| | غزوة حُنين دروس وعبر | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: غزوة حُنين دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 12:07 am | |
|
غزوة حُنين دروس وعبر الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا, مَن يهده الله فلا مضلّ له, ومَن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له, وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله, بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة, ونصح الأمّة، وجاهد في سبيل ربه حقّ الجهاد, ولم يترك شيئاً مما أُمر به إلاّ بلّغه, فتح الله به أعيناً عُمياً، وآذانا صُماً، وقلوباً غُلفاً, وهدى الناس مِن الضلالة، ونجّاهم مِن الجهالة, وبصّرهم مِن العمى, وأخرجهم مِن الظلمات إلى النور, وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيّك محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اقتفى أثره واهتدى بهداه.
وبعد... ما أجمل أن نداوي الجراح المكلومة الغائرة بالسيرة العطرة المعطرة لرسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فسيرته بلسم للجراح وملاذ للخائف وحصٌن للراجي، والعوذ عندما تدلهم المصائب والأزمات.
وهذه الأمَّة أمَّةٌ منصورة من ربها، موعودة بالتمكين والاستخلاف في الأرض بوعد الحق الذي لا يخلف، في آيات كثيرة من القرآن، كما قال الله تعالى: "وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [الروم: 47].
وقال: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ" [الصافات: 171 – 173].
وقال: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ" [غافر: 51].
وقال: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55].
ومهما تكالب أعداؤها، وأحكموا كيدهم، وأجمعوا أمرهم؛ لإطفاء نور الحق والهدى فلن يحظوا بذلك، وهيهات وقد قال الله تعالى: "يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" [التوبة: 32 – 33 ].
وقد بشرّنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الدين سينتشر في أنحاء الأرض قاطبة حتى يدخل كل بيت في المعمورة كما في حديث تميم الداري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزا أو بذل ذليلا، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر».
إن هذه النصوص المبشرة جزء من عقيدتنا التي يجب أن نؤمن بها إيماناً تاماً لا تخالطه الشكوك ولا تساوره الظنون مهما طال ليل المحنة؛ فإن وعد الله آت عما قريب"أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" [البقرة: 214].
بل إن هذا اليقين الكامل بنصر الله هو أحد عوامل النصر المهمة، ولذا ترى النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما تشتد الكروب وتلم الخطوب يُذكّر بهذه الحقيقة؛ فذلك يبعث الأمل ويحيى الهمم، ويجدد العزم على العمل، كما فعل في غزوة الأحزاب وقد رمتهم العرب عن قوس واحدة؛ فقد بشر أصحابه بفتح بلاد فارس والروم، كما بشر في حادثة الهجرة وهو مطارد خائف بفتح بلاد فارس، وكما طمأن صاحبه الصديق -رضي الله عنه- وهما في الغار بقوله: "لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" [التوبة: 40].
إن المؤمنين حينما تحيط بهم الملمات لا تزيدهم إلا ثباتاً ويقيناً وتسليماً: "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً" [الأحزاب: 22].
أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فما أسرع ما يتزلزلون ويشكون بصدق وعد الله عند أدنى محنة أو نازلة: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً" [الأحزاب: 12].
غير أن النصر الذي وعِدت به هذه الأمة لا يناله إلا من أدّى ثمنه وقام بأعبائه؛ فإذا وجدت أسبابه وانتفت موانعه تحقق النصر بإذن الله، وإن تخلف منها شيء فربما تخلف النصر، ولله عاقبة الأمور.
فالمتأمل في غزواته -رضي الله عنهم- يجد أنها مصباحاً يضيء للأمة لتعرف عوامل النصر وعوامل الهزيمة, وتتعلم الدروس والعبر التي تملأ أفراد الأمة ثقة بنصر الله وحبا لنبيها -صلى الله عليه وسلم-.
وها نحن ضمن الموسوعة المباركة: (غزوات النبي المصطفى دروس وعبر). (نستشف هذه الدروس والعبر ونتأمل مواقفه -صلى الله عليه وسلم- ومواقف صحابته الكرام، نقف مع: ((غزوة حُنين)).
أسأل الله أن ينفع بها كل موحد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
غزوة حُنين * غزوة حُنين: هي الغزوة التي تبين فيها أن القوة من عند الله تبارك وتعالى, وأنه هو الذي يهدي وينصر, ويسدد فلا قوة تأتي من غيره جل جلاله.
* غزوة حُنين: فيها الدرس العظيم, في الرضا عن الله, والاستبشار بنصر الله, وإعلاء جنده وحزبه, فيها الفأل الحسن مقرونًا بفعل السبب وبذل الوسع.
* غزوة حُنين: فيها الدرس العظيم في صدق التوكل على الله, والإيمان بموعوده وفتحه.
* غزوة حُنين: إذا كانت غزوة بدر الكبرى هي أولى معارك الإسلام مع مشركي العرب، وبـها كُسرَت حدتـهم وقلت هيبتهم، فقد كانت غزوة حُنين وما تلاها من غزو أهل الطائف هي آخر تلك المعارك، وبـها استُفرِغت قوى أولئك المشركين، واستُنفِدت سهامهم، وأُذل جمعهم حتى لم يجدوا بداً من الدخول في دين الله، كما يقول الإمام ابن القيم.
* غزوة حُنين: كانت غزوة حُنين في العاشر من شوال من العام الثامن للهجرة منصرفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة بعد أن منَّ الله عليه بفتحها، وقد انصرف رسول الله من مكة لست خلت من شوال، وكان وصوله إلى حُنين في العاشر منه.
* غزوة حُنين: دارت هذه الغزوة في موضع يقال له حُنين، وهو واد إلى جنب ذي المجاز بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات.
* غزوة حُنين: كان سبب هذه الغزوة أن مالكاً بن عوف النضري جمع القبائل من هوازن ووافقه على ذلك الثقفيون، واجتمعت إليه مضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرج إليهم.
* غزوة حُنين: إذا كانت وقعة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئاً في جنب كثرة أعدائهم إذا كانوا صابرين متقين، فإن غزوة حُنين قد قررت للمسلمين أن الكثرة أيضاً لا تفيدهم إذا لم يكونوا صابرين ومتقين.
دروس وعبر من غزوة حُنين 1- القوة لله جميعا: لا عبرة بالكثرة فالنصر من عند الله عز وجل، أكبر جيش جمعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- جيش حُنين كانوا اثني عشر ألفا، فلما رآهم أبو بكر الكتيبة تتدفق بعد الكتيبة، قال: "لا نُهزم اليوم من قلة" والمسلمون بشر أتاهم ضعف واتكلوا على قوتهم المادية, فأراد الله أن يلقنهم درس عقيدة لا ينسونه, وهو أن القوة من عند الله, وأن النصر من عند الواحد الأحد, فيقول الله عز وجل: "لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ" [التوبة: 25] يقول: اذكروا كم نصركم الله في مواطن كثيرة.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن
"لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ" [التوبة: 25] فهنا درس لكل إنسان ألا يغتر بقوته وألا يعتمد على حوله وذكائه وفطنته.
قال ابن القيم في كلام معناه: فوض الأمر إلى الله عز وجل, وأعلن عجزك, فإن أقرب العباد من الله الذين يعلنون الانكسار بين يديه.
فأقرب العباد إلى الله أشدهم انكساراً إليه، وأقربهم إلى النصر أشدهم تواضعاً لله, وكلما ذل العبد وتواضع لله رفعه الله, وكلما تكبر، قال الله: (اخسأ فلن تعدو قدرك, وعزتي وجلالي لا أرفعك أبداً).
فكان هذا الدرس في العقيدة: أن القوة من عنده تبارك وتعالى, وأنه هو الذي يهدي وينصر, ويسدد فلا قوة تأتي من غيره مهما أجلبوا بخيل ورجل وقوى واتصلوا بأمور فإنها كبيت العنكبوت: "وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" [العنكبوت: 41].
2- إرسال العيون لطلب أخبار العدو: فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل ابن أبي حدرد وقال: “اجلس بينهم وخذ أخبارهم وائتني بأعلامهم» -هذا قبل المعركة- فجلس بينهم في الليل، فسمع مالك بن عوف النصري يقول: إذا أتينا غداً فصبحوهم واضربوهم ضربة رجل واحد، فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، فإرسال العين لصالح المسلمين لا بالإضرار بالمسلمين, لكن لتقصي الحقائق ولنصرة الإسلام, ولتأييد كتاب الله ولرفعة لا إله إلا الله لا بأس به. أخذ السلاح من المشرك: فالرسول عليه الصلاة السلام لما أراد حُنيناً قال لـ صفوان بن أمية وقد كان طلب مهلة أربعة أشهر حتى يفكر في دخول الإسلام- قال: “يا أبا وهب: أتعيرنا مائة درع وسلاحها؟ قال: غصباً يا محمد، قال: بل عارية مضمونة” فأخذها -صلى الله عليه وسلم- عارية مضمونة، فلا بأس باستعارة السلاح من المشرك, فلو قاتل المسلمين كافر فلا بأس أن يأخذوا من كافر آخر سلاحاً آخر يقاتلون به هذا الكافر, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام فعله سواءً بشراء, أو عارية, أو على مصالح مشتركة يتبادلها الفريقان فلا بأس بذلك.
هذا وقد وجدت للشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- كلاماً يفيد أنه لا يرى شراء السلاح من دول الكفر الآن؛ فإنه يقول في معرض دعوتـه للاهتمام بالتصفية والتربية وإنكاره على دعاة الجهاد في هذه الأيام: "لو أن هناك جهاداً قام بين المسلمين وبين الكفار، فهؤلاء المسلمون سوف لا يستطيعون أن يتابعوا إمداد جيوشهم بالأسلحة اللازمة لهم إلا بالشراء من أعدائهم، وهل يكون نصر وجهاد بشراء الأسلحة من أعداء المسلمين؟.
وكأنه -رحمه الله- يقول بأنه لا يجوز شراء السلاح من الكفار إلا بشروط لا تتوافر في عصرنا فقد سئل بعد ذلك عن الفرق بين شراء السلاح من الكفار الآن وبين استعارة النبي -صلى الله عليه وسلم- السلاح من صفوان فقال: "الفرق كبير.. أولاً هو فرد، وثانياً هو مطمئن إليه، ثم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما طلب كان هو أقوى منه، اليوم الأمر معكوس تماماً؛ فالمسلمون حكاماً، فضلاً عمن هم دونـهم هم أضعف من أعدائهم الذين يستوردون الأسلحة منهم، فشتان ما بين هذا وذاك".
غير أن من الشروط المهمة في هذا المجال أن لا يؤدي شراء السلاح من الكفار إلى تنازل المسلمين عن شيء من عقيدتـهم ودينـهم، فأمر العقيدة أعلى من كل اعتبار، وبكل حال فهذا الأمر هو من أمور السياسة الشرعية التي تخضع لقياس المصالح والمفاسد، ومعرفة الأنسب في كل حين، ونحن اليوم نرى أن أمم الكفر ليست بدرجة واحدة في عدائها للمسلمين فمنـهم من يعلن الحرب على المسلمين ومنهم من ليس كذلك، فلا بأس بالشراء من غير المحاربين لقتال المحاربين، ويمكن للمسلمين أن يستغلوا بعض التناقضات بين دول الكفر في شراء السلاح من بعضها لمحاربة البعض الآخر، بل على المسلمين أن يستغلوا ما قد يحدث في بعض بلاد الكفر من الأزمات المالية لمحاولة شراء السلاح بل وتقنيات تصنيعه منهم، كما هو حادث في روسيا الآن، وقد كان المجاهدون في الشيشان -وربما لا يزالون- يشترون السلاح من الجنود الروس بأسعار زهيدة ثم يقاتلونـهم به.
وهذا كله لا يعني رضانا بحال المسلمين وتخلفهم وعدم قدرتـهم على صنع ما يحتاجونه من السلاح، بل الواجب عليهم السعي الحثيث في امتلاك أدوات التصنيع والعمل على الاكتفاء الذاتي، وإلى أن يتحقق ذلك فليس هناك مانع من شرائهم السلاح من الكافرين والله -تعالى- أعلم. 3- ضمان العارية إذا تلفت: فإن صفوان عندما طلب منه النبي -صلى الله عليه وسلم- سلاحاً قال: غصباً يا محمد؟ قال: “بل عارية مضمونة” أي إذا تلفت هذه الدروع والسلاح نضمنها لك, فلما تلفت بعض السيوف وتكسرت في أيدي الأنصار،فالصحابة تثلمت سيوفهم وثلموا سيوف صفوان بن أمية, فأتى يقلب السيوف وهي مثلمة فيقول: للرسول -صلى الله عليه وسلم-: أهذا سلاحي؟ فيقول -صلى الله عليه وسلم-: نضمنها لك، قال: لا لقد أسلمت والإسلام خير لي لا آخذ منها شيئا، فرزقه الله الإسلام, وهو خير من الدروع والسيوف، وقبل المعركة كان صفوان وراء الزبير بن العوام.
|
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة حُنين دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 12:11 am | |
| 4- مشابهة هذه الأمة الأمم السابقة: هذا الحديث علّق عليه ابن تيمية في الرسائل والمسائل يقول: لما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حُنين نزل الناس في الظهيرة ومعهم سيوفهم وسلاحهم -وهذا الحديث عند أبي داود من حديث أبي واقد الليثي - قالوا: يا رسول الله! إن للمشركين ذات أنواط -أي: ذات معاليق يعلقون فيها سلاحهم- فاجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؛ فقال عليه الصلاة والسلام: “الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة”.
فيقول ابن تيمية: "سوف يقع في هذه الأمة ما وقع في اليهود والنصارى؛ فإن علماءنا إذا فسدوا كان فيهم شبه من اليهود -نعوذ بالله من ذلك- فإن اليهود تعلموا العلم ولم يعملوا به؛ فختم الله على قلوبهم ولعنهم وغضب عليهم، قال جل ذكره: "فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً" [المائدة: 13]، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى؛ فإنهم يعبدون الله بلا علم, لا يتفقهون في الدين؛ فلهم صلاة وصيام وذكر لكن على ضلالة: "وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا" [الحديد: 27].
يقول ابن تيمية: وسوف يقع في هذه الأمة ما وقع بين اليهود والنصارى لهذا الحديث؛ ولقوله تعالى: "وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ" [البقرة: 113] قال ابن تيمية: "سوف تأتي طوائف وأحزاب في هذه الأمة تقول: ليست الطائفة الأخرى على شيء ونحن على الحق، وتقول الأخرى: لستم على شيء ونحن على الحق فهي السنن".
5- التكبير عند التعجب والاستغراب: فالرسول -صلى الله عليه وسلم- لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط قال: الله أكبر! وهذه من أحسن الكلمات التي تقال في النوادي والمحافل, فنحن لا نعرف التصفيق وليس في ديننا تصفيق، ولا يصفق إلا اللاهون اللاغون إذا أعجبوا بمقولة أو كلمة.
فعلى المسلمين أن يكبروا, فإن التصفيق والمكاء والتصدية من علامات الجاهلية ومن شعائر الوثنية, والله ذكر المشركين وطوافهم بالبيت فقال: "وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً" [الأنفال: 35]، أي: صفيرا وتصفيقاً, فذم التصفيق سبحانه وتعالى، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كان أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا أعجبهم شيء كبروا" وربما كبر عليه الصلاة والسلام فكبروا خلفه, ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: “أترضون أن تكونوا ثلث الجنة؟ قالوا: بلى، قال: ألا ترضون أن تكونوا نصف الجنة؟ قالوا: بلى، قال: فإنكم ثلثا أهل الجنة، فكبروا جميعا”.
فالتكبير مطلوب عند التعجب والاستغراب، أو من حدث أو كلمة حماسية، أو من بيت أو قصة, فسنتنا أن نكبر وألا نتشبه بأهل الكتاب الذين أضلهم الله على علم وطبع على قلوبهم.
6- لا رجعة للوثنية: خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حُنين بعض حديثي العهد بالجاهلية, وكانت لبعض القبائل شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما، وبينما هم يسيرون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ وقع بصرهم على الشجرة، فتحلبت أفواههم على أعياد الجاهلية التي هجروها، ومشاهدها التي طال عهدهم بها، فقالوا: يا رسول الله, اجعل لنا (ذات أنواط) كما لهم (ذات أنواط), فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الله أكبر! قلتم -والذي نفس محمد بيده- كما قال قوم موسى لموسى: "اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قال إنكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ"لتركبن سنن من كان قبلكم».
وهذا يُعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص رغم إسلامهم، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوضح لهم ما في طلبهم من معاني الشرك, وحذرهم من ذلك, ولم يعاقبهم أو يعنفهم؛ لعلمه بحداثة عهدهم بالإسلام، وقد سمح لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمشاركة في الجهاد؛ لأنه لا يشترط فيمن يخرج للجهاد أن يكون قد صحح اعتقاده تماما من غبش الجاهلية، وإنما الجهاد عمل صالح يثاب عليه فاعله، وإن قصر في بعض أمور الدين الأخرى، بل الجهاد مدرسة تربوية تعليمية يتعلم فيه المجاهدون كثيرًا من العقائد والأحكام والأخلاق؛ وذلك لما يتضمنه من السفر وكثرة اللقاءات التي يحصل فيها تجاذب الأحاديث وتلاقح الأفكار.
7- الحراسة في الغزو: إن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا كان في الأسفار أو الغزو جعل حارساً يحرس الناس، وما كان يعطيه راتباً عليه الصلاة والسلام، بل كان يعدهم بالجنة, جنة عرضها السماوات والأرض, فكانوا يتسارعون إلى هذا، كما فعل حذيفة في الليلة الظلماء عند أهل الأحزاب، وضمن له -صلى الله عليه وسلم- الجنة.
وكما حرس بلال بن رباح المسلمين في غزوة من الغزوات فقال له -صلى الله عليه وسلم-: «يا بلال ! ارمق لنا فجر هذه الليلة»، فقام بلال فرمق من أول الليل, فلما قرب الفجر صلى الليل ما شاء الله، ثم جلس برمحه عند الناقة، فاعتمد عليها فنام، فلما نام جاء الفجر, ثم طلعت الشمس حتى أصاب الناس حر الشمس, فاستيقظ عمر -رضي الله عنه- أول الناس، فاستحيا عمر أن يذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: قم صل، ومن عمر حتى يوقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! وله ذلك فإنها من المصالح والفوائد لكنه استحيا.
فأتى بجانب أذن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: الله أكبر، الله أكبر، فاستيقظ عليه الصلاة والسلام وقد استيقظ أكثر الناس وأصابهم من الخوف ما الله به عليم, تذكروا أنهم ما صلوا, وأن الشمس قد طلعت وارتفعت, فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا عليكم، ثم أمرهم أن يقوموا، وقال يا بلال: أين رمقك الفجر هذه الليلة، فقال بلال: أخذ بنفسي يا رسول الله ما أخذ بأنفسكم، فتبسم عليه الصلاة والسلام، يقول: أنتم وقعتم فيما وقعت أنا فيه, فلماذا تعاتبونني على هذا؟ فصلى عليه الصلاة والسلام فصلوا، والشاهد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجعل حارساً من الصحابة في الغزو وفي الأسفار لفوائد: 1- أن يوقظ المصلي والموتر في الليل. 2- أن يخبر الناس بهجوم طارئ على جيشهم وعلى متاعهم وعلى أهلهم. 3- تدريب الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه على هذا العمل الجهادي الشاق. 4- أن يجعل أجورا لأهل هذه الأعمال ليتباروا في عمل الآخرة وليتقدموا عند الله.
قال عمار بن ياسر -رضي الله عنه-: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فلما أمسينا ذات ليلة، قال: من يحرسنا هذه الليلة؟ فسكتنا، فقال: ليقم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، قال: فقمت، وقام عباد بن بشر -رضي الله عنه- وعن عمار, الشاب الصادق الذي قتل يوم صفين ضرب على وجهه حتى سقط لحم وجهه من كثرة السيوف, ولما رآه الصحابة قالوا: نشهد أنك عند الله من الشهداء.
فبدأ عباد بالحراسة ثم قام يصلي, فبدأ يقرأ في سورة الكهف، فأخذ الأعداء ينظرون إليه وهو حارس يقرأ في الليل, وهم لا يعرفون الصلاة ولا القراءة فأخذوا يرمونه بالسهام, وما أراد أن يقطع القراءة، فأخذ كلما انغمس السهم في جسمه يخرجه وينزله في الأرض, ويستمر في القراءة، وكلما أتى السهم الآخر أخرجه ودماؤه تنصب من جسمه, وأتى السهم الآخر ويخرجه, فلما غلبته الدماء خفف في الصلاة, وقام وزحف إلى عمار، وقال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أقتل فتفتح ثغرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى المسلمين ما ختمت هذه الصلاة حتى أتم سورة الكهف، فقال عمار: رحمك الله، ألا كنت أيقظتني؟! فأخبره، فقام عمار -رضي الله عنه- وأدركوا هذا, فأيقظوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يوضح لنا كيفية حراسة الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين.
وكان حارسه عليه الصلاة والسلام ربما حرسه عند باب بيته قبل أن ينزل الله تعالى: "وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ" [المائدة: 67] يقول أنس -رضي الله عنه-: رجعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر فلما اقتربنا من المدينة دخل -صلى الله عليه وسلم- بيتاً له -أي خيمة- قال: فسمعته بالليل يقول: “ليت رجلاً صالحاً يحرسنا هذه الليلة” قال: فأتى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- فسمع من بعض الناس أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: “ليت رجلا صالحا يحرسنا هذه الليلة” فتوضأ سعد بن أبي وقاص ولبس سلاحه وأخذ سيفه ووقف عند باب الخيمة من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، فلما علم -صلى الله عليه وسلم- بـ سعد قال: “اللهم اغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر” فكان من الحراس الصادقين.
8- التوكل لا ينافي العمل بالأسباب: من دروس هذه الغزوة المباركة أن التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق توكلاً على الله -تعالى-، ومع ذلك لم يكن يلقى عدوه إلا وقد جهز جيشه بكل ما يستطيع من آلة الحرب وعدة السلاح، حتى إنه استعار أدراعاً من صفوان بن أمية كما ذكرنا آنفا، وكان يومئذ كافراً، وقد كان السلف رضوان الله عليهم يعون تلك الحقيقة جيداً، فكانوا لا يألون جهداً في الأخذ بالأسباب ثم يتوكلون بعد ذلك على مسبب الأسباب، ولكن تطاول الإعصار، وغلبة الجهل بحقيقة الدين قد أدخل في أذهان كثير من مدعي التدين أن أخذهم بالأسباب ينافي حقيقة التوحيد لأنه يقدح في تمام توكلهم على الله، ولذا ذكر القرطبي رحمه عند حديثه عن قصة موسى مع الخضر أن من فوائدها اتخاذ الزاد في الأسفار، قال: "وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامه والقفار، زعماً منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار، هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه وتوكله على رب العباد، وفي صحيح البخاري: أن ناسا من أهل اليمن كانوا، يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: "وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى" [البقرة: 197].
ومما يروي في سيرة الشيخ محمد مصطفى المراغي -شيخ الأزهر السابق- أنه رأى حين كان في السودان رجلاً يهم بدخول غابة مليئة بالوحوش المفترسة لقطع شجر أو نحوه، فلما سأله عن ما أعده من سلاح يواجه به وحوش الغاب، قال له: إن معي حرزاً فيه سورة ياسين، وهنا ضربه الشيخ بعصا كانت معه وقال له: إن الذي أنزلت عليه سورة ياسين لم يكن يدخل حرباً إلا وقد جهز نفسه بما يستطيع من أنواع السلاح، وأنت تريد أن تدخل على الوحوش بحرز فيه سورة ياسين؟!.
9- الالتفات في الصلاة للحاجة: فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أرسل ابن أبي حدرد وقيل أنيس بن أبي مرثد أخذ -صلى الله عليه وسلم- يصلي الفجر وهو يلتفت هكذا في الشعب لينظر هل يأتيه الخبر أو لا ويخفف الصلاة.
قال أهل العلم: للمسلم إذا كانت حاجة أن يلتفت ولكن لا يجعلها عادة, فالرسول عليه الصلاة والسلام فتح الباب وهو في الصلاة، وحمل أُمامة بنت زينب في الصلاة، وتناول بعض الأمور وهو في الصلاة، والتفت هنا إلى طليعة القوم للحاجة, وهذا الحديث في سنن أبي داود بسندٍ حسن عن سهل بن الحنظلية، قال: أرسل -صلى الله عليه وسلم- يوم حُنين طليعة القوم، فأخذ يلتفت إليه في الصلاة وينظر إليه بين شقق الشعب.
10- الإعجاب بالكثرة يحجب نصر الله: الإعجاب بالكثرة حجب عن المسلمين النصر في بداية المعركة, وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة: 25].
وقد نبه إلى هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما أوضح أنه لا حول ولا قوة إلا بالله فيقول: «اللهم بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل». وهكذا أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يراقب المسلمين ويقوِّم ما يظهر من انحرافات في التصور والسلوك, حتى في أخطر ظروف المواجهة مع خصومه العتاة.
وعلى الرغم من الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في بداية غزوة حُنين وفرار معظم المسلمين في ميدان المعركة؛ لأنهم فوجئوا بما لم يتوقعوه, فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعنف أحدا ممن فرَّ عنه, حتى حينما طالبه بعض المسلمين بأن يقتل الطلقاء لأنهم فروا, لم يوافق على هذا. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة حُنين دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 12:14 am | |
| 11- الغنائم وسيلة لتأليف القلوب: رأى -صلى الله عليه وسلم- أن يتألف الطلقاء والأعراب بالغنائم تأليفًا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام, فأعطى لزعماء قريش وغطفان وتميم عطاء عظيمًا, إذ كانت عطية الواحد منهم مائة من الإبل, ومن هؤلاء: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو, وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، ومعاوية ويزيد ابنا أبي سفيان، وقيس ابن عدي.
وكان الهدف من هذا العطاء المجزي هو تحويل قلوبهم من حب الدنيا إلى حب الإسلام, أو كما قال أنس بن مالك: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا, فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.
وعبر عن هذا صفوان بن أمية بقوله: لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ.
وقد تأثر حدثاء الأنصار من هذا العطاء بحكم طبيعتهم البشرية, وترددت بينهم مقالة, فراعى -صلى الله عليه وسلم- هذا الاعتراض وعمل على إزالة التوتر, وبين لهم الحكمة في تقسيم الغنائم, وخاطب الأنصار خطابًا إيمانيًّا عقليًّا عاطفيًّا وجدانيًّا، ما يملك القارئ المسلم على مر الدهور وكر العصور وتوالي الزمان إلا البكاء عندما يمر بهذا الحدث العظيم, فعندما دخل سعد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة؟» قال: فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا, وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا أتى سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار, ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضُلاَّلا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟» قالوا: الله ورسوله أمنُّ وأفضل، ثم قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل.
قال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقْتم ولصُدِّقتُم: أتيتنا مكذَّبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلا فآسيناك.
أوجدتم عليَّ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة، لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وواديًا، وسلكتْ الأنصار شعبًا وواديًا لسلكتُ شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار والناس دثار, اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار», قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسمًا وحظًّا, ثم انصرف رسول الله وتفرقوا, وفي رواية: «إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن هذه المقالة لم تصدر من الأنصار كلهم، وإنما قالها حديثو السن منهم؛ بدليل ما ورد في الصحيحين، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن ناسًا من الأنصار قالوا يوم حُنين: أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس بن مالك: فحُدِّث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قولهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم, فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟» فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم».
ويرى الإمام ابن القيم -استدلالاً بهذه الحادثة-: أنه قد يتعين على الإمام أن يتألف أعداءه لاستجلابهم إليه, ودفع شرهم عن المسلمين فيقول: الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين، فإن تعين ذلك -أي التأليف- للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رءوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعين عليه، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين.
والتأليف لهذه الطائفة إنما هو من قبيل الإغراء والتشجيع في أول الأمر حتى يخالط الإيمان بشاشة القلب، ويتذوق حلاوته.
ويوضح الشيخ محمد الغزالي حقيقة هذا الأمر في مثال محسوس فيقول: ...إن في الدنيا أقوامًا كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم لا من عقولهم، فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظل تمد إليه فمها، حتى تدخل حظيرتها آمنة، فكذلك هذه الأصناف من البشر تحتاج إلى فنون الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهش له.
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب للأنصار صورة مؤثرة: قوم يبشرون بالإيمان يقابلهم قوم يبشرون بالجِمال، وقوم يصحبهم رسول الله يقابلهم قوم يصحبهم الشاة والبعير، لقد أيقظتهم تلك الصور, وأدركوا أنهم وقعوا في خطأ ما كان لأمثالهم أن يقع فيه، فانطلقت حناجرهم بالبكاء ومآقيهم بالدموع, وألسنتهم بالرضا، وبذلك طابت نفوسهم واطمأنت قلوبهم بفضل سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- الحكيمة في مخاطبة الأنصار.
12- الصبر على جفاء الأعراب: لقد ظهر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكثير من الصبر على جفاء الأعراب, وطمعهم في الأموال, وحرصهم على المكاسب, فكان مثالا للمربي الذي يدرك أحوالهم, وما جبلتهم عليه بيئتهم وطبيعة حياتهم من القساوة والفظاظة والروح الفردية، فكان يبين لهم ويطمئنهم على مصالحهم ويعاملهم على قدر عقولهم، فكان بهم رحيمًا ولهم مربيًا ومصلحًا، فلم يسلك معهم مسلك ملوك عصره مع رعاياهم الذين كانوا ينحنون أمامهم أو يسجدون, وكانوا دونهم محجوبين, وإذا خاطبوهم التزموا بعبارات التعظيم والإجلال, كما يفعل العبد مع ربه، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فكان كأحدهم؛ يخاطبونه ويعاتبونه، ولا يحتجب عنهم قط، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يراعون التأدب بحضرته ويخاطبونه بصوت خفيض, ويكنون له في أنفسهم المحبة العظيمة، وأما جفاة الأعراب فقد عنفهم القرآن على سوء أدبهم وجفائهم, وارتفاع أصواتهم وجرأتهم في طبيعة مخاطبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وهذه مواقف تدل على حسن معاملة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأعراب: مواقف تدل على حسن معاملة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأعراب. 1- الأعرابي الذي رفض البشرى: قال أبو موسى الأشعري: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: «أبشر» فقال: قد أكثرت عليَّ من أبشر، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: «رد البشرى، فاقبلا أنتما» قالا: قبلنا.
ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه ثم قال: «اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا» فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما, فأفضلا لها منه طائفة.
2- مقولة الأعرابي: ما أريدَ بهذه القسمة وجه الله: قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-:... فلما كان يوم حُنين آثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك, وأعطى أناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, قال: فأتيته فأخبرته بما قال, قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف, ثم قال: «فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟!» قال: ثم قال: «يرحم الله موسى؛ قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» قال: قلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثاً.
13- تعامله -صلى الله عليه وسلم- مع هوازن لما أسلمت: جاء وفد هوازن لرسول الله بالجعرانة وقد أسلموا, فقالوا: يا رسول الله, إنا أصل وعشيرة, وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك, فامنن علينا منَّ الله عليك.
وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله, إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك, ولو أنا ملحنا لابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منها مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما, وأنت رسول الله خير المكفولين.
ثم أنشأ يقول: فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن علينا رسولَ الله في كرم
إلى أن قال: إذ فوك يملؤه من محضها درر امنن على نسوة قد كنت ترضعها وإذ يزينك ما تأتي وما تذر امنن على نسوة قد كنت ترضعها
فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم, فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديما وحديثًا وخصوصًا وعمومًا.
فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوفد قال لهم: «نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: يا رسول الله خيَّرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا، فقال رسول الله: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المسلمين, وبالمسلمين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أبنائنا ونسائنا, فإني سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم» فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس الظهر قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فقال: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-, وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس ابن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستة فرائض من أول فيء نصيبه, فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم».
وفي رواية... فخطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المؤمنين فقال: «إن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل» فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم: «إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا وقد سر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإسلام هوازن وسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف النصري، فأخبروه أنه في الطائف مع ثقيف, فوعدهم برد أهله وأمواله عليه، وإكرامه بمائة من الإبل إن قدم عليه مسلمًا، فجاء مالك مسلمًا فأكرمه وأمّره على قومه وبعض القبائل المجاورة.
لقد تأثر مالك بن عوف وجادت قريحته لمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: في الناس كلهم بمثل محمد ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ومتى تشاء يخبر عما في غد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى بالسمهري وضرب كل مهند وإذا الكتيبة عردت أنيابها وسط الهباءة خادر في مرصد فكأنه ليث على أشباله
لقد كانت سياسته -صلى الله عليه وسلم- مع خصومه مرنة إلى أبعد الحدود؛ وبهذه السياسة الحكيمة استطاع -صلى الله عليه وسلم- أن يكسب هوازن وحلفاءها إلى صف الإسلام، واتخذ من هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب بها قوى الوثنية في المنطقة ويقودها زعيمهم مالك بن عوف الذي قاتل ثقيفًا في الطائف حتى ضيق عليهم، وقد فكر زعماء ثقيف في الخلاص من المأزق بعد أن أحاط الإسلام بالطائف من كل مكان فلا تستطيع تحركًا ولا تجارة، فمال بعض زعماء ثقيف إلى الإسلام مثل عروة بن مسعود الثقفي الذي سارع إلى اللحاق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في طريقه إلى المدينة بعد أن قسم غنائم حُنين واعتمر من الجعرانة، فالتقى به قبل أن يصل إلى المدينة، وأعلن إسلامه وعاد إلى الطائف، وكان من زعماء ثقيف محبوبًا عندهم، فدعاهم إلى الإسلام وأذن في أعلى منزله فرماه بعضهم بسهام فأصابوه, فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين في حصار الطائف.
إن الإنسان ليعجب من فقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في معاملة النفوس, ومن سعيه الحثيث لتمكين دين الله تعالى، لقد استطاع -صلى الله عليه وسلم- أن يزيل معالم الوثنية، وبيوتات العبادة الكفرية من مكة وما حولها، ورتب -صلى الله عليه وسلم- الأمور التنظيمية للأراضي التي أضيفت للدولة الإسلامية، فعين عتاب بن أسيد أميرا على مكة، وجعل معاذ بن جبل مرشدًا وموجهًا ومعلمًا ومربيًا, وعين على هوازن مالك بن عوف قائدًا ومجاهدًا, ثم اعتمر ورجع إلى المدينة -صلى الله عليه وسلم-. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة حُنين دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 12:20 am | |
| 14- تفسير الآيات التي نزلت في غزوة حُنين: قال تعالى: "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [التوبة: 25-27].
إن غزوة حُنين سُجلت في القرآن الكريم لكي تبقى درساً للأمة في كل زمان ومكان, ولقد عرضت في القرآن الكريم على منهجية ربانية.
كان من أهم معالمها الآتي: أ- بين القرآن الكريم أن المسلمين أصابهم الإعجاب بكثرة عددهم, قال تعالى: "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ" ثم بين القرآن أن هذه الكثرة لا تفيد: "فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا". ب- بين القرآن الكريم أن المسلمين انهزموا وهربوا ما عدا النبي -صلى الله عليه وسلم- ونفر يسير من أصحابه، قال تعالى: "وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ". ج- بيّن القرآن الكريم أن الله نصر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذه المعركة وأكرمه بإنزال السكينة عليه وعلى المؤمنين فقال تعالى: "ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ". د- بين القرآن الكريم أن الله أمد نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالملائكة في حُنين قال تعالى: "وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ".
وأكد -سبحانه- على أنه يقبل التوبة من عباده ويوفق من شاء إليها, قال تعالى: "ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". 15- أسباب الهزيمة: وقعت الهزيمة في الجولة الأولى لعدة أسباب منها: 1- أن شيئًا من العجب تسرب إلى قلوب المسلمين، لما رأوا عددهم، فقد قال رجل منهم: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت الهزيمة. 2- خروج شبان ليس لديهم سلاح أو سلاح كافٍ, وإنما عندهم حماس وتسرع. 3- أن عدد المشركين كان كثيرًا بلغ أكثر من ضعفي عدد المسلمين. 4- أن مالك بن عوف سبق بجيشه إلى حُنين فتهيأ هنالك ووضع الكمائن والرماة في مضايق الوادي وعلى جوانبه، وفاجأوا المسلمين، برميهم بالنبال وبالهجوم المباغت. 5- كان العدو مهيأ ومنظما ومستعدا للقتال حال مواجهته لجيش المسلمين، فقد جاء المشركون بأحسن صفوف رُئيت: صف الخيل ثم المقاتلة ثم النساء من وراء ذلك ثم الغنم ثم النعم. 6- وجود ضعاف الإيمان الذين أسلموا حديثًا في مكة، ففروا فانقلبت أولاهم على أخراهم، فكان ذلك سببا لوقوع الخلل وهزيمة غيرهم. 16- عوامل النصر: كانت عوامل النصر في حُنين عدة أسباب منها: 1- ثبات الرسول في القتال وعدم تراجعه، مما جعل الجنود يثبتون ويستجيبون لنداء القائد الثابت. 2- شجاعة القائد، فالرسول القائد لم يثبت في مكانه فحسب, بل تقدم نحو عدوه راكبًا بغلته، فطفق يركض ببغلته قِبَل الكفار والعباس آخذ بلجام البغلة يكفها ألا تسرع. 3- ثبات قلة من المسلمين معه وحوله حتى جاء الذين تولوا وأكملوا المسيرة؛ مسيرة الثبات والبر والقتال حتى النصر. 4- سرعة استجابة الفارِّين والتحاقهم بالقتال. 5- وقوع الجيش المعادي في خطأ عسكري قاتل, وهو عدم الاستمرار في مطاردة الجيش الإسلامي بعد فراره، مما أعطى فرصة ثمينة للجيش الإسلامي ليلتقط أنفاسه ويعود إلى ساحة القتال ويستأنف القتال من جديد بقيادة القائد الثابت الشجاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 6- رمية الحصى، فقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: «انهزموا ورب محمد». 7- الاستعانة والاستغاثة بالله عز وجل، فقد كان الرسول يلح على الله في الدعاء بالنصر على الأعداء. 8- إنزال الملائكة في الغزوة ومشاركتهم فيها، وقد سجل الله هذه المشاركة في كتابه الكريم في سورة التوبة: "وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ".
17- نزول الآية الكريمة: "وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ" [النساء: 24]: وقد نزلت في يوم أوطاس لبيان حكم المسبيات المتزوجات، وقد فرق السبي بينهن وبين أزواجهن، فأوضحت الآية جواز وطئهن إذا انقضت عدتهن، لأن الفرقة تقع بينهن وبين أزواجهن الكفار بالسبي وتنقضي العدة بالوضع للحامل وبالحيض لغير الحامل.
18- منع المخنثين خلقة من الدخول على النساء الأجنبيات: كان ذلك مباحًا إذ لا حاجة للمخنث بالنساء, وكان سبب المنع ما رواه البخاري عن زينب بنت أبي سلمة عن أمها أم سلمة، دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وعندي مخنث فسمعته يقول لعبد الله بن أمية: يا عبد الله, أرأيت إن فتح الله عليك الطائف غدًا، فعليك بابنة غيلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخلن هؤلاء عليكم»، وفي هذا المنع حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على سلامة أخلاق المجتمع الإسلامي.
19- النهي عن قصد قتل النساء والأطفال والشيوخ والأجراء ممن لا يشتركون في القتال ضد المسلمين: وقد ذكر ابن كثير أن رسول الله مر يوم حُنين بامرأة قتلها خالد بن الوليد والناس متقصفون عليها, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما كانت هذه لتقاتل» وقال لأحدهم: «الحق خالدًا فقل له لا يقتلن ذرية ولا عسيفًا», وفي رواية: «فقل له إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدًا أو امرأة أو عسيفًا».
20- تشريع العمرة من الجعرانة: أحرم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعمرة من الجعرانة، وكان داخلا إلى مكة وهذه هي السنَّة لمن دخلها من طريق الطائف وما يليه، وأما ما يفعله كثير مما لا علم عندهم من الخروج من مكة إلى الجعرانة ليحرم منها بعمرة ثم يرجع إليها فهذا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ولا استحبه أحد من أهل العلم، وإنما يفعله عوام الناس زعموا أنه اقتداء بالنبي وغلطوا، فإنه إنما أحرم منها داخلا إلى مكة ولم يخرج منها إلى الجعرانة ليحرم منها.
21- إرشاده -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي بأن يصنع في العمرة ما يصنع في الحج: قال يعلى بن منبه: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بالجعرانة وعليه جبة، وعليها خلوق -أو قال: أثر صفرة- فقال: كيف تأمرني أصنع في عمرتي؟ قال: وأُنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- الوحي، فستر بثوب, وكان يعلى يقول: وددت أني أرى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أُنزل الوحي عليه, قال: فرفع عمر طرف الثوب عنه فنظرت إليه، فإذا له غطيط (قال) فلما سري عنه قال: «أين السائل عن العمرة؟ اغسل عنك الصفرة -أو قال: أثر الخلوق- واخلع عنك جبتك، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجتك».
22- من قتل قتيلاً فله سلبه: قال أبو قتادة: لما كان يوم حُنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله, فأسرعت إلى الذي يختله فرفع ليضربني وأضرب يده فقطعتها, ثم أخذني فضمني ضمًّا شديدًا حتى تخوفت, ثم ترك فتحلل ودفعته ثم قتلته, وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله, ثم تراجع الناس إلى رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أقام بينة على قتيل قتله، فله سلبه»، فقمت لألتمس بينة قتيلي فلم أر أحدًا يشهد لي فجلست, ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه, فقال أبو بكر: كلا لا يعطه أصيبغ من قريش ويدع أسدًا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله، قال: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأداه إليَّ فاشتريت منه خرافًا, فكان أول مال تأثلته في الإسلام.
ونلحظ في هذا الخبر أن أبا قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- حرص على سلامة أخيه المسلم، وقتل ذلك الكافر بعد جهد عظيم، كما أن موقف الصديق -رضي الله عنه- فيه دلالة على حرصه على إحقاق الحق، والدفاع عنه, ودليل على رسوخ إيمانه وعمق يقينه وتقديره لرابطة الأخوة الإسلامية وأنها بمنزلة رفيعة بالنسبة له.
23- النهي عن الغلول: أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حُنين وبرة من سنام بعير من الغنائم، فجعلها بين إصبعيه ثم قال: «أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه، إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط, وإياكم والغلول، فإن الغلول عار، ونار، وشنار على أهله في الدنيا والآخرة».
ولما سمع الناس هذا الزجر بما فيه من وعيد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشفقوا على أنفسهم وخافوا خوفا شديدًا فجاء أنصاري بكبة خيط من خيوط شعر، فقال: يا رسول الله, أخذت هذه الوبرة لأخيط بها برذعة بعير لي دبر، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: «أما حقي منها، وما كان لبني عبد المطلب فهو لك», فقال الأنصاري: أما إذا بلغ الأمر فيها ذلك فلا حاجة لي بها, فرمى بها من يده.
وأما عقيل بن أبي طالب فقد دخل على امرأته فاطمة بنت شيبة يوم حُنين، وسيفه ملطخ دمًا، فقال لها: دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك، فدفعها إليها, فسمع المنادي يقول: من أخذ شيئًا فليرده، حتى الخياط والمخيط, فرجع عقيل فأخذ الإبرة من امرأته، فألقاها في الغنائم.
وهذا التشديد في النهي عن الغلول، وتبشيعه بهذه الصورة الشائهة المرعبة، ولو كان في شيء تافه لا يلتفت إليه، يمثل معلما من أهم معالم المنهج النبوي في تربية الأفراد على ما ينبغي أن يكون عليه الفرد المسلم في حياته العملية, إيمانًا وأمانة, وفي التزام الأفراد بهذا التوجيه يتطهر المجتمع المسلم من رذيلة الخيانة، لأن التساهل في صغيرها يقود إلى كبيرها، والخيانة من أرذل الأخلاق الإنسانية التي لا تليق بالمجتمع المسلم. 24- وفاء نذر كان في الجاهلية: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لما قفلنا من حُنين سأل عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكافًا فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بوفائه.
25- أنس بن أبي مرثد الغنوي وحراسة المسلمين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل اندلاع معركة حُنين: «من يحرسنا الليلة؟» فقال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: «فاركب» فركب ابن أبي مرثد فرسا له، وجاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له -صلى الله عليه وسلم-: «استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ونُغَرَنَّ من قبلك الليلة».
قال سهيل بن الحنظلية: فلما أصبحنا خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال: «هل أحسستم فارسكم؟» قالوا: ما أحسسناه، فثّوب بالصلاة, فجعل -صلى الله عليه وسلم- يصلي، وهو يلتفت إلى الشعِّب، حتى إذا قضى صلاته، قال: «أبشروا فقد جاءكم فارسكم», فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب, فإذا هو قد جاء حتى وقف عليه فقال: إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى الشعب حيث أمرني -صلى الله عليه وسلم-، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «هل نزلت الليلة؟» فقال: لا، إلا مصليا أو قاضي حاجة، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: «قد أوجبت، فلا عليك أن تعمل بعدها» وفي هذا الخبر يظهر لنا المنهج النبوي الكريم في الاهتمام بالأفراد، فقد ظهر اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بطليعة القوم حتى جعل يلتفت في صلاته، وما كان ذلك ليحدث إلا لأمر مهم، ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «أبشروا فقد جاء فارسكم», إنها الكلمة التي يستعملها -صلى الله عليه وسلم- في إخبارهم بما يسرهم من الأمور العظيمة، تلك هي أهمية الفرد في المجتمع الإسلامي، إنه ليس كمَّا مهملاً، ولا رقمًا في سجل ولا بزالاً في آلة، يستغنى عنه عند الضرورة ليؤتى بغيره، إنها بعض التفسير للمنهج الإلهي في قوله: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70].
كما أن في هذه القصة معلمًا من معالم المنهج النبوي الكريم في وجوب اليقظة وتعرف أحوال العدو، ومراقبة حركاته، ومعرفة ما عنده من القوة عددًا وعدة, وما رسمه من خطط حربية، وهي سياسة مهمة بالنسبة للقادة الذين يسعون لإعلاء كلمة الله في الأرض.
وأما قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «قد أوجبت فلا عليك أن تعمل بعدها» فهذا محمول على النوافل التي يكفر الله بها السيئات، ويرفع بها الدرجات، والمقصود أنه عمل عملا صالحـًا كبيرًا يكفي لتكفير ما قد يقع منه من سيئات في المستقبل، ويرفع الله به درجاته في الجنة، وليس المقصود أن هذا العمل يكفيه عن أداء الواجبات. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة حُنين دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 12:25 am | |
| 26- شجاعة أم سليم يوم حُنين: قال أنس -رضي الله عنه-: إن أم سليم اتخذت يوم حُنين خنجرا فكان معها, فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما هذا الخنجر» قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك، قالت: يا رسول الله, اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك, فقال رسول الله: «يا أم سليم, إن الله قد كفى وأحسن».
27- الشيماء بنت الحارث أخت النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة: كان المسلمون قد ساقوا فيمن ساقوه إلى رسول الله الشيماء بنت الحارث، وبنت حليمة السعدية، أخت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة، وعنفوا عليها في السوق، وهم لا يدرون, فقالت للمسلمين: تعلمون والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله، ولما انتهت الشيماء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: يا رسول الله إني أختك من الرضاعة، قال: «ما علامة ذلك؟» قالت: عضة عضضتها في ظهري، وأنا متوركتك, وعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلامة، وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، وخيَّرها، وقال: «إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت» فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي.
ومتعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت، وأعطاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أعبد وجارية ونعماء وشاء. 28- إسلام كعب بن زهير –الشاعر– والهيمنة الإعلامية على الجزيرة: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الطائف، جاءه كعب بن زهير -الشاعر ابن الشاعر- وكان قد هجا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ضاقت به الأرض، وضاقت عليه نفسه, وحثه أخوه (بجير) على أن يأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تائباً مسلما، وحذره من سوء العاقبة إن لم يفعل ذلك، فقال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتي اشتهرت بـ (قصيدة بانت سعاد), فقدم المدينة، وغدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين صلى الصبح، ثم جلس إليه، ووضع يده في يده، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعرفه، فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن كعب بن زهير جاء يستأمنك تائبًا مسلمًا، فهل أنت قابل منه؟ فوثب عليه رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله, دعني وعدو الله، أضرب عنقه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «دعه عنك فقد جاء تائبًا نازعًا».
وأنشد كعب قصيدته اللامية التي قال فيها: متيم إثرها لم يفد مكبول بانت سعاد فقلبي اليوم متبول إلا أغنُّ قرير العين مكحول وما سعاد غداة الطرف إذ رحلوا
ومنها: مهند من سيوف الله مسلول إن الرسول لنور يستضاء به ببطن مكة لما أسلموا: زولوا في عصبة من قريش قال قائلهم من نسج داود في الهيجا سرابيل شُمُّ العرانين أبطال لبوسُهم
ويقال: إنه لما أنشد رسول الله قصيدته أعطاه بردته، وهي التي صارت إلى الخلفاء.
قال ابن كثير: هذا من الأمور المشهورة جدًّا، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه، فالله أعلم. ويقال: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال له بعد ذلك: «لولا ذكرت الأنصار بخير فإن الأنصار لذلك أهل!».
فقال: في مقنب من صالحي الأنصار من سره كرم الحياة فلا يزل إن الخيار هم بنو الأخيار ورثوا المكارم كابرًا عن كابر كسوالف الهندي غير قصار المكرهين السمهريَّ بأذرع كالجمر غير كليلة الأبصار والناظرين بأعين محمرَّة للموت يوم تعانق وكرار والبائعين نفوسَهم لنبيهم بالمشرفي وبالقنا الخطار والقائدين الناس عن أديانهم بدماء من علقوا من الكفار يتطهرون يرونه نسكًا لهم
إلى أن قال: فيهم لصدقني الذين أماري لو يعلم الأقوام علمي كله للطارقين النازلين مقاري قوم إذا خوت النجوم فإنهم
وبإسلام كعب بن زهير نستطيع القول إن الشعراء المعارضين للدعوة الإسلامية قد انتهى دورهم، فقد أسلم ضرار بن الخطاب وعبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن هشام، والعباس بن مرداس، وتحولوا إلى الصف الإسلامي, واستظلوا بلوائه عن قناعة وإيمان، ولم يكتف بعضهم بأن تكون كلمته في الدفاع عن الإسلام, بل كان سيفه إلى جانب كلمته، وهذا من بركات فتح مكة.
29- رفع الصوت للحاجة: الرسول عليه الصلاة والسلام ذم رفع الصوت لغير الحاجة؛ لأن الله عز وجل يقول: "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" [لقمان: 19] فأما رفع الصوت للحاجة فلا بأس به. قال البخاري في كتاب العلم: باب من رفع صوته بالعلم، ثم أتى بحديث ابن عمرو: “أن الرسول عليه الصلاة والسلام رفع صوته وقال: ويل للأعقاب من النار” فهنا رفع -صلى الله عليه وسلم- صوته ينادي في الناس، وقال للعباس: ارفع صوتك وناد في الناس، فأخذ يقول: «يا أهل سورة البقرة, يا من بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- تحت الشجرة» حتى يأتون. 30- تأثير قبضتي الحصى والتراب في أعين الأعداء: من الأسلحة المادية التي أيد الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- يوم حُنين تأثير قبضتي الحصى والتراب اللتين رمى بهما وجوه المشركين، حيث دخل في أعينهم كلهم من ذلك الحصى والتراب فصار كل واحد يجد لها في عينيه أثرًا، فكان من أسباب هزيمتهم, قال العباس -رضي الله عنه-: ثم أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: «انهزموا وربِّ محمد» قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبرا.
31- فضل أبي سفيان بن الحارث -رضي الله عنه-: وهو أبو سفيان بن الحارث ليس أبا سفيان بن حرب, فـ أبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والرسول عليه الصلاة والسلام كان له أعمام عشرة منهم الحارث ابنه أبو سفيان هذا، وما أسلم إلا قبل الفتح بأيام, سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يقدم فاتحاً لـ مكة, وعلم أنه أساء مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المقاتلة وأساء في المهاجاة؛ لأن أبا سفيان كان شاعرا يرسل القصائد يهجو بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، فلما علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يقدم مكة فاتحا أخذ أطفاله، وكانوا صغارا كأنهم فراخ الطير من البنات ومن الأبناء, وخرج بهم من مكة ولقيهم علي بن أبي طالب دون مكة بين عسفان و مكة في طريق رحب في شعب من الشعاب.
فقال علي ابن عمه: إلى أين يا أبا سفيان؟ قال: يا علي قاتلنا محمدا وآذيناه وشتمناه وطردناه وأخرجناه؛ سوف أخرج بأطفالي هؤلاء وأموت جوعاً وعرياً وعطشاً في الصحراء, والله لئن قدر علي ليقطعني بالسيف إرباً إرباً.
فقال علي بن أبي طالب: أخطأت يا أبا سفيان ! إنك لا تعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو أحلم الناس وأكرمهم وأرحمهم، فعد إليه وسلم عليه بالنبوة، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: "قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ" [يوسف: 91] لأنهم إخوان وأبناء عم، فأتى أبو سفيان بأطفاله يقودهم بأيديهم, فلما وقف عند خيمة أم سلمة وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- داخل الخيمة، قال: ائذنوا لي أدخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: من في الباب؟ قالوا: يا رسول الله أبو سفيان بن الحارث، قال: لا يدخل علي، لأنه أساء كل الإساءة ما ترك أمرا إلا وكاد به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذت أم سلمة تبكي وتقول: يا رسول الله! لا يكون ابن عمك وقريبك أشقى الناس بك، وأخذت تناشده الله عز وجل، قال: أدخلوه علي، فدخل.
فقال: السلام عليك يا رسول الله، أما بعد: "لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ" [يوسف: 91] قاتلناك يا رسول الله وآذيناك وأخرجناك والله لا أدع موقفا قاتلتك فيه إلا قاتلت فيه معك، ولا نفقة أنفقتها في حربك إلا أنفقتها معك، ثم أخذ يعدد، فرفع -صلى الله عليه وسلم- طرفه وعيناه تنزل الدموع، قال: "قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" [يوسف: 92].
فقال: يا رسول الله! اسمع مني. قال: قل.
قال: لعمرك إني يوم أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد لك المدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني يوم أهدى وأهتدي هداني إلى الرحمن ربي وقادني إلى الله من طردت كل مطرد
فقام عليه الصلاة والسلام فعانقه وضرب على صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد، فأخذ يخدم محمداً -صلى الله عليه وسلم-، لا يرتحل مرتحلاً إلا قام وحزم له متاعه وشد له رحله، وأخذ ببغلته يقودها, فهو قائد البغلة يوم حُنين اليوم الأكبر من أيام الله, يوم ثبت رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- ونزل يقارع الأبطال وهو يقول: “أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب”.
32- بيان خطورة الشرك بالله: وفي قصة ذات أنواط بيان خطورة أمر الشرك، ووجوب سد ذرائعه؛ فقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن طلبهم العكوف عند الشجرة للتبرك بـها هو كطلب بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلهاً، قال الشيخ سليمان آل الشيخ تعليقاً على هذا الحديث: "وفي هذه الجملة من الفوائد أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار، من التبرك بـها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك، ولا يغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون هذا شركاً ويقع في هذه الأمة، فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسناً، وطلبوه من النبي -صلى الله عليه وسلم- فكيف بغيرهم مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة؟.
وقال أحد الصالحين: "فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونـها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بـها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها".
وفيها أيضاً إثبات العذر بالجهل في مسائل التوحيد وغيرها؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- مع إنكاره عليهم، وبيانه أن ما طلبوه هو نوع من الشرك، إلا أنه لم يكفرهم، لكونـهم لا يعلمون ذلك.
وذلك أن الله -تعالى- من رحمته بعباده لا يؤاخذهم إلا بما بلغهم من العلم، فإن الفعل أو القول قد يكون كفراً كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فيطلق القول بتكفير صاحبه، فيقال من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا نحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها".
وقال أيضاً: "فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين، ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نـهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله -تعالى- ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما يخالفه". |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة حُنين دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 12:29 am | |
| 33- ثباته -صلى الله عليه وسلم- وأثره في كسب المعركة: سبقت هوازن المسلمين إلى وادي حُنين، واختاروا مواقعهم, وبثوا كتائبهم في شعابه ومنعطفاته وأشجاره، وكانت خطتهم تتمثل في مباغتة المسلمين بالسهام أثناء تقدمهم في وادي حُنين المنحدر.
لقد باغت المشركون المسلمين وأمطرهم الأعداء من جميع الجهات، فاضطربت صفوفهم, وماج بعضهم في بعض، ونتيجة لهول هذا الموقف انهزم معظم الجيش ولاذوا بالفرار، كل يطلب النجاة لنفسه، وبقي الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونفر قليل في الميدان يتصدون لهجمات المشركين, ونترك العباس عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- يصف لنا ذلك المشهد المهيب حيث يقول: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حُنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم نفارقه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بغلة له بيضاء، فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين, فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يركض بغلته قِبَل الكفار، قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكفها إرادة ألا تسرع, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أي عباس، نادِ أصحاب السمرة» فقال العباس -وكان رجلا صيتًا-: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك! قال: فاقتلوا الكفار، والدعوة في الأنصار، يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث من الخزرج, فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على بغلته، كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «هذا حين حمي الوطيس».
وفي ثباته -صلى الله عليه وسلم- عند انـهزام القوم عنه بيان ما كان يتحلى به -صلى الله عليه وسلم- من الشجاعة، وقوة البأس في القتال، قال ابن كثير بعد أن ذكر ثبات النبي يوم حُنين: "وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة، أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى، وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة، وليست سريعة الجري ولا تصلح لفر، ولا لكر، ولا لهرب، وهو مع هذا أيضا يركضها إلى وجوههم، وينوه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين، وما هذا كله إلا ثقةً بالله وتوكلاً عليه، وعلماً منه بأنه سينصره، ويتم ما أرسله به، ويظهر دينه على سائر الأديان".
34- جواز مقاتلة النساء عند أمر الفتنة: وفي هذه الغزوة جواز مقاتلة النساء عند أمر الفتنة مع الرجال في صف المسلمين, وقد أورد ابن كثير بأسانيد صحيحة: أن أم سليم قاتلت مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم حُنين.
وأم سليم هي أم أنس بن مالك التي أهدت ابنها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقالت: أنس يخدمك يا رسول الله فادع الله له، فدعا له، وأم سليم هي التي يقول عنها -صلى الله عليه وسلم-: “دخلت الجنة البارحة فرأيت الرميصاء في الجنة”.
حضرت المعركة وكانت عندها خنجر في وسطها, فأخذ زوجها أبو طلحة يداعبها ويمازحها ويقول: ماذا تفعلين بهذا الخنجر؟ قالت: إذا تقدم مني كافر بعجت بطنه بهذا الخنجر، فسمع -صلى الله عليه وسلم- مقالتها فتبسم ثم دعا لها.
فأقر -صلى الله عليه وسلم- المرأة على أن تشارك في الحرب عند الحاجة, أما إذا كان هناك فتنة أو مغبة اختلاط، فلا ينبغي أن تشارك المرأة إلا إذا احتيج إليها، وشأن المرأة في القتال مداواة الجرحى والقيام على الأسرى وتقريب الماء والخدمات للمقاتلين.
35- ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين: يقول أحد المسلمين: لما التقينا يوم حُنين رأيت كافراً من هوازن يفتك بالمسلمين فتكاً ويقتل فيهم قتلاً، قلت: لله علي نذر إن أمكنني الله منه أن أقتله، قال: فلما انهزموا وأصبحوا في ذمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقدموا يبايعونه على الإسلام, فتقدمت لأسبق هذا الرجل قبل أن يبايع الرسول عليه الصلاة والسلام لأقتله, فسبقني حتى وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام, وعلم -صلى الله عليه وسلم- أني نذرت, فأراد أن يترك لي الفرصة حتى أقتله، قال: فانتظر فما فعلت، قال: فأسلم الرجل فولى، قلت: يا رسول الله أريد قتله فإني نذرت، قال: أما رأيتني تأخرت عن قبول إسلامه؟ فلماذا لم تومئ لي يا رسول الله بعينك، قال: “ما كان لنبي أن تكون له خائنة أعين” لأن خائنة الأعين أو الغمض من شيم أهل الخيانة والخداع والمكر والنفاق, أما الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه صادق واضح مخلص لا يريد التواء في عقيدته ولا في سيرته ولا في معاملته للناس عليه الصلاة والسلام. 36- معجزتان حسيتان للنبي -صلى الله عليه وسلم-: وفي رميه -صلى الله عليه وسلم- المشركين بالحصى، وإخباره عن هزيمتهم معجزتان حسيتان من معجزاته -صلى الله عليه وسلم-، قال الإمام النووي: "هذا فيه معجزتان ظاهرتان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إحداهما فعلية والأخرى خبرية؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر بـهزيمتهم، ورماهم بالحصيات فولوا مدبرين".
وما ذكرناه من وقوع معجزات حسية للرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أمر ثابت بالأدلة القطعية التي لا يمكن تأويلها بحال، غير أن بعض من يدعون العقلانية يحاولون نفي تلك المعجزات، زاعمين أنـهم حين يفعلون ذلك يقدمون الإسلام للغربيين على أنه دين العقل والمنطق، لا دين الجهل والخرافة، ومن أشهر من سار على هذا النهج الدكتور محمد حسين هيكل، حيث حاول في كتابه (حياة محمد) نفي كل ما ثبت له -صلى الله عليه وسلم- من معجزات حسية، زاعماً أن القرآن الكريم هو المعجزة الوحيدة له -صلى الله عليه وسلم-، حتى إنه يصور معجزة الإسراء والمعراج على أنـها نوع من الكشف الذي تجلت فيه للرسول -صلى الله عليه وسلم- تلك المشاهد التي وردت في قصة الإسراء. وهو يورد في تبرير طريقته تلك أن "حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- حياة إنسانية بلغت أسمى ما يستطيع إنسان أن يبلغ، ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على أن يقدر المسلمون أنه بشر مثلهم يوحى إليه، حتى كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة غير القرآن ويصارح أصحابه بذلك".
ولست أدري على أي شيء استند الدكتور هيكل في قوله إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة غير القرآن، وهو الذي كان يخبر أصحابه بما لم يشهدوه من دلائل نبوته؛ كما في حديث الراعي الذي عدا الذئب على شاة من غنمه، فلما استنقذها منه، قال له الذئب: ألا تتقي الله، تنـزع مني رزقاً ساقه الله إلي، فلما تعجب الرجل من أن ذئباً يكلمه كلام الإنس، قال له الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك: محمد -صلى الله عليه وسلم- بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، (فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنودي الصلاة جامعة، ثم خرج فقال للراعي: أخبرهم، فأخبرهم فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صدق...) وفي الصحيح قوله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن»، وغير ذلك كثير.
إننا نقول إنه إن كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن ذلك لا يمنع من ورود الكثير من المعجزات الحسية إقامة للحجة على المعاندين، وتثبيتاً لقلوب المؤمنين في عصره وإلى يوم الدين، وقد جاءت عشرات النصوص الدالة على وقوع تلك المعجزات فلا مجال لإنكارها أو تأويلها بأي وجه من الوجوه.
37- ذكر الرجل نفسه عند اللقاء ببعض مناقبه: عندما يذكر الرجل نفسه ببعض مناقبه عند اللقاء فإن هذا لا ينقص من أجره ولا من مثوبته شيئا, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الكتائب تتدفق عليه مثل الجبال, قال: “أنا ابن العواتك” وقال: “أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب”.
وانتسب لجده لشهرته في العرب, فهذا لا يثلم في الأجر ولا ينقص في المثوبة، ولذلك يقول أحد الصحابة: التقينا مع الكفار فخرج غلام من الأنصار فرمى كافرا وقال: خذها وأنا الغلام الأنصاري, فأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: وما عليه أن يؤجر ويحمد أي: فهو مأجور ومحمود، ولذلك كان كبار الصحابة إذا بارزوا الأبطال أنشدوا فخرا ورفعا للمعنوية وحماسا وإبداء للشجاعة.
قال أهل السير ومنهم ابن كثير وابن هشام، التقى مرحب مع علي فنزل مرحب يقول: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب
فنزل له علي وقال: أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره أكيلكم بالسيف كيل السندره
وخرج سعد بن معاذ -رضي الله عنه- وأرضاه وهو لابس سلاحه في غزوة من الغزوات وهو يقول: لبث قليلا يشهد الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
وهكذا ابن رواحة أنشد في المعركة رضوان الله عليهم جميعاً، فكان شعارهم أن يتقدموا بهذا، وهي سنة عند العرب، يقول الأحنف بن قيس وقد كان يقاتل في سجستان وهو الذي فتح الطريق إلى كابل قبل الجراح بن عبد الله الحكمي، يقول: عهد أبي حفص الذي تبقى أن يخضب الصعدة أو تندقا
وقفات تربوية مع حديث تقسيم الغنائم في حُنين. 38- الوقفة الأولى: كرم بلا حدود: إنه كرم النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوده المنقطع النظير، بل السهل الممتنع، ذلك الكرم الذي يصل إلى حد أن يعطي الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرحيم بأمته مئات من الإبل لأفراد لم يقاسوا بعدُ مشقات الطريق، ولم تُخْبَر بعدُ مواقفهم، بل إنّ منهم من سقط في أول اختبار له في حُنين، ولكنها الحكمة النبويـة الرائعـة؛ فالمال عنـد القائد الرباني لا يعني شيئاً؛ لأنه ليس من أرباب الأموال الذين تتمايل نفوسهم وراء الدينار والدرهم، وترحل معها حيث رحلت؛ فهذا القائد يعطي متى ما كان معه شيء، ولو كان ثوبه الذي يلبسه؛ فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ببردة، فقالت: يا رسول الله! أكسوك هذه؛ فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- فلبسها، فرآها عليه رجـل مــن الصحابة فقال: يا رســول الله! ما أحسن هذه! فأكسُنيها، فقال: «نعم!”.
ويَعِدُ -صلى الله عليه وسلم- ويبشر بالخير ولا يقنّط أحداً؛ فعن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: بينما أسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه الناس مقفِلة من حُنين، فعلقت الناس يسألونـه، حتى اضطروه إلى سَمُرة، فخطفت رداءه فوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أعطوني ردائي! لــو كان عـــدد هــذه العضــاة نعماً لقسمته بينكم، ثـم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً».
وكان يبشر أصحابه فيقول: «..فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم؛ فوالله لا الفقرَ أخشى عليكم! ولكن أخشى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا، كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم».
القائد أياً كان وضعه عالماً، أو موجهاً، أو معلماً، أو قائداً عسكرياً لا يحبس شيئاً عن أتباعه، أو يبخل عنهم بشيء، كما أنّه يعطي رجالاً ويترك آخرين لحِكَم يراها مثل قوة إيمانهم، وإخلاصهم، ويقينهم، واستقامتهم، وثباتهم؛ فهو حكيم بنفوس الرجال، يقدّر قدرها، ويعرف كيف يمكن قيادها، وما هي الطريقة المثلى لعلاج ما اعوجَّ من سلوكها، فالقيادة والترؤس ليس تصدُّراً وظهوراً فحسب، فهذا يسير حتى على الأغمار وصغار الشباب، ولكن الأمر شيء آخر أبعد من ذلك.
لقد كان كرم النبي -صلى الله عليه وسلم- لا لأجل استمالة قلوبهم إلى الباطل، وتزيينه في قلوبهم، وليس لأجل كسب ودّهم وتعاطفهم مع شخصه -صلى الله عليه وسلم- بعيداً عن وظيفته التي كلفه الله بها، وهي الرسالة السماوية الخالدة، وإنما كان لهدف سامٍ ومقصد غاية في النبل والنقاء؛ وهو تأليفهم على الحق وتقريبهم له حتى يثبتوا وتخالط بشاشته قلوبهم. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة حُنين دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 12:32 am | |
| 39- المصلحة الشرعية ميزان العطاء والمنع: ينبغي للقائد في مسألة العطاء والمنع أن يقوم بأمر غاية في الأهمية، حتى لا يهتز مشوار تربيته لتلاميذه وأتباعه: وهو أن يعلمهم بميزان العطاء والمنع الذي يستند إليه، بل وفي كل مسائل تأليف النفوس من تقريب فلان على غيره، والاهتمام بمجموعة على أخرى وهكذا؛ لأن ذلك مدعاة إلى ترسيخ قواعد الثقة بينه وبين الأتباع، ودحض لكل الأقاويل والترهات التي تلوكها الألسن؛ بغية التفريق، وزعزعة الصف، وتوهين لُـحمته وسَداه.
فهذه السياسة البعيدة الأفق للنبي -صلى الله عليه وسلم- لم تُفهم أول الأمر، بل أطلقت ألسنة شتى الاعتراض؛ فهناك مؤمنون ظنوا هذا الحرمان ضرباً من الإعراض عنهم، والإهمال لأسرهم.
روى البخاري عن عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوماً ومنع آخرين؛ فكأنهم عتبوا عليه، فقال: «إني أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم، وأَكِلُ قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب» قال عمرو: فما أحب أن لي بكلمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمر النعم؛ فكانت هذه التزكية تطييباً لخاطر الرجل، أرجح لديه من أثمن الأموال» -رضي الله عنه- فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يستخدم هذه السياسة، ويثبت تلك القاعدة العتيدة في ميزان العطاء والمنع؛ «أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم، وأَكِلُ قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى»، بل يبين مقاصدها وأهدافها؛ فهـا هو يقول للأنصار: «أَوَجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟»
إن الدعوة إلى تمثل هذا الميزان من قِبَل الموجهين، والمربين، والقادة في الحقل الدعوي ليس معناه أن يبقى القائد رهيناً لأهواء تلامذته، وانتقاداتهم، وأمزجتهم، بل إن المسألة لا تعدو أن تكون تربية بالمواقف؛ فهو يستغل كل موقف وحدث استغلالاً رائعاً حتى يجعله لبنة في بنيان النفوس، وحبلاً يشدّ ويمدّ إلى رب العالمين؛ فترتبط بخالقها وبارئها، فلا ترتبط بهذه الدنيا وحطامها وشهواتها؛ ولذا كان لزاماً على القائد أن يكون قريباً من رجاله وتلامذته، يتحسس أخبارهم ولا يتجسس، ويشعر بآلامهم، ويقيّم مواقفهم ببراءة نفس، وصفاء سريرة دون أي مقدمات مسبقة، أو تراكمات سابقة، بل المعيار عنده كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الخبرة الكبيرة التي اكتسبها من مشواره الطويل في خدمة هذا الدين وما أصابه وتعرض له من ابتلاءات ومشكلات.
40- المبادرة إلى حل الإشكالات: عدم تأخر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حل الإشكال الحادث؛ فما أن سمع بالخبر حتى ذهب مسرعاً إلى القوم، بعد أن استدعاهم، وأنهى بحكمته وحنكته هذا الأمر الطارئ؛ فلو أنه تأخر أو استهان به وتركه، مع أنه سيكون حينئذ معذوراً؛ فهو النبي، وهو القائد الأعلى الذي على عاتقه من المهمات والأعمال الشيء الكثير -فلو أنه تأخر- لكان هذا الموقف من الأنصار -رضي الله عنهم- قنبلة موقوتة، ربما ستنفجر يوماً من الأيام، وتعلق في أفئدة الرجال استفهامات وتقديرات خاطئة، تساعدها مواقف أخرى، والشيطان لا يترك مثل هذه الفرص، بل يؤججها ويجعلها فتيلاً قابلاً للاشتعال فهو قد: «أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»، «وتلك سنة حميدة يجب أن يتبعها القادة والزعماء مع أنصارهم ومحبيهم؛ فإن الأعداء متربصون لاستغلال كل حادثة أو قول يضعف تعلق المحبين بقادتهم، والشيطان خبيث الدسّ، سريع المكر؛ فلا يهملِ القادةُ استرضاءَ أنصارهم مهما وثقوا بهم».
تحدث المشاكل بين العاملين في الحقل الدعوي، وتصل قضاياهم إلى قيادة العمل، ولكن للأســف تجــد خمولاً إزاءها ولا مبالاة، وكأن هذه القيادة ليس لها إلا التصدر والترؤس، واستصدار الأحكام والفتاوى، أما حل تلك المشكلات وتقريب النفوس وتهذيبها فهذا ليس من اهتماماتها؛ لأن بعضهم يزعم أنهـا ستشغلهم عن مهمات كبيرة جداً، ولا أدري: هل هذه المهمـات أعظـم من التفكك والانشقاقات والتصدعات، وهشاشة العمل وتأخر ثمرته؟ فهل هؤلاء القادة يحملون أثقالاً أكثر وأعظم مما حمله -صلى الله عليه وسلم- ؟ ولكن المشكلة الحقيقية عند بعض قيادات العمل الدعوي: هي عدم تقدير المواقف بشكل صحيح، وعدم القدرة على استيعاب مواطن الخلاف بين العاملين أو التلامذة، ومن ثم عدم قدرة القائد تحمل أن يرى عماله أو تلامذته يختلفون أمامه، بل بعض القادة يتمنى أن لو كانت الأمور تسير دائماً على ما يرام لا يشوبها كدر ولا خلاف أو شقاق وهيهات.
لقد نسي هؤلاء -وفقهم الله- أن الله تعالى قال: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ" [آل عمران: 179]. إن هذه الخلافات التي تبدو لأول وهلة صغيرة فإن فيها من مغذيات النمو ما هو كفيل بأن يجعلها مفاصَلات مع المربي نفسه، ودماراً وخراباً لكل ما بناه في سنيه التي خلت؛ فليس معه إلا أن يوجه أصابع الاتهام ليس إلى ذاته، وتفكيره، وعدم حنكته، وضعف بديهته، وإنما بالدرجة الأولى يوجهها إلى هذا الجيل المتأخر غير المتربي، والذي لا يحترم الكبير فضلاً عن القائد والمربي، ولعمري! إنها لمصيبة عظيمة أن نلقي التبعة على غيرنا، ونخرج نحن خارج الدائرة.
41- الحلم مع القدرة: سعة صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحمّله للنقد الموجّه له؛ «يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يعطي قريشاً ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟”.. فلم يرتفع صوته أو يحمرَّ وجهه ويَسوَدَّ، ولم يرتب أحكاماً ومواقف على هؤلاء المتكلمين؛ فيتعامل معهم معاملة جديدة وفق هذه المعطيات، فيهجرهم ويقاطع العمل معهــم؛ بحجــة أنهـم لا يحترمون القيادة، ولا يوقرون الكبار، ولا يقدرون فضائل من ضَحّى من أجلهم. كلا، لم يفعل -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من ذلك؛ بل ذهب إليهم، وطرح عليهم أسئلة حكيمة، ثم مدحهم، وأثنى عليهم ثناءً ومدحاً فوق مستوى الحدث، لم يكن أحد منهم يتوقع هذا المدح والثناء؛ فلم يستطيعوا أن يوقفوا تدفق الدموع على خدودهم.
إن بعض القادة والمربين يستطيع أن يستميل قلوب تلامذته ورجاله لو رآهم أخطأوا بموعظة بليغة تَوْجَل منها القلوب، وتذرف منها الدموع، إلا أنه تغلبه الطبيعة التي تربى عليها منذ صغره؛ فيرى أن كبرياءه قد جرحت وخدشت، ولا يعيدها إلا اعتذار على مستوى رفيع، كأن يعتذر هؤلاء الذين تكلموا ليس في اجتماع مغلق: كالحظيرة أو القبة التي اجتمع فيها الأنصار بل اعتذار على الملأ، حتى يجرح كبرياءهم ويخدشه مثلما فعلوا.
إن الرفق بالمتلقي إذا أخطأ أمر مهم جداً؛ إذ إن القسوة عليه في غير محلها، وهو يحب مربيه ومعلمه يوغر في صدره أموراً، ويطرح أمام ناظريه عدة تساؤلات، لا يجيب عليها إلا واقع سيئ يعيشه هذا المتربي في تعامل قادته مع أتباعهم.
كما أن على القائد أن يضع في عين الاعتبار والاهتمام أن أتباعه ذوو عقول تزداد خبرةً وعلماً ومعرفةً يوماً بعد يوم، وفكراً ينضج ساعةً بعد ساعةٍ، فلو أُهملت هذه العقول وتلك الأفكار المتراكمة لكانت العاقبة وخيمة، ويسقط البنيان من القواعد. يجب ألاّ نتعامل مع المنتقد على أنه ذلك الشاب الصغير الذي كان يوماً من الأيام لا يستطيع أن يثبّت النظر في عيني شيخه ومعلمه، أو ذلك الطالب الذي كان يتلعثم في كلامه.
فعجلة الزمن لا تتوقف؛ فهي تدور ويتطور معها الكائن البشري، ويرتقي في سلم الكمال؛ فيصبح المتربي أو الجندي قائداً بين لحظة وأخرى، وربما نِدّاً لقائده ومعلمه ومربيه.
42- الصراحة، والوضوح: لقد كان سعد بن عبادة -رضي الله عنه-: صريحاً وواضحاً في خطابه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قائده ومعلمه؛ فها هو يقول له: «يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسمت في قومك وأعطيت عطايا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
إن هذه الصفات والخصال الحميدة لا يجيدها إلا النادر من التلاميذ والأتباع، ولا يتقبلها إلا القليل من القادة أو الموجهين الذين لا يضعون على أنفسهم هالة من التبجيل، ولا تصيبهم غضاضة لو لم ينادَ بلقبه أو مركزه العلمي.
الصراحة، والوضوح أسماء ومعانٍ قلّما تجد من يتمثلها فتصبح واقعاً وسلوكاً ومنهجاً في تعامله مع الآخرين صغاراً أم كباراً، ولذا فإنك ترى من يفعل ذلك قد أصبح لكلامه وقعٌ في النفوس، ولوعظه تأثيرٌ في القلوب، وأعماله منهجٌ يسير عليه ويقتدي به الآخرون، وما ذلك إلا لأن هؤلاء قد عظّموا الله -جل جلاله- تعظيماً فاق كل التصورات، واقتفوا أثر نبيهم، فكان نبراساً لهم في هذه الحياة.
وما أجمل وضوح سعد بن عبادة -رضي الله عنه- وشفافية رده للنبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سأله: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟” فقال -صلى الله عليه وسلم-: «يا رسول الله! إنما أنا رجل من قومي»؛ أي: أن قولهم ورأيهم هو قــولي ورأيي.
لم يكن ســعد -رضي الله عنه- متكلفاً أو مجاملاً أو متلوناً، وهذه صفات تكثر في الأتباع تجاه قادتهم؛ مما يورث الجماعة انقساماً، وتحزباً، ونجوى مفسدة وموهنة لحبل الاجتماع.
وقد يقول قائل: إن سعداً كان إمَّعة في قوله ذاك، أو أنه خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمنطق الجاهلي: وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
كلاَّ! إنها مسألة بدهية أن يجد الإنسان في نفسه عندما يرى العطايا تقسم ولا يصل له منها شيء، مع أنه جزء من الجماعة؛ فما بالك إذا كان هو مرتكز التغيير والتحول، وصاحب السابقة، والتأييد، والإعزاز، والنصرة؛ فكيف سيكون الحال؟
إن المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفطرة الإنسان في محبته للمال والعطاء؛ فلا أحد يرضى أن يكون فقيراً أو معدوماً، والله قد أحل الغنائم لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فأي غضاضة أن يطلب الإنسان حظه منها؟!
وهنا يأتي دور الإيمان واليقين والتسليم والاحتساب، يأتي دور المربي كي يبني بنيان الإسلام في قلب المتربي بكل ما يحمله من قِيَم ومبادئ ومعان سامية، حتى لا يبقي في قلبه سوى حب الله وحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما أعده الله للصابرين الذين باعوا الدنيا وما فيها، واشتروا بها جنة عرضها السموات والأرض، وهذا الذي فعله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أعلنها واضحة جلية: أن قضيتهم ليست مرتبطة بلُعاعة الدنيا وحقارتها، وإنما مرتبطة باتباع هديه، ونصرة دينه، وإعلاء كلمة الله؛ فليذهب الناس بالشاة والبعير، فليس هناك مشكلة؛ بل أعظم المصيبة والبلاء أن يذهب المرء ومعه حظوظ الدنيا، وهو خالي الوفاض من دينه، وتمسكه بما أمر ربه، والتزام ما نهى؛ فالتخليط ديدنه، والتلوُّن طريقته، والترخُّص عادته.
43- الموعظة وليس الغلظة والفظاظة: المتأمل لردة فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبما خاطب الأنصار في الحظيرة يجد أنه استخدم بذكائه العظيم، وحسن سياسته للأمور، أسلوب الموعظة.
لقد عرف -صلى الله عليه وسلم- من هم الأنصار، وما هي نفسياتهم، وفيمَ يفكرون، وكيف يتعاملون؟! عرفهم في البأساء والضراء، عرف فيهم دماثة الأخلاق، والكرم الجم، والحب الكبير له -صلى الله عليه وسلم-؛ فلماذا إذاً يعنِّفهم ويقسو عليهم؟ وهو القائل: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه»، وهو الذي قال عنه المولى -تبارك وتعالى-: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُتَوَكِّلِينَ" [آل عمران: 159].
وما أحوج قادة العمل الدعوي إلى استخدام هذا الأسلوب الدعوي العظيم إذا اعوجَّ سلوك النخبة من تلامذتهم وأتباعهم! ماذا يضيرهم لو سلكوا هذا المنحى؟ قد يظن بعضهم أنه ربما ينقص من قدره ومكانته، بل العكس إنما هو رفعة له في قلوبهم، وازدياد معدل المحبة فيها.
لقد عاتب -صلى الله عليه وسلم- أنصار دعوته ومحبيه ليدلل على محبته لهم، واهتمامه بحالهم وأوضاعهم، يعيش آلامهم، ويحس بجراحهم لتبقى المودة على الدوام.
أعاتب ذا المودة من صديق *** إذا ما رابني منه اجتنـابُ إذا ذهب العتاب فليس ود *** ويبقى الود ما بقي العتابُ
«فما ثَمَّ شيء أحسن من معاتبة الأحباب، ولا ألذ من مخاطبة ذوي الألباب».
ومن هنا كان لزاماً على من تولى قيادة النفوس أن يتقن فن الوعظ وطرقه؛ لأنه سيحتاج إليه حتماً في مسيرته التربوية والدعوية؛ فالسآمة والملل وتكرار صور الحياة أمور يجب الخوف منها، ومدافعتها عن قلوب الأتباع؛ فها هو ابن مسعود يقول: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا».
ويحتج بعضهم أن القيادة مشغولة بمهام عدة، وربما ليس عندها وقت لتجلس مع أتباعها، وتُصلح ما فسد بينهم بسبب الشحناء والاختلاف.
وهذا غير صحيح ومجانب لواقع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ألم يكن بمقدور النبي أن يغض الطرف عـن مـا بــــدَر من الأنصار ويذهب لمهامه العظام؟ أليس شغل النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الفترة أعظم من انشغالات قيادات اليوم؟ بلى! ولكن القضية هي لا مبالاة قاتلة بواقع الأتباع، يرتكبها القادة بقصد أو بغير قصد.
والنتيجة سيئة للغاية ومعالمها بادية للعيان: وهَنٌ في واقع الأتباع، ضعف للهمم، ركون لمتع الدنيا الزائلة؛ ويأس وقنوط من تغيّر وعدم تغير الأوضاع.
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتخذ من الوعظ بشتى صوره وأساليبه سلاحاً نافعاً لتلك المعالم آنفة الذكر، حتى استطاع أن يخرج جيلاً يقوم بواجب تبليغ الرسالة للأمم حق القيام، وكذلك كان الخلفاء الراشدون والأئمة من بعده، أما اليوم فالأمر بخلاف ذلك، والله أعلم. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة حُنين دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 12:36 am | |
| 44- التذكير بالفضائل لأجل المتابعة: إن من الغُرم الكبير الذي يقع على القائد، والموجه، والمربي من تلامذته، وأتباعه نسيانهم لفضائله وأعماله ومناقبه؛ فكم بذل وضحى وقاسى! وكم سهر وتعب وآسى! وربما مرض لأجل تربيتهم والحفاظ عليهم من الأعداء والمتربصين بهم؛ فكم كان يخطط وينسق وينظم جداول الأعمال والآمال لأجل صنع مستقبل مشرق، وتاريخ مجيد لهم في خدمة أمة الإسلام، ورفع راية التوحيد!
تُنسى الفضائل والأعمال والمناقب، بمجرد أن يصبح الطويلب طالب علم، أو شيخاً، أو عَلَماً دعوياً.
وتُنسى عندما يصبح طالب حلقة التحفيظ حافظاً لكتاب الله وقارئاً للقرآن يحمل الإجازات والقراءات.
وتُنسى أيضاً عندما يخطئ القائد خطأً ما، ويفحش في خطأ ما؛ بأن يصر عليه، ويتعنت فيه لرؤية رآها، واجتهاد وصل إليه والتلامذة والأتباع يرون خلاف ذلك، وأن قائدهم قد جانب الصواب.
ولوازم هذا النسيان متنوعة؛ فإما أن يوصم القائد بالتشدد أو الحزبية أو ضعف الرؤية، ثم تأتي معاول الهدم لتضرب على جدار تاريخه: ماذا فعل؟ لقد أخر العمل، وميّع القضية، وركن إلى الدنيا وشهواتها الدنية، ثم ينقَّب في أخطائه وزلاته حتى تصبح في نظرهم كالجبال، والنتيجة على أحسن الأحوال مقاطعة لمحاضراته ودروسه، ويبقى السلام والزيارة في الأعياد والمناسبات.
أما على أسوئها فهو مبتدع، ضال، منحرف، أشد على الإسلام من اليهود والنصارى، لو استطاعوا أن يقتلوه لقتلوه ورموه في عرض الطريق. لقد كبرت عقول الصغار حتى نسوا الماضي التليد، وانشغل الكبار حتى نسوا أنهم في عجلة الزمن التي لا تتوقف لمتباطئٍ، أو غافلٍ، أو بليد. فمن حق القائد أن يوضح أعماله وفضائله ومناقبه، حتى يكون له الغُنْم وليس عليه الغرم، أو تعتدل كفة الميزان على الأقل.
ولعلنا نتذكر يوم دخلت الأحزاب على عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وأرادوا قتل أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين المهديين. قال لزعمائهم: «أنشدكم الله! أتعلمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قَدِم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: «من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خيرٌ منها في الجنة؟” فاشتريتها من مالي، فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين، ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خيرٌ منها في الجنة؟” فاشتريتها من خالص مالي وأنتم تمنعوني أن أشرب منها.
ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة؟ قالوا: اللهم نعم!.
لم يكن تصرف عثمان -رضي الله عنه- يخدش مقام الإخلاص في قلبه، وإنما كان مجرد وسيلة لاستمالة قلوب أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس، لكنها لم تنفع؛ ولذا فإن استمالة القلوب تكون أحياناً لا فائدة فيها عندما تقابل قلوباً أقسى من الحجارة، ناكرة للجميل، ومتناسية للأيام الخوالي، والزمن الطويل، فلم تترب التربية الإيمانية، ولم تصفُ سريرتها وأعمالها فتصبح نقية روحانية؛ ولذا فقد نفعت مع الأنصار حينما خاطبهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخطاب رائع وموجز، لكنه غني: «ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟”.
ولعلنا نتساءل: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحاجة إلى أن يوضح للأنصار ما عمل لهم؟ أو يخبرهم بحالهم، وكيف انتقلوا من حال الضعف إلى حال القوة بمجيئه -صلى الله عليه وسلم- إليهم؟ هل كان بحاجة إلى كل هذا؛ وقد قضى معهم ثماني سنوات، كانت كفيلة بأن ترسخ تلك الحقائق في أذهان الأنصار؟
يجاب عن هذه التساؤلات بأن الإنسان ما سُمّي إنساناً إلا لنسيه، كما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه-.
وقد قال القائل: وما سمي الإنسان إلا لنسيهِ *** وما القلبُ إلا أنه يتقلب
فالأنصار بشر يعرض لهم ما يعرض للبشر من النسيان، والسهو والغفلة، وهُمْ من المؤمنين الذين أمر الله نبيهم أن يذكرهم"وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْـمُؤْمِنِينَ" [الذاريات: 55]؛ فلما ذكَّرهم نفعتهم الذكرى، واعترفوا بصدق ما قال؛ لأنهم يحملون قلوباً أرقّ من النسيم، ما أن تسمع الحق حتى وتباشره بالخشوع والبكاء؛ فليت لنا قلوباً مثل قلوبهم أو حتى نصفها.
أما الجانب الآخر من الاعتراف بالفضل: فهو اعتراف القائد بفضل أهل السبق ومكانتهم، وهذه قضية غفل عنها كثيرٌ من قيادات العمل الدعوي اليوم، فترى أحدهم تمر عليه السنون ولم يظهر ثناؤه لرجاله الذين ساندوه، ووقفوا إلى جانبه في الملمات والمهمات، وفي المصائب والنكبات؛ ألم يكـن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عن أبي بكر: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر».
وعن أبي عبيدة: «أمين هذه الأمة» والزبير: «إن لكل نبي حوارياً، وحواريِّي الزبير»! وها هو يقول للأنصار: «والله! لو شئتم لقلتم -فصدقتم وصدقتم-: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمَّناك ومخذولاً فنصرناك»، وقال عنهم في آخر عمره: «أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم»؛ فهل قيادات العمل الدعوي -يا ترى- قلَّبت صفحات سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتأملت هذا الجانب؟
إن هذا التصرف من القائد له نتائج جميلة في نفوس النخبة الخُلَّص من الأتباع: فهو يبني بنيان الثقة في نفوسهم، ويكبر هو في عيونهم، ويرون أن كل ما قدموه لم يذهب هباءً منثوراً؛ فهو محفوظ في قلب قائدهم، ومرفوع ـ إن شاء الله ـ عند خالقهم وبارئهم.
فلا يضرهم إن لم يحصّلوا ذهباً ولا فضة أو ديناراً أو درهماً؛ فكلمات القائد يخطّها الأتباع بماء الذهب؛ فتصبح أوسمة ونياشين تعلق في صدورهم، يتذكرونها في ذهابهم وإيابهم، وقبل منامهم، تشحذ فيهم همة الاستمرار على العمل، وتشعل في نفوسهم حماساً بالغاً لتحقيق الأمل.
فالإنسان مجبول على حب الثناء من الآخرين؛ وذلك لضعفه الفطري، حتى إذا تدرج في سلم الكمال، وارتقى في درجات القرب من الله الكبير المتعال، استوى عنده مدح الصديق المنوال، وذم العدو الحقود الغالِّ.
45- لا لإشاعة أخبار المشاكل: جاء في رواية أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: «فخرج سعد، فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة، فجاء رجل من المهاجرين فأذن له فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، حتى لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله! قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار؛ حيث أمرتني أن أجمعهم، فخرج رسول الله فقام فيهم...
هذا المقطع من الرواية يبين لنا دلالات مهمة، ينبغي التفطن والاهتمام بها: منها: أنه إذا حدث إشكال معين في صفوف الأتباع؛ فمن الحكمة ضرورة محاصرة خبره؛ لكيلا يصل خبره بين الأتباع الآخرين الذين ليس لهم علاقة به، ولم يشاركوا فيه؛ إذ إن وصول الخبر إليهم مدعاة لتضييع الأوقات وهدر الأوقات؛ فيتفشى فيهم ما نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القيل والقال، وكثرة السؤال، وربما يعد عاملاً مساعداً في تفريق الجماعة، وبعث النعرات الخامدة في النفوس.
ولقائل أن يسأل: ألم يدخل أحد من المهاجرين حظيرة الاجتماع؟
الجواب: نعم! ولكن قد بينت الرواية الأخرى عند الإمام أحمد من حديث أنس قال: «فجمعهم في قبة له، حتى فاضت فقال: فيكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، إلا ابن أختنا، قال: «ابن أخت القوم منهم».
ومنها: على القائد أن لا يحمّل بقية الأتباع تبعة أخطاء مجموعة معينة من الأفراد؛ "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الأنعام: 164]، فما ذنب من لم يعلم، ولم يكن مشاركاً، أو مؤيداً أن يتحمل تبعات ونتائج أخطاء الآخرين؟ أليس الجهـل بالأمر عذراً كافياً لاستثنائهم؟ بلى! ولذا فقد دلت الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جمع حياً واحداً من الأنصار، ولم يجمع الأنصار كلهم.
ومنها: أن مشاركة الآخرين مدعاة أيضاً إلى أن تأخذ نفوس المخطئين العزة بالإثم والإصرار على الخطأ، ومحاولة تسويغ أخطائهم؛ بذكر مثالب القائد، سواء كان في نفسه وإدارته، أو حتى في أسرته؛ فيسمع الصغير والكبير بذلك، فتحدث له فتنة جديدة ستكون عوناً على انحرافه وخروجه من دائرة الطيبين.
ومنها: أن تصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- كان غاية في الحكمـــة، وقمــة في الذكاء والحنكة، فلم يجلس مـع أبـي بكـــر وعمـر، أو المهاجرين ليحكي لهم ما بدَر من الأنصار، حتى يؤكد صحة مذهبه وطريقته؛ فيقوى بذلك جانبه، ويحقق مآربه، كلاَّ! فهو القائد والمعلم، وأولئك تلاميذ فحسب، والتلميذ مهما بلغ فهو تلميذ يجب أن يحترم قائده وموجهه، ويصبر على تعنيفه وإساءته؛ ففي معارضته حرمان نفسـه لخـيره وفضـائله.
وصـدق القائل: اصبر على مر الجفا من معلم *** فإن رسوب العلم في نفراته
لقد انفرد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحي من الأنصار لينصحهم ويربيهم على انفراد تام؛ ليؤكد لنا على أهمية النصح للمخصوص دون استماع غيره، سواء كان هذا المخصوص فرداً أو جماعة.
وصدق الشافعي حين قال: تعهدْني بنصحك في انفرادٍ *** وجنبني النصيحة في الجماعهْ فإن النصح بين الناس نـوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعهْ فإن خالفتني وعصيت أمري *** فلا تغضب إذا لم تُعطَ طاعهْ
وقال مسعر بن كدام: «رحم الله من أهدى إليّ عيوبي في سر بيني وبينه؛ فإن النصيحة في الملأ تقريع». |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة حُنين دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 12:39 am | |
| 46- التعميم لا التعيين: لقد استخدم -صلى الله عليه وسلم- لفظاً عاماً في مخاطبة الحضور، ولم يعين شخصاً بعينه، أو اثنين أو ثلاثة بأسمائهم مع أنه -والله أعلم- كان يعلم بالذين تكلموا؛ فالوحي لم يكن ليترك النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يخبره بمثل ذلك. والمتأمل لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخطابه عند حلــول المشــكلات، أو حدوث الأخطاء من الصحابة يرى استخدامه لكلمات عامة: «ما بال أقوام، وما بال رجال».
وإليك نماذج من ذلك: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله! إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية».
«ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني».
«ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق؟ والله! ما علمت عليهم إلا خيراً.
ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، ولا يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي».
«يا معشر الأنصار!” خطاب له مدلولاته ومعانيه وقوة حضوره، وهو نداء يشعل في قلوب السامعين ذكرى اللحظات الحاسمة في بيعة العقبة الثانية، يوم بايعوه على أن يضحوا بكل شيء؛ لأجل حمايته والذود عن دعوته.
إن استخدام القائد لأسلوب التعميم عند حل المشكلات له فوائد مهمة، ونتائج طيبة: منها: أن الخطاب سيكون عاماً وليس معيناً ومحدداً، وهذا سيؤدي إلى جعل الحضور كلهم في محل المسؤولية؛ فغير المذنب سيمقت هذا التصرف، ويعتقد أنه ربما يُقصد بذلك فيربأ بنفسه عنه، وأما المذنب فسيستهجن ما قاله وفعله، فيبدأ بإصلاح نفسه دون التعرض لأمور تجرح قائده وموجهه.
ومنها: أن أسلوب التعميم وعدم ذكر أسماء الأشخاص يحفظ للمذنب كرامته، ويصون عرضه وشخصيته، فلا تجرح، وأعظم الجرح عندما يذكر شخصه، أما إخوانه فيأتي الشيطان ليهمس في أذنه أن هذه إهانة لا يمكن السكوت عليها ولا غض الطرف عنها، وقد يؤدي به آخر المطاف إلى الخروج من دائرة الطيبين ليكون مع الأعداء والمتربصين.
إن ما وقع من الأنصار بعد قسمة غنائم هوازن، وتصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاه ما قالوا يعدّ -في نظري- منهجاً ينبغي أن يتخذه القادة، والمربون، والموجهون، يسيرون وفق معطياته عندما تعترضهم المشاكل والخلافات في أوساط أتباعهم، وتلامذتهم.
وفَّق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
47- فضيلة الأنصار: وقد ظهرت في تلك الغزوة فضيلة الأنصار، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يمنعهم مما أعطاه غيرهم إلا لمزيد حبه لهم، ويكفيهم فخراً أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتبرهم منه بمثابة شعاره وجعل غيرهم دثاره، والشعار هو ما يلي الجلد من الثياب والدثار الذي فوقه، قال ابن حجر: "وهي استعارة لطيفة لفرط قربـهم منه، وأراد أيضاً أنـهم بطانته وخاصته، وأنـهم ألصق به وأقرب إليه من غيرهم".
بل جعل -صلى الله عليه وسلم- حبهم من الإيمان وبغضهم من علامات النفاق فقال: «آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله».
48- استخدامه -صلى الله عليه وسلم- أسلوبا جديدا في القتال: استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- في حصاره للطائف أسلحة جديدة لم يسبق له أن استعملها من قبل.
وهذه الأسلحة هي: * المنجنيق: فقد ثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- استعمل هذا السلاح عند حصاره لحصن ثقيف بالطائف، فعن مكحول -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصب المنجنيق على أهل الطائف.
والمنجنيق من أسلحة الحصار الثقيلة ذات التأثير الفعال على من وجهت إليه, فبحجارته تهدم الحصون والأبراج, وبقنابله تحرق الدور والمعسكرات، وهذا النوع يحتاج إلى عدد من الجنود في إدارته واستخدامه عند القتال.
* الدبابة: ومن أسلحة الحصار الثقيلة التي استعملها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأول مرة في حصار الطائف: الدبابة؛ والدبابة على شكل بيت صغير تعمل من الخشب وتتخذ للوقاية من سهام الأعداء، عندما يراد نقض جدار الحصن، بحيث إذا دخلها الجنود كان سقفها حرزًا لهم من الرمي. * الحسك الشائك: من الأسلحة الجديدة التي استعملها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حصاره لأهل الطائف: الحسك الشائك؛ وهو من وسائل الدفاع الثابتة، ويعمل من خشبتين تسمران على هيئة الصليب، حتى تتألف منهما أربع شعب مدببة، وإذا رمى في الأرض بقيت شعبة منه بارزة تتعثر بها أقدام الخيل والمشاة، فتتعطل حركة السير السريعة المطلوبة في ميدان القتال.
وقد ذكر أصحاب المغازي والسير أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- استعمل هذا السلاح في حصاره لأهل الطائف، حيث أمر جنده بنشر الحسك الشائك حول حصن ثقيف, وفي هذا إشارة إلى قادة الأمة خصوصًا، والمسلمين عموماً, ألا يعطلوا عقولهم وتفكيرهم من أجل الاستفادة من النافع والجديد الذي يحقق للأمة مصلحة الدارين، ويدفع عنها شرور أعدائها.
49- اختيار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكانًا مناسبًا عند القتال: نزل الجيش في مكان مكشوف قريب من الحصن، وما كاد الجند يضعون رحالهم حتى أمطرهم الأعداء بوابل من السهام؛ فأصيب من جراء ذلك ناس كثيرون, وحينئذ عرض الحباب بن المنذر على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكرة التحول من هذا الموقع إلى مكان آمن من سهام أهل الطائف، فقبل -صلى الله عليه وسلم- هذه المشورة وكلف الحباب -لكونه من ذوي الخبرات الحربية الواسعة في هذا المجال- بالبحث عن موقع ملائم لنزول الجند، فذهب -رضي الله عنه- ثم حدد المكان المناسب, وعاد فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشه بالتحول إلى المكان الجديد، وهذا شاهد عيان يحدثنا عما رأى؛ قال عمرو بن أمية الضمري -رضي الله عنه-: لقد أطلع علينا من نبلهم ساعة نزلنا شيء الله به عليم كأنه رجل جراد, وترسنا لهم حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة, ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحباب فقال: «انظر مكانًا مرتفعًا مستأخرًا عن القوم» فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف خارج من القرية, فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتحولوا.
50- استخدام الحرب النفسية والدعاية: لما اشتدت مقاومة أهل الطائف وقتلوا مجموعة من المسلمين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتحريق بساتين العنب والنخل في ضواحي الطائف للضغط على ثقيف, ثم أوقف هذا العمل بعد أثره في معنوياتهم وإضعافه روح المقاومة، وبعد أن ناشدته ثقيف بالله والرحم أن يترك هذا العمل, ووجه النبي -صلى الله عليه وسلم- نداء لعبيد الطائف أن من ينزل من الحصن ويخرج إلى المسلمين فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون من العبيد منهم أبو بكرة الثقفي فأسلموا، فأعتقهم ولم يعدهم إلى ثقيف بعد إسلامهم.
51- مناداة الناس بمناقبهم شرف لهم: يقول أهل السير: إذا خطبت قوما فاذكر مناقبهم ومحامدهم، وذكرهم بأيام الله, فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: “يا بني عبد الله -قبيلة من قبائل العرب- إن الله أحسن اسم أبيكم فأحسنوا سيرتكم”.
فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر العباس أن يقول: يا معشر الأنصار، ثم قال: يا أصحاب الشجرة، يناديهم بذاك اليوم المشهود، يا من أنزلت عليهم سورة البقرة, يناديهم بهذه المنقبة, فللمسلم أن يتحف إخوانه والقوم الذين يدعوهم بمناقبهم ومآثرهم ليكون أشد إقبالا لهم, وهذا من ذكر المناقب في مجال الدعوة إلى الله عز وجل.
52- في أمور الحرب وسياسة القتال: إنَّ على القائد أن لا يألو جهداً في معرفة قدرات العدو وخططه، وإمكاناته عن طريق بعث العيون ومن يستطلع له أخبار الأعداء، كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث ابن أبي حدرد ليأتيه بخبر هوازن، قال الإمام ابن القيم عند حديث عن غزوة حُنين: "وفيها من الفقه أن الإمام ينبغي عليه أن يبعث العيون، ومن يدخل بين عدوه ليأتيه بخبرهم"..
والحق أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يسعى في كل غزواته لجمع أكبر قدر من المعلومات عن العدو قبل الاشتباك معه في القتال، كما فعل في هذه الغزوة، وكما في بعثه حذيفة بن اليمان يوم الخندق ليأتيه بخبر المشركين، وكذلك استجوب -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر غلاماً لعقبة بن أبي معيط كان المسلمون قد أمسكوا به قبل غزوة بدر، وكان مما سأله عنه عدد ما ينحرون من الجزر، فلما أخبره أنـهم يذبحون في كل يوم عشراً، قال: "القوم ألف، كل جزور لمئة وتبعها".
وفي هذه الغزوة أيضاً أن الإمام كما يقول ابن القيم: "إذا سمع بقصد عدوه له وفي جيشه قوة ومنعة، لا يقعد ينتظرهم بل يسير إليهم، كما سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى هوازن حتى لقيهم بحُنين".
وفي هذا بيان أهمية الأخذ بزمام المبادرة، وأن أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم كما يقول المعاصرون، وقد رأينا في حرب عام 1967، أن من أسباب هزيمة العرب التزام قادتـهم بأن لا يكونوا البادئين بالقتال، مع علمهم بأن اليهود سيهاجمونـهم.
53- ضرب الأمثال: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال للناس ومثاله قوله -صلى الله عليه وسلم-: “الآن حمي الوطيس” وهو أول من تمثل به كما قال أهل السير، وكان عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال للناس كما ذكر سبحانه وتعالى أمثالا في القرآن يضربها في العقيدة والعبادة والسلوك.
{جاء رجل أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فقام الصحابة عليه، فأسكتهم -صلى الله عليه وسلم- ثم أعطاه، فلما انتهى من إعطائه، قال: هل أحسنت إليك؟ قال: نعم أحسنت وأجملت جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فذهب أمام الصحابة، فقال: هل أحسنت إليك؟ قال: لا، فأرادوا أن يهمُّوا به فعاد -صلى الله عليه وسلم- فزاده فدعا له الأعرابي، فقال: أخبر أصحابي بهذا ليزول ما في نفوسهم، فقال هذا أمامهم، فقال عليه الصلاة والسلام: أتدرون ما مثلي ومثلكم ومثل هذا الإعرابي؟ قالوا: لا، قال: مثلنا كرجل كانت عنده دابة فرَّت منه فأخذ الناس يلاحقونها فما زادوها إلا فراراً، فقال: “يا أيها الناس دعوني ودابتي, فأخذ شيئاً من خشاش الأرض -أي: من خضرة الأرض- فلوح لها به فأقبلت إليه حتى قادها، فلو تركتكم وهذا الإعرابي لفر ثم ارتد ثم دخل النار”. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة حُنين دروس وعبر الجمعة 05 يوليو 2019, 12:42 am | |
| 54- لله حكم: اقتضت حكمته -سبحانه- أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة، مع كثرة عددهم وعُددهم وقوة شوكتهم، ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعاً لربه وخضوعاً لعظمته واستكانة لعزته، أن أحل له حرمه وبلده ولم يحل لأحد قبله، ولا لأحد بعده... فلما انكسرت قلوبـهم أُرسِلت إليها خِلعُ الجبر، مع بريد النصر، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وقد اقتضت حكمته أن خِلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار"ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون"...
55- عدم جواز قتل النساء والصبيان وغيرهم من الضعفاء: فقد مر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لما رأى امرأة مقتولة استنكر ذلك، وقال: ما كانت هذه لتقاتل ثم بعث من يطلب من خالد بن الوليد أن لا يقتل امرأة ولا عسيفاً، والعسيف: الأجير، وهذا مما يبين عظمة هذا الدين وسمو تشريعاته في أمور الحروب وغيرها، وأن مشروعية القتال في الإسلام، إنما جاءت لغايات سامية، غير ما تعارف عليه الناس في حروبـهم القديمة والحديثة، فلما كان الأصل في النساء الضعف، وأنـهن لسن من أهل القتال، فقد نـهى -صلى الله عليه وسلم- عن قتلهن، وفي الحديث بيان أن عدم كون المرأة من أهل القتال هو علة النهي عن قتلها؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- وصف المرأة بأنـها ليست من أهل القتال ثم رتب على ذلك النهي عن قتل النساء،"وترتيب الحكم على الوصف يدل على عِلِّيَة ذلك الوصف وعدم علية غيره".
ومعنى ذلك أنـها إذا شاركت في القتال قوتلت وقُتلت، سواء كانت مشاركتها حقيقةً بالقتال الفعلي، أو حكماً كتحريضها قومها على القتال، أو مشاركتهم الرأي، ونحو ذلك.
قال الخطابي: "فيه دليل على أن المرأة إذا قاتلت قتلت؛ ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها أنـها لا تقاتل، فإذا قاتلت دل على جواز قتلها".
وفي قتل دريد بن الصمة، وعدم إنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك دليل على جواز قتل شيوخ المشركين، إذا كان فيهم منفعة للكفار كرأي أو مشورة ونحوه، فإن دريد ابن الصمة كان حين قتل ابن عشرين ومئة سنة، وقيل ابن ستين ومئة سنة .
وقد جاء في الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا بعث جيشاً قال: «انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً...”. لكن جاء في حديث سمرة بن جندب مرفوعاً: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم".
وفي كلا الحديثين كلام، غير أنـهما إن صحا فيمكن الجمع بينهما كما قال الشوكاني: "بأن الشيخ المنهي عن قتله في الحديث الأول هو الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار، ولا مضرة على المسلمين، وقد وقع التصريح بـهذا الوصف بقوله شيخاً فانياً، والشيخ المأمور بقتله في الحديث الثاني هو ما بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي كما في دريد بن الصِّمة".
56- الإلحاح في الدعاء وقت الأزمات: يقول جل ذكره: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [الأنفال: 45]، قال ابن القيم: "سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله لماذا ذكر الله الدعاء والذكر وقت الأزمات ووقت التحام الصفوف؟
قال ابن تيمية: من عادات العرب والناس ذكر محبوبيهم وقت الأزمات؛ فأراد الله أن يخبرهم أن أحب محبوب عندهم هو الله, فليذكروه في تلك الأزمة أو الضائقة.
ثم قال ابن تيمية أما سمعت قول عنترة: ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فذكرها في تلك اللحظة، فالمؤمنون ذكرهم الله أن يذكروه وقت الأزمات, وأحسن الدعاء ما سر صاحبه إليه, وهو وقت الضائقة التي تحل به لأنه يخلص في الدعاء ويلتجئ إلى الحي القيوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الكتائب قال: “اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك الذي وعدتني”.
57- جواز العارية: وهي إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال، وقد وقع الإجماع على جوازها، بل على استحبابـها بين المسلمين، ويجب رد العارية إن كانت باقية بلا خلاف، أما إذا تلفت فهل يجب على المستعير ضمان قيمتـها وإن لم يتعد؟ وقع الخلاف في ذلك فذهب أحمد والشافعي إلى وجوب الضمان سواء تعدى المستعير أم لا، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنـها أمانة لا يجب ضمانـها إلا بالتعدي فإن ثبت إهمال من المستعير ضُمن، وإلا فلا شيء عليه.
ومأخذ المسألة أن قوله -صلى الله عليه وسلم- لصفوان: "بل عارية مضمونة"، هل قصد به أنـها مضمونة بالرد أي أنه ضامن ردها إلا إذا تلفت عن غير تقصير منه، أو قصد به أنـها مضمونة بالتلف أي أنه ضامن إياها وإن تلفت بتقصير أو بغير تقصير؟، والنص يحتمل الأمرين، وقد رجح ابن القيم أنه أظهر في ضمان الرد أي كقول أبي حنيفة ومالك.
58- مشروعية الدعاء للكافرين بالهداية: وقد استُدل لذلك بما في سيرة ابن هشام أنه قد قال رجل للرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم ظعن عن ثقيف: يا رسول الله ادع عليهم، فقال: «اللهم اهد ثقيفاً، وائت بـهم».
غير أن في ثبوت هذا الحديث نظراً، وقد حكم الشيخ الألباني بضعفه لأنه من رواية أبي الزبير عن جابر، والزبير مدلس وقد عنعنه، وقد تابعه عبد الرحمن بن سابط كما في رواية أحمد، ولكنه لم يسمع من جابر، كما قال يحيى بن معين.. لكن مشروعية الدعاء للمشركين بالهداية والصلاح ثابتة بالسنة الصحيحة؛ فقد صح أنه لما قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: يا رسول الله إن دوساً عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل هلكت دوس، فقال: «اللهم اهد دوساً وائت بـهم». والذي ينبغي التنبيه عليه أنه مع جواز الدعاء للمشركين يجوز الدعاء عليهم أيضاً، بحسب الحال وما يقتضيه المقام، وقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- قد دعا يوم الخندق على المشركين فقال: «ملأ الله بيوتـهم وقلوبـهم ناراً؛ شغلونا عن الصلاة الوسطى، حتى غابت الشمس» ، وفي الصحيح أيضاً: «اللهم اشدد وطأتك على مُضر، اللهم سنين كسني يوسف»..
59- استشهاد أبي عامر الأشعري: استشهاد أبي عامر الأشعري في أوطاس فإنه حضر المعركة -رضي الله عنه وأرضاه- وضربه مشرك في ركبته بعد أن قتل تسعة من أبطال المشركين, ووقف له العاشر فضربه في ركبته فخرج منها الماء فمات، فقال لابن أخيه أبي موسى: اذهب إلى رسول -صلى الله عليه وسلم- وبلغه مني السلام وقل له: يدعو لي، قال أبو موسى: فأتيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدته في غرفة ضيقة قد أثر الحصير في جنبه، فقلت: يا رسول الله! قتل عمي أبو عامر الأشعري وهو يُبلغك السلام ويقول: ادع له، فقام عليه الصلاة والسلام إلى ماءٍ فتوضأ ثم استقبل القبلة، فقال: «اللهم اغفر لعبدك أبي عامر ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، اللهم اجعله من ساكني الجنة, وارفعه على كثير مِمَّنْ خلقت وفضِّلهُ عليهم تفضيلاً»، قال أبو موسى: فلما سمعت هذا الدعاء وقفت بجانبه -صلى الله عليه وسلم- فقلت: وأنا يا رسول الله، لأنها فرصة لا تتعوَّض، فقال -صلى الله عليه وسلم- وهو يتبسَّم رافعاً يديه إلى القِبْلَة: “واغفر لـ أبي موسى وأكرم نُزُلَهُ ووسِّع مُدخله». فكان الرَّسُول والمُرْسِل ظافرين بدعاء الرسول عليه الصلاة والسلام. 60- جواز عقر مركوب العدو إذا كان عوناً على قتله: وفي الغزوة جواز عقر فرس العدو ومركوبه إذا كان ذلك عوناً على قتله كما عقر علي -رضي الله عنه- جمل حامل راية الكفار وليس هذا من تعذيب الحيوان المنهي عنه.
فوائد تربوية: 61- البناء العقدي والتربوي: من الفوائد التربوية التي نتعلمها من غزوة حُنين، ويحتاج العاملون لدين الله إلى تدبرها والوقوف عنده طويلاً: قضية الاهتمام بالبناء العقدي والتربوي لمن يُهيئون كي يكونوا جنداً لهذا الدين، وأنه لا يصح الاهتمام بالكم على حساب الكيف، وأن الذين تنصر بـهم الدعوات هم الصفوة العارفون بما ينبغي عليهم فعله، وأن الكثرة"تكون أحياناً سبباً في الهزيمة لأن بعض الداخلين فيها التائهين في غمارها.. تتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة فيشيعون الاضطراب والهزيمة في الصفوف، فوق ما تخدع الكثرة أصحابـها فتجعلهم يتهاونون في توثيق صلتهم بالله.. لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة لا بالزبد الذي يذهب جفاء ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح.
62- معاملة كل فرد بما يصلحه: في إجزاله -صلى الله عليه وسلم- العطاء للمؤلفة قلوبـهم من غنائم حُنين، وعدم إعطائه الأنصار، بيان ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحكمة والقدرة على معاملة كل فرد بما يصلحه، وهو ما يعرف عند التربويين المعاصرين بمراعاة الفروق الفردية، فلئن كان نصيب الأنصار أن يرجعوا إلى ديارهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن ذلك كان نعمة من نعم الله عليهم، بينما أرضى -صلى الله عليه وسلم- من لم يعرف قدر هذه النعمة بالشاة والبعير، كما يعطى الصغير ما يناسب عقله ومعرفته، ويعطي العاقل اللبيب ما يُناسبه؛ وقد كان ذلك من منهجه في تغيير النفوس واستمالتها إلى الحق، فإنه كان يعلم أن من الناس ناساً لا يحملهم على الإيمان إلا أن يشعروا بأنـهم يحققون من ورائه بعض المغانم، فكان يعطيهم تأليفاً لقلوبـهم على الإيمان، وهذا ما حدث بالفعل فلقد كان الرجل -كما قال أنس بن مالك-"ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحَبَّ إليه من الدنيا وما عليها".
وقال صفوان بن أمية: "والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني، وإنـه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ".
وإن هذه السياسة النبوية الحكيمة قد أثمرت ثمارها الطيبة؛ فإنه لم يمض إلا وقت يسير حتى"رغب غالبية هؤلاء المؤلفة قلوبـهم في الإسلام وحسن إسلامهم وانخرطوا في الجهاد إلا القليل جداً منهم".
63- المال لله يضعه حيث يشاء: ومن المعاني التربوية التي أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرسخها في أذهان أصحابه وفي أذهاننا من بعدهم، أن المال كله لله يضعه حيث يشاء، وأنه ليس معنى أن يحرز المسلمون غنيمة أنه لا يجوز للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتصرف فيها بحسب ما يوحي إليه ربه، قال الإمام ابن القيم: "ولله -سبحانه- أن يقسم الغنائم كما يحب، وله أن يمنعها الغانمين جملة كما منعهم غنائم مكة، وقد أوجفوا عليها بخيلهم وركابـهم، وله أن يسلط عليها ناراً من السماء تأكلها، وهو في ذلك كله أعدل العادلين وأحكم الحاكمين... وليس هو -سبحانه- تحت حجر أحد من خلقه".
بل ذكر الإمام ابن القيم: أن ذلك ليس خاصاً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه إذا اقتضت مصلحة المسلمين أن يدفع الإمام الغنائم أو بعضها إلى قوم من الكافرين ليتألفهم، فلا بأس بذلك "فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما".
والى هنا أكتفي وأسأل الله عز وجل بمَنِّهِ وكرمه أن ينفعنا بما نكتب ونقرأ، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم. |
| | | | غزوة حُنين دروس وعبر | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |