتشكيك المسلمين في معتقداتهم وآدابهم، وكذلك يقيمون مدارس باسم الدرس والتعليم ليتوصلوا بها إلى بث سمومهم بين أبناء المسلمين، وصرفهم عن دينهم، وكذلك يقيمون المنتديات باسم الثقافة والغرض منها خلخلة العقيدة السليمة في القلوب, والقيم الخلقية في النفوس، ومستشفيات باسم المحافظة على الصحة والخدمة الإنسانية والغرض منها التأثير على المرضى والضعفاء وصرفهم عن دينهم, وقد اتخذوا من البيئات الجاهلة والفقيرة -لاسيما في بلاد إفريقيا- ذريعة للتوصل إلى أغراضهم الدنيئة التي لا يقرها عقل ولا شرع ولا قانون. إن مسجد الضرار ليس حادثة في المجتمع الإسلامي الأول وانقضت, بل هي فكرة باقية، يخطط لها باختيار الأهداف العميقة، وتختار الوسائل الدقيقة لتنفيذها, وخططها تصب في التآمر على الإسلام وأهله بالتشويه وقلب الحقائق، والتشكيك، وزرع بذور الفتن لإبعاد الناس عن دينهم وإشغالهم بما يضرهم ويدمر مصيرهم الأخروي.
25- لا يعذر العاجز بماله حتى يبذل جهده: ومن دروس هذه الغزوة أن العاجز بماله لا يعذر حتى يبذل جهده ويتحقق عجزه فإن الله سبحانه إنما نفى الحرج عن هؤلاء العاجزين بعد أن أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليحملهم فقال لا أجد ما أحملكم عليه فرجعوا يبكون لما فاتهم من الجهاد فهذا العاجز الذي لا حرج عليه. دروس وعبر من قصة المخلفين الثلاثة: وردت قصة الثلاثة الذين خلفوا على لسان كعب بن مالك -رضي الله عنه- في كتب السيرة والحديث والتفسير بروايات متقاربة في ألفاظها، ولقيت عناية فائقة في الشرح والتدريس, وكان صحيح البخاري من أكثر الكتب دقة وتفصيلا لهذه القصة.
ونترك كعب بن مالك -رضي الله عنه- يُحدثنا بنفسه حيث قال: لم أتخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن –قط- أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان –قط- حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حر شديد, واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، وعدوًّا كثيرًا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريدون الديوان, قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي الله.
وغزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الغزوة حيث طابت الثمار والظلال, وتجهز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقضِ شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم, وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصًا عليه النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه، ونظره في عطفيه فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت, والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كن أبا خيثمة» فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون, قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أظل قادمًا زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا, فقبل منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئت، فلما سلمت، تبسم تبسم المغضب, ثم قال: «تعال», فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» قال: قلت: بلى, إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً ولكني –والله- لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله, لا –والله- ما كان لي عذر، والله ما كنت -قط- أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك», فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما اعتذر به إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك، استغفار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك، قال: فوالله مازالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكذِّب نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوة.
فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين عن كلامنا -أيها الثلاثة- من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف, فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم فكنت أخرج، فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى طال ذلك عليَّ من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، -وهو ابن عمي, وأحب الناس إلي- فسلمت عليه, فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة, أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاءني فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحقْ بنا نو فقلت حين قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور، فسجرتها به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتيني فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا, بل اعتزلها فلا تقربنها، قال: فأرسل إلى صاحبي بمثل هذا.
قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله، فقالت له: يا رسول الله, إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك, فقالت: إنه -والله- ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في امرأتك؟ فقد أذن لامرأة هلال ابن أمية أن تخدمه، قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما يدريني ماذا يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب، قال فلبثت بذلك عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت علىَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك, أبشر.
قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج، قال: فآذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا, فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إليَّ فرسًا، وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس, فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون: لتهنأك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد، حوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني, والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة, قال كعب: فلما سلمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: «لا, بل من عند الله» وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سُرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر قال: وكنا نعرف ذلك قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله, إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال: وقلت: يا رسول الله, إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت, فوالله ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومي هذا، أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، قال: فأنزل الله عز وجل: ﴿لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَة مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة: 117-118] حتى بلغ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]. قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة -قط- بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا الله حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال الله: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إذا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 95-96].
قال كعب: وكنا تخلفنا -أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا حتى قضى الله فيه, فبذلك قال الله عز وجل: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة: 118] وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيَّانا، وإرجاؤه أمرنا، عَمَّنْ حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
|
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة تبوك دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 8:32 am | |
| وفي هذه القصة دروس وعبر وفوائد كثيرة نذكر منها: 26- (أ) الأسلوب الجميل والبيان الرائع والأدب الرفيع: لقد تمت صياغة هذا الحديث بأسلوب جميل، وبيان رائع، وأدب رفيع، وإنه ليعتبر -مع أمثاله كحديث صلح الحديبية وحديث الإفك- نماذج عالية للأدب العربي الرفيع, وليت القائمين على وضع المناهج الدراسية يختارون هذه الأحاديث وأمثالها لتنمية مدارك الطلاب, وتكوين الملكة الأدبية والثروة اللغوية العالية، أنظر مثلاً إلى قول كعب في هذا الحديث: فلمَّا قيل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أظلَّ قادماً زاح عنِّي الباطل، وعرفتُ أنِّي لن أخرج منه أبدًا بشيءٍ فيه كذبٍ؛ فأجمعتُ صِدْقَهُ.
27- (ب) الصدق سفينة النجاة: لقد أدرك كعب, وهلال، ومرارة -رضي الله عنهم- خطورة الكذب فعزموا على سلوك طريق الصراحة والصدق وإن عرضهم ذلك للتعب والمضايقات، ولكن كان أملهم بالله -تعالى- كبيرًا في أن يقبل توبتهم ثم يعودون إلى الصف الإسلامي أقوى مما كانوا عليه, وما أجمل ختم رب العالمين توبته على كعب ومن معه بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].
28- (ت) الهجر التربوي وأثره في المجتمع: إن الهجر التربوي له منافعه العظيمة في تربية المجتمع المسلم على الاستقامة ومنع أفراده من التورط في المخالفات التي تكون إما بترك شيء من الواجبات أو فعل شيء من المحرمات؛ لأن من توقع أنه إذا وقع في شيء من ذلك سيكون مهجورا من جميع أفراد المجتمع, فإنه لن يفكر في الإقدام على ذلك، ولا يغيب عن البال أن تطبيق هذا الحكم يجب أن يتم في الظروف المشابهة لحياة المسلمين في العهد النبوي المدني، حيث توجد الدولة المهيمنة والمجتمع القوي, مع أمن الوقوع في الفتنة لمن طبق عليه هذا الحكم.
وهذا الهجر التربوي يختلف عن الهجر الذي يكون بين المسلمين على أمور الدنيا, فهذا دنيوي وذاك ديني، فالهجر الديني مطلب شرعي يثاب عليه فاعله، أما الهجر الدنيوي فإنه مكروه إلا إذا زاد عن ثلاثة أيام فإنه يكون محرما لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ, يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا, وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه».
29- (ث) تنفيذ أوامر القيادة في المجتمع المسلم: استجاب المجتمع المسلم كله لتنفيذ أمر المقاطعة والهجر الذي صدر من القائد الأعلى -صلى الله عليه وسلم- وامتنعوا جميعا عن الحديث مع هؤلاء الثلاثة, ووصف كعب لنا ذلك فقال:... فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف, فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم, فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد... وقد أطلق كعب السلام على ابن عمه أبي قتادة فلم يرد عليه السلام, وناشده بالله مرارًا: هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، مع أنه من أحب الناس إليه، لقد كان أبو قتادة في هذا الموقف موزع الفكر بين إجابة رجل حبيب إليه عزيز عليه، وبين تنفيذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتطبيق الهجر التربوي, ولكن ليس هناك تردد بين الأمرين، فالذي أوحى به إيمان أبي قتادة هو تنفيذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فظهر ذلك على سلوكه.
وقد بلغ الالتزام بالأمر النبوي في الهجر التربوي ذروته حين أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثلاثة الذين خلفوا باعتزال زوجاتهم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا, فالتزم الجميع بذلك، واستأذنت زوجة هلال بن أمية -وكان شيخا طاعنا في السن لا يجد من يخدمه- فطلبت من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يأذن لها أن تخدمه فأذن لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك شريطة ألا يقربها؛ فالتزمت رضي الله عنها. 30- (ج) الولاء التام لله ورسوله: كان العدو الصليبي يراقب ويرصد ويستغل الفرصة السانحة لكي يمزق الجبهة الداخلية ويشعل نار الفتنة بين المسلمين ليوهن البنيان ويقوض الأركان, ولذلك استغل ملك غسان فرصة هجران المسلمين لكعب بن مالك -رضي الله عنه- وعقوبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له, بأن يرسل سفيره لكعب برسالة خاصة منه إليه يغريه فيها, تأمل قوله: قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك.
فكان تعليق كعب على هذه الرسالة: وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ مني ما وقعت فيه أن طمع فيَّ رجال من أهل الشرك، ثم أحرق الرسالة وهذا الموقف يدل على شدة ولاء كعب لله ورسوله وقوة إيمانه وعظمة نفسه, فقد أدرك أنها محنة جديدة أقسى من الأولى، فلا يرضيه أن يجيب ملك غسان بالسلب، أو يرمي بالكتاب ويمزقه، ولكنه رمى به في التنور ليصير رمادا، ويصير كل ما به دخانا يتبدد في الهواء، وخرج الرجل من محنته وهو أقوى ما يكون إيمانا، وأصفى ما يكون روحا، وأكرم ما يكون أخلاقا, فيالعظمة هذه النفوس المؤمنة الكبيرة! لقد مر كعب من فوق هذا الاختبار والابتلاء عزيزًا قويًا بإسلامه، لم يتأثر به ولا انزلق فيه.
31- (ح) توبة الله على العبد قيمة دينية يتطلع إليها الصادقون: عندما نزلت الآيات الكريمة التي بينت توبة الله على هؤلاء الثلاثة كان ذلك اليوم من الأيام العظيمة عند المسلمين, ظهرت فيه الفرحة على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى استنار كأنه قطعة قمر، وظهرت الفرحة على وجوه الصحابة -رضي الله عنهم- حتى صاروا يتلقون كعبًا وصاحبيه أفواجًا يهنئونهم بما تفضل الله به عليهم من التوبة, وجاء كعب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ووجهه يبرق من السرور فقال له: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، وهذا يعني مقام التوبة وأنها أعظم من الدخول في الإسلام.
إن التوبة تعني: عودة العبد إلى الدخول تحت رضوان الله تعالى الذي هو أعلى هدف ينشده المسلم، وبالتالي فإنه يحظى بحفظه -جل وعلا- في الدنيا وتكريمه في الآخرة، لقد كانت توبة كعب عظيمة عبر عنها بنزع ثوبيه -اللذين لا يملك يومئذ غيرهما- وإهدائهما لِمَنْ بشَّره وعدم نسيان كعب لطلحة بن عبيد الله مُصافحته وتهنئته له وكذلك كانت فرحة صاحبيه عظيمة غير أن كعباً لم يذكر في هذا الخبر إلا ما جرى له، وقد جاء في رواية الواقدي: وكان الذي بشَّر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد قال: وخرجت إلى بني َّواقف فبشًّرتُهُ فسجد، قال سعيد: فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه.
32- (خ) تشرع أنواع من العبادات شكرًا لله عند النعمة: كانت فرحة كعب بن مالك بتوبة الله -سبحانه وتعالى- عليه لا تحدها حدود, ولا يتصورها مثل...
وقد تفنن هو -رضي الله عنه- في التعبير عنها بجملة من العبادات منها: أ-سجود الشكر: حينما سمع كعب البشارة بتوبة الله عليه خر ساجدًا من فوره شكرًا لله -تبارك وتعالى- فقد كان من عادة الصحابة -رضي الله عنهم- أن يسجدوا شكرًا لله -تعالى- كلما تجددت لهم نعمة أو انصرفت عنهم نقمة, وقد تعلموا ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . ب- مكافأة الذي يحمل البُشرى: فقد نزع كعب ثوبيه اللذين كان يلبسهما، فكساهما الذي سمع صوته بالبشرى، وما كان يملك وقتئذ غيرهما، ثم استعار ثوبين فلبسهما، ولا شك أن هذا ضرب من الهبة المشروعة, فإن كان المبشر غنيا كان له هدية، وإن كان فقيرا كان له صدقة، وكلاهما إخراج المال شكرا لله –تعالى- على إنزاله الفرج.
ج- التصدُّق بالمال: فقد جعل كعب من توبته أن ينخلع من ماله صدقة لله تعالى, لكنه -عليه الصلاة والسلام- لم يتقبل منه التصدق بجميع ماله، وقال له: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك», وكأنه يستشيره بذلك، فكانت المشورة بإمساك بعض ماله وقد ثار الخلاف الفقهي فيمن نذر التصدق بجميع ماله، والصدقة مستحبة, والنذر واجب الوفاء، ولم يذهب كعب إلى النذر, وإنما استشار في الصدقة بكل المال، فأشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه بإمساك بعض ماله.
33- (د) لم يكن يتخلف عنه -صلى الله عليه وسلم- إلا منافق أو معذورأو من خلفه النبي -صلى الله عليه وسلم-: فإنه لم يكن يتخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أحد رجال ثلاثة إما مغموص عليه في النفاق أو رجل من أهل الأعذار أو من خلفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستعمله على المدينة أو خلفه لمصلحة.
ومنها: أن الإمام والمطاع لا ينبغي له أن يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور بل يذكره ليراجع الطاعة ويتوب فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال بتبوك: ما فعل كعب؟ ولم يذكر سواه من المُخلّفين استصلاحاً له ومُراعاة وإهمالاً للقوم المنافقين.
34- (ر) جواز الطعن اجتهاداً: جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط كما قال معاذ للذي طعن في كعب بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ولم ينكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على واحد منهما.
35- (ز) الحكم بالظاهر: ومنها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين ويكل سريرته إلى الله ويجري عليه حكم الظاهر ولا يعاقبه بما لم يعلم من سره. 36- (س) ترك رد السلام على مَنْ أحدث حدثاً: ترك الإمام والحاكم رد السلام على من أحدث حدثاً تأديبا له وزجرا لغيره فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يُنقل أنه رد على كعب بل قابل سلامه بتبسم المغضب.
37- (ش) تبسم الغضب: ومنها: أن التبسم قد يكون عن الغضب كما يكون عن التعجب والسرور فإن كلا منهما يوجب انبساط دم القلب وثورانه ولهذا تظهر حمرة الوجه لسرعة ثوران الدم فيه فينشأ عن ذلك السرور والغضب تعجب يتبعه ضحك وتبسم فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه في وجهه ولا سيما عند المعتبة...
كما قيل: إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث مبتسم.
38- (ص) جواز معاتبة الإمام والمُطاع أصحابه: ومنها: معاتبة الإمام والمطاع أصحابه ومن يعز عليه ويكرم عليه فإنه عاتب الثلاثة دون سائر من تخلف عنه وقد أكثر الناس من مدح عتاب الأحبة واستلذاذه والسرور به فكيف بعتاب أحب الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه ولله ما كان أحلى ذلك العتاب وما أعظم ثمرته وأجل فائدته ولله ما نال به الثلاثة من أنواع المسرات وحلاوة الرضى وخلع القبول. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة تبوك دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 8:41 am | |
| 39- (ط) توفيق الله لكعب وصاحبيه: ومنها: توفيق الله لكعب وصاحبيه فيما جاءوا به من الصدق ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق فصلحت عاجلتهم وفسدت عاقبتهم كل الفساد والصادقون تعبوا في العاجلة بعض التعب فأعقبهم صلاح العاقبة والفلاح كل الفلاح وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة فمرارات المبادي حلاوات المبادي مرارات في العواقب.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لكعب: أما هذا فقد صدق دليل ظاهر في التمسك بمفهوم اللقب عند قيام قرينة تقتضي تخصيص المذكور بالحكم كقوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [ الأنبياء 78 و 79 ] وقوله -صلى الله عليه وسلم- جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهوراً وقوله في هذا الحديث أما هذا فقد صدق وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم.
40- (ظ) نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن كلام هؤلاء الثلاثة لتأديبهم دليل على صدقهم: وفي نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم وكذب الباقين فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق ولا فائدة فيه وهكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة فلا يزال مستيقظاً حذراً وأما من سقط من عينه وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا عاقبة معها كما في الحديث المشهور إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له عقوبته في الدنيا وإذا أراد بعبد شراً أمسك عنه عقوبته في الدنيا فيرد يوم القيامة بذنوبه.
41- (ع) التنكر والوحشة دليل على حياة القلب: وقوله حتى تنكرت لي الأرض فما هي بالتي أعرف هذا التنكر يجده الخائف والحزين والمهموم في الأرض وفي الشجر والنبات حتى يجده فيمن لا يعلم حاله من الناس ويجده أيضا المذنب العاصي بحسب جرمه حتى في خلق زوجته وولده وخادمه ودابته ويجده في نفسه أيضا فتتنكر له نفسه حتى ما يخفى إلا على من هو ميت القلب وعلى حسب حياة القلب يكون إدراك هذا التنكر والوحشة.
وما لجرح بميت إيلام ومن المعلوم أن هذا التنكر والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به وهكذا القلب إذا استحكم مرضه واشتد ألمه بالذنوب والإجرام لم يجد هذه الوحشة والتنكر ولم يحس بها وهذه علامة الشقاوة وأنه قد أيس من عافية هذا المرض وأعيا الأطباء شفاؤه والخوف والهم مع الريبة والأمن والسرور مع البراءة من الذنب.
فما في الأرض أشجع من بريء ولا في الأرض أخوف من مريب
وهذا القدر قد ينتفع به المؤمن البصير إذا ابتلي به ثم راجع فإنه ينتفع به نفعا عظيما من وجوه عديدة تفوت الحصر ولو لم يكن منها إلا استثماره من ذلك أعلام النبوة وذوقه نفس ما أخبر به الرسول فيصير تصديقه ضروريا عنده ويصير ما ناله من الشر بمعاصيه ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذوقية التي لا تتطرق إليها الاحتمالات وهذا كمن أخبرك أن في هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيت وكيت على التفصيل فخالفته وسلكتها فرأيت عين ما أخبرك به فإنك تشهد صدقه في نفس خلافك له وأما إذا سلكت طريق الأمن وحدها ولم تجد من تلك المخاوف شيئا فإنه وإن شهد صدق المخبر بما ناله من الخير والظفر مفصلا فإن علمه بتلك يكون مجملا.
42- (غ) رد السلام على من يستحق الهجر غير واجب: وقوله وآتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ فيه دليل على أن الرد على من يستحق الهجر غير واجب إذ لو وجب الرد لم يكن بد من إسماعه.
43- (ف) دخول دار الصاحب من غير إذن: وقوله حتى إذا طال ذلك علي تسورت جدار حائط أبي قتادة فيه دليل على دخول الإنسان دار صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك وإن لم يستأذنه. 44- (ق) ابتلاء الله لكعب بمكاتبة ملك غسان له: وفي مكاتبة ملك غسان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى وامتحان لإيمانه ومحبته لله ورسوله وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانه بهجر النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين له ولا هو ممن تحمله الرغبة في الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه فهذا فيه من تبرئة الله له من النفاق وإظهار قوة إيمانه وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه ولطفه به وجبره لكسره وهذا البلاء يظهر لب الرجل وسره.
45- (ك) إتلاف ما يخشى منه المضرة في الدين: وقوله فتيممت بالصحيفة التنور فيه المبادرة إلى إتلاف ما يخشى منه الفساد والمضرة في الدين وأن الحازم لا ينتظر به ولا يؤخره وهذا كالعصير إذا تخمر وكالكتاب الذي يخشى منه الضرر والشر فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه.
46- (ل) عداوة غسان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكتابه -صلى الله عليه وسلم- لهم: وكانت غسان إذ ذاك -وهم ملوك عرب الشام- حرباً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا ينعلون خيولهم لمحاربته وكان هذا لما بعث شجاع بن وهب الأسدي إلى ملكهم الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام وكتب معه إليه قال شجاع فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقيصر وهو جاء من حمص إلى إيلياء فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه إني رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه فقال لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا وجعل حاجبه -وكان رومياً اسمه مري- يسألني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكنت أحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما يدعو إليه فيرق حتى يغلب عليه البكاء ويقول إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه فأنا أؤمن به وأصدقه فأخاف من الحارث أن يقتلني وكان يُكرمني ويُحسن ضيافتي.
وخرج الحارث يوما فجلس فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه فدفعت إليه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأه ثم رمى به قال مَنْ ينتزع مني مُلكي وقال أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته علي بالناس فلم تزل تعرض حتى قام وأمر بالخيول تنعل ثم قال أخبر صاحبك بما ترى وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه فكتب إليه قيصر أن لا تسر ولا تعبر إليه واله عنه ووافني بإيلياء فلما جاءه جواب كتابه دعاني فقال متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ فقلت: غداً فأمر لي بمائة مثقال ذهباً ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة وقال اقرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني السلام فقدمت -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: "باد مُلكُه" وأقرأته من حاجبه السلام وأخبرته بما قال فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "صدق" ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح ففي هذه المدة أرسل ملك غسان يدعو كعباً إلى اللحاق به فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودينه.
47- (م) حرص الصحابة على الخير: وفي استباق صاحب الفرس والراقي على سلع ليبشرا كعباً دليل على حرص القوم على الخير واستباقهم إليه وتنافسهم في مسرَّة بعضهم بعضاً. 48- (ن) استحباب تهنئة مَنْ تجددت له نعمة دينية: وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية والقيام إليه إذا أقبل ومصافحته فهذه سنة مستحبة وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية وأن الأولى أن يُقال له ليهنك ما أعطاك الله وما مَنَّ الله به عليك ونحو هذا الكلام فإن فيه تولية النعمة ربها والدعاء لمن نالها بالتهني بها. 49- (هـ) يوم توبة المسلم خير الأيام: وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك فإن قيل فكيف يكون هذا اليوم خيراً من يوم إسلامه؟ قيل هو مكمل ليوم إسلامه ومن تمامه فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته كمالها وتمامها والله المستعان.
50- (و) سروره -صلى الله عليه وسلم- بتوبة الله على المخلفين دليل على شفقته على أمته: وفي سرور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأمة والرحمة بهم والرأفة حتى لعل فرحه كان أعظم من فرح كعب وصاحبيه.
51- (ي) من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه: وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك دليل على أن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه بل يجوز له أن يبقي له منه بقية وقد اختلفت الرواية في ذلك ففي "الصحيحين" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له أمسك عليك بعض مالك ولم يعين له قدرا بل أطلق ووكله إلى اجتهاده في قدر الكفاية وهذا هو الصحيح فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به فنذره لا يكون طاعة فلا يجب الوفاء به وما زاد على قدر كفايته وحاجته فإخراجه والصدقة به أفضل فيجب إخراجه إذا نذره هذا قياس أداء الواجبات المالية سواء كانت حقا لله كالكفارات والحج أو حقا للآدميين كأداء الديون فإنا نترك للمفلس ما لابد منه من مسكن وخادم وكسوة وآلة حرفة أو ما يتجر به لمؤنته إن فقدت الحرفة ويكون حق الغرماء فيما بقي.
وقد نص الإمام أحمد على أن من نذر الصدقة بماله كله أجزاه ثلثه واحتج له أصحابه بما روي في قصة كعب هذه أنه قال يا رسول الله إن من توبتي إلى الله ورسوله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة قال "لا" قلت: فنصفه؟ قال "لا" قلت: فثلثه قال "نعم" قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر رواه أبو داود، وفي ثبوت هذا ما فيه فإن الصحيح في قصة كعب هذه ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزهري عن ولد كعب بن مالك عنه أنه قال أمسك عليك بعض مالك من غير تعيين لقدره وهم أعلم بالقصة من غيرهم فإنهم ولده وعنه نقلوها.
ونواصل دروس هذه الغزوة المباركة بعد هذه الاطلالة مع دروس قصة المخلفين الثلاثة. 52- استخلاف الإمام إذا سافر رجلاً من الرَّعيَّة على مَنْ بقي: ومنها: استخلاف الإمام -إذا سافر- رجلاً من الرعية على الضعفاء والمعذورين والنساء والذرية ويكون نائبه من المجاهدين لأنه من أكبر العون لهم، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستخلف ابن أم مكتوم فاستخلفه بضع عشرة مرة.
53- معالم من المنهج القرآني في الحديث عن غزوة تبوك: إن الآيات التي أنزلها الله في كتابه المتعلقة بغزوة العُسْرَة هي أطول ما نزل في قتال المسلمين وخصومهم, وقد بدأت باستنهاض الهمم لرد هجوم المسيحية، وإشعارهم بأن الله لا يقبل ذرة تفريط في حماية دينه ونصرة نبيه، وإن التراجع أمام الصعوبات الحائلة دون قتال الروم، يعد مزلقة إلى الردة والنفاق قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة: 38، 39].
وعند التأمل في سورة التوبة يلاحظ القارئ أن لها معالم في عرضها لغزوة تبوك منها: 1- عاتب القرآن الكريم من تخلف عتابًا شديدًا، وتميزت غزوة تبوك عن سائر الغزوات بأن الله حث على الخروج فيها -وعاتب من تخلف عنها- والآيات الكريمة جاءت بذلك, كقوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 41].
وقد ختمت الغزوات النبوية بهذه الغزوة, وقد كان تطبيقا عمليا لوضع النص القرآني في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ﴾ [التوبة: 123] موضع التنفيذ.
2- ميز القرآن الكريم هذه الغزوة عن غيرها, فسماها الله تعالى ساعة العُسْرَة، قال تعالى: ﴿لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَة﴾ [التوبة: 117] فقد كانت غزوة عسرة بمعنى الكلمة.
3- من معالم منهج القرآن في عرضه لهذه الغزوة العظيمة أن الله رد على المنافقين لمزهم فقراء الصحابة عندما جاء أحدهم بنصف صاع وتصدق به, فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا إلا رياء، فنزلت الآية: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: 79].
4- بين القرآن الكريم أن المؤمنين الذين خرجوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعددهم يزيد عن الثلاثين ألفا- قد كتب الله لهم الأجر العظيم قال تعالى: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 92]. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة تبوك دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 8:53 am | |
| 54- ممارسة الشورى في هذه الغزوة: مارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة الشورى وقبـِل مشورة الصدِّيق والفاروق في بعض النوازل التي حدثت في الغزوة.
ومن هذه النوازل: أ- قبول مشورة أبي بكر الصديق في الدعاء حين تعرض الجيش لعطش شديد: قال عمر بن الخطاب: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطشٌ حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع, حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقى على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله, إن الله قد عوَّدك في الدعاء خيراً، فادع الله، قال: «أتُحِبُّ ذلك؟» قال: نعم، فرفع يديه فلم يردهما حتى حالت السماء فأظلت ثم سكبت فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
ب- قبول مشورة عمر بن الخطاب في ترك نحر الإبل حين أصابت الجيش مجاعة: أصابت جيش العُسْرَة مجاعة أثناء سيرهم إلى تبوك, فاستأذنوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في نحر إبلهم حتى يسدوا جوعتهم، فلما أذن لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك جاءه عمر -رضي الله عنه- فأبدى مشورته في هذه المسألة, وهي أن الجند إن فعلوا ذلك نفدت رواحلهم وهم أحوج ما يكونون إليها في هذا الطريق الطويل، ثم ذكر -رضي الله عنه- حلاً لهذه المعضلة وهو: جمع أزواد القوم ثم الدعاء لهم بالبركة فيها، فعمل -صلى الله عليه وسلم- بهذه المشورة حتى صدر القوم عن بقية من هذا الطعام بعد أن ملأوا أوعيتهم منه وأكلوا حتى شبعوا.
ج- قبول مشورة عمر -رضي الله عنه- في ترك اجتياز حدود الشام والعودة إلى المدينة: عندما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى منطقة تبوك وجد أن الروم فروا خوفًا من جيش المسلمين، فاستشار أصحابه في اجتياز حدود الشام, فأشار عليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بأن يرجع بالجيش إلى المدينة وعلل رأيه بقوله: إن للروم جموعا كثيرة وليس بها أحد من أهل الإسلام، ولقد كانت مشورة مباركة؛ فإن القتال داخل بلاد الرومان يعد أمرًا صعبًا، إذ إنه يتطلب تكتيكًا خاصًا لأن الحرب في الصحراء تختلف في طبيعتها عن الحرب في المدن, بالإضافة إلى أن عدد الرومان في الشام يقرب من مائتين وخمسين ألفـًا، ولا شك في أن تجمع هذا العدد الكبير في تحصنه داخل المدن يعرض جيش المسلمين للخطر.
إن ممارسة الشورى في حياة الأمة في كل شئونها السياسية والعسكرية والاجتماعية... إلخ منهج تربوي كريم سار عليه الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في حياته.
55- لا يجوز الشرب ولا الطبخ ولا العجن ولا الطهارة من آبار ثمود: ومنها: أن الماء الذي بآبار ثمود لا يجوز شربه ولا الطبخ منه ولا العجين به ولا الطهارة به ويجوز أن يسقى البهائم إلا ما كان من بئر الناقة، وكانت معلومة باقية إلى زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم استمر علم الناس بها قرناً بعد قرن إلى وقتنا هذا فلا يرد الركوب بئراً غيرها وهي مطوية محكمة البناء واسعة الأرجاء آثار العتق عليها بادية لا تشتبه بغيرها.
56- جواز الجمع بين الصلاتين في السفر: ومنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين الصلاتين في السفر وقد جاء جمع التقديم في هذه القصة في حديث معاذ كما تقدم وذكرنا علة الحديث، ومن أنكره ولم يجئ جمع التقديم عنه في سفر إلا هذا وصح عنه جمع بعرفة قبل دخوله إلى عرفة فإنه جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر فقيل ذلك لأجل النسك كما قال أبو حنيفة.
وقيل لأجل السفر الطويل كما قاله الشافعي وأحمد. وقيل لأجل الشغل وهو اشتغاله بالوقوف واتصاله إلى غروب الشمس. قال أحمد يجمع للشغل وهو قول جماعة من السلف والخلف وقد تقدم.
57- جواز التيمم بالرمل: ومنها: جواز التيمم بالرمل فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه قطعوا الرمال التي بين المدينة وتبوك ولم يحملوا معهم تراباً بلا شك وتلك مفاوز معطشة شكوا فيها العطش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقطعاً كانوا يتيممون بالأرض التي هم فيها نازلون هذا كله مما لا شك فيه مع قوله -صلى الله عليه وسلم- فحيثما أدركت رجلاً من أمَّتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره.
58- ترجيح قصر الصلاة في السفر دون تحديد مدة الإقامة: ومنها: أنه -صلى الله عليه وسلم- أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ولم يقل للأمة لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك ولكن اتفقت إقامته هذه المدة وهذه الإقامة في حال السفر لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت أو قصرت إذا كان غير مستوطن ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع.
وقد اختلف السلف والخلف في ذلك اختلافا كثيراً ففي "صحيح البخاري" عن ابن عباس قال أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا وظاهر كلام أحمد أن ابن عباس أراد مدة مقامه بمَكَّة زمن الفتح فإنه قال أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمَكَّة ثمان عشرة زمن الفتح لأنه أراد حُنيناً ولم يكن ثم أجمع المقام وهذه إقامته التي رواها ابن عباس.
وقال غيره بل أراد ابن عباس مقامه بتبوك كما قال جابر بن عبد الله أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة رواه الإمام أحمد في "مسنده".
وقال عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ونتمها.
وقال نافع أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول.
وقال حفص بن عبيد الله أقام أنس بن مالك بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر.
وقال أنس أقام أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة.
وقال الحسن أقمت مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل سنتين يقصر الصلاة ولا يجمع.
وقال إبراهيم كانوا يقيمون بالري السَنَةَ وأكثر من ذلك وسجستان السنتين.
فهذا هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كما ترى وهو الصواب.
59- التدريب العملي العنيف: كان في خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه إلى تبوك فوائد كثيرة, منها: تدريبهم تدريباً عنيفاً، فقطع بهم -صلى الله عليه وسلم- مسافة طويلة في ظروف جوية صعبة حيث كانت حرارة الصيف اللاهب, بالإضافة إلى الظروف المعيشية التي كانوا يُعانون منها، فقد كانت هناك قلة في الماء حتى كادوا يهلكون من شدة العطش، وأيضا كانت هناك قلة في الزَّاد والظهر ولاشك في أن هذه الأمور تُعَدُّ تدريباً عنيفاً لا يتحمله إلا الأقوياء من الرجال.
وفي هذا الدرس يقول الأستاذ محمود شيت خطاب: تعمل الجيوش الحديثة على تدريب جنودها تدريباً عنيفاً, كاجتياز مواقع وعراقيل صعبة جداً، وقطع مسافات طويلة في ظروف جوية مختلفة، وحرمان من الطعام والماء بعض الوقت، وذلك لإعداد هؤلاء الجنود لتحمل أصعب المواقف المحتمل مصادفتها في الحرب، لقد تحمَّل جيش العُسْرَة مشقات لا تقل صعوبة عن مشقات هذا التدريب العنيف -إن لم تكن أصعب منها بكثير- لقد تركوا المدينة في موسم نضج ثمارها, وقطعوا مسافات طويلة شاقة في صحراء الجزيرة العربية صيفًا, وتحمَّلوا الجوع والعطش مدة طويلة.
إن غزوة تبوك تدريب عنيف للمسلمين، كان غرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- منه إعدادهم لتحمل رسالة حماية حرية نشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية... فقد كانت هذه الغزوة آخر غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-, فلابد من الاطمئنان إلى كفاءة جنوده قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى وقد ساعد هذا التدريب العملي الصحابة في عصر الخلفاء فقاموا بفتح بلاد الشام وبلاد الفرس بقوة إيمانهم, وثقتهم بخالقهم, وساعدهم على ذلك لياقتهم البدنية العالية، ومعرفتهم العملية لاستخدام السيوف والرماح وأنواع الأسلحة في زمانهم. 60- تركه -صلى الله عليه وسلم- قتل المنافقين: ومنها: تركه قتل المنافقين وقد بلغه عنهم الكفر الصريح فاحتج به من قال لا يقتل الزنديق إذا أظهر التوبة لأنهم حلفوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم ما قالوا وهذا إذا لم يكن إنكارا فهو توبة وإقلاع وقد قال أصحابنا وغيرهم ومن شهد بالردة فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن شيء عنه بعد وقال بعض الفقهاء إذا جحد الردة كفاه جحدها.
ومن لم يقبل توبة الزنديق قال هؤلاء لم تقم عليهم بينة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحكم عليهم بعلمه والذي بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم قولهم لم يبلغهم إياه نصاب البينة بل شهد به عليهم واحد فقط كما شهد زيد بن أرقم وحده على عبد الله بن أبي وكذلك غيره أيضا إنما شهد عليه واحد.
وفي هذا الجواب نظر فإن نفاق عبد الله بن أبي وأقواله في النفاق كانت كثيرة جدا كالمتواترة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وبعضهم أقر بلسانه وقال إنما كنا نخوض ونلعب وقد واجهه بعض الخوارج في وجهه بقوله إنك لم تعدل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما قيل له ألا تقتلهم؟ لم يقل ما قامت عليهم بينة بل قال لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
والجواب الصحيح إذن: أنه كان في ترك قتلهم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مصلحة تتضمن تأليف القلوب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجمع كلمة الناس عليه وكان في قتلهم تنفير والإسلام بعد في غربة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحرص شيء على تأليف الناس وأترك شيء لما ينفرهم عن الدخول في طاعته وهذا أمر كان يختص بحال حياته -صلى الله عليه وسلم- وكذلك ترك قتل من طعن عليه في حكمه بقوله في قصة الزبير وخصمه أن كان ابن عمتك.
وفي قسمه بقوله إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، وقول الآخر له ترك استيفاء حقه بل يتعين عليهم استيفاؤه ولابد ولتقرير هذه المسائل موضع آخر والغرض التنبيه والإشارة.
61- ثواب من حبسه العذر: ومنها: قوله -صلى الله عليه وسلم- إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم طائفة من الجهال أنهم معهم بأبدانهم فهذا محال لأنهم قالوا له وهم بالمدينة؟ قال وهم بالمدينة حبسهم العذر وكانوا معه بأرواحهم وبدار الهجرة بأشباحهم وهذا من الجهاد بالقلب وهو أحد مراتبه الأربع وهي القلب واللسان والمال والبدن.
وفي الحديث جاهدوا المشركين بألسنتكم وقلوبكم وأموالكم.
62- تحريق أمكنة المعصية وهدمها: ومنها: تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها كما حرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجد الضرار وأمر بهدمه وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين ومأوى للمنافقين وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم وتحريق وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له.
وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله أحق بالهدم وأوجب وكذلك محال المعاصي والفسوق كالحانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات.
وقد حرق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قرية بكمالها يباع فيها الخمر وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً وحرق قصر سعد عليه لما احتجب فيه عن الرعية وهَمَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة النساء والذرية الذين لا تجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك.
63- جواز إنشاد الشعر للقادم فرحا به: ومنها: جواز إنشاد الشعر للقادم فرحاً وسروراً به ما لم يكن معه مُحَرَّم من لهو كمزمار وشبابة وعود ولم يكن غناء يتضمن رقية الفواحش وما حرم الله فهذا لا يحرمه أحد وتعلق أرباب السماع الفسقي به كتعلق من يستحل شرب الخمر المسكر قياسا على أكل العنب وشرب العصير الذي لا يسكر ونحو هذا من القياسات التي تشبه قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا.
64- أهم نتائج الغزوة: أ- يمكن للباحث أن يلاحظ أهم نتائج هذه الغزوة وهي: 1- إسقاط هيبة الروم من نفوس العرب جميعًا -مسلمهم وكافرهم على السواء- لأن قوة الروم كانت في حس العرب لا تقاوم، ولا تغلب، ومن ثم فقد فزعوا من ذكر الروم وغزوهم، ولعل الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في غزوة (مؤتة) كانت مؤكدة على ما ترسخ في ذهن العربي في جاهليته من أن الروم قوة لا تقهر، فكان لابد من هذا النفير العام لإزاحة هذه الهزيمة النفسية من نفوس العرب.
2- إظهار قوة الدولة الإسلامية كقوة وحيدة في المنطقة قادرة على تحدي القوى العظمى عالمياً -حينذاك- ليس بدافع عصبي أو عرقي، أو تحقيق أطماع زعامات معاصرة، وإنما بدافع تحريري؛ حيث تدعو الإنسانية إلى تحرير نفسها من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ولقد حققت هذه الغزوة الغرض المرجو منها بالرغم من عدم الاشتباك الحربي مع الروم الذين آثروا الفرار شمالا فحققوا انتصارا للمسلمين دون قتال، حيث أخلوا مواقعهم للدولة الإسلامية، وترتب على ذلك خضوع النصرانية التي كانت تمت بصلة الولاء لدولة الروم مثل إمارة دومة الجندل، وإمارة إيلة (مدينة العقبة حاليا على خليج العقبة), وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبينهم كتابا يحدد ما لهم وما عليهم وأصبحت القبائل العربية الشامية الأخرى التي لم تخضع للسيطرة الإسلامية في تبوك تتعرض بشدة للتأثير الإسلامي، وبدأ الكثير من هذه القبائل يراجع موقفه ويقارن بين جدوى الاستمرار في الولاء للدولة البيزنطية أو تحويل هذا الولاء إلى الدولة الإسلامية الناشئة، ويعد ما حدث في تبوك نقطة البداية العملية للفتح الإسلامي لبلاد الشام وإن كانت هناك محاولات قبلها ولكنها لم تكن في قوة التأثير كغزوة تبوك, فقد كانت هذه الغزوة بمثابة المؤشر لبداية عمليات متواصلة لفتح البلدان، والتي واصلها خلفاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بعده، ومما يؤكد هذا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل موته جهز جيشا بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة ليكون رأس حربة موجهة صوب الروم، وطليعة لجيش الفتح، ضم هذا الجيش جُلَّ صحابة رسول الله، ولكنه لم يقم بمهمته إلا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-, ومع هذا فقد حقق الهدف المطلوب منه كما سيأتي بإذن الله عند الحديث في سيرة الصديق -رضي الله عنه-، لقد وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسس الأولى والخطوات المُثلى لفتح بلاد الشام والفتوحات الإسلامية.
3- توحيد الجزيرة العربية تحت حكم الرسول -صلى الله عليه وسلم-, حيث تأثر موقف القبائل العربية من الرسول -صلى الله عليه وسلم- والدعوة الإسلامية بمؤثرات متداخلة كفتح مَكَّة، وخيبر, وغزوة تبوك، فبادر كل قوم بإسلامهم بعد أن امتد سلطان المسلمين إلى خطوط التماس مع الروم ثم مصالحة نجران في الأطراف الجنوبية على أن يدفعوا الجزية، فلم يعد أمام القبائل العربية إلا المبادرة الشاملة إلى اعتناق الإسلام والالتحاق بركب النبوة بالسمع والطاعة؛ ونظرا لكثرة وفود القبائل العربية التي قدمت إلى المدينة من أنحاء الجزيرة العربية بعد عودة النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك لتعلن إسلامها هي ومن وراءها, فقد سمي العام التاسع للهجرة في المصادر الإسلامية بعام الوفود.
وبهذه الغزوة المباركة ينتهي الحديث عن غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- التي قادها بنفسه، فقد كانت حياته المُباركة غنيَّة بالدروس والعِبَرِ التي تتربَّى عليها أمَّته في أجيالها المُقبلة, ومليئة بالدروس والعِبَرِ في تربية الأمَّة وإقامة الدولة التي تحكم بشرع الله. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة تبوك دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 9:11 am | |
| ختاماً... اعلموا علم اليقين أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في خلاف دائم، وصراع مستمر إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمُذ بزغ هذا الدين وأعداؤه من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين يحاولون القضاء عليه، بكل ما يستطيعون: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف: 8]، والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك وأنَّى لهم أن يُفلحوا ما تمسَّكنا بكتاب ربنا وسُنَّةُ نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وهكذا وصلنا بعون الله وتوفيقه الى نهاية هذه الموسوعة التي ضمّت غزوات النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- دروسٌ وعِبَر ، والحمد لله أولاً وآخراً. سيبقى الخـط بعدي في الكتاب فيــا ليت الذي يقـــــــــرأ كتابِ وتبلى اليــــد مني في التــراب دعا لي بالخلاص من الحساب
اللهم أغفر للقارئ والكاتب. اللهم اجعل هذا العمل صالحاً ولوجهك خالصاً برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسُنَّةَ نبيك يارب العالمين, واكتُب لنا الشهادة في سبيلك بعد طول عُمر وحُسُنُ عَمَل, إنك وليُّ ذلك والقادر عليه. هذا وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آبه وصحبه وسلم.
وكتبه:
دكتور: أمير بن محمد المدريغفر الله له ولوالديه وللمسلمين اليمن - المهرة Almadari_1@hotmail.com وتس آب/00967711423232 770343470 |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة تبوك دروس وعبر الخميس 24 سبتمبر 2020, 8:25 pm | |
| الذهب المسبوك في دروس غزوة تبوك سامي بن خالد الحمود في السنة التاسعة من الهجرة، وبعد أن فتح الله لنبيه صلى الله عليه وسلم الفتح المبين، وأرغم به أنوف الكافرين، أقبلت قبائل الجزيرة العربية تدخل في دين الله أفواجاً، وبدأت الجاهلية وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة. وعلى صعيد آخر في بلاد الشام، كان هرقل الروم وحلفاؤه من قبائل العرب يتأهبون للقضاء على دولة الإسلام فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعد العدّة لمبادرتهم بالغزو والخروج إليهم لقتالهم. في ذلك الوقت كان المسلمون في موقف لا يحسدون عليه أبداً. أما الزمان فحرٌ شديد في زمن قيظ. وأما أحوالهم المادية فجدبٌ وعسرٌ.. وفقرٌ وقلة ظهر. ومن جانب آخر فقد كانوا في موسم تطيب فيه الثمار، فالنفوس متعطشة إلى الإقامة في ظلال المزارع، وأكل الرطب الشهي، وشرب الماء البارد. وأما المسافة فأرضٌ بعيدة..على طرق وعرة.. بين رمال محرقة. ومع هذه الظروف العصيبة لم يكن القائد المحنك صلى الله عليه وسلم وجنوده البواسل ليترددوا أو يتوانوا عن الذود عن الدين، وقمع أعداء الله الكافرين. وكان من عادته عليه الصلاة والسلام أنه إذا أراد غزوة ورّى بغيرها لئلا يسبقه الجواسيس بخبر خروجه. فلما كانت هذه الغزوة جلّى أمرها للناس حتى يأخذوا أهبتهم لهذا السفر البعيد. فما هو إلا أن سمع الصحابة نداءه عليه الصلاة والسلام حتى تسابقوا إلى المشاركة. ويدخل فقراء المؤمنين على الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه أي وسيلة تنقلهم إلى قتال الروم فإذا قال لهم {لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون}. وكان من هؤلاء البكائين عُلْبة بن زيد رضي الله عنه، تاقت نفسه إلى الجهاد لما سمع نداء النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يجد راحلة تحمله، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله راحلة تحمله فلم يجد عنده شيئاً، فقام في الليل بين يدي الله تعالى، فصلى وبكى وقال: "اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال، أو جسد، أو عرض، ثم أصبح مع الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أين المتصدق هذه الليلة" فلم يقم إليه أحد، ثم قال: "أين المتصدق، فليقم" فقام إليه، فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبشر فو الذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة". وهب الصحابة إلى التصدق بالغالي والنفيس من كرائم أموالهم. أبو بكر..عثمان.. عبد الرحمن بن عوف..عمر..العباس..وغيرهم. وهبت النساء إلى التصدق وألقين حليهن وخلاخلهن وخواتمهن في مشهد رائع من مشاهد التضحية والإيمان. وحتى فقراء المسلمين كان أحدهم يأتي بالصاع أو نصف الصاع من التمر لا يجد في بيته غيره فيلمزه المنافقون فيقولون: إن الله لغني عن صدقة هذا. وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتجهزون للخروج، وكان ممن هم بالتجهز بطل قصتنا كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وكان صحابياً جليلاً ممن شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم جميع الغزوات إلا غزوة بدر. كان كعب كلما هم بالتجهز قال لنفسه: "أنا قادر على ذلك إذا أردت" حتى تمادى به التسويف والتردد فلم يشعر إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد خرجوا من المدينة باتجاه تبوك. وهذا فيه درس في خطورة العجز والتسويف إذا حلت فرصة القربة والطاعة، فإن الله يعاقب المتواني بأن يحول بينه وبين قلبه ويثبطه عن العمل، فالحازم من ينتهز الفرصة ويبادر إلى الطاعة. اشتد حزن كعب لتخلفه عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه قال عن نفسه: "فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدر لي". وفي المدينة كان كعب يخرج من بيته فلا يرى في شوارع المدينة من المتخلفين إلا منافقاً أو رجلاً معذوراً من الضعفاء، فيعتصر الحزن والألم في قلبه، إذ هو صاحب الهمة العالية والقدم الصادقة في الإسلام فكيف يرضى أن يكون بمنزلة هؤلاء؟ سار الجيش الإسلامي إلى تبوك في جمع غفير قوامه ثلاثون ألفاً لم يشهد المسلمون مثله، ولم يكن يجمع أسماءهم سجل أو ديوان، فكان المتخلف يظن أنه قد لا يعرف تخلفه إلا أن ينزل فيه وحي. واشتد على الصحابة عناء السفر بسبب القلة الشديدة في الزاد والمركب فكان البعير الواحد يعتقب عليه ثمانية عشر رجلاً يركب هذا وينزل هذا، وكانوا يأكلون أوراق الشجر من الجوع حتى تورمت شفاههم، ويذبحون البعير ليشربوا ما في كرشه من الماء. ولهذا سمي هذا الجيش جيش العسرة. وصل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى تبوك ونزلوا هناك واستعدوا للقاء العدو. فما إن سمع الرومان وحلفاؤهم بنزولهم حتى دب فيهم الرعب فتفرقوا في البلاد فكان هذا نصراً عظيماً ومكسباً للدولة الإسلامية وسمعتها العسكرية. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم تبوك قال لأصحابه: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم منكم أحد، فمن كان له بعير فليشد عقاله" فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ!! (رحلة جوية من تبوك إلى حائل بدون تذاكر ولا طائرات). وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في تبوك تذكر صاحبه كعب بن مالك فقال: "ما فعل كعب بن مالك؟". فقال رجل من بني سلمة: "حبسه براده والنظر في عطفيه" (يريد أنه تعلق بالدنيا التي منعته من الخروج). فرد عليه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: "بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً" فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا فيه درس في ذب المسلم عن عرض أخيه إذا ما اغتيب عنده. أقام النبي صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة ثم رجع هو وجيشه المظفر إلى المدينة منصورين، وكفى الله المؤمنين القتال، وكانت هذه آخر غزواته عليه الصلاة والسلام. لقد كانت هذه الغزوة بظروفها الصعبة اختباراً شديداً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبين فيها صدق المؤمنين من الأنصار والمهاجرين وظهر كذب المنافقين الذين رضوا بالحياة الدنيا وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فشتان بين الطيب والخبيث قال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} وقال سبحانه: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}. لكن ماذا عن بطل قصتنا كعب بن مالك؟ لما بلغ كعب بن مالك قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ازداد همه وبثه وهو يقول لنفسه: كيف أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وتواترت الهموم على كعب حتى إنه أخذ يستشير أهل الرأي من أهله. وكانت بوارق الكذب تلوح له في خضم هذا الموقف الرهيب الذي تزل فيه الأقدام ولكن الله تعالى ثبته وقذف في قلبه محبة الصدق. فعزم على أن يصدق النبيصلى الله عليه وسلم مهما كانت الأحوال. دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فبدأ بالمسجد وصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس كعادته وجاءه المخلفون يعتذرون إليه فيقبل منهم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى. ويدخل كعب المسجد فيسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم تبسم تبسم المغضب ثم قال له: تعال. يمشي كعب حتى يجلس بين يديه صلى الله عليه وسلم فيسأله ويقول له: "ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟". فيرد كعب على هذا السؤال الحاسم بكلمات بليغة ملؤها الصدق والإيمان، ومراقبة الواحد الديان. قال: "يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنى ليوشكن الله أن يُسخِطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله.. والله ما كان لي عذر.. والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك". بعد هذه المحاورة الساخنة غادر كعب المسجد فلحق به رجال من بني سلمة وأخذوا يؤنبونه ويقولون: "والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المخلفون، فقد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم". واشتد تأنيبهم لكعب حتى هم أن يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكذب نفسه!!!. ثم إنه سألهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي. نظر كعب وإذا بهذين الرجلين من صالحي الصاحبة من أهل بدر فكان في موقفهما أسوة لكعب فثبت على موقفه اقتداءً بهذين الرجلين. وينزل البلاء بهؤلاء الثلاثة فينهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة كلهم عن الكلام معهم. فاجتنبهم الناس وتغيروا عليهم حتى تنكرت لهم الأرض وضاقت عليهم. أما مرارة وهلال فقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما كعب فكان أشب الثلاثة فكان يخرج من بيته ويطوف بالأسواق ولا يكلمه أحد.. ويدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في مجلسه بعد الصلاة فيأتي ويسلم عليه فلا يدري هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟.. ويصلي قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم ويسارقه النظر فلا ينظر إليه. فإذا اقبل كعب على صلاته نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا التفت إليه أعرض عنه. ولما طالت جفوة الناس توجه كعب إلى مزرعة لابن عمه أبي قتادة وكان أحب الناس إليه.. يدخل كعب فإذا أبو قتادة جالس في المزرعة.. يسلم فلا يرد عليه السلام.. فيقول كعب: أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ وفي هذه اللحظة يتذكر أبو قتادة نهي النبي صلى الله عليه وسلم فلا يرد بأدنى كلمة. فيعيد كعب سؤاله: هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فيقول أبو قتادة في الثالثة: الله ورسوله أعلم. فتفيض دموع كعب على خديه ويقوم راجعاً إلى المدينة. وفي سوق المدينة قدم نبطي من أنباط الشام يسأل عن كعب بن مالك. وإذا كعب يمشي في السوق والناس يشيرون إليه ولا يتكلمون. فلما رآه دفع إليه رسالة من ملك غسان. فتح الرسالة وإذا فيها: (أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ فالحق بنا نواسك) ومع شدة الإغراء وعظم البلاء إلا أن أيمان كعب لم يكن ليتزحزح في هذا الموقف. فما إن قرأ الرسالة حتى قال: "وهذه أيضا من البلاء"، ثم أخذ الرسالة وأحرقها في التنور. وبعد أربعين يوماً أمر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم فيقول كعب لزوجته الحقي بأهلك حتى يقضي الله في هذا الأمر. وتدخل زوجة هلال بن أمية على النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه حال زوجها تقول: "إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربنك فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء ووالله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا". وفي هذا بيان عظم شأن المعصية، وخوف المؤمن من عواقبها. قال الحسن البصري: يا سبحان الله! ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حراماً، ولا سفكوا دماً حراماً، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم، وضاقت عليهم الأرض، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر. أشار بعض أهل كعب عليه أن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأته كما فعلت زوجة هلال فأبى وقال: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ماذا يقول إذا استأذنته وأنا رجل شاب. ومضت الأيام والألم والشدة تزداد بالثلاثة يوماً بعد يوم حتى بلغوا الحال التي وصفها الله تعالى بقولـه: {ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه}. وتقترب ساعة الفرج فيصلي كعب صلاة الصبح بعد تمام خمسين ليلة. وبينما هو جالس إذ سمع صرخاً من فوق جبل سَلْع يصرخ بأعلى صوته: "يا كعب بن مالك أبشر" فعلم كعب أنه قد جاء الفرج فخر لله ساجداً. ما الذي حدث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما قصة هذا الصوت؟ لقد تاب الله تعالى على الثلاثة الذين خلفوا، وأنزل في توبتهم على رسوله صلى الله عليه وسلم آيات تتلى إلى يوم الدين {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}. تلقى الصحابة الخبر فانطلقوا إلى الثلاثة يبشرونهم بتوبة الله عليهم، فركب رجل فرساً وانطلق مسرعاً إلى كعب، وصعد آخر الجبل فرفع صوته فكان الصوت أسرع من الفرس. يقول كعب: "فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبَيّ فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك". يدخل كعب المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس والناس حوله ووجهه يبرق من السرور كأنه قطعة قمر. ويقوم طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه يهرول حتى صافح كعباً وهنأه فكان كعب لا ينساها لطلحة، فلما سلم كعب على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله. أيها الأحبة: ما أجمل لحظات التوبة.. وما أعظم فضل الله على المذنبين. من منا لم يذنب؟ ومن منا لم يفرط في جنب الله ويقصر في حقه؟ ومع هذا فإنه سبحانه ينادينا معاشر المذنبين وإن بلغت ذنوبنا عنان السماء أن نتوب إليه {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعاً. إنه هو الغفور الرحيم}. نداءٌ من القلب، ودعوةٌ صادقة إلى التوبة من الذنوب، والإنابة إلى الله علام الغيوب. جلس كعب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك بعض مالك فهو خيرٌ لك قال فإني أمسك سهمي الذي بخيبر" ثم قال كعب: "يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت". هكذا عاهد كعبٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل وفى بهذا العهد؟ هاهو يحدث عن نفسه بعد أن كبُر وعمي بصره يقول: "فوالله ما علمت أن أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كِذبةً منذ قلت ذلك لرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي". هكذا أيها الأحبة كانت عاقبة الصدق الحميدة. إن المؤمن الصادق مهما اشتدت به المحن، وضاقت السبل، ولاحت له بوارق الكذب في مواطن الابتلاء، فإن الله تعالى يثبت قلبه ويجعل لهم من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً. والصدق والثبات من أعظم نعم الله على المؤمنين، ولهذا كان كعب لا يعدل بهذه النعمة أي نعمة أخرى بعد الإسلام يقول: "والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلِك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أَنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال الله تعالى: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين}. تلكم أيها الأحبة بعض أحدث غزوة تبوك وفيها من الدروس والعبر ما تقدمت الإشارة إليه في أحداث القصة. جهاد وتضحية.. وصدق وإخلاص.. وإيمان ومراقبة.. وتوبة وإنابة. نسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين، ويلحقنا بالصالحين، ويحشرنا في زمرة الصادقين، من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. إعداد الفقير إلى عفو ربه تعالى: سامي بن خالد الحمود الرياض.
|
| | | | غزوة تبوك دروس وعبر | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |