|
| غزوة الأحزاب دروس وعبر | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: غزوة الأحزاب دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 4:34 am | |
|
غزوة الأحزاب دروس وعبر الحمد لله قاصم الجبابرة قهراً, كاسر الأكاسرة كسراً, واعد من نصره من لدنه نصراً, خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهرا شهدت جميع الكائنات بربوبيته وهي على وحدانيته آيةٌ كبرى.
فسبحانه من اله سميع لا يعزب عم سمعه دبيب النملة الصغرى ولا يخفى على بصره جريان الغذاء في دقيق عروق البعوض إذا يُجرى.
احمده سبحانه على نعم لم تزل تترى واشكره على منن ترجع الألسن عن عدها حسرى واشهد أنَّ لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يحط بها عن شاهدها وزراً وتكون له عند الله ذخراً.
واشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله الذي اعز به بعد الذلة وأغنى به بعد العَيلة وجمع به بعد الفرقة وكثّر به بعد القلة إحساناً منه تعالى وبراً اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين رفع الله لهم ذكرا وأعلى لهم قدراً.
وبعد.. ها نحن نستمر وإياك أخي القارئ ضمن هذه الموسوعة المباركة "غزوات النبي المصطفى دروسٌ وعبر", وها نحن نحط رحالنا مع المحطة الثالثة من هذه الموسوعة "غزوة الأحزاب دروسٌ وعبر" وأقول وبالله التوفيق والسداد..
كلما رأينا استمرارا الكيد للإسلام والمسلمين، وتجمع قوى الكفر بشتى الملل والنحل فالكفر كله ملةٌ واحده, كلما رأينا ذلك نذكر غزوة الأحزاب يوم جمع الكفار وحشدوا أكبر قوة ممكنة، فتحالف اليهود مع قريش وأحابيشهم، وبني كنانة ومن تبعهم من أهل تهامة، وقبائل غطفان ومن تبعهم من أهل نجد؛ للقضاء على الإسلام في مهده.
لكن الله جل وعلا أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
ولنا في هذه الغزوة دروس وعبر.
إنها دروس في الجهاد، و دروس في الصبر، ودروس في الإيمان، ودروس في السياسة، و دروس في الذكاء والحنكة.
إنها دروسٌ من أعظم الدروس فهي قبسٌ من سيرة نبينا-صلى الله عليه وسلم-.
غـــــزوة الأحــــــزاب * غزوة الأحزاب: التي سببها: خروجُ كُبَرَاءِ اليهودِ بعدَ إجلاءِ النبي -صلى الله عليه وسلم- لبني النضيرِ بسبب ما كان منهم من غدرٍ وتآمرٍ خرجَ كبراؤهم كَحُيَيِّ بنِ أَخْطَب وسَلاّم بن أبي الحقيق وغيرهما إلى قريش بمكة يُحَرّضُونَهُمْ عَلَى غَزْوِ رَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- ووعدهم مِنْ أنفسهم النصر لهم.
فأجابتهم قريش، ثُمّ خَرَجُوا إلَى غَطَفَانَ: فاستجابوا لهم ثُمّ طَافُوا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُونَهُمْ إلَى ذَلِكَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ مَنْ اسْتَجَابَ.
فخرجت قريش -وقائدهم أبو سفيان- فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَوَافَقَهُمْ بنو سُليم بمرِّ الظّهْرَانِ، وبنو أسد، وفزارة وأشجع وغيرهم، وكان من وافى الخندق من المشركين عشرة آلَاف.
* غزوة الأحزاب: تلك الغزوة التي ذهب جمهور أهل السير والمغازي إلى أنها كانت في شهر شوال من السنة الخامسة, وقال الواقدي: إنها وقعت في يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة في العام الخامس الهجري، وقال ابن سعد: إن الله استجاب لدعاء الرسول فهزم الأحزاب يوم الأربعاء من شهر ذي القعدة سنة خمس من هجرته -صلى الله عليه وسلم-، ونقل عن الزهري، ومالك بن أنس، وموسى بن عقبة، أنها وقعت سنة أربع هجرية.
ورأي الجمهور هو الراجح, واليه مال ابن القيم حيث قال: وكانت سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، إذ لا خلاف أن أُحدًا كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله في العام المقبل وهو سنة أربع، ثم أخلفوه من أجل جدب تلك السنة، فرجعوا فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه.
* غزوة الأحزاب: سورة كاملة نزلت باسمها ففي قلبِ الأحداثِ وعَقْبِهَا تتنزَّلُ الآيات بالمنهج الربانيِّ الذي يُقوِّم المعْوَجَّ، ويسُدُّ الخلل، ويُداوِي العِلَلَ، ويُطبِّبُ القُلُوبَ، ويُطيِّبُ الخواطرَ، ويُنقِّي الصفوفَ، ويُزكِّي النفوسَ، ويُحفِّزُ الهِمَم، وينهضُ بالشخصيةِ المسلمةِ، ويصل بها إلى أعلى مراتب النُّضجِ، وَيرْقَى بِهَا إلى مُستَوى المسئوليةِ في إِدَارَةِ الأزمات، ويربِطُ ماضِيَها يحاضرها، ويضعُ لها القواعد والأصول لاستشرافِ مستقبلِهَا، فيجعل من هذه الأحداثِ المنصرمة: رصيدًا زاخرًا، وكتاباً مسطورًا ومشاهد حيَّةً وصورًا نابضةً.
* غزوة الأحزاب: إنها معركة ليست معركة خسائر، وإنما هي معركة عقيدة وإيمان، فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدّون على الأصابع، ومع هذه الحقيقة فهي من أهم المعارك في تاريخ الإسلام فلقد كانت ابتلاءً كاملاً وامتحاناً دقيقاً وتمييزاً بين المؤمنين والمنافقين، فلقد اشترك الجميع في الشعور بالكرب، ولم يختلف الشعور من قلب إلى قلب، وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، ويقينها بالنصر، واطمئنانها وقت الزلزال، فلقد نافق أقوام وظنوا بالله الظنونا وحاولوا في ثني المؤمنين عن الجهاد والتسليم للكافرين لكي يذلوهم ويخنقوا الإسلام معهم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ﴾[الأحزاب: 13].
* غزوة الأحزاب: أعلنت أن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة، والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه، في موعده، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر.
* غزوة الأحزاب: تبرز أمامنا صفحة من تاريخ اليهود وتكشف عن أسلوبهم الدنيء في إثارة الأحقاد وتسخير قيمهم لخدمة مصالحهم ومآربهم.
* غزوة الأحزاب: تكشف عن قوة الإسلام وكيف أنَّ أصحاب العقيدة يصبرون على البلاء والجوع.
* غزوة الأحزاب: تكشف لنا عن شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قيادته الحكيمة وفي صموده أمام طواغيت الشر.
* غزوة الأحزاب: تحتاج منا كمسلمين أن نُحلِّل تفاصيلها وأحداثها وما جرى فيها ليكون المسلم على بينة بان نبي الإسلام محمد-صلى الله عليه وسلم- لم يكن يحب الحرب وإنما كان يضطر لخوضها دفاعاً عن نفسه وعن الكيان الإسلامي, إنه كان يحمل راية السلام بيمينه وينادي على الناس في كل مكان أن يدخلوا تحت راية السلام لأنه وسيلة التقدم والازدهار.
* غزوة الأحزاب: حيث: "الامتحان لهذه الجماعة الناشئة، ولكلِّ قيمها وتصوراتها، ومَن تدبَّرَ النصَّ القرآنيَّ (سورة الأحزاب)، وطريقةَ عرضِهِ للحادِثِ، وأسلوبَه في الوصفِ والتعقيبِ ووقوفَه أمام بعض المشاهدِ والحوادثِ، والحركاتِ والخوالجِ، وإبرازَه للقيمِ والسننِ: يدركُ كيف كان اللهُ يربي هذه الأمةَ بالأحداثِ والقرآنِ في آنٍ واحدٍ".
* غزوة الأحزاب: غزوةٌ علَّق عليها القرآن أعظم تعليق، يصور نماذج البشر وأنماط الطباع، يصور القيم الثابتة والسنن الباقية التي لا تنتهي بانتهاء الحادث.
فهلم أخي القارئ لنأخذ شيئاً من الوقفات التي أشار إلى وصفها القرآن وذكرت بعضها السنة، نستلهم الدروس والعبر والفوائد.
دروس وعبر من غزوة الأحزاب دعونا نُبحر وإياكم مع دروس وعبر هذه الغزوة المباركة وأسال الله بمنه وكرمه أن يُعجل بالنصر القريب لأمة الإسلام إنه ولي ذلك والقادر عليه.
1- الأمل والثقة بالله تعالى: تأمل! بالرغم من كل تلك الظروف العصيبة الشديدة التي أحاطت بالمسلمين من حصار جماعي من مختلف قبائل العرب واليهود، وبجيش يبلغ عشرة آلاف مقاتل، ومن جوع وخوف وهلع وشدة برد..، لم ييأس المسلمون، ولم يفقدوا ثقتهم بالله تعالى، بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان في ظل تلك الظروف يعدهم بفتح الشام، وفارس، واليمن، وهي الدول العظمى في ذلك الوقت.
وتأمل موقف المنافقين إزاء تلك الوعود، وتزعزع قلوبهم حينما رأوا كثرة جيوش الأحزاب: ﴿وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا﴾[الأحزاب: 12].
ثم تأمَّل موقف المؤمنين لما رأوا الأحزاب: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾[الأحزاب: 22].
وفي أحلك المواقف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على الثقة بموعود الله وعلى التفاؤل وعدم اليأس والاستكانة للكافرين، فيجتمع الكفر على المؤمنين معادياً لهم ينوي استئصالهم، ومع ذلك والصحابة يعانون في حفر الخندق تعترض لهم صخرة في الخندق، أعيتهم، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة، وقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة»، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: «الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن»، ثم ضرب الثالثة، فقال: «بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني».
يقول ذلك في هذه المرحلة الحرجة ليبشر المؤمنين ويعلِّمَهُم درساً في التفاؤل والثقة بنصر الله، ثم يأتيه الخبر بنقض بني قريظة للعهد فيقول: «الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين».
وفي قلب هذه المحنة وشدة هذا الهول يقول: «إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله» وصدَّق المؤمنون بهذه البشارات لإيمانٍ في قلوبهم.
واليوم.. في ظل تحزب قوى الكفر على الأمة الإسلامية، وتضييقها على المسلمين في كل مكان، وتنكيلها بدعاتهم، واغتصابها أراضيهم، واستنزافها ثرواتهم..؛ كم نحن بحاجة إلى مراجعة حساباتنا، وتقوية صلتنا بديننا، وأن ما يحصل للمسلمين من الهوان وتسليط الأعداء إنما هو لحكم عديدة، وأسباب كثيرة.. كما أننا بحاجة ماسّة إلى النظر إلى المستقبل، والثقة بالله تعالى، ووعده للأمة بالعز والتمكين إن هي استمسكت بالإسلام، وما يدعو إليه من وجوب إعداد العدة، وأنَّ الأمة إن بكت مرة فقد بكت قبل ذلك مرات، وكانت تعود في كل مرة كأقوى ما تكون، وأن ما تمر به أمتنا اليوم من الضربات المتتابعة والصفعات الموجعة ما هي إلا إرهاصات مبشرة لنهضة الأمة، وصحوتها من غفلتها، وعودتها مرة أخرى إلى دينها، ومصدر عزها ومجدها؛ فإن الظلام كلما أحلولك وادلهمّ فإن وراء الأفق نوراً، وفي حضن الكون شمس ساطعة، وكلما اشتد غلس الليل اقترب ميلاد النهار.
ومهما كان واقع الأمة مؤلماً يفرض على كثير من المسلمين أقسى الظنون، إلا أنها في طريق التغيير الإيجابي تسير، وهي الآن أفضل بكثير من سنوات مضت، فلا ينبغي استبطاء النصر، واستعجال الظفر.
ولنتأمل كيف أن الشام، وفارس، واليمن التي وعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفتحها، لم يظفر بها المسلمون إلا بعد وفاته-صلى الله عليه وسلم- بسنين؛ وفي ذلك.
2- الكفر ملةٌ واحدة: نرى في هذه الغزوة بوضوح تكالب الكفر على المسلمين, لقد تمالأ العرب واليهود في الجزيرة، وقاد أبو سفيان أضخمَ جيش شهدته جزيرة العرب الذي كان عشرةَ أضعافِ جيشِ بدرٍ وقرابة أربعة أضعاف جيش أحد،إضافة إلى العدو الداخلي يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد وانضموا إلى الأحزاب.
لقد جاء الكفر جملة واحدة وكما وصفهم -صلى الله عليه وسلم-: «لقد رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب» وإذن فلابد أن يقرَّ في حس المسلمين أن الكفر كلَّه قد يلتقي في مرحلة من المراحل على إبادة الإسلام والمسلمين ويتناسى ما بينه من عداوات؛ لأن الكفر ملة واحدة في الحقيقة؛ ولأنهم جميعاً حرب على الإسلام؛ لأنهم يشتركون في الخطر المحدق بهم من ظهور الدين الحق الذي يقطع مصالحهم في استعباد الناس وتسخيرهم لأهوائهم. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة الأحزاب دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 4:38 am | |
| 3- المنافقون وخطرهم: المنافقون أصحاب المصالح والأهواء ليس لهم قرار واضح ولا قاعدة ثابتة تراهم مع المؤمنين تارة ومع الكافرين تارات رسل فساد وأصل كل بلية وهزيمة: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ [النساء: 141].
ولاء المنافقين للكافرين، ولو عاشوا بين ظهراني المسلمين، وقلوبهم مع أعداء الدين، وإن كانوا بألسنتهم وأجسامهم وعدادهم في المسلمين، يخشون الدوائر فيسارعون للولاء والمودة للكافرين، ويسيئون الظن بأمتهم فيرتمون في أحضان أعدائهم ويزعمون إبقاء أياد عند الكافرين تحسباً لظفرهم بالمسلمين: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة: 52]، المنافقون هم الأعداء الحقيقيون للمسلمين وهم الذين خططوا لأعظم نكبات المسلمين، هم رسل الفساد وعقارب النفاق, قال تعالى: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4].
لقد كان موقف المنافقين عندما تكالب الكافرون وتحزبوا على المسلمين متسماً بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وقد وردت روايات ضعيفة تحكي أقوالهم في السخرية والإرجاف والتخذيل، ولكن القرآن الكريم تكفل بتصوير ذلك أدق التصوير فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم، وهم آمنون من أن يلومهم أحد؛ وفرصةً للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله، ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ [الأحزاب: 12].
ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل عصر ومصر، وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم المنافقين هؤلاء؛ فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان !
﴿وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ﴾ [الأحزاب: 13]، فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف، والعودة إلى بيوتهم ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ﴾يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو.
متروكة بلا حماية، وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة، ويجردهم من العذر والحجة: ﴿وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً﴾ ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار: ﴿إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً﴾.
وهؤلاء المنافقون من أنشط الناس عند الفتن وأكثرهم استعداداً لنقض العهود مما يوضح وهَنَ العقيدة، وخَوَرَ القلوب، والاستعدادَ للانسلاخ من الإسلام بمجرد مصادفة غير مبقين على شيء، ولا متجملين لشيء:
﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلاَّ يَسِيراً﴾ [الأحزاب: 14] ذلك كان شأنهم، والأعداء بعدُ خارجَ المدينة؛ ولم تقتحم عليهم بعد، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها.. ثم سئلوا الفتنة وطلبت إليهم الردة عن دينهم لآتوها سراعاً غير متلبثين، ولا مترددين إلا قليلا من الوقت.
﴿وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً﴾ [الأحزاب: 15].
ثم يبين لهم سبحانه أن الفرار لا يدفع أمر الله ولا يطيل العمر قال تعالى: ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ [الأحزاب: 16، 17].
ويرسم القرآن للمنافقين صورة تثير الاحتقار لهم، صورة للجبن والانزواء، والفزع والهلع. (في ساعة الشدة).
والانتفاشِ وسلاطة اللسان (عند الرخاء).
والشحِ على الخير والضن ببذل أي جهد فيه.
والجزع والاضطراب (عند توهم الخطر من بعيد).
﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ الاْحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الاْحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاْعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الأحزاب: 18 ـ 20].
مثيرة للسخرية تلك الصورة المنافقين بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ خرجوا من الجحور، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش، وانتفخت أوداجهم بالعظمة، وانتفشوا بعد الانزواء، وادعوا في غير حياء، ما شاء لهم الادعاء، من البلاء في القتال والفضل في الأعمال، والشجاعة والاستبسال.
﴿أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾.
لقد نافق أقوام بسبب إرجافهم وتخذيلهم ونعى القرآنُ عليهم ذلك فكيف لو ناصروا قريشاً وأحلافها.... إنها الردة ولو كان صاحبها متعلقاً بأستار الكعبة.
4- درسٌ في الشورى: في زحمة الأحداث، وعندما نقضت قريظة العهد، واشتد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم الحال، رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخفف عن أصحابه رحمة بهم، صلى الله عليك يا نبي الرحمة.
بعث إلى قائدي غطفان يعرض عليهما صلحاً، وهو أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا بمن معهم من قومهم، وتم الصلح ثم استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- السعدين، سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فقالا له: يارسول الله أمراً تحبه فتصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب. فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما».
فقال سعد بن معاذ -رضي الله عنه-: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا حاجة، والله العظيم لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فأنت وذاك».
و الحكمة في استشاراته -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه في هذا الصلح لكي يطمئن إلى مدى ما يتمتع به أصحابه من القوة المعنوية والاعتماد على نصر الله وتوفيقه على الرغم من ذلك الذي فوجئوا به من اجتماع أشتات المشركين عليهم في كثرة ساحقة، إلى جانب خذلان بني قريظة للمسلمين ونقض مواثيقهم معهم.
وأما الدلالة التشريعية في هذه الاستشارة، فهي محصورة في مجرد مشروعية مبدأ الشورى في كل ما لا نص فيه.
وهي بعد ذلك لا تحمل أي دلالة على جواز صرف المسلمين أعداءهم عن ديارهم إذا ما اقتحموها، باقتطاع شيء من أرضهم أو خيراتهم لهم.
إذ إن مما هو متفق عليه في أصول الشريعة الإسلامية أن الذي يحتج به من تصرفاته-صلى الله عليه وسلم- إنما هو أقواله، وأفعاله التي قام بها، ثم لم يرد اعتراض عليها من الله في كتابة العزيز.
وفي قبول الرسول -صلى الله عليه وسلم- رأي الصحابة في رفض هذا الصلح يدل على أن القائد الناجح هو الذي يربط بينه وبين جنده رباط الثقة، حيث يعرف قدرهم ويدركون قدره، ويحترم رأيهم ويحترمون رأيه، ومصالحة النبي -صلى الله عليه وسلم- مع قائدي غطفان تعد من باب السياسة الشرعية التي تراعي فيها المصالح والمفاسد حسب ما تراه القيادة الرشيدة للأمة.
وليس في هذه الاستشارة دليل على جواز دفع المسلمين الجزية إلى أعدائهم.
أما إذ ألجئوا إلى اقتطاع جزء من أموالهم فعليهم التربص بأعدائهم لاسترداد حقهم المسلوب.
5- الحكمة في اختيار غطفان بالذات للصلح: ظهرت حنكته -صلى الله عليه وسلم- وحسن سياسته حين اختار قبيلة غطفان بالذات لمصالحتها على مال يدفعه إليها على أن تترك محاربته وترجع إلى بلادها، فهو يعلم-صلى الله عليه وسلم- أن غطفان وقادتها ليس لهم من وراء الاشتراك في هذا الغزو أي هدف سياسي يريدون تحقيقه, أو باعث عقائدي يقاتلون تحت رايته، وإنما كان هدفهم الأول والأخير من الاشتراك في هذا الغزو الكبير هو الحصول على المال بالاستيلاء عليه من خيرات المدينة عند احتلالها؛ ولهذا لم يحاول الرسول -صلى الله عليه وسلم- الاتصال بقيادة الأحزاب من اليهود (كحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع) أو قادة قريش كأبي سفيان بن حرب، لأن هدف أولئك الرئيسي، لم يكن المال, وإنما كان هدفهم هدفًا سياسيًّا وعقائديًّا يتوقف تحقيقه والوصول إليه على هدم الكيان الإسلامي من الأساس؛ لذا فقد كان اتصاله (فقط) بقادة غطفان، الذين (فعلاً) لم يترددوا في قبول العرض الذي عرضه عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد استجاب القائدان الغطفانيان (عيينة بن حصن، والحارث بن عوف) لطلب النبي -صلى الله عليه وسلم- وحضرا مع بعض أعوانهما إلى مقر قيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- واجتمعا به وراء الخندق مستخفين دون أن يعلم بهما أحد، وشرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مفاوضتهم.
ولقد أبرز -صلى الله عليه وسلم- في هذه المفاوضات جانبًا من جوانب منهج النبوة في التحرك لفك الأزمات عند استحكامها وتأزمها, لتكون لأجيال المجتمع المسلم درسًا تربويًّا من دروس التربية المنهجية عند اشتداد البلاء.
6- رسالة للمسلمين عبر التاريخ: في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» دليل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يستهدف من عمله ألا يجتمع الأعداء عليه صفًّا واحدًا.
وهذا يرشد المسلمين إلى عدة أمور منها: * أن يحاول المسلمون التفتيش عن ثغرات القوى المعادية. * أن يكون الهدف الإستراتيجي للقيادة المسلمة تحييد من تستطيع تحييده, ولا تنسى القيادة الفتوى والشورى والمصلحة الآنية والمستقبلية للإسلام.
7- في موقف الصحابة من الصلح دروس: إن موقف الصحابة من الصلح مع غطفان يوم قال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا حاجة، والله العظيم لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فأنت وذاك».
وهذا يحمل في طياته ثلاثة معانٍ: أ أنه يؤكد شجاعة المسلمين الأدبية في إبداء الرأي، والمشورة في أي أمر يخص الجماعة، إذا دعت الحاجة إلى ذلك. ب أنه يكشف عن جوهر المسلمين وعن حقيقة اتصالهم بالله ورسوله وبالإسلام. ت أنه يبين ما تمتلئ به الروح المعنوية لدى المسلمين من قدرة على مواجهة المواقف الحرجة بالصبر, والرغبة القوية في قهر العدو, مهما كثر عدده وعتاده أو تعدد حلفاؤه.
8- شدة التضرع سبب من أسباب النصر: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثير التضرع والدعاء والاستعانة بالله, وخصوصا في مغازيه، وعندما اشتد الكرب على المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديدًا، فما كان من المسلمين إلا أن توجهوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: يا رسول الله هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، فقال: نعم. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا.
وجاء في الصحيحين: من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم», فاستجاب الله سبحانه دعاء نبيه -صلى الله عليه وسلم-, فأقبلت بشائر الفرج فقد صرفهم الله بحوله وقوته، وزلزل أبدانهم وقلوبهم، وشتت جمعهم بالخلاف, ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده سبحانه, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب: 9].
قال القرطبي -رحمه الله-: وكانت هذه الريح معجزة للنبي-صلى الله عليه وسلم-؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين كانوا قريبًا منهم، ولم يكن بينهم إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها ولا خبر عندهم بها... وبعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط, وأطفأت النيران, وأكفأت القدور, وجالت الخيول بعضها في بعض، وأرسل عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر حتى كان سيد كل خباء يقول: يا بني فلان هلم إليَّ فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء، لما بعث الله عليهم الرعب.
وحرص الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤكد لصحبه ثم للمسلمين في الأرض، أن هذه الأحزاب التي تجاوزت عشرة آلاف مقاتل لم تهزم بالقتال من المسلمين، رغم تضحياتهم، ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنما هزمت بالله وحده: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب: 9].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده».
ودعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربه، واعتماده عليه وحده، لا يتناقض أبدا مع التماس الأسباب البشرية للنصر، فقد تعامل-صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة مع سنة الأخذ بالأسباب, فبذل جهده لتفريق الأحزاب، وفك الحصار، وغير ذلك من الأمور التي ذكرناها.
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا سنة الأخذ بالأسباب, وضرورة الالتجاء إلى الله وإخلاص العبودية له؛ لأنه لا تجدي وسائل القوة كلها إذا لم تتوافر وسيلة التضرع إلى الله والإكثار من الإقبال عليه بالدعاء والاستغاثة, فقد كان الدعاء والتضرع إلى الله من الأعمال المتكررة الدائمة التي فزع إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته كلها. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة الأحزاب دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 4:42 am | |
| دروس وعبر من قصة حذيفة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُتابع أمر الأحزاب, وأحَبَّ أن يتحرَّى عما حدث عن قُرب فقال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم, جعله الله معي يوم القيامة.
فاستعمل -صلى الله عليه وسلم- أسلوب الترغيب، وكرره ثلاث مرات، وعندما لم يُجْدِ هذا الأسلوب لجأ إلى أسلوب الجزم والحزم في الأمر، فعيَّن واحدًا بنفسه فقال: «قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم، ولا تذعرهم عليَّ».
وفي هذا معنى تربوي وهو أن القيادة الناجحة هي التي توجه جنودها إلى أهدافها عن طريق الترغيب والتشجيع، ولا تلجأ إلى الأمر والحزم إلا عند الضرورة.
قال حذيفة -رضي الله عنه-: فمضيت كأنما أمشي في حمام, فإذا أبو سفيان يصلى ظهره بالنار, فوضعت سهمًا في كبد القوس، وأردت أن أرميه ثم ذكرت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تذعرهم عليَّ, ولو رميته لأصبته فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصابني البرد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألبسني فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائمًا حتى الصبح فلما أن أصبحت قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قم يا نومان».
ولنا من قصة حذيفة دروس وعبر: 9- معرفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمعادن الرجال: حيث اختار حذيفة ليقوم بمهمة التجسس على الأحزاب، وأن معدن حذيفة معدن ثمين فهو شجاع، ولا يقوم بهذه الأعمال إلا مَنْ كان ذا شجاعة نادرة, وهو بالإضافة إلى ذلك لبق ذكي خفيف الحركة، سريع التخلص من المآزق الحرجة.
10- الانضباط العسكري الذي يتحلى به حذيفة: لقد مرَّت فرصة سانحة يقتل فيها قائد الأحزاب وهمَّ بذلك، ولكنه ذكر أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يذعرهم، وأن مهمته الإتيان بخبرهم، فنزع سهمه من قوسه.
11- كرامات الأولياء: إنَ ما حدث لحذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-عندما سار لمعرفة خبر الأحزاب في جو بارد ماطر شديد الريح، وإذا به لا يشعر بهذا الجو البارد، ويمشي وكأنما يمشي في حمام، وتلازمه هذه الحالة مدة بقائه بين الأحزاب وحتى عاد إلى معسكر المسلمين؛ لا شك هذه كرامة يمنُّ الله بها على عباده المؤمنين.
12- لطف النبي -صلى الله عليه وسلم- مع حذيفة عند رجوعه: فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يترفَّق بأصحابه، ولم تمنعه صلاة الليل وحلاوة المناجاة من التلطف بحذيفة الذي جاء بأحسن الأنباء وأصدق الأخبار وأهمها، فشمله بكسائه الذي يُصلّي فيه، ليُدفئه، وتركه ملفوفًاً به حتى أتم صلاته، بل حتى بعد أن أفضى إليه بالمهمة، فلما وجبت المكتوبة أيقظه بلطف وخفة ودعابة قائلاً: «قم يا نومان»، دعابة تقطر حلاوة, وتفيض بالحنان، وتسيل رقة، إنها صورة نموذجية للرأفة والرحمة اللتين تحلّى بهما فؤاد الرسول -صلى الله عليه وسلم-, وتطبيق فريد رفيع لهما في أصحابه الكرام، وصدق الله العظيم في قوله: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
13- سرعة البديهة: وتستوقفنا سرعة البديهة لدى الصحابي الكريم، وقد دخل في القوم، كما في رواية الزرقاني، وقال أبو سفيان: ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه، قال حذيفة: فضربت بيدي على يد الذي على يميني فقلت: من أنت؟ قال: معاوية بن أبي سفيان، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن شمالي، فقلت: من أنت؟ قال: عمرو بن العاص، وهكذا بدرهم بالمسألة حتى لا يتيح لهم فرصة ليسألوه، وبهذا تخلص من هذا المأزق الحرج الذي ربما كان أودى بحياته.
14- الحكمة ضالة المؤمن يتلمسها أنَّى وجدها: ففي قبوله -صلى الله عليه وسلم- إشارة سلمان بحفر الخندق، وهو أمر لم تكن تعرفه العرب من قبل، دليل على أن الإسلام لا يضيق ذرعاً بالاستفادة مما عند الأمم الأخرى من تجارب تفيد الأمة وتنفع المجتمع فلا شك أن حفر الخندق أفاد إفادة كبرى في دفع خطر الأحزاب عن المدينة، وقبول رسول الله هذه المشورة، دليل على مرونتهلا-صلى الله عليه وسلم-، واستعداده لقبول ما يكون عند الأمم الأخرى من أمور حسنة، وقد فعل الرسول مثل ذلك أكثر من مرة، فلما أراد إنفاذ كتبه إلى الملوك والأمراء والرؤساء قيل له: إن من عادة الملوك ألاَّ يقبلوا كتاباً إلا إذا كان مختوماً باسم مرسله، فأمر على الفور بنقش خاتم له كتب عليه: محمد رسول الله، وصار يختم به كتبه، ولما جاءته الوفود من أنحاء العرب بعد فتح مكة تعلن إسلامها، قيل له: يا رسول الله إن من عادة الملوك والرؤساء أن يستقبلوا الوفود بثياب جميلة فخمة، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تُشترى له حلة، قيل: إن ثمنها بلغ أربعمائة درهم، وقيل: أربعمائة بعير، وغدا يستقبل بها الوفود.
وهذا هو صنيع الرسول الذي أرسل بآخر الأديان وأبقاها إلى أبد الدهر، فان مما تحتمه مصلحة أتباعه في كل زمان وفي كل بيئة أن يأخذوا بأحسن ما عند الأمم الأخرى، مما يفيدهم، ولا يتعارض مع أحكام شريعتهم وقواعدها العامة، والامتناع عن ذلك جمود لا تقبله طبيعة الإسلام الذي يقول في دستوره الخالد: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 17 و18] ولا طبيعة رسوله الذي رأينا أمثلة عما أخذ من الأمم الأخرى، وهو القائل: «الحكمة ضالة المؤمن يتلمسها أنَّى وجدها» ويوم غفل المسلمون في العصور الأخيرة، وخاصة بعد عصر النهضة الأوروبية عن هذا المبدأ العظيم في الإسلام، وقاوموا كل إصلاح مأخوذ عن غيرهم مما هم في أشد الحاجة إليه، أصيبوا بالانهيار، وتأخروا من حيث تقدم غيرهم ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41].
15- درسٌ للحكام والمحكومين: لقد ضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى للحكام والمحكومين في العدالة والمساواة وعدم الاستئثار بالراحة يوم وقف جنبا إلى جنب مع أفراد جيشه ليعمل بيده في حفر الخندق.
وهذه هي صفة العبودية الحقة التي تجلت في شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
والعدالة والمساواة ليستا في الإسلام مجرد شعارات يزين بها ظاهر المجتمع, وإنما العدالة والمساواة هما الأساس الواقعي الذي تنبثق منه القيم والمبادئ الإسلامية عامة ظاهراً وباطنا.
16- الرؤوف الرحيم -صلى الله عليه وسلم-: أعطى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثلاً آخر على رأفته بالمؤمنين، يوم شاركهم في حفر الخندق ويوم أشركهم معه في طعام جابر، ولم يستأثر به مع قلة من الصحابة.
وفي ضوء هذه المعاني يفهم قول الله -تعالى-: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
وفي هذا الموقف أيضاً رسالة في أهمية الإيثار عند المسلم فمهما كان الفقر شديداً نتعلم ألا نأكل وغيرنا جائع.
17- واعدوا لهم: إنَّ حفر الخندق يدخل في مفهوم المسلمين لقوله -تعالى-: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60] فينبغي على المسلمين اتخاذ وسائل القوة المتاحة مهما كان مصدرها، لأن الحكمة ضالة المؤمن، فحيثما وجدها التقطها.
18- أول مستشفى إسلامي حربي: أنشأ المسلمون أول مستشفى إسلامي حربي في غزوة الأحزاب, فقد ضرب الرسول صلوات الله وسلامه عليه خيمة في مسجده الشريف في المدينة، عندما دارت رحى غزوة الأحزاب, فأمر -صلى الله عليه وسلم- أن تكون رفيدة الأسلمية الأنصارية رئيسة ذلك المستشفى النبوي الحربي، وبذلك أصبحت أول ممرضة عسكرية في الإسلام.
وجاء في السيرة النبوية لابن هشام: ... وكان -صلى الله عليه وسلم- قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يُقال لها رُفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة مَنْ به ضيعة من المسلمين، وكان -صلى الله عليه وسلم- قد قال لقومه حين أصاب سعد بن معاذ السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب».
ويفهم من النص السابق أنَّ من أصيب من المسلمين إن كان له أهل اعتنى به أهله، وإن لم يكن له أهل، جيء به إلى المسجد حيث ضربت خيمة فيه لمن كانت به ضيعة من المسلمين، وسعد بن معاذ الأوسي، ليس به ضيعة، ولكن لما أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- الاطمئنان عليه باستمرار، جعله في تلك الخيمة التي أعدت لمن به ضيعة وليس له أهل، ذلك أن هؤلاء هم في رعاية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلا فلم ضربت الخيمة في المسجد، وكان بالإمكان ضربها في أي مكان آخر؟
إن سعد بن معاذ -رضي الله عنه- يكرم لمآثره وما بذله في سبيل الله تعالى، فيكون هذا التكريم أن يجعل في خيمة أعدت لمن به ضيعة، وهكذا حينما يرتفع السادة يجعلون مع المغمورين الذين أخلصوا أعمالهم لله تعالى فاستحقوا أن يكونوا في رعاية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وهذا منهج نبوي كريم أصبح دستورًا للمسلمين على مدى الزمن.
19- النصر من عند الله وحده: ظهرت معجزاتٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- في حفر الخندق لتؤكد أن الله تعالى هو الذي يهزم العدو وينصر حزبه ((لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده)) وحرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يؤكد لصحبه ثم للمسلمين في الأرض أن الأحزاب التي تتجاوز عشرة آلاف مقاتل لم تهزم بالقتال من المسلمين رغم تضحياتهم ولم تهزم بعبقرية المواجهة وإنما هزمت بالله وحده، وما يسرَّه من أسباب: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ [الأحزاب: 9].
إن النصر بيد الله، فإذا نصر المؤمنين فلا ضرر عليهم إذا خذلتهم الأقطار الإسلامية كلها، بل وحتى لو نصرت الكافرين، فلن يغلبوا من نصر اللهُ يقيناً {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران: 160].
20- المسلم يقع في الإثم ولكنه يسارع في التوبة: أرسل بنو قريظة إلى أبي لبابة بن عبد المنذر -وكانوا حلفاءه- فاستشاروه في النزول على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فأشار إلى حلقه يعني الذبح، ثم ندم فتوجَّه إلى مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فارتبط به حتى تاب الله عليه، وقد ظلَّ مرتبطًاً بالجذع في المسجد سِتَّ ليالٍ تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط في الجذع، وقد قال أبو لبابه: لا أبرحُ مكاني هذا حتى يتوبَ اللهُ عليَّ ممَّا صنعت: قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السَّحر وهو يضحك فقلت: مِمَّ تضحك يا رسول الله؟ أضحك اللهُ سِنَّكَ، قال: تِيبَ على أبي لبابة، قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئتِ، فقامت على باب حُجرتها، وذلك قبل أن يُضرب عليهنَّ الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب اللهُ عليك قالت: فثار الناسُ ليُطلقوه فقال: لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده، فلما مَرَّ عليه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خارجًا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وذلك في الاعتراف بالذنب والتوبة النصوح، وإن موطن العبرة في هذا الموقف يكمن في تصرف أبي لبابة بعدما وقعت منه هذه الزلة التي أفشى بها سرًّا حربيًّا خطيرًا، فأبو لبابة لم يحاول التكتم على ما بدر منه والظهور أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين بمظهر الرجل الذي أدى مهمته بنجاح, وأنه لم يحصل منه شيء من المخالفات، وكان بإمكانه أن يخفي هذا الأمر حيث لم يطلع عليه أحد من المسلمين، وأن يستكتم اليهود أمره، ولكنه تذكر رقابة الله عليه وعلمه بما يسر ويعلن، وتذكر حق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العظيم عليه وهو الذي ائتمنه على ذلك السر، ففزع لهذه الزلة فزعًا عظيمًا، وأقر بذنبه واعترف به وبادر إلى العقوبة الذاتية التلقائية، دون انتظار التحقيق وتوقيع العقوبة الواجبة، إنها صورة تطبيقية لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 17].
إنها صورة فريدة لتوقيع العقوبة من الإنسان نفسه على نفسه... ولا يفعل ذلك إلا أهل الإيمان، وما ذلك إلا من آثار الإيمان العميق الراسخ، الذي لا يرضى لصاحبه أن يخالطه إثم أو فسوق.
وقد فرح الصحابة وفرح النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، بتوبة الله على أبي لبابة، وتسابقوا إلى تهنئته حتى كانت أم سلمة زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم- هي التي بادرت بالتهنئة بعد الإذن فبشرته بقبول الله توبته.
وقد أنزل الله تعالى في أبي لبابة قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27].
ونزل في توبته قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 102].
21- مشروعية قضاء الفائتة: عندما شغل المشركون الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عن صلاة، صلوها قضاءً بعد المغرب، وفي هذا دليل على مشروعية قضاء الفائتة.
22- ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله: روى عبد الرزاق في مصنفه بالسند إلى سعيد بن المسيب، فذكر بعض خبر الأحزاب وقريظة إلى أن قال: فلما فضَّ اللهُ جُموع الأحزاب انطلق -يعني حيي بن أخطب- حتى إذا كان بالروحاء ذكر العهد والميثاق الذي أعطاهم، فرجع حتى دخل معهم، فلما أقبلت بنو قريظة أتي به مكتوفًاً بعد، فقال حيي للنبي-صلى الله عليه وسلم- أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه مَنْ يخذل الله يُخذل، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فضُرِبَتْ عُنُقُه.
ثم أنه أقبل على الناس قبل تنفيذ حكم الإعدام وقال لهم: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضُرِبَتْ عُنُقُه. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة الأحزاب دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 4:46 am | |
| 23- جلَد الكافر في مواطن الشدة: لقد تجلّد حيي بن أخطب وتقدم لتضرب عنقه حتى لا يشمت فيه شامت, وهو يعرف أنه على باطل، ظالم لنفسه، قد أوردها موارد الهلاك، ومع هذا يموت على ذلك، والعزة بالإثم تأخذه إلى جهنم وبئس المصير؛ لأنه يعبد هواه، ولا يعبد ربه, قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23].
24- من يخذل الله يُخذل: إن الله تعالى إذا خذل أحدًا ليس له نصير يمنعه أو يدفع عنه، قال سبحانه: ﴿إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160].
كما أن عداوة حيي بن أخطب للرسول -صلى الله عليه وسلم- باعثها الحسد والحقد؛ ولذلك عَبَّرَ حيي صراحة أن الله لم يكن معه يومًا من الأيام، بل كان حيي في شق الشيطان عدوًّا لأولياء الرحمن، يُشاقق الله، فالله خاذله ومُسْلِمه لكل ما يؤذيه ويتعبه، ولا توجد قوة في الأرض ولا في السماء تنصره وتحول بينه وبين الهزيمة؛ لأن إرادة الله هي النافذة, وقدره هو الكائن، لا رادَّ لقضائه، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، قال تعالى: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: 17].
25- فضائل لسعد بن معاذ -رضي الله عنه-: منهــــــــــــــــــــا: 1- استجابة الله تعالى لدعائه عندما قال: (اللهم إنك تعلم أنه ليس أحَدٌ أحَبَّ إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك -صلى الله عليه وسلم- وأخرجوه، اللهم فإن بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك)، وقد استُجيب دعاؤه فتحجَّر جُرحه، وتماثل للشفاء حتى كانت غزوة بني قريظة، وكان سعد قد دعا أيضًا: (ولا تُمتني حتى تقرَّ عيني من بني قريظة، وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحكم فيهم إليه، فحكم فيهم بالحق ولم تأخذه في الله لومة لائم, وهذا دليل على تجرد قلبه لله تعالى.
وعندما نفذ حكم الله في يهود بني قريظة رفع سعد يده يدعو الله ثانية يقول: اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم (يعني قريشًا والمشركين), فإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها, وقد استُجيب دعاؤه فانفجر جُرحه تلك الليلة ومات رحمه الله.
ومن خلال دعائه الأول والثاني، نلحظ هذا الدعاء العجيب، دعاء العظماء الذين يعرفون أن رسالتهم في الحياة ليست الاستشهاد فقط، بل متابعة الجهاد إلى اللحظة الأخيرة، فهو المسؤول عن نصرة الإسلام في قومه وأمته.
2- إكرام رسول الله له: ونجد ذلك في قوله-صلى الله عليه وسلم- للأنصار عندما جاء سعد للحكم في بني قريظة: «قوموا إلى سيدكم»، وهذا تكريم لسعد، وتقدير لشجاعته حيث سمَّاه سيدًا، وأمر بالقيام له.
3- لو أقسم على الله لأبره: ونرى ذلك في سيرته أنه لو أقسم على الله لأبره، فهو وجيه في السماوات والأرض، فقد شاءت إرادة المولى تعالى أن يعيد الأمر في بني قريظة كله إليه، وأن يطلب بنو قريظة أن يكون الحكم فيهم لسعد بن معاذ.
4- زهده في الحياة ورغبته في لقاء الله: فهو لم يحرص كثيرًا على الحياة، بعد انتهاء الجهاد، وانتهاء المسئولية وتأدية الأمانة المناطة به في قيادة قومه لحرب الأحمر والأسود من الناس، فإذا انتهت الحروب ووضعت بين المسلمين وقريش, وشفى غيظ قلبه في الحكم في بني قريظة، وبدا قطف الثمار للإسلام فلا ثمرة أشهى من الشهادة (فافجر جرحى واجعل موتي فيه).
وقد تحققت آماله، فقد أصدر حكمه في بني قريظة وشهد مصرع حلفاء الأمس أعداء اليوم، وها هو جرحه ينفجر.
5- الملائكة تُشيِّع سعد بن معاذ: عندما انفجر جُرحه -رضي الله عنه- نقله قومه فاحتملوه إلى بني عبد الأشهل إلى منازلهم.
وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقيل: انطلقوا فخرج وخرج معه الصحابة، وأسرع حتى تقطعت شسوع نعالهم، وسقطت أرديتهم، فقال: إني أخاف أن تسبقنا الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة، فانتهى إلى البيت وهو يُغَسَّل...
وأمُّهُ تبكيه وتقول: ويل أم سعد سعدًا حزامــة وجـــدًّا
فقال -صلى الله عليه وسلم-: كل نائحة تكذب إلا أم سعد، ثم خرج به, وقال: يقول له القوم: ما حملنا يا رسول الله ميتًا أخف علينا منه قال: «وما يمنعه أن يخف؟ وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومهم قد حملوه معكم».
وقد جاء في النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما عدد الملائكة الذين شاركوا في تشييع جنازة سعد فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفُتحت أبواب السماء، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة, لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك، لقد ضم ضمة ثم أفرج عنه» يعني سعدًا.
وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يودع سعدًا كما روى عبد الله بن شداد: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يكيد نفسه فقال: «جزاك الله خيرًا من سيد قوم، فقد أنجزت ما وعدته، ولينجزك الله ما وعدك».
6- يهتز لموته عرش الرحمن: لقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا العبد الصالح بعد موته كثيرًا أمام الصحابة ليتعرف الناس على أعماله الصالحة فيتأسَّوا به، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» وفي حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: أهديت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حُلة حرير فجعل أصحابه يلمسونه ويعجبون من لينها، فقال: «أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين».
26- ضمة القبر نسأل الله العافية: ومع المآثر والمحاسن والأعمال الجليلة التي قدَّمها سعد بن معاذ رضي الله عنه لخدمة دين الله، فقد تعرَّض لضمَّة القبر: لما انتهوا إلى قبر سعد -رضي الله عنه- نزل فيه أربعة: الحارث بن أوس، وأسيد بن الحضير، وأبو نائلة سلكان، وسلمة بن سلامة بن وقش، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقف، فلما وضع في قبره، تغيَّر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسبَّح ثلاثًا، فسبَّح المسلمون حتى ارتج البقيع ثم كبَّر ثلاثًاً، وكبَّر المسلمون، فسُئِلَ عن ذلك فقال: «تضايق على صاحبكم القبر، وضُمَّ ضمَّة لو نجا منها أحَدٌ لنجا هو، ثم فرَّجَ اللهُ عنه».
27- الحرب خدعة: نجد ذلك في طلبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من نُعيم بن مسعود، أن يخذِّل بين الأحزاب ما استطاع في "غزوة الأحزاب" دليل على أن الخديعة في حرب الأعداء مشروعة إذا كانت تؤدي إلى النصر، وأن كل طريق يؤدي إلى النصر وإلى الإقلال من سفك الدماء مقبول في نظر الإسلام، ما عدا الغدر والخيانة، وهذا من حكمته السياسية والعسكرية -صلى الله عليه وسلم-، وهو لا ينافي مبادئ الأخلاق الإسلامية، فإن المصلحة في الإقلال من عدد ضحايا الحروب مصلحة إنسانية.
والمصلحة في انهزام الشر والكفر والفتنة مصلحة إنسانية وأخلاقية، فاللجوء إلى الخدعة في المعارك يلتقي مع الأخلاق الإنسانية التي ترى في الحروب شراً كبيراً، فإذا اقتضت الضرورة قيامها، كان من الواجب إنهاؤها عن أي طريق كان، لأن الضرورة تقدر بقدرها، والله لم يشرع القتال إلا لحماية دين أو أمة أو أرض، فالخدعة مع الأعداء بما يؤدي إلى هزيمتهم، تعجيل بانتصار الحق الذي يحاربه أولئك المبطلون.
ولذلك أثر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في "غزوة الأحزاب" قوله لعروة ابن مسعود: "الحرب خدعة" وهذا مبدأ مسلم به في جميع الشرائع والقوانين.
28- الإسلام يكرم المرأة: كانت سلمى بنت قيس وكنيتها أم المنذر أخت سليط بن قيس، وكانت إحدى خالات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قد صلت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء, سألته رفاعة ابن سمؤال القرظي، وكان رجلاً قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك فقالت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، هب لي رفاعة، فإنه قد زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها، فاستحيته.
وفي هذا الخبر دليل على أن الإسلام يكرم المرأة ويعتبر شفاعتها، هذه هي معاملة المرأة في هذا الدين، إنه يكرمها، ويساعدها ويشجعها على فعل الخير.
29- شجاعة المرأة المسلمة: فمن ذلك ما حدث من صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها وأرضاها، لما رأت رجلاً من اليهود يطيف بالحصن، وفيه النساء والصبية، وقد حاربت بنو قريظة ونقضوا العهد، وقطعت ما بينها وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس بينهم أحد يدافع عنهم، فخشيت أن يدل اليهودي على عورات المسلمين، وقد شُغل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فاحتجزت ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن.
الله أكبر ليت في رجالنا كثير من مثل صفية بنت عبد المطلب.
وكان لهذا الفعل من صفية، وهي عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأثر العظيم في حفظ ذراري المسلمين ونسائهم، فظن اليهود أن الآطام والحصون ممنعة من الجيش، فلم يجترئوا ثانية على القيام بمثل هذا العمل.
30- من أدب الخلاف: في اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة», فبعضهم فهم منه المراد الاستعجال، فصلى العصر لما دخل وقته, وبعضهم أخذ بالظاهر فلم يصل إلا في بني قريظة, ولم يعنف النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدًا منهم أو عاتبه، ففي ذلك دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذورًا ومثابًا، كما أن فيه تقريرًا لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم.
إن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل، إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما دام دليلها ظنيًّا محتملاً؟... ولو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكان أولى الناس بألا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما رأيت؟ وفي الحديث السابق من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث نبوي أو آية من كتاب الله، كما لا يعاب من استنبط من النص معنى يخصه، وفيه أيضا أن المختلفين في الفروع من المجتهدين لا إثم على المخطئ, فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد».
وحاصل ما وقع أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت وقت الصلاة توجيهًا لهذا النهي الخاص على النهي العام عن تأخير الصلاة عن وقتها.
وقد علق الحافظ ابن حجر على هذه القصة فقال: ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد, فيستفاد منه عدم تأثيمه، وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النص على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحًا للنهي الثاني على النهي الأول، وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق، والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة، وأنه كناية على الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه-صلى الله عليه وسلم- لم يعنف أحدًا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم.
31- عدم صحة ما يروى عن جبن حسان -رضي الله عنه-: ففي قصة صفية عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقتلها لليهودي جاء في رواية سندها ضعيف أن صفية -رضي الله عنها- قالت لحسان بن ثابت: إن هذا اليهودي يطيف بالحصن كما ترى، ولا آمنه أن يدل على عورتنا من ورائنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فانزل إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت صفية: فلما قال ذلك، احتجزت عمودًا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت الحصن، فقلت: يا حسان انزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني أن استلبه إلا أنه رجل، فقال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
وهذا الخبر لا يصح لأمور منها: 1- من حيث الإسناد فالخبر ليس مسندًا, وهو ساقط لا يصح ولا يجوز أن يروى، فيساء إلى صحابي من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينافح عن الدعوة وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمره كله.
2- لو كان حسان بن ثابت -رضي الله عنه- معروفًا بالجبن الذي ذكر عنه لهجاه أعداؤه ومبغضوه بهذه الخصلة الذميمة, لاسيما الذين كان يهاجيهم، فلم يسلم من هجائه أحد من زعماء الجاهلية، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يؤيده ويدعو له، ويشجعه على هجاء زعماء المشركين. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة الأحزاب دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 4:52 am | |
| 32- التوفيق في اختيار المواقع: فقد ذكر الواقدي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركب فرسًا له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعًا ينزله, فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سلعًا خلف ظهره ويخندق من المذاد إلى ذباب إلى راتج, وقد استفاد -صلى الله عليه وسلم- من مناعة جبل سلع في حماية ظهور الصحابة.
كان اختيار تلك المواقع موفقًا؛ لأن شمال المدينة هو الجانب المكشوف أمام العدو والذي يستطيع منه دخول المدينة وتهديدها، أما الجوانب الأخرى فهي حصينة منيعة، تقف عقبة أمام أي هجوم يقوم به الأعداء، فكانت الدور من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع، وكانت حرة واقم من جهة الشرق, وحرة الوبرة من جهة الغرب، تقومان كحصن طبيعي، وكانت آطام بني قريظة في الجنوب الشرقي كفيلة بتأمين ظهر المسلمين، وكان بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبني قريظة عهد ألا يمالئوا عليه أحدا، ولا يناصروا عدوًا ضده.
ويُستفاد من بحث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن مكان ملائم لنزول الجند أهمية الموقع الذي ينزل فيه الجند، وأنه ينبغي أن يتوافر فيه شرط أساسي وهو الحماية التامة للجند؛ لأن ذلك له أثر واضح على سير المعركة ونتائجها.
33- إحكام الخطة في المعركة: لقد كانت خطة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الخندق متطورة، ومتقدمة، حيث شرع بالأخذ بالأساليب الجديدة في القتال، ولم يكن حفر الخندق من الأمور المعروفة لدى العرب في حروبهم, بل كان الأخذ بهذا الأسلوب غريبًا عنهم، وبهذا يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أول من استعمل الخندق في الحروب في تاريخ العرب والمسلمين، فقد كان هذا الخندق مفاجأة مذهلة لأعداء الإسلام، وأبطل خطتهم التي رسموها، وكان من عوامل تحقيق هذه المفاجأة ما قام به المسلمون من إتقان رفيع لسرية الخطة وسرعة إنجازها، وكان هذا الأسلوب الجديد في القتال له أثر في إضعاف معنويات الأحزاب وتشتيت قواتهم.
34- الاهتمام بالجبهة الداخلية: ونرى ذلك في الآتي: 1-تأمين النساء والذراري: لما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقدوم جيش الأحزاب وأراد الخروج إلى الخندق أمر بوضع ذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم في حصن بني حارثة, حتى يكونوا في مأمن من خطر الأعداء، وقد فعل ذلك -صلى الله عليه وسلم- لأن حماية الذراري والنساء والصبيان لها أثر فعال على معنويات المقاتلين؛ لأن الجندي إذا اطمأن على زوجه وأبنائه يكون مرتاح الضمير هادئ الأعصاب, فلا يشغل تفكيره أمر من أمور الحياة, يسخر كل إمكاناته وقدراته العقلية والجسدية للإبداع في القتال، أما إذا كان الأمر بعكس ذلك فإن أمر الجندي يضطرب ومعنوياته تضعف ويستولي عليه القلق، مما يكون له أثر في تراجعه عن القتال؛ وبذلك تنزل الكارثة بالجميع.
2- مشاركة النبي جنده في الحفر: ومن الأمور التي ساهمت في تقوية وتماسك الجبهة الداخلية مشاركة النبي -صلى الله عليه وسلم- جنده أعباء العمل، فقد شارك الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحابة في العمل المضني, فأخذ يعمل بيده الشريفة، في حفر الخندق، فعن ابن إسحاق قال: سمعت البراء يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الصحابة بهمة عالية لا تعرف الكلل، فأعطى القدوة الحسنة لأصحابه حتى بذلوا ما في وسعهم لإنجاز حفر ذلك الخندق.
3- مشاركة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الآلام والآمال: فلقد كان -صلى الله عليه وسلم- يشارك الصحابة -رضي الله عنهم- في آلامهم وآمالهم، بل كان يستأثر بالمصاعب الجمة دونهم, ففي غزوة الأحزاب نجد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعاني من ألم الجوع كغيره، بل أشد، حيث وصل به الأمر إلى أن يربط حجرًا على بطنه الشريف من شدة الجوع, ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- شاركهم في آمالهم فحين وجد ما يسد رمقه بعد هذا الجوع الذي استمر ثلاثًا، لم يستأثر بذلك دونهم, وهذا ما سوف نعرفه بإذن الله عند الحديث عن وليمة جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو القائد الأعلى وهو المُشرف المباشر على إدارة المعركة فهو الذي يرسم الخطط ويراقب تنفيذها...
فهو الذي: أ- أمر بحفر الخندق بعد أن تمت المشاورة في ذلك، فاختار مكانًا مناسبًا لذلك, وهي السهول الواقعة شمال المدينة، إذ كانت هي الجهة الوحيدة المكشوفة أمام الأعداء. ب- قسَّم أعمال حفر الخندق بين الصحابة، كل أربعين ذراعًا لعشرة من الصحابة، ووكل بكل جانب جماعة يحفرون فيه. ج- سيطر -صلى الله عليه وسلم- على العمل، فلا يستطيع أحد ترك عمله إلا بإذن منه -صلى الله عليه وسلم-. د- قسم -صلى الله عليه وسلم- واجبات احتلال الموضع بنفسه, بحيث تستمر الحراسة على كل شبر من الخندق ليلاً ونهارًا، ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم بمهمة الإشراف العام على الجند بتشجيعهم ورفع معنوياتهم.
4- رفع معنويات الجنود وإدخال السرور عليهم: اقترن حفر الخندق بصعوبات جمة، فقد كان الجو باردًا، والريح شديدة والحالة المعيشية صعبة، بالإضافة إلى الخوف من قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة، ويضاف إلى ذلك العمل المضني، حيث كان الصحابة يحفرون بأيديهم وينقلون التراب على ظهورهم، ولا شك في أن هذا الظرف بطبيعة الحال يحتاج إلى قدر كبير من الحزم، والجد، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينسَ في هذا الظرف أن هؤلاء الجند إنما هم بشر كغيرهم، لهم نفوس بحاجة إلى الراحة من عناء العمل، كما أنها بحاجة إلى من يدخل السرور حتى تنسى تلك الآلام التي تعانيها فوق معاناة العمل الرئيسي.
ولهذا نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرتجز بكلمات ابن رواحه وهو ينقل التراب: ولا تصدقنا ولا صلينا اللهم لولا الله ما اهتدينا وثبت الأقدام إن لاقينا فأنزلن سكينة علينا وإن أرادوا فتنة أبينا إن الأعادي قد بغوا علينا
ثم يمد صوته بآخرها.
وعن أنس -رضي الله عنه- أن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا يقولون يوم الخندق: على الإسلام ما بقينا أبدًا نحن الذين بايعوا محمدًا
أو قال على الجهاد والنبي يقول: فاغفر للأنصار والمهاجرة اللهم إن الخير خير الآخرة
لقد كان لهذا التبسط والمرح في ذلك الوقت أثره في التخفيف عن الصحابة مما يعانونه نتيجة للظروف الصعبة التي يعيشونها، كما كان له أثره في بعث الهمة والنشاط بإنجاز العمل الذي كلفوا بإتمامه، قبل وصول عدوهم.
5- تقدير ظروف الجند والإذن بالانصراف عند الحاجة: كان الصحابة رضي الله عنهم على قدر كبير من الأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم-, فكانوا يستأذنونه في الانصراف إذا عرضت لهم ضرورة، فيذهبون لقضاء حوائجهم، ثم يرجعون إلى ما كانوا فيه من العمل، رغبة في الخير واحتسابًا له, فأنزل الله فيهم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 62].
ومعنى الآية الكريمة: إذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن لقضاء بعض حاجاتهم التي تعرض لهم فأذن لمن شئت منهم في الانصراف عنك لقضائها، واستغفر لهم, فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخيار، إن شاء أذن له إذا رأى ذلك ضرورة للمستأذن، ولم ير فيه مضرة على الجماعة، فكان يأذن أو يمنع حسب ما تقتضيه المصلحة ويقتضيه مقام الحال.
6- تقسيم الصحابة إلى دوريات للحراسة: قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى مجموعات للحراسة ومقاومة كل من يريد أن يخترق الخندق، وقام المسلمون بواجبهم في حراسة الخندق وحراسة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-, واستطاعوا أن يصدوا كل هجوم حاول المشركون شنه، وكانوا على أهبة الاستعداد جنودًا وقيادة، حتى أنهم استمروا ذات يوم من السحر إلى جوف من الليل في اليوم الثاني، ويفوت المسلمون الصلوات الأربع، ويقضونها لعجزهم عن التوقف لحظة واحدة أثناء الاشتباك المباشر للقتال، واستطاع علي بن أبي طالب مع مجموعة من الصحابة أن يصدوا محاولة عكرمة ابن أبي جهل، بل تصدى علي لبطل قريش عمرو بن عبد ود وقتله، وكانت هناك مجموعة من الأنصار تقوم بحراسة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل ليلة على رأسهم عباد بن بشر -رضي الله عنه-.
35- معجزات أيَّد الله بها نبيه -صلى الله عليه وسلم-: ظهرت خلال مرحلة حفر الخندق معجزات للنبي -صلى الله عليه وسلم-, منها تكثير الطعام الذي أعده جابر بن عبد الله، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: إنا يوم الخندق مُحفِّر, فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازل» ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- المعول، فضرب في الكدية فعاد كثيبًا أهيل أو أهيم.
قال جابر: فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا ما كان في ذلك صبر, فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعناق, فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم بالبرمة, ثم جئت النبي -صلى الله عليه وسلم- والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي، قد كادت أن تنضج، فقلت: طُعَيمٌ لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: «كم هو؟» فذكرت له، فقال «كثير طيب», قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال: «قوموا»، فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحكِ جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمهاجرين والأنصار ومن معهم, قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: «ادخلوا ولا تضاغطوا» فجعل يكثر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه, ويقرب إلى أصحابه, ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية، قال: «كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة».
وهذه ابنة بشير بن سعد تقول: دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما، قالت: فأخذتها فانطلقت بها, فمررت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ألتمس أبي وخالي, فقال: تعالي يا بنية ما هذا معك؟ فقلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغذيانه، قال: هاتيه، قالت: فصببته في كفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له ثم دعا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغذاء، فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة الأحزاب دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 4:57 am | |
| ومن دلائل النبوة أثناء حفر الخندق: إخباره -صلى الله عليه وسلم- عمار بن ياسر -وهو يحفر معهم الخندق- بأن ستقتله الفئة الباغية, فقُتِلَ في صفين وكان في جيش علي، وعندما اعترضت صخرة الصحابة وهم يحفرون، ضربها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاث ضربات فتفتَّتت قال إثر الضربة الأولى: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة»، ثم ضربها الثانية فقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض»، ثم ضرب الثالثة، وقال: «الله أكبر أعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة»، وقد تحققَّت هذه البشارة التي أخبرت عن اتساع الفتوحات الإسلامية والإخبار عنها في وقت كان المسلمون فيه محصورين في المدينة يواجهون المشاق والخوف والجوع والبرد القارس.
36- بث الخذلان في صفوف الأعداء: استخدام النبي -صلى الله عليه وسلم- سلاح التشكيك والدعاية لتمزيق ما بين الأحزاب من ثقة وتضامن، فلقد كان يعلم -صلى الله عليه وسلم- أن هناك تصدعًا خفيًا بين صفوف الأحزاب, فاجتهد أن يبرزه ويوسع شقته ويستغله في جانبه، فقد سبق أن أطمع غطفان ففكك عزمها، والآن ساق المولى عز وجل نعيم بن مسعود الغطفاني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعلن إسلامه، وقال له: يا رسول الله, إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة».
فقام نعيم بزرع الشك بين الأطراف المتحالفة بأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فأغرى اليهود بطلب رهائن من قريش لئلا تدعهم وتنصرف عن الحصار، وقال لقريش بأن اليهود إنما تطلب الرهائن لتسليمها للمسلمين ثمنًا لعودتها إلى صلحهم، لقد اشتهرت قصة نعيم بن مسعود في أنها لا تتنافى مع قواعد السياسة الشرعية, فالحرب خدعة، وقد نجحت دعاية نعيم بن مسعود أيُّما نجاح، فغرست روح التشكيك، وعدم الثقة بين قادة الأحزاب؛ مما أدى إلى كسر شوكتهم، وتهبيط عزمهم.
وكان من أسباب نجاح مهمة نعيم قيامها على الأسس التالية: أ- أنه أخفى إسلامه عن كل الأطراف، بحيث وثق كل طرف فيما قدمه له من نصح. ب- أنه ذكر بني قريظة بمصير بني قينقاع وبني النضير، وبصرهم بالمستقبل الذي ينتظرهم إن هم استمروا في حروبهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-, فكان هذا الأساس سببًا في تغيير أفكارهم وقلب مخططاتهم العدوانية. ج- أنه نجح في إقناع كل الأطراف بأن يكتم كل طرف ما قال له, وفي استمرار هذا الكتمان نجاح في مهمته، فلو انكشف أمره لدى أي طرف من الأطراف لفشلت مهمته.
وهكذا قام نعيم بن مسعود بدور عظيم في غزوة الأحزاب.
37- أهمية الصلاة الوسطى: قال-صلى الله عليه وسلم-: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».
وقد استدل طائفة من العلماء بهذا الحديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، كما هو منصوص عليه، وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث، وقد استدل طائفة من العلماء بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال كما هو مذهب مكحول والأوزاعي.
قال الدكتور البوطي: لقد فاتت النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر كما رأيت في هذه الموقعة، لشدة انشغاله، حتى صلاها قضاء بعدما غربت الشمس.
وفي روايات أخرى غير الصحيحين أن الذي فاته أكثر من صلاة واحدة، صلاها تباعًا بعدما خرج وقتها وفرغ لأدائها، وهذا يدل على مشروعية قضاء الفائتة، ولا ينقض هذه الدلالة ما ذهب إليه البعض من أن تأخير الصلاة لمثل ذلك الانشغال كان جائزًا إذ ذاك ثم نسخ حينما شرعت صلاة الخوف للمسلمين رجالاً وركبانًا عند التحام القتال بينهم وبين المشركين، إذ النسخ على فرض صحته ليس واردًا على مشروعية القضاء، وإنما هو وارد على صحة تأخير الصلاة بسبب الانشغال, أي أن نسخ صحة التأخير ليس نسخًا لما كان قد ثبت من مشروعية القضاء أيضًا، بل هي مسكوت عنها, فتبقى على مشروعيتها السابقة.
38- بين التصور والواقع: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله وصحبتموه؟ قال: نعم، يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، فقال حذيفة: يا ابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بالخندق، ثم ذكر حديث تكليفه بمهمة الذهاب إلى معسكر المشركين.
هذا تابعي يلتقي بالصحابي حذيفة ويتخيل أنه لو وجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لاستطاع أن يفعل ما لم يفعله الصحابة الكرام، والخيال شيء والواقع شيء آخر، والصحابة -رضي الله عنهم- بشر، لهم طاقات البشر، وقدراتهم، وقد قدموا كل من يستطيعون، فلم يبخلوا بالأنفس فضلاً عن المال والجهد، وقد وضع -صلى الله عليه وسلم- الأمور في نصابها بقوله: «خير القرون قرني» فبيَّن أن عملهم لا يعدله عمل.
إن الذين جاءوا من بعد، فوجدوا سلطان الإسلام ممتدًا، وعاشوا في ظل الأمن والرخاء والعدل، بعيدين عن الفتنة والابتلاء، هم بحاجة إلى نقلة بعيدة يستشعرون من خلالها أجواء الماضي بكل ما فيه من جهالات وضلالات وكفر، وبعد ذلك يمكنهم تقدير الجهد المبذول من الصحابة حتى قام الإسلام في الأرض.
39- ولينصرن الله من ينصره: إنَّ المؤمنين إذا اجتهدوا في الدفاع عن دينهم وجهاد أعداء الله وأعداء رسوله وفعلوا قصارى طاقتهم في نصر الله ورسالته فإن الله -سبحانه وتعالى- يكرمهم بعون منه وتأييد فيصنع لهم ويهيئ لهم من أسباب الغلبة والنصر ويبعث لهم من جنود العز والتمكين ما لم يكن لهم على حساب ويؤيدهم بجند من عنده وما يعلم جنود ربك إلا هو فإذا صدقنا إيماننا وتمسكنا بديننا والتزمنا بنهج نبينا في كل أمورنا فلا يضرنا كيد الكائدين ولا مكر الماكرين.
فالله جل جلاله يدافع عن الذين آمنوا كما قال جل ذكره: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فالله سبحانه نعم المولى ونعم النصير يبتلي أولياءه ليميز الخبيث من الطيب فإذا تبين أهل محبته وأهل دينه وتميزت الصفوف جاءهم وعده ووقع خبره ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.
40- شدة عداوة اليهود للإسلام وأهله: إنهم قومٌ عادوا الإسلام وعادوا نبي الإسلام ووقفوا في طريق تبليغ دعوة الله حجر عثرة ومنْع دون وصوله إلى الناس، ولم يُجدِ معهم أي قانون ولم يحترموا أيَّ عهد فكان ما كان من تعامل النبي الأكرم معهم، بحكمة السياسي المحنك، وقوة المسلم الأبيّ وتوفيق الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-, لاسيما مع قوم شيمتهم اللؤم وطبعهم الغدر ونعتهم الخيانة والجبن..
وفي هذه المعركة نرى بنو قريظة نقضوا العهد, جاء في الصحيحين "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا رجع من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، فاخرج إليهم قال: فإلى أين؟ قال: ههنا، وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم".
ونادى -صلى الله عليه وسلم- في المسلمين: "ألا لا يُصلين أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة"، فسار الناس، فأدرك بعضهم في الطريق، فقال بعضهم: لا نُصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نُصلي، ولم يرد منا بذلك، فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يُعنف أحدًا منهم".
ثم أنهم نزلوا على حُكْمِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم، وقد كانت بنو قريظة حُلفاء للأوس- فأحبَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يَكِلَ الحُكم عليهم إلى واحدٍ من رؤساءِ الأوسيين، فجعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ، وكان قد أُصيب بسهمٍ في الخندقِ في خيمةٍ هناك، فلمَّا حكَّمه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في بني قريظة وأرسل إليه بذلك، أتى على حِمارٍ، فلمَّا دَنَا من المسجد، قال للأنصار: "قُوموا إلى سيدكم أو خيركم"، ثم قال: "إنَّ هؤلاء نزلوا على حكمك"، قال: "تُقَتَّلُ مُقاتلهم وتُسبي ذريتهم"، فقال: له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قضيت بحكمِ الله تعالى".
وحاصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بني قريظة (وهم متحصنون في حصونهم) خمسًا وعشرين ليلة وقيل خمسة عشر يومًا، حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب.
ودعونا نواصل الدروس والعبر من هذه الغزوة ومن قصة بني قريضة فلقد استنبط علماء الحديث والسيرة من قصةِ بني قريظة.
وهذه أحكامًا مُهمِّة نُجملها فيما يلي: 41- جواز قتالِ مَن نقض العهد: وقد جعل الإمام مسلم -رحمه الله- هذا الحكم عنوانًاً لغزوةِ بني قريظة، فالصلحُ والمعاهدة والاستئمان بين المسلمين وغيرهم، كُلُّ ذلك ينبغي احترامه على المسلمين ما لم ينقض الآخرون العهدَ أو الصلحَ أو الأمان، وحينئذٍ يجوز للمسلمين قتالهم إنْ رأوا المصلحةَ في ذلك.
42- جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم: قال النووي -رحمه الله-: فيه جواز التحكيم في أمورِ المسلمين وفي مهامهم العظام والرجوع في ذلك إلى حُكْمِ مسلمٍ عادلٍ صالحِ الحكم، وقد أجمع العلماء عليه في شأن الخوارج، فإنهم أنكروا على عليٍّ التحكيم، وأقام الحجةَ عليهم، وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصنٍ على حكمِ حاكمٍ مسلمٍ عادلٍ صالح للحكم أمين على هذا الأمر، وعليه الحكم يما فيه مصلحة المسلمين، وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز الإمام ولا لهم الرجوع، ولهم الرجوع قبل الحكم.
43- مشروعية الاجتهاد في الفروع وضرورة وقوع الخلاف فيها: وفي اختلاف الصحابة في فهمِ كلام رسول -صلى الله عليه وسلم- " «ألا لا يُصلين أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة» على النحو الذي روينا، مع عدمِ تعنيف النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدًا منهم أو معاتبته، دلالة مهمة على أصلٍ من الأصولِ الشرعية الكبرى، وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع واعتبار كل المتخالفين معذورًا ومثابًا، سواء قلنا إنَّ المصيب واحد أو متعدد، كما أنَّ فيه تقريرًا لمبدأ الاجتهادِ في استنباطِ الأحكام الشرعية، وفيه ما يدلُّ على أنَّ استئصال الخلاف في مسائلِ الفروع التي تنبع من دلالاتٍ ظنية، أمرٌ لا يمكن أن يُتصوَّر أو يتم. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة الأحزاب دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 5:03 am | |
| فالله سبحانه وتعالى تعبَّد عباده بنوعين من التكاليف: أولهما: تطبيق أوامر معينة واضحة تتعلق بالعقيدة أو السلوك. ثانيهما: البحث وبذل الجهد ابتغاء فهم المبادئ والأحكام الفرعية من أدلتها العامة المختلفة، وليس المطلوب ممن أدركته الصلاة في بادية التبست عليه جهة القبلة فيها، أكثر من أن تتجلى عبوديته لله تعالى في أنْ يبذلَ كل ما لديه من وسعٍ لمعرفةِ جهة القبلة حسب فهمه وما يبدو له من أدلة، حتى إذا سكنت نفسه إلى جهةٍ ما، استقبلها فصلَّى إليها.
ثم إنَّ هنالك حِكَمًا باهرةً لمجيء كثير من الأدلة والنصوص الشرعية الظنية الدلالة غير قطعية من أبرزها، أن تكون الاجتهادات المختلفة في مسألةٍ ما، كلها وثيقة الصلة بالأدلة المعتبرة شرعًا، حتى يكون للمسلمين متسع في الأخذ بأيها شاءوا حسبما تقتضيه ظروفهم ومصالحهم المعتبرة، وتلك من أجلى مظاهر رحمة الله بعباده، في كل عصرٍ وزمن.
وإذا تأمَّلت هذا، وعلمت أنَّ السعي في محاولةِ القضاء على الخلافِ في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل، إذْ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألةٍ ما دام دليلها ظنيًّا محتملاً، لو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكان أولى الناس بأن لا يختلفوا هم الصحابة، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما قد رأيت؟!
44- يعرفونه كما يعرفون أبناءهم: جيء برئيس بني قريظة كعب بن أسد، وقبل أن يضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنقه جرى بينه وبين كعب الحوار التالي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كعب بن أسد؟»، قال كعب بن أسد: نعم يا أبا القاسم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدقًا بي، أما أمركم باتباعي، وإن رأيتموني تقرئوني منه السلام؟»، قال كعب: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكني على دين يهود، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضرب عنقه فضُرِبَتْ.
لقد رأيت من مجرى كلام كعب بن أسد مع إخوانه اليهود أنهم كانوا على يقينٍ من نبوةِ محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى اطلاعٍ تامٍّ على ما أثبتته التوراة من الحديثِ عنه وعن علاماته وبعثته، ولكنهم كانوا عبيدًا لعصبيتهم وتكبرهم، وذلك هو سبب الكفر عند كثيرٍ ممن يتظاهر بعدمِ الإيمان والفهم، وذلك هو الدليل البين على أنَّ الإسلامَ في عقيدته وعامة أحكامه إنما هو دين الفطرة البشرية الصافية، ينسجم في عقيدتِهِ مع العقلِ وينسجم في تشريعاته وأحكامه مع حاجاتِ الإنسان ومصالحه، فلن تجد من عاقلٍ سمع باسم الإسلام وألمَّ بحقيقتِهِ وجوهره ثم كفر به كفرًا عقليًّا صادقًا، إنما هو أحد شيئين، إما أنه لم يسمع بالإسلامِ على حقيقته وإنما قيل له عنه كلامٌ زائفٌ باطل، وإما أنه وقف على حقيقته واطلع على جوهره، فهو يأباه إباءً نفسيًّا لحقدٍ على المسلمين أو غرضٍ أو هوى يخشى فواته.
45- حكم القيام إكرامًا للقادم: أمرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- الأنصارَ حينما أقبل نحوهم سعد بن معاذ راكبًا دابته أن يقوموا إليه تكريمًا له، ودلَّ على هذا التعليل قوله: لسيدكم أو خيركم، وقد استدلَّ عامة العلماء بهذا وغيره على مشروعية إكرام الصالحين والعلماء بالقيام إليهم في المناسباتِ الداعية إلى ذلك عرفًا. يقول الإمام النووي في تعليقٍ على هذا الحديث:
"فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا.. هكذا احتجَّ به جماهير العلماء لاستحباب القيام، قال القاضي: وليس هذا من القيام المنهي عنه، وإنما ذلك فيمَن يقومون إليه وهو جالس ويمثلون قيامًا طول جلوسه.. قلتُ: القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث ولم يصح في النهي عنه شيء صريح.
ومن الأحاديث الثابتة الدالة أيضًا على ذلك ما جاء في حديث كعب بن مالك المتفق عليه، وهو يقصُّ خبر تخلفه عن غزوة تبوك، قال: فانطلقتُ أتأمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئوني بالتوبة، ويقولون لي: لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلتُ المسجد، فإذا رسول الله جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره- فكان كعب لا ينساها لطلحة.
ومن ذلك أيضًا ما رواه الترمذي وأبو داود والبخاري في الأدبِ المفرد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما رأيتُ أحدًا من الناسِ كان أشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كلامًا ولا حديثًا ولا جلسةً من فاطمة، قالت: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رآها أقبلت رحَّب بها ثم قام فقبَّلها، ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يُجلسها في مكانِهِ، وكانت إذا أتاها النبي -صلى الله عليه وسلم- رحَّبت به ثُمَّ قامت إليه فقبَّلته".
واعلم أنَّ هذا كله لا يتنافى مع ما صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مَن أحبَّ أن يتمثل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار», لأنَّ مشروعيةَ إكرام الفضلاء وتوقيرهم لا تستدعي السعي منهم إلى ذلك أو تعلق قلوبهم بمحبته؛ بل إنَّ من أبرز صفاتِ الصالحين والفضلاء أن يكونوا متواضعين لإخوانهم زُهادًا في طلبِ هذا الشيء، أرأيت إلى الفقير المحتاج؟ إنَّ الأدب الإسلامي يُوصيه ويُعلمه الترفع عن المسألةِ وإظهار الفاقة والحاجة للناس، ولكن هذا الأدب الإسلامي نفسه يُوصي الأغنياء بالبحثِ عن هؤلاء الفقراء المتعففين ويأمرهم وإعطائهم من فضولِ أموالهم، غير أنَّ من أهم ما ينبغي أن تعلمه في هذا الصدد أنَّ لهذا الإكرام حدودًا إذا تجاوزها، انقلب الأمر محرمًا، واشترك في الإثم كلٌّ من مقترفه والساكت عليه.
فمن ذلك ما قد تجده في مجالس بعض المتصوفة من وقوف المريدين عليهم وهم جلوس، يقف الواحد منهم أمام شيخه في انكسارٍ وذلٍّ مطرقًا لا يطرف إلى أن يأذن له بالجلوس، ومنه ما يفعله بعضهم من السجودِ على رُكبةِ الشيخ أو يده عند قدومه أو ما يفعله من الحبو إليه عندما يغشى المجلس، ولا يخدعنَّك ما قد يُقال في تسويغِ ذلك من أنه أسلوب من التربيةِ للمريد! فالإسلامُ قد شرَّع مناهجَ وأساليبَ للتربيةِ وحظر على المسلمين الخروج عليها، وليس بعد الأسلوبِ النبوي في التربيةِ أسلوبٌ.
46- البلاء والصبر: ظهر في هذه المعركة حسن بلاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حيث إنهم صبروا على ما قدره الله -تعالى- عليهم بقلوب ثابتة وعزائم راسخة فلم تستفزهم الكروب ولم تقعدهم الخطوب بل كانوا كلما اشتدت الكروب وادلهمت الخطوب زادهم ذلك إيماناً وتسليماً وتصديق ذلك في هذه الغزوة قوله -تعالى-: ﴿وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 22].
47- الحلال والحرام: عرضت قريش فداء مقابل جثة عمرو بن ود، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الديَّة فلم يقبل منهم شيئًا».
حدث هذا والمسلمون في ضنك من العيش، ومع ذلك فالحلال حلال والحرام حرام، إنها مقاييس الإسلام في الحلال والحرام، فأين هذا من الناس المحسوبين على المسلمين الذين يحاولون إيجاد المبررات لأكل الربا وما شابهه؟.
48- جزاء عادل: إن الحكم الذي نزل ببني قريظة صدر لأنهم من الناحية القانونية خونة فلقد أثبتت التجارب والأحداث منذ وصول النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة أنَّ اليهود عاشوا وهم يعملون بكل طاقاتهم لاستئصال الإسلام والقضاء عليه والكيد للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونشر الإشاعات ضده والغدر والخيانة كلما سنحت لهم الفرصة, فكان ما نزل بهم عين العدل ويتفق مع نصوص القوانين الحديثة.
49- تخطيط محكم: القائد الحكيم دائماً يتصرف حسبما تُمليه الحاجة ويتطلب الموقف لذلك وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- على: 1- طول الخندق لأنه كان يتوقع الهجوم في كل لحظة ويخشى أن يهاجمه المشركون على حين غرة, لذلك احتاط للأمر وأقام الحراسة الدائمة على طول الخندق, وقد علم أصحابه كلمة السر كي يتعارفون بها في ظلمات الليل ولا يقتل بعضهم بعضا وهذه الكلمة هي "هم لا ينصرون "أرئيت الدقة والمهارة والتنظيم. 2- طائفة أخرى من المسلمين تحرس المدينة خوفاً من أن يقوم بني قريظة بفتح ثغرة للمسلمين فأرسل جند ليؤمنوا هذا الجانب وكانت كلمة سرهم "الله اكبر". 3- فرقة أخرى تحرس النبي -صلى الله عليه وسلم- مع العلم أنَّ العرب كانت تنفر من القتل غيلة وغدراً وتعده دناءة وعاراً, لكن اليهود يعدون الغدر شرفاً وهو يتخوَّف منهم.
50 -جنود الله تأتي بعد العمل بالأسباب: المسلمين صبروا صبراً جميلاً ومع هذا الابتلاء الشديد كان الصبر لهم ضياء, فما ضعفوا وما استكانوا لإيمانهم القوي أنَّ الله يحقق لعباده الصالحين ما وعدهم به من النصر والتمكين والرسول ص كان يلح في الدعاء ومن دعاءه كما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب فقال: اللهم مُنزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم.
ومن المسلمين إلا أن توجهوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: يا رسول الله هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، فقال: نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا...
فأرسل الله جنده: 1- الريح: وكانت هذه الريح معجزة للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين كانوا قريبًا منهم، ولم يكن بينهم إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها ولا خبر عندهم بها..., قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب: 9].
2- الملائكة: وبعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط, وأطفأت النيران, وأكفأت القدور, وجالت الخيول بعضها في بعض، وأرسل عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر حتى كان سيد كل خباء يقول: يا بني فلان هلم إليَّ فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء، لما بعث الله عليهم الرعب.
وفي الأخير أسال الله جل وعلا بمنه وكرمه أن ينفع بهذا العمل وأن يجعله لوجهه خالصاً. اللهم إنا نسألك الشهادة في سبيلك بعد طول عُمرٍ وحُسن عَمَل يا أرحم الرَّاحمين. |
| | | | غزوة الأحزاب دروس وعبر | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |