|
| غزوة اُحد دروس وعبر | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: غزوة اُحد دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 11:52 pm | |
|
غزوة اُحد دروس وعبر الحمد لله الذي تفرد بالجلال والعظمة، والعز والكبرياء والجمال، وأشكره شكر عبد معترف بالتقصير عن شكر بعض ما أوليه من الإنعام والأفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد. إن الحنين والشوق يشدنا دائماً إلى السيرة النبوية العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، لنجلس في أفياء أحداثها مجلس التلاميذ الذين يتلقون العلوم والدروس النافعة المفيدة في أمور العقيدة والإيمان، والعبادة والأحكام، والسيادة والقيادة، والحرب والجهاد، والسلم وإدارة شئون الحياة؛ إنها مدرسة كاملة لإعمار هذه الدنيا على منهج الله عز وجل، وللسعي إلى رضوان الله سبحانه وتعالى في الآخرة.
عندما يقف المسلم ويُقلب صفحات غزوة أحد يجد أنَّ فيها سفراً عظيماً للدروس والعبر التي تقوّم اعوجاج مسالكنا، وتحيي وتقوي ضعف إيماننا، وتثبت مواضع أقدامنا، وتكشف ما وراء المظاهر إلى حقائقها.
ولقد وصف القرآن هذه المعركة وصفاً دقيقاً، وسلّط الضوء على خفايا النفوس، ودخائل القلوب، وكان فيها تربية للأمة في كل زمان ومكان، ودروساً تتوارثها الأجيال تلو الأجيال.
وتستمر السلسلة المباركة (غزوات النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- دروس وعبر) ومع الوقفة الثانية مع (غزوة أحد دروس وعبر). وسأقف وإياكم مع بعض الفوائد والحكم الربانية المستفادة من هذه الغزوة العظيمة.
فهذه الغزوة العظيمة تعد نموذجاً حياً لما يمر به المسلمون اليوم من محن وشدائد، فما أحرانا أن نقف عندها، ونستفيد من دروسها وعبرها، وما أحوج الأمة وهي تمر بهذه المرحلة الحرجة في تاريخها، أن تراجع نفسها، وتستعيد ذاكرتها، وتعي سيرة نبيها -صلى الله عليه وسلم-.
فأحدٌ نصرٌ لا هزيمة، معركة فياضةٌ بالعبر والعظات، أحداثها صفحات ناصعة، يتوارثها الأجيال بعد الأجيال.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يعيد لهذه الأمة مجدها وعزها,وان يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
`غزوة أحد: التي أنزل الله على إثرها آيات تُتلى إلى يوم الدين، فنزلت ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران، تتحدث عن هذه الغزوة، ابتدأت بذكر أول مرحلة من مراحل الإعداد للمعركة في قوله -تعالى-: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 121]، وانتهت بالتعليق الجامع على نتائج المعركة، والحكم التي أرادها الله منها فقال -سبحانه-: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 179].
`غزوة أحد: التي وقعت في الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة.
قال ابن إسحاق: كان أُحد يوم السبت للنصف من شوال.
`غزوة أحد: التي تعلّم منها المسلمون أنه ينبغي أن تكون الشدائد والمحن في كل زمان فيصلاً لتمييز المؤمنين، وفضح المنافقين.
`غزوة أحد: التي فيها دروساً للأمة جمعاء في حياتها ومعاملاتها ولعل دروس النكبات والهزائم أعظم أثراً من غيرها في كل وقت وحين.
`غزوة أحد: تركت آثاراً غائرة في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- تلازمه حتى آخر حياته ولما حانت وفاته جعل آخر عهده بذكريات البطولة أن يودع قتلى أحد وأن يدعوا الله لهم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أُحد بعد ثمان سنوات كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال: “إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تُشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها قال عقبة فكان آخر نظرة نظرتها إلى الرسول».
`غزوة أحد: إن مقارنة يسيرة بين حال الأمة في يومها وبين حالها يوم هُزمت في معركة أحد وجعلت الهزيمة بسبب معصيتها ومخالفتها لرسولها توحي بأن الأمة اليوم لم تكمل أسباب النصر والتمكين التي وردت في كتاب الله تعالى وإنما هي في غفلة معرضة، لم ترفع بالدين رأساً في كثير من بقاعها وأصقاعها وفي كثير من أحوالها وأهوالها.
`غزوة أحد: من المعارك التي خاضها النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه غزوة أحد التي كانت محلاً لأحداث كبار ودروس وعبر عظام.
فهي فيّاضة بالعظات الغوالي والمواعظ القيمة.
`غزوة أحد: مع ما وقع فيها من الكوارث والنكبات، وما حوته من النوازل والأزمات، إلا أنه يَصدُق فيها قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور: 11].
هذه لمحة موجزة سريعة نقف وإياكم مع دروس وعبر من هذه الغزوة المباركة التي كان لها الأثر البالغ في حياة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وحياة الصحابة وسيكون لها مثل ذلك التأثير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فهيا لنعيش مع هذه الدروس العبر.
دروس وعبر من غزوة أُحد 1- أثر المعاصي في النصر والهزيمة: في غزوة أحد ظهر أثر المعصية والفشل والتنازع في تخلف النصر عن الأمة، فبسبب معصية واحدة خالف فيها الرماة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبسب التنازع والاختلاف حول الغنائم، ذهب النصر عن المسلمين بعد أن انعقدت أسبابه، ولاحت بوادره، فقال -سبحانه-: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152]
فكيف ترجو أمة عصت ربها، وخالفت أمر نبيها، وتفرقت كلمتها أن يتنزل عليها نصر الله وتمكينه؟.
وبالمعاصي تدور الدوائر، ففاضت أرواح في تلك الغزوة بسبب خطيئة، وخرج آدم من الجنة بمعصيته، و«دخلت امرأة النار في هرة» فما الذي أهلك الأمم السابقة وطمس الحضارات البائدة سوى الذنوب والمعاصي: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (القصص 40).
يقول بعض أهل العلم: يا سبحان الله! رماة خالفوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والموت على رءوسهم، وأنت تخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اليوم والليلة عشرات المرات ولا تخشى، ولذلك كان من نتيجة هذه المخالفة حلول الهزيمة وحلول الغلبة على المؤمنين رضي الله عنهم وأرضاهم، فمخالفة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- شؤم وفساد كبير، وما هناك تدمير لمستقبل الإنسان ولا خيبة أمل ولا تعكير لفهمه وذكائه ورزقه وولده مثل المعصية نعوذ بالله من المعاصي!
فالمعاصي سبب كل عناء وطريق كل شقاء،ما حلّت في ديار إلا أهلكتها ولا فشت في مجتمعات إلا دمّرتها وأزالتها،وما أهلك الله تعالى أمة إلا بذنب وما نجى وما فاز من فاز إلا بتوبة وطاعة.
قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم40).
وقال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (الشورى 30).
المعصية عذاب المعصية وحشة المعصية حتى ولو كانت صغيرة مع الإصرار عليها تعمي البصيرة وتُسقط الكرامة وتُوجب القطيعة وتمحق البركة ما لم يتب العبد ويرجع خائفاً وجلاً.
رأيتُ الذنوب تُميت القلوب وتركُ الذنوب حياةُ القلوب وقد يورث الذُّل إدمانها وخيرٌ لنفسك عصيانها
قال مجاهد -رحمه الله-: "إن البهائم لتلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وتقول هذا شؤمه معصية بني آدم"و لا حول ولا قوة إلا بالله.
تأمَّل يا رعاك الله قول الحق سبحانه: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران 165).
فالزم يا عبد الله الطاعة والعبودية، يؤخذ بيدك في المضايق، وتُفْرَج لك الشدائد، ولا تجعل أعمالك جُنداً عليك، يزداد بها عدوك قوة عليك.
2- خطورة إيثار الدنيا على الآخرة: وهذه الغزوة تعلمنا كذلك خطورة إيثار الدنيا على الآخرة، وأن ذلك مما يفقد الأمة عون الله ونصره وتأييده، قال ابن مسعود: " ما كنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد: ﴿مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ﴾“، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء».
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة: (أدركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم)، وقال بعضهم: (لا نبرح حتى يأذن لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-) فنزلت: ﴿مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ﴾ (آل عمران: 14).
وفي ذلك درسٌ عظيم يبين أن حُبَّ الدنيا والتعلق بها قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان والصلاح، وربما خفي عليهم ذلك، فآثروها على ما عند الله، مما يوجب على المرء أن يتفقد نفسه وأن يفتش في خباياها، وأن يزيل كل ما من شأنه أن يحول بينها وبين الاستجابة لأوامر الله ونواهيه.
وقد وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث تبين منزلة الدنيا عند الله وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها, قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14].
وقد حذّر الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في أكثر من موضع، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السيئ على الأمة عامة وعلى من يحملون لواء الدعوة خاصة.
إن الذي حدث في أُحد عبرة عظيمة للدعاة وتعليمًا لهم بأن حب الدنيا قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلبات الفوز بنعيمها، ويعصون أوامر الشرع الصريحة كما عصى الرماة أوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصريحة بتأويل ساقط، يرفعه هوى النفس وحب الدنيا، فيخالفون الشرع وينسون المحكم من أوامره، كل هذا يحدث ويقع من المؤمن وهو غافل عن دوافعه الخفية، وعلى رأسها حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة ومتطلبات الإيمان، وهذا يستدعي من الدعاة التفتيش الدائم الدقيق في خبايا نفوسهم واقتلاع حب الدنيا منها، حتى لا تحول بينهم وبين أوامر الشرع، ولا توقعهم في مخالفته بتأويلات ملفوفة بهوى النفس وتلفتها إلى الدنيا ومتاعها. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة اُحد دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 12:00 am | |
| 3- ويتخذ منكم شهداء: ومن الحكم إكرام الله بعض عباده بنيل الشهادة، التي هي من أعلى المراتب والدرجات، فأراد -عز وجل- أن يتخذ من عباده شهداء تراق دماؤهم في سبيله، ويؤثرون محبته ورضاه على نفوسهم.
مصعب بن عمير -رضي الله عنه-: قال خباب -رضي الله عنه-: هاجرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى في سبيله ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير قُتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر»، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها, ومن حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنه أُتى بطعام وكان صائمًا، فقال: قُتل مصعب بن عمير -رضي الله عنه-، وكان خيرًا مني, فلم يوجد له ما يُكفن فيه إلا بردة, وقتل حمزة أو رجل آخر خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه، إلا بردة، لقد خشيت أن يكون قد عُجّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي.
ومن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودعا له ثم قرأ هذه الآية: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: 23]، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم, والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه».
سعد بن الربيع -رضي الله عنه-: هذا الذي استكتمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر مسير قريش، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه، فلما انتهت معركة أحد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات»؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد رأى الأسنة شرعت إليه، فقال أبي بن كعب -رضي الله عنه-: أنا أنظره لك يا رسول الله، فقال له: «إن رأيت سعد بن الربيع فأقرأه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف يجدك؟» فنظر أبي فوجده جريحًا به رمق، فقال له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات، فقال: قد طعنت اثنتي عشرة طعنة, وقد أنفذت إلى مقاتلي, وفي رواية صحيحة قال: على رسول الله وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: «لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيكم شفر يطرف», قال: وفاضت نفسه رحمه الله.
وهذا نصح لله ورسوله في سكرات الموت يدل على قوة الإيمان، والحرص على الوفاء بالبيعة لم يتأثر بالموت ولا آلام القروح.
عبد الله بن جحش -رضي الله عنه-: قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: إن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تدعو الله، فخلوا في ناحية فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت العدو، فلقِّني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمّن عبد الله بن جحش -رضي الله عنه-، ثم قال: «اللهم ارزقني رجلاً شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلت: من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت», قال سعد: يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط.
وفي هذا الخبر جواز دعاء الرجل أن يُقتل في سبيل الله، وتمنيه ذلك وليس هذا من تمني الموت المنهي عنه.
أَنَسِ بْنِ النّضْرِ-رضي الله عنه-: ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر، وقال: “اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء» يعني المشركين ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال أين يا أبا عمر؟ فقال أنس -رضي الله عنه-: «واهاً لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحُد” ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم.
حنظلة بن أبي عامر -رضي الله عنه- (غسيل الملائكة): لما انكشف المشركون ضرب حنظلة فرس أبي سفيان بن حرب فوقع على الأرض، فصاح حنظلة يريد ذبحه، فأدركه الأسود بن شداد، ويقال له ابن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه ومشى إليه حنظله بالرمح وقد أثبته، ثم ضرب الثانية فقتله، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إني رأيت الملائكة تغسله بين السماء والأرض بماء المُزن، في صحاف الفضة» فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فاسألوا أهله ما شأنه؟” فسألوا صاحبته عنه فقالت: خرج وهو جُنُب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فلذلك غسّلته الملائكة».
وفي رواية الواقدي: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحُد، وكان قد استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى بالصبح غدا يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعدُ: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه أنه قد دخل بها، وفي تعلق جميلة بنت عبد الله بن أبي حنظلة بن أبي عامر حين رأت له تلك الرؤيا التي فسرتها بالشهادة، فالمظنون في مثل هذه الحال أن تحاول الابتعاد عنه حتى لا تحمل منه فتكون بعد ذلك غير حظية لدى الخطاب، لكنها تعلقت به رجاء أن تحمل منه فتلد ولدًا ينسب لذلك الشهيد الذي بلغ درجات عليا في الصلاح أولاً، ثم بما ترجوه من نيله الشهادة، ولقد حصل لها ما أملت به فحملت منه وولدت ولدًا ذكرا سمي عبد الله، وكان له ذكر بعد ذلك، وكان من أعلى ما يفتخر به أن يقول: أنا ابن غسيل الملائكة.
عبد الله بن عمرو بن حرام -رضي الله عنه-: رأى عبد الله بن عمرو رؤية في منامه قبل أحد, قال: «رأيت في النوم قبل أحد، مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام، فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء، قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ قال: بلى ثم أحييت، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: هذه الشهادة يا أبا جابر», وقد تحققت تلك الرؤيا بفضل الله ومنه.
أصّر عبد الله بن عمرو بن حرام على الخروج في غزوة أحد، فخاطب ابنه جابر بقوله: يا جابر، لا عليك أن تكون في نظاري المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي.
وقال لابنه أيضاً: «ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن على دينًا فاقض واستوص بأخواتك خيرًا».
وخرج مع المسلمين ونال وسام الشهادة في سبيل الله، فقد قتل في معركة أحد, وهذا جابر يحدثنا عن ذلك حيث يقول: «لما قُتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهوني وهو لا ينهاني، وجعلت عمتي تبكيه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه».
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا جابر ما لي أراك منكسرًا؟» قال: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالاً ودينًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟» قال: بلى يا رسول الله، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحًا، يا جابر أما علمت أن الله أحيا أباك فقال: يا عبدي، تمنَّ عليّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأُقتل فيك ثانية، فقال الرب سبحانه: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون, قال: يا رب.. فأبلغ من ورائي».
فأنزل الله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169].
خيثمة أبو سعد -رضي الله عنه-: قال خيثمة أبو سعد، وكان ابنه استشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله عليها حريصًا، حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا، وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورقَّ عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقتل بأحد شهيدًا.
وهب المزني وابن أخيه -رضي الله عنهما-: أقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس، بغنم لهما من جبل مزينة، فوجدا المدينة خلوًا فسألا: أين الناس؟ فقالوا: بأحد، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقاتل المشركين من قريش، فقالا: لا نبتغي أثرًا بعد عين فخرجا حتى أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأحد فيجدان القوم يقتتلون والدولة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من وراءهم، خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فاختلطوا، فقاتلا أشد القتال، فانفرقت فرقة من المشركين فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من لهذه الفرقة؟” فقال وهب بن قابوس: أنا يا رسول الله، فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ثم رجع.
فانفرقت فرقة أخرى فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من لهذه الكتيبة؟” فقال المزني: أنا يا رسول الله، فقام فذبها بالسيف حتى ولوا، ثم رجع المزني، ثم طلعت كتيبة أخرى فقال: «من يقوم لهؤلاء؟” فقال المزني: أنا يا رسول الله، فقال: «قم، وأبشر بالجنة» فقام المزني مسرورًا يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل، فقام فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى المسلمين، حتى خرج من أقصاهم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «اللهم ارحمه» ثم يرجع فيهم، فما زال كذلك وهم محدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه، فوجد به يومئذ عشرون طعنة برمح، كلها قد خلصت إلى مقتل، ومُثل به أقبح المثلة يومئذ، ثم قام ابن أخيه فقاتل قتاله حتى قتل، فكان عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- يقول: «إن أَحب ميتة أموت لما مات عليها المزني».
وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص، فلما فتح الله علينا وقسمت بيننا غنائمنا، فأسقط فتى من آل قابوس من مزينة، فجئت سعدًا حين فرغ من نومه فقال: بلال؟ قلت: بلال، قال: مرحبًا بك، من هذا معك؟ قلت: رجل من قومي من آل قابوس، قال سعد: ما أنت يا فتى من المزني الذي قتل يوم أحد؟ قال: ابن أخيه، قال سعد: مرحبًا وأهلاً وأنعم الله بك عينًا، ذلك الرجل شهدت منه يوم أحد مشهدًا ما شهدته من أحد، لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسطنا، والكتائب تطلع من كل ناحية، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرمي ببصره في الناس يتوسمهم يقول: «من لهذه الكتيبة؟” كل ذلك يقول المزني: أنا يا رسول الله، كل ذلك يرده فما أنسى آخر مرة قامها فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قم وأبشر بالجنة» قال سعد: وقمت على أثره يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذ من الشهادة، فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية، وأصابوه - رحمه الله - وودت والله أني كنت أصبت يومئذ معه، ولكن أجلي استأخر، ثم دعا سعد من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله، وقال: اختَرْ في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك، فقال بلال: إنه يستحب الرجوع، فرجعنا.
وقال سعد: أشهد لرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفًا عليه وهو مقتول، وهو يقول: «رضي الله عنك فإني عنك راضٍ»، ثم رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام على قدميه وقد نال النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجراح ما ناله، وإني لأعلم أن القيام ليشق عليه على قبره حتى وُضع في لحده، وعليه بردة لها أعلام خضر، فمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البردة على رأسه فخمره، وأدركه فيها طولا، وبلغت نصف ساقيه، وأمرنا فجمعنا الحرمل فجعلناه على رجليه، وهو في لحده، ثم انصرف، فما حال أموت عليها أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله -تعالى-على حال المزني.
وهكذا يفعل الإيمان بأصحابه فهذا وهب المزني وابن أخيه تركا الأغنام بالمدينة والتحقا بصفوف المسلمين وحرصاً على نيل الشهادة، فأكرمهما الله بها، وقد كانت تلك الملحمة التي سطرها المزني محفورة في ذاكرة الصحابة، فهذا سعد بن أبي وقاص يتذكرها بعد مرور ثلاث عشرة سنة تقريبا على غزوة أحد لمجرد سماع اسم رجل من عشيرة المزني ويتمنى أن يموت ويلقى الله على مثل حالة المزني.
عمرو بن الجموح -رضي الله عنه-: كان عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأُسْد يشهدون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشاهد، وهم خلاد ومعوذ ومعاذ وأبو أيمن، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله -عز وجل- قد عذرك، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه وللخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أما أنت فقد عذرك الله -تعالى-فلا جهاد عليك» وقال لبنيه: «ما عليكم ألا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة» فخرج وهو يقول مستقبل القبلة: اللهم لا تردني إلى أهلي خائبًا فقتل شهيدًا.
وفي رواية أتى عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة، وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «نعم» فقتلوه يوم أحُد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجُعلوا في قبر واحد.
وفي هذا الخبر دليل على أن مَنْ عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروج إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج، وفيه دليل على شجاعة عمرو بن الجموح ورغبته في نيل الشهادة وصدقه في طلبها، وقد أكرمه الله بذلك. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة اُحد دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 12:10 am | |
| أبو حذيفة بن اليمان وثابت بن وقش -رضي الله عنهم-: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد رفع حُسيل بن جابر، وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان، وثابت بن وقش في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا أبا لك، ما تنتظر؟ فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظمئ حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس ولم يعلم بهما، فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه، فقال حذيفة: أبي، فقالوا: والله إن عرفناه، وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا.
وفي هذا الخبر، يظهر أثر الإيمان في نفوس الشيوخ الكبار الذين عذرهم الله في الجهاد وكيف تركوا الحصون وخرجوا إلى ساحات الوغى طلبًا للشهادة وحبًا وشوقًا للقاء الله -تعالى-، وفيه موقف عظيم لحذيفة، حيث تصدق بدية والده على المسلمين، ودعا لهم بالمغفرة لكونهم قتلوا والده خطأ، وفيه أيضًا: أن المسلمين إذا قتلوا واحدًا منهم في الجهاد يظنونه كافرًا، فعلى الإمام ديته من بيت المال؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يدي اليمان أبا حذيفة، فامتنع حذيفة من أخذ الدية، وتصدق بها على المسلمين.
منزلة الشهداء: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لما أصيب إخوانكم بأحُد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش, فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال عز وجل: أنا أبلغهم عنكم» فأنزل الله عز وجل على رسوله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات, قال تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 169-171).
وروى مسلم بسنده عن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، قال: أما إنا سألنا عن ذلك، فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة، حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل, فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟! ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا, ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يا رب نريد أن تُرَدَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرَّةً أخرى, فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكُوا».
4- سُنَّةُ الله في الصراع بين الحق والباطل: وفي غزوة أحد تأكيد لسنة الله في الصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال، فقد جرت سنة الله في رسله وأتباعهم أن تكون الحرب سجالاً بينهم وبين أعدائهم، فيدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، ثم تكون لهم العاقبة في النهاية، ولئن انتفش الباطل يوماً وكان له صولات وجولات، إلا أن العاقبة للمتقين، والغلبة للمؤمنين، فدولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، سُنَّة الله ولن تجد لسُنَّةِ الله تبديلاً.
والجنة عزيزة غالية لا تُنال إلا على جسر من المشاق والمتاعب، والنصر الرخيص السهل لا يدوم، ولا يدرك الناس قيمته، ولذلك قال الله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران 142).
5- لابد من الأخذ بالأسباب: لابد أيضاً من الأخذ بأسباب النصر المادية والمعنوية مع التوكل على الله والاعتماد عليه، فقد ظاهر النبي -صلى الله عليه وسلم- بين درعين، ولبس لأْمَة الحرب، وكافح معه الصحابة، وقاتل عنه جبريل وميكائيل أشد القتال، رغم أن الله عصمه من القتل.
6- التضحية من أجل الدين: إن سنة الله جل وعلا قد مضت أن هذا الدين لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقة فوق البقاع، ولا يتحقق منهجه بين الناس إلا بجهد من أبناء هذا الدين يسبقه ويرافقه ويعقبه توفيق من الله عز وجل.
إن هذا الدين لابد له من علم يُنشر، ودعوة تبذل، وأموال تُنفق، ومهج وأرواح تُزهق في سبيل الله عز وجل، إنه ليس أمراً هيناً؛ إنها الرسالة العظيمة الخالدة، إنها الأمانة الكبيرة الماجدة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب: 72)، ويخاطب الله جل وعلا نبيه -صلى الله عليه وسلم- فيقول: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ (المزمل: 5)، إنها أمانة هذا الدين والرسالة الخاتمة من رب العالمين، الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للناس أجمعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها يوم يقوم الناس لرب العالمين.
هذه الرسالة العظيمة، وهذا الدرس الكريم نقف مع ومضات منه لنرى صورته في غزوة أحد، ولست معنياً بالوقوف مع الأحداث وترتيبها، وإنما نأخذ هذا الدرس الواضح الجلي في هذه المعركة العظيمة من معارك الإسلام الخالدة التي قادها محمد -صلى الله عليه وسلم- برفقة الصحب الكرام الغر الميامين الأبطال الشجعان رضوان الله عليهم أجمعين.
أنس بن النضر -رضي الله عنه- يُصاب في هذه الغزوة ببضع وثمانين جراحة، ثم مُثِّلَ به بعدها، فلم يعرفه أحد سوى أخته عرفته ببنانه.
وفي سعد بن الربيع -رضي الله عنه- سبعون طعنة، وقتل مصعب بن عمير -رضي الله عنه-، فلم يوجد له ما يُكفن فيه إلا بردة، واستشهد حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستشهد سبعين من خيرة الصحابة الكرام.
فماذا قدمنا لديننا؟ وللصحابة الكرام الصُحبة والسبق والإقدام، تقطعت منهم الأشلاء، وتمزقت الأجساد، وترمل النساء، قدَّموا أرواحهم فداء لهذا الدين، حتى وصل إلينا كاملاً متمّماً، فاقدر لهم قدرهم، واشكر لهم سعيهم، وترض عنهم، فقد أحبهم ربهم، - رضي الله عنهم وأرضاهم -.
7- العاقبة للمتقين: للحق جولة، وللباطل صولة، والعاقبة للتقوى، فلا تيأس من إصلاح المجتمع، ولا تقنط من هدايته، فقد صَبَر النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأذى والجراح، حتى دخل الناس أفواجاً في دين الله، إن عواقب الأمور كلها بيد الله، فامض في الدعوة، وداوم على الدعاء، وهداية البشر بيد خالق البشر.
أبو سفيان في أُحُد يقود المشركين، وشعاره: "اعلُ هُبل"، وفي فتح مكة يقول: "لا إله إلا الله".
ووحشي يقتل حمزة، ثم يُسلم ويقتل مُدَّعي النبوة مسيلمة الكذاب.
فاحذر على نفسك التقلب، «فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء».
واسأله دوماً دوام الثبات، والعبد وإن استغرق في العصيان، فالتوبة تحط الأوزار وإن بلغت العنان.
خالد بن الوليد-رضي الله عنه- يقود خيَّالة الكفر، وقُتِل على يديه فضلاء الصحابة، ولما شرح الله صدره للإسلام، أتى يبايع النبي، وقال: يا رسول الله، إني أشترط أن تُغفَر زلتي، فقال: «يا خالد، أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجُبُّ ما قبلها».
فأنقذ نفسك من وحل الأوزار، وأقبل على ربك تائباً من الآثام، فالحسنات يذهبن السيئات، ولا تستنكف عن التمسك بهذا الدين، فحوله سالت الدماء.
8- الابتلاء بذوي القربى: المرء قد يُبتلى بذوي القربى والأرحام، فاصبر على ما تلاقيه منهم، فأقارب النبي تركوا أوطانهم وأموالهم، وقدموا إلى المدينة وقطعوا مسافة أربعمائة كيلومتر أو أكثر لقتل النبي، وفعلوا ما لم يفعله غالب الكفار، من تمثيلهم بالقتلى، مع أنهم بنو عمه، وفي الفتح عفا عنهم وصفح، وقال: «لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء».
فاتَّخِذْ النبي -صلى الله عليه وسلم- قدوة لك في الحلم والعفو، وصِلْ رحمك، وغُضَّ الطرف عمَّا يسوؤك منهم.
9- ولا تنازعوا: في الفُرقة والنزاع تبعثَر الجهود، وفي الألفة والاتفاق صفاء القلوب، فلنحذر من تفرق الكلمة والاختلاف في الرأي، فهما الهزيمة، ﴿وَلاَ تَنَـازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ﴾ (الأنفال: 46).
10- الأنبياء عبيد مخلوقون: الأنبياء عبيد مخلوقون، يعتريهم ما يعتري البشر، لا يُرفعون فوق منزلة العبودية، ولا يحَطُّ من شأنهم، والنبي ظاهر بين درعين، ولبس لأْمَة الحرب، وكافح معه الصحابة، وقاتل عنه جبريل وميكائيل أشد القتال، ومع هذا شُجَّ في وجهه، وكُسرت رَباعيته، والأمر لله من قبل ومن بعد، وهو سبحانه وحده النافع الضار، ولو كان يملك لنفسه شيئاً ما سال الدم منه.
11- العرفان لِمَنْ خدم هذا الدين: ومن مُروآت الأفعال العرفان لِمَنْ خدم الدين، ومن جميل الخلال الوفاء للأصحاب، ودماء شهداء أحد بقيت في نفس الرسول إلى السنة التي مات فيها، فصلّى على قتلى أُحُد بعد ثمان سنين، كالمودع لهم.
فأجلّ نبلاء هذا الدين، واحفظ ودَّ خِلاَّنك، وارع حق صحبتهم، واحفظ سرهم.
12- حُب الصحابة لنبيهم -صلى الله عليه وسلم-: طوَّق المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه وكانوا تسعة فقُتل سبعة منهم بعد قتال عنيف، ولم يبق معه غير سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله.
فطمعوا في القضاء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكلمت شفته السفلى، وتقدم إليه عبد الله الزهري فشجه في جبهته، وجاء عبد الله بن قمئة فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر، وضربه بأبي هو وأمي ضربة أخرى عنيفة حتى دخلت حلقتان من حلق المقفر في وجنته، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يسلت الدم عن وجهه: «كيف يُفلح قومٌ شجُّوا وجه نبيِّهم وكسروا رُباعيته وهو يدعوهم إلى الله، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
واستبسل سعد وطلحة في الدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد نثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنانته لسعد بن أبي وقاص وقال: ارم فداك أبي وأمي، وأما طلحة فقد قاتل حتى شُلّت يده، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة.
وروى الترمذي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيه يومئذ: «مَنْ ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله».
وخلال هذا الموقف العصيب تسارع المسلمون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقاموا حوله سياجًا من أجسادهم وسلاحهم وبالغوا في الدفاع عنه، قام أبو طلحة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسور نفسه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرفع صدره ليقيه عن سهام العدو، وكان راميًا يرمي فكلما رمى أشرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرى موضع سهمه، فيقول له أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تُشرف يُصبك سهمٌ من سهام القوم، نحري دون نحرك، وقام أبو دُجانة أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فترس عليه ظهره والنبل يقع عليه، وهو لا يتحرَّك، وامتصَّ مالك بن سنان الدم عن وجنته وأنقاه فقال: مُجَّهُ، فقال: والله لا أمجه أبدًا، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» فقُتل شهيدًا.
وقاتلت أم عمارة حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضربها ابن قمئه على عاتقها ضربة تركت جرحًا أجوف، وضربته فنجا بدرعه، وبقيت تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحًا.
وقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فعرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأشار إليه أن اصمت لئلا يعرف المشركون موضعه، فلاذ إليه المسلمون فأخذ بالانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وأثناء القتال كان النعاس يأخذ المسلمين أمنة من الله، وفي أثناء الانسحاب عرضت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- صخرة من الجبل فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بين عبيد الله فنهض حتى استوى عليها وقال: «أوجب طلحة» أي الجنة.
قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأحد, فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، تريد صغيرة، وهكذا يفعل الإيمان في نفوس المسلمين. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة اُحد دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 12:14 am | |
| 13- الأمور بخواتيمها: إن الأمور بخواتيمها، وقد وقع في غزوة أحُد ما يحقق هذه القاعدة المهمة في هذا الدين، فقد وقع حادثان يؤكدان هذا الأمر، وفيهما عظة وعبرة لكل مسلم متعظ ومعتبر.
الأصيرم -رضي الله عنه-: واسمه عمرو بن ثابت بن وقش، عرض عليه الإسلام فلم يُسلم، وروى قصته أبو هريرة -رضي الله عنه-: أن الأصيرم كان يأبى الإسلام على قومه، فجاء ذات يوم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بأُحُد فقال: أين سعد بن معاذ؟ فقيل: بأحُد، فقال: أين بنو أخيه؟ قيل: بأحُد: فسأل عن قومه فقيل: بأحُد، فبدا له الإسلام فأسلم، وأخذ سيفه، ورُمحه، وأخذ لأمته، وركب فرسه فعدا حتى دخل في عرض الناس، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى أثخنته الجراحة، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذ هم به، فقالوا: والله إن هذا الأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه: ما جاء بك؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله -تعالى- ورسوله، وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني، وإن مِتُّ فأموالي إلى محمد يضعها حيث شاء، فذكروه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنه من أهل الجنة».
وقيل: مات فدخل الجنة وما صلى من صلاة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «عَمِل قليلاً وأُجر» وكان أبو هريرة ا يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصل قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ قال: هو أصيرم بن عبد الأشهل.
مخيريق: لما كانت غزوة أحد وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقاتل المشركين، جمع مخيريقٌ قومه اليهود وقال لهم: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعُدَّته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء، ثم غدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقاتل معه حتى قُتل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «مخيريق خير يهود».
وقد اختلف في إسلامه، فنقل الذهبي في التجريد وابن حجر في الإصابة عن الواقدي أن مخيريق مات مسلمًا، وذكر السهيلي في الروض الأنف أنه مسلم، وذلك حين قال معقبًا على رواية ابن إسحاق عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «مخيريق خير يهود» قال: ومخيريق مسلم، ولا يجوز أن يقال في مسلم هو خير النصارى، ولا خير اليهود؛ لأن أفعل من كذا، إذا أضيف فهو بعض ما أضيف إليه، فإن قيل: وكيف جاز هذا؟ قلنا: لأنه قال: خير يهود، ولم يقل خير اليهود، ويهود اسم علم كثمود، يقال: إنهم نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب ثم عربت الذال دالا.
وقد حقق هذه المسألة الدكتور عبد الله الشقاوي في كتابه: (اليهود في السُّنَّة المُطهرة) وذهب إلى أن مخيريق قد أسلم، ودفعه ذلك إلى القتال مع المسلمين، وإلى التصدق بماله مع كثرته، ومع ما عرف عن اليهود من حُبِّ المال والتكالب عليه.
14- إنما الأعمال بالنيات: كان ممن قاتل مع المسلمين يوم أحد رجل يدعى قزمان، كان يعرف بالشجاعة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول إذا ذكر له: إنه من أهل النار، فتأخر يوم أحُد فعيَّرته نساء بني ظفر، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يسوِّي الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول، فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، فجعل يُرسل نبلاً كأنها الرماح ويكت كتيت الجمل، ثم فعل بالسيف الأفاعيل حتى قتل سبعة أو تسعة وأصابته جراحة، فوقع فناداه قتادة بن النعمان: يا أبا الغيداق، هنيئًا لك الشهادة، وجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر، قال: بماذا؟ فوالله ما قاتلت إلا على أحساب قومي، فلولا ذلك ما قاتلت، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنه من أهل النار، إن الله -تعالى-يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
وفي هذا الخبر بيان لمكان النية في الجهاد، وإنه مَنْ قاتل حميَّة عن قومه أو ليُقال شجاع ولم تكن أعماله لله -تعالى- لا يَقبلُ اللهُ منه.
15- قل هو من عند أنفسكم: قال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (ال عمران 165)، لقد نزلت هذه الآية الكريمة لكي تُشخّص الداء وتقّوم حال الجماعة المسلمة بعد مخالفة الرماة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزولهم لأخذ الغنائم ونرك الجبل للمشركين كي يقلبوا النتائج ويحولوا سير المعركة لصالحهم, وقد كان النصر حليف المسلمين, كيف لا وقد رأى بعض الصحابة خلاخيل نساء المشركين وهن يهربن من هول المعركة.
عندها قال ابن مسعود -رضي الله عنه- قولته المشهورة التي ذكرناها آنفاً: ما كنت أظن أن أحد من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا حتى نزل قول الله عز وجل: ﴿مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ﴾.
- إن المتأمل في هذه الآية يجد الصراحة والوضوح في تحديد الخطأ الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية بدون مجاملة أو تعميم " قل هو من عند أنفسكم ".
- إنها الغنائم التي طالما حذر منها الحبيب -صلى الله عليه وسلم-, إنها الغنائم حينما تقفز على قائمة الأولويات والمهمات في حياة الدعاة والمصلحين فكذلك تنقلب قائمة النتائج والانتصارات.
- واليوم إذا أرادت الأمة الإسلامية وعلى رأسها الدعاة والمصلحون الانتصار والتمكين فلابد من تحديد الخلل بصراحة ووضوح ثم العمل الجاد على الإصلاح والتغيير لا المراوغة والتبرير.
16- من دلائل النبوة: أصيبت عين قتادة -رضي الله عنه- حتى سقطت على وجنتيه فردَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما، وأصبحت لا ترمد إذا رمدت الأخرى، وقد قدم ولده على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فسأله من أنت؟
فقال له مرتجلاً: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فعادت كما كانت لأول أمرها فردت بكف المصطفى أحسن الرد فيا حسنها عينًا ويا حسن ما خد
فقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- عند ذلك: تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
17- تذكير المؤمنين بالسُّنن ودعوتهم للعلو الإيماني: قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 137-139).
إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يجد أن الله سبحانه وتعالى لم يترك المسلمين لوساوس الشيطان في محنة غزوة بدر، بل خاطبهم بهذه الآيات التي بعث بها الأمل في قلوبهم، وأرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ويخفف عنهم آلامهم.
قال القرطبي: هو تسلية من الله تعالى للمؤمنين.
ففي الآيات السابقة دعوة للتأمل في مصير الأمم السابقة التي كذبت بدعوة الله تعالى، وكيف جرت فيهم سنته على حسب عادته, وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم على أمره.
وجاء التعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى التعجب، وتثير الاستغراب، وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المؤمنين؛ لأن هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه، ولكنهم لم يشكروه عليها، فأهلكهم بسبب طغيانهم.
وفي قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ دعاهم إلى ترك الضعف، ومحاربة الجبن، والتخلص من الوهن، وعدم الحزن؛ لأنهم هم الأعلون بسبب إيمانهم.
18- كيفية معالجة الأخطاء: ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في أحد على عكس ما نزل في بدر من آيات، فكان أسلوب القرآن الكريم في محاسبة المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر, فقال في غزوة بدر: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 67].
وقال في أحُد: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152]، وفي هذا حكمة عملية وتربية قرآنية يحسن أن يلتزمها أهل التربية والقائمون على التوجيه.
19- ضرب المثل بالمجاهدين السابقين: قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 146-148].
قال ابن كثير: عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدًا قد قتل, فعذَلهم الله على فرارهم وتركهم القتال.
وضرب الله لهم مثلاً بإخوانهم المجاهدين السابقين، وهم جماعة كثيرة، ساروا وراء أنبيائهم في درب الجهاد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا عن الجهاد بعد الذي أصابهم منه، وما استكانوا للعدو، بل ظلوا صابرين ثابتين في جهادهم، وفي هذا تعريض بالمسلمين الذين أصابهم الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، وضرب الله مثلا للمؤمنين لتثبيتهم بأولئك الربانيين وبما قالوه: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 147)، وهذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى نفوسهم -مع كونهم ربانيين- هضم لها واعتراف منهم بالتقصير ودعاؤهم بالاستغفار من ذنوبهم مقدم على طلبهم تثبيت أقدامهم أمام العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم النصر عن زكاة وطهارة وخضوع، وفي هذا تعليم للمسلمين إلى أهمية التضرع، والاستغفار وتحقيق التوبة.
وتظهر أهمية ذلك في إنزال النصر على الأعداء ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ أي وبذلك نالوا ثواب الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب الحسن في الآخرة، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء والتوجه إلى الله, وإحسانهم في موقف الجهاد, وكانوا بذلك مثلا يضربه الله للمسلمين المجاهدين، وخص الله تعالى ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه على ثواب الدنيا وأنه هو المعتمد عنده.
20- التعلق والارتباط بالدين: قال ابن كثير: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان، ألا إن محمدًا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدًا، وإنما كان قد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام، فحصل ضعف ووهن وتأخر، عن القتال، ففي ذلك أنزل الله: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144)أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه.
وقد جاء في تفسير الآية السابقة: أن الرسل ليست باقية في أقوامها أبدًا, فكل نفسٍ ذائقة الموت، ومهمة الرسول تبليغ ما أرسل به، وقد فعل، وليس من لوازم رسالته البقاء دائما مع قومه، فلا خلود لأحد في هذه الدنيا، ثم قال تعالى منكرًا على من حصل له ضعف لموت النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قتله، فقال تعالى: ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ أي رجعتم القهقرى، وقعدتم عن الجهاد، والانقلاب على الأعقاب يعني الإدبار عما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم به من أمر الجهاد ومتطلباته: ﴿وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ الذين لم ينقلبوا أو ظلوا ثابتين على دينهم متبعين رسوله حيًا أو ميتًا.
لقد كان من أسباب البلاء والمصائب التي حدثت للمسلمين يوم أحد أنهم ربطوا إيمانهم وعقيدتهم ودعوتهم إلى الله لإعلاء كلمته بشخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهذا الربط بين عقيدة الإيمان بالله ربًا معبودًا وحده وبين بقاء شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- خالدًا فيهم خالطه الحب المغلوب بالعاطفة، الربط بين الرسالة الخالدة وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- البشر الذي يلحقه الموت كان من أسباب ما نال الصحابة -رضي الله عنهم- من الفوضى والدهشة والاستغراب، ومتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أساس وجوب التأسي به في الصبر على المكاره، والعمل الدائب على نشر الرسالة، وتبليغ الدعوة ونصرة الحق، وهذا التأسي هو الجانب الأغرّ من جوانب منهج رسالة الإسلام؛ لأنه الدعامة الأولى في بناء مسيرة الدعوة لإعلاء كلمة الله ونشرها في آفاق الأرض، وعدم ربط بقاء الدين واستمرار الجهاد في سبيله ببقاء شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الدنيا.
قال ابن القيم -رحمه الله-: “إن غزوة أحد كانت مقدمة وإرهاصًا بين يدي موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يُقتلوا, فإنهم إنما يعبدون رب محمد، وهو لا يموت فلو مات محمد أو قتل، لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينهم، وما جاء به فكل نفسٍ ذائقة الموت، وما نُعت محمد -صلى الله عليه وسلم- ليخلد, لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لابد منه، سواء مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان، إن محمدًا قد قتل فقال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144).
والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وارتد من ارتد على عقبيه, وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله، وأعزهم وظفرهم وجعل العاقبة لهم».
في غزوة أُحد نزل التشريع الإلهي بالعتاب على ما حدث منهم أثناء أحداث غزوة أحد, وعند موت الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء التطبيق حيث (لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة ل فتيمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مغشي بثوب حبرة), فكشف عن وجهه -صلى الله عليه وسلم- ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: «بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كُتبت عليك فقد متها».
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: إن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر -رضي الله عنه- فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: أما بعد من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, قال الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144).
وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر -رضي الله عنه- قال: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر -رضي الله عنه- تلاها فَعَقِرْت حتى ما تقلُّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها, علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات". |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة اُحد دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 3:45 am | |
| 21- تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد: قال تعالى: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ (آل عمران: 140-143).
بيَّن الله -سبحانه- لهم أن الجروح والقتلى يجب ألا تؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو؛ وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله من قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى.
قال صاحب الكشاف: والمعنى: إن نالوا منكم يوم أُحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم، ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال, فأنتم أولى أن لا تضعفوا.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «إنه كان يوم أحد بيوم بدر، قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر المشركين فجعل الدولة عليهم.
وقد ذكر الله تعالى أربع حكم لما حدث للمؤمنين في غزوة أحد وهي: تحقق علم الله تعالى وإظهاره للمؤمنين، وإكرام بعضهم بالشهادة التي توصل صاحبها إلى أعلى الدرجات, وتطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين، ومحق الكافرين واستئصالهم رويدًا رويدًا».
22- اللجوء إلى الله: روى الإمام أحمد قال: لما كان يوم أُحد وانكفأ المشركون قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «استووا حتى أُثني على ربي عز وجل»، فصاروا خلفه فصفوفًا فقال: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت: اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق».
23- «أُحد جبل يحبنا ونحبه»: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- طَلَع له أُحدٌ فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه».
وهذا يدل على دقة شعور النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قارن بين ما كسبه المسلمون من منعة التحصن والاحتماء بذلك الجبل، وما أودعه الله تعالى فيه من قابلية لذلك، فعبر عن ذلك بأرقى وشائج الصلة وهي المحبة، أفلا يعتبر هذا الوجدان الحي والإحساس المرهف مثلا أعلى على التخلق بخلق الوفاء؟.
ألا إن الذي يعترف بفضل الحجارة الصماء، ويفضي عليها من الأخلاق السامية ما لا يتصف به إلا أفاضل العقلاء لجدير به أن يعترف بأدنى فضل يكون من بني الإنسان، وإن كان وفاؤه -صلى الله عليه وسلم- للجماد قد سما حتى حاز أرقى العبارات وأرقها, فأخلق ببني الإنسان الأوفياء أن ينالوا منه أعظم من ذلك، فضلا عمن تجمعه بهم الأخوة في الله تعالى.
24- الملائكة في أحــد: قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "رأيت عن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد، رجلين عليهما ثياب يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد, يعني جبريل وميكائيل، عليهما السلام".
وهذا خاص بالدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ؛ لأن الله تكفل بعصمته من الناس، ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أُحد سوى هذا القتال، ذلك لأن الله تعالى وعدهم أن يمدهم؛ وجعل وعده معلقًا على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد,, قال تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ (آل عمران: 124، 125).
25- وما النصر إلا من عند الله: النصر ابتداءً وانتهاءً، بيد الله عز وجل, وليس ملكًا لأحد من الخلق، يهبه الله لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء، مثله مثل الرزق، والأجل والعمل: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: 10).
وحين يقدر الله تعالى النصر، فلن تستطيع قوى الأرض كلها الحيلولة دونه، وحين يقدر الهزيمة، فلن تستطيع قوى الأرض أن تحول بينه وبين الأمة, قال تعالى: ﴿إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (آل عمران: 160).
ولكن هذا النصر له نواميس ثابتة عند الله عز وجل, نحن بحاجة إلى فقهها, فلابد أن تكون الراية خالصة لله سبحانه عند الذين يمثلون جنده, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7).
ونصر الله في الاستجابة له، والاستقامة على منهجه والجهاد في سبيله.
26- استخراج العبودية في السراء والضراء: ومن الحكم والدروس استخراج الله عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقا وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.
27- حكمة تبدل الأحوال: ومن الحكم والدروس أنه سبحانه لو نصرهم دائماً وأظفرهم بعدوهم في كل موطن وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدا لطغت نفوسهم، وشمخت، وارتفعت؛ فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته إنه بهم خبير بصير.
28- الخضوع لجبروته تعالى: ومن الحكم والدروس أن الله إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ﴾ (آل عمران 123)، وقال: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ (التوبة 25)، فهو -سبحانه- إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولاً ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره.
29- رفع منازلهم: الله سبحانه وتعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.
30- تحريضهم على الجد في العبودية لله: ومن الحكم والدروس أنَّ النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه فيكون ذلك البلاء والمحنة.
31- تربية الأبناء على حب الجهاد: ذكر الواقدي في المغازي في سياق رواية له " وعرض عليه غلمان عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد والنعمان بن بشير وزيد بن أرقم والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، وأبو سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، ورافع بن خديج، فردهم.
قال رافع بن خديج، فقال ظهير بن رافع يا رسول الله إنه رام وجعلت أتطاول وعلي خفان لي.
فأجازني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فلما أجازني قال سمرة بن جندب لربيبه مري بن سنان الحارثي، وهو زوج أمه يا أبت أجاز رسول الله رافع بن خديج وردني، وأنا أصرع رافع بن خديج.
فقال مري بن سنان الحارثي: يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تصارعا» فصرع سمرة رافعا فأجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت أمه امرأة من بني أسد.
وقال ابن هشام: وأجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ سمرة بن جندب الفزاري ورافع بن خديج، أخا بني حارثة وهما ابنا خمس عشرة سنة وكان قد ردهما، فقيل له يا رسول الله إن رافعا رام، فأجازه فلما أجاز رافعا، قيل له يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعا، فأجازه ورد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت، أحد بني مالك بن النجار والبراء بن عازب، أحد بني حارثة، وعمرو بن حزم، أحد بني مالك بن النجار وأسيد بن ظهير، أحد بني حارثة ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة سنة.
في هذا الخبر دليل كافٍ على حب الصحابة للجهاد وارتفاع مستواهم التربوي, حيث حببوا الجهاد لأبنائهم فأصبح غلمانهم يتسابقون في ميادين الجهاد.
32- الحذر من اليهود: قال ابن هشام: وذكر غير زياد عن محمد بن إسحاق عن الزهري: أن الأنصار يوم أحد، قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال: “لا حاجة لنا فيهم».
وفي هذا الموقف الحذر من النبي -صلى الله عليه وسلم- من اليهود يدلنا على بعد نظره فهو يعلم من عداوة اليهود للمسلمين ما لا يعلمه الأنصار الذين يظنون أن حلف اليهود لهم وهم في الجاهلية قد بقي على ما هو عليه بعد إسلامهم لكن الحال أن اليهود أشد عداوة من المشركين، ولكنهم يبطنون العداوة.
33- الجهاد يلزم بالشروع فيه ويتعين إذا طرق العدو ديار المسلمين: يقول ابن القيم في الزاد: "أن الجهاد يلزم بالشروع فيه حتى إن من لبس لامته وشرع في أسبابه وتأهب للخروج ليس له أن يرجع عن الخروج حتى يقاتل عدوه كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وكذلك لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه بل يجوز لهم أن يلزموا ديارهم ويقاتلوهم فيها إذا كان ذلك أنصر لهم على عدوهم كما أشار به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم يوم أحد.
34- يُدفن الشهداء في مصارعهم: ومن الدروس أن السُّنَّة في الشهداء أن يُدفنوا في مصارعهم ولا ينقلوا إلى مكان آخر فإن قوماً من الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالأمر برد القتلى إلى مصارعهم قال جابر: بينا أنا في النظارة إذ جاءت عمتي بأبي وخالي عادلتهما على ناضح فدخلت بهما المدينة لندفنهما في مقابرنا وجاء رجل ينادي: "ألا إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت.
قال فرجعنا بهما فدفناهما في القتلى حيث قتلا فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال: يا جابر والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدا فخرج طائفة منه قال فأتيته فوجدته على النحو الذي تركته لم يتغير منه شيء.
قال فواريته فصارت سنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة اُحد دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 3:51 am | |
| 35- يجوز دفن الثلاثة في القبر الواحد: ومن الدروس جواز دفن الرجلين أو الثلاثة في القبر الواحد فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر ويقول أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة فقال ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد.
36- كرامات ومعجزات في أحد: رد عين قتادة بن النعمان: روى أبو يعلى وأبو نعيم من طريق عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه عن جده: أنه أصيبت عينه يوم أحد فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا قطعها، فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: “لا”، فدعا به فغمز عينه براحته، فكان لا يدري أي عينيه أصيبت، وله طرق تأتي في المعجزات.
ومنها: إخباره عن رجل قاتل الكفار قتالاً شديداً إنه من أهل النار قتل نفسه، وتقدَّم بيان ذلك.
انقلاب العسيب سيفاً: قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي: أخبرنا أشياخنا أن عبد الله بن جحش جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، يوم أُحد، وقد ذهب سيفه فأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عسيباً من نخل، فرجع في يد عبد الله سيفاً.
قال الزبير بن بكار في "الموفقيات": إن قائمة منه، وكان يسمى العرجون، ولم يزل يتناقل حتى بيع من بغاء التركي بمائتي دينار.
عدم استطاعة هند أكل شيء من كبد حمزة: قال ابن سعد: أخبرنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف بن محمد قال: بلغني أن هنداً بنت عتبة بن ربيعة جاءت يوم أحد، وكانت نذرت لئن قدرت على حمزة لتأكلن من كبده، فجاءوا بجزة من كبد حمزة أخذتها تمضغها لتأكلها، فلم تستطع أن تبتلعها فلفظتها فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فقال: «إن الله تعالى حرم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئاً أبداً».
ومنها: أن رجلاً قال: اللهم إن كان محمد على الحق فاخسف به، يعني نفسه، فخسف به، كما رواه البزار بسند حسن، عن بريدة.
ومنها: وجدان أنس بن النضر وسعد بن الربيع رائحة الجنة، كما تقدم في القصة.
ومنها: تغسيل الملائكة لحمزة وحنظلة، كما تقدم.
ومنها: تظليل الملائكة لعبد الله والد جابر، كما رواه الشيخان.
37- قول فداك أبي وأمي لسعد منه -صلى الله عليه وسلم-: قال علي -رضي الله عنه-: “ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لأحد: فداك أبي وأمي إلا لسعد يوم أحد”.
رواه البخاري وغيره، وروى أيضاً عنه: “ما جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أبويه لأحد إلا لسعد”.
قال في الروض: والرواية الأولى أصح، والله أعلم، لأنه أخبر أنه لم يسمع، وقد قال الزبير بن العوام: إنه -صلى الله عليه وسلم- جمع له أيضاً أبويه، كما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب.
قال السهيلي: وفقه هذا الحديث أن هذا الكلام جائز لِمَنْ كان أبواه غير مؤمنين، وأما إذا كانا مؤمنين فلا، لأنه كالعُقوق لهما، كذلك سمعت شيخنا أبا بكر بن العربي يقول في هذه المسألة.
قلت: قال الإمام النووي في كتابه "حلية الأبرار": المذهب الصحيح المختار أنه لا يُكره قول الإنسان لغيره: فداك أبي وأمي، أو جعلني الله فداك.
وقد تظاهرت على جواز ذلك الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما، وسواء كان الأبوان مسلمين أو كافرين، وكره ذلك بعض العلماء إذا كان مسلمين.
قال النحاس: وكره مالك بن أنس: “جعلني الله فداك”، وأجازه بعضهم.
قال القاضي عياض رحمه الله: ذهب جمهور العلماء إلى جواز ذلك، سواء كان المفدى به مسلما أو كافرا.
قال النووي: قد جاء من الأحاديث الصحيحة في جواز ذلك ما لا يحصى.
38- جواز التداوي: في مداواته -صلى الله عليه وسلم- جرحه إشارة إلى جواز التداوي، وأن الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- قد يصابون ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام، ليعظم لهم بذلك الأجر، وتزداد درجاتهم، وليتأسى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره، والعاقبة للمتقين.
39- سُنَّة الله في رُسُلِهِ: إنّ من عادة الرسل أنهم يبتلون وتكون العاقبة لهم، تكون الحرب بينهم وبين أعدائهم سجالاً، ولا ينتصرون مرة واحدة، لأنهم لو انتصروا مرة واحدة لدخل في الدين من لم يكن من أهله، وما عرف المؤمن من المنافق، يقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: 2-3)، فميز الله بهذا بين المؤمن والمنافق، فلو كانت المسألة مسألة نصر وعافية ونعمة لدخل في الدين من ليس من أهل الدين، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- ابتلي مرة وانتصر مرة، ولو هزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- دائماً لما تمت الرسالة الخالدة، ولما أخرج الله الناس من الظلمات إلى النور، ولما تم المقصود من الرسالة، ولو انتصر دائماً لدخل في الدين غير أهل الدين، ولكن غُلب مرة؛ وانتصر مرة، ليميز الله الخبيث من الطيب، والعاقبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين والمتقين، وانتصر الإسلام، وارتفعت مآذن الإسلام في كل مكان، وبقي صوت الحق مدوياً ودمغ الباطل وزهق إنه كان زهوقاً.
40- في تأخير النصر عبرة: إن في تأخير النصر في بعض المواطن هضماً للنفس وكسراً لشموخها وجماحها، لأن النفس إذا أنعم عليها جمحت وشمخت إلا من رحم الله، فلو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- انتصر في كل معركة، وانتصر في كل موقف هو وأصحابه لدخل بعض الصحابة شيء من العجب والتيه، وشيء من الزهو، لكن أراد الله أن يربيهم بالمعارك، مرة نصر ومرة هزيمة، وفي الخاتمة نصر لا هزيمة بعده للإسلام، لذلك لما أتت في معركة حنين قال بعض الصحابة: لن نغلب اليوم من قلة، فانهزموا في أول المعركة ثم انتصروا بعد أن تلقوا تأديباً، وأنت إذا بقي جسمك معافى بلا أمراض ولا ابتلاءات دخلك من العجب ما الله به عليم، والله عز وجل يعرف النفوس فيداويها.
لعل عتبك محمودٌ عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
ربما يكون في صحة جسمك المرض، وفي صحة قلبك الفقر والابتلاء، فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
41- جواز الغزو بالنساء والاستعانة بهن في الجهاد: ومن دروس هذه الغزوة جواز الغزو للنساء؛ فقد كانت غزوة أحد أول معركة في الإسلام تشارك فيها نساء المسلمين، وكان لهذا أثر بالغ في سقي المحاربين وتضميد الجرحى، وقد ظهرت بطولات النساء وصدق إيمانهن في هذه المعركة، فقد خرجن لكي يسقين العطشى ويداوين الجرحى، ومنهن من قامت برد ضربات المشركين الموجهة للرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن النساء شاركن في معركة أحد، وأفضل من شارك في المعركة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء فقد شاركت فاطمة وأتت إلى أبيها -صلى الله عليه وسلم- فأعطته ماء، وغسلت الجراح عنه، وأحرقت بعض السعف ثم حشته في الجراح.
وحضرت نسيبة الأنصارية وقاتلت حتى يقول عليه الصلاة والسلام: “ما التفت في جهة إلا وجدتها تقاتل عني”، فرضي الله عنها, وممن شاركن في غزوة أحد أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأم عمارة، وحمنة بنت جحش الأسدية، وأم سليط، وأم سُليم، ونسوة من الأنصار.
وكانت النساء يوم أحد يزفرن القِرَبَ، ويملأنها للمقاتلين؛ ولذلك حين أتي إلى عمر -رضي الله عنه- في خلافته بشيء من الذهب والفضة فأعطى أم سليط وترك نساءه، فقلن له -رضي الله عنه-: تعطي أم سليط وتتركنا؟ قال: إن أم سليط لا أنسى موقفها يوم أحد، كانت تملأ القِرَبَ للمسلين، فانظر كيف قدَّمها -رضي الله عنه- بهذا وترك نساءه، فرحم الله تلك العظام، وأسكنها فسيح الجنان.
42- جواز الاستماتة: قال أهل العلم ومنهم ابن القيم بجواز الاستماتة، أي: الإقدام على الهلاك والاقتحام في القتل، كما فعل أنس بن النضر، فإنه ألقى درعه وكسر غمد سيفه، واقتحم حتى لقي العدو حاسراُ وفي بعض الآثار: “إن ربك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يضحك للعبد يلقى العدو حاسراً” أي: لا درع عليه حتى يقاتل ويقتل، وليس ذلك من الهلكة.
ولذلك لما حضر أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- بمعركة جهة القسطنطينية في بلاد الروم فألقى أحد المجاهدين بنفسه واستمات في المعركة، فقال بعض الناس المتأخرين في الإسلام: أما يقول الله عز وجل: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة: 195)، قال: لا. إن التهلكة هي أن يمسك المال أو ألا يقاتل في سبيل الله.
وطلب أبو أيوب -رضي الله عنه- من الصحابة أن يدفنوه في آخر بقعة من بقاع المسلمين وأول بقعة من بقاع الكفار، قال: حتى أبعث يوم القيامة من قبري وأنا مسلم بين كفار.
43- صلاة الإمام إذا أصابته جراحة: إن الإمام إذا أصابته جراحة صلى قاعداً وصلى الناس وراءه قعوداً، وهذه الفائدة أخذها ابن القيم؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- صح عنه أنه في أحد صلى الفريضة إما الظهر وإما العصر قاعداً من كثرة الجراح، وصلى الناس وراءه قعوداً، فإذا كان الإمام الراتب إمام الحي العالم يصلي قاعداً لعذر، فللناس أن يصلوا وراءه قعوداً، وفرَّق بعض أهل العلم فقالوا: إن ابتدأ قاعداً فيبتدئون معه قعوداً، وإن طرأ عليه القعود في أثناء الصلاة فيواصلون قياماً وبسط هذه المسألة في مجال آخر.
44- قاتل نفسه في النار: إنَّ المسلم إذا قتل مسلماً أو قتل نفسه فهو من أهل النار، إذا قتل المسلم نفسه فهو من أهل النار؛ لأن رجلاً اسمه قزمان حضر معركة أحد، وقاتل فلما أصابته جراحة، لم يصبر ولم يحتسب، فأخذ سيفه وسله واتكأ عليه حتى خرج سيفه من ظهره، فأوحى الله عز وجل إلى رسوله أحاديث: “بادرني عبدي بنفسه حرّمت عليه الجنة”، فحرامٌ على المسلم أن يقتل نفسه مهما أصابته الابتلاءات.
45- الشهيد لا يُغسل والجنب يُغسل: إنَّ السنة ألا يغسَّل ولا يصلى على شهيد المعركة، أما التغسيل فمعروف، وأما الصلاة عليه فإنه ورد في آثار عند الطحاوي والنسائي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- صلى على بعض الشهداء، وورد في حديث صحيح أنه ترك الصلاة على بعضهم، قال ابن القيم في تهذيب السنن: الإمام مخير إن شاء صلى وإن شاء ترك، وفي صحيح البخاري أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقف على شهداء أُحد يُصلي عليهم كالمودع لهم، قيل: هذا الدعاء، وإلا فإنه لم يصل عليهم في الحال، فالإمام مخير في شهداء المعركة؛ أن يصلي أو يترك، وأكثر أحواله -صلى الله عليه وسلم- أنه ما صلى على شهداء المعركة، لأن الصلاة تزكية والله قد زكاهم.
والشهيد إذا كان جُنباً غسل قاله ابن القيم، لأن حنظلة بن أبي عامر -رضي الله عنه- كان مع زوجته فلما سمع داعي الله خرج جنباً وباع نفسه، فقتل في المعركة، فقال عليه الصلاة والسلام: “سلوا أهله ماله؟ قالوا: خرج جنباً ولم يغتسل، قال: والذي نفسي بيده، لقد رأيت الملائكة تغسله بين السماء والأرض في صحاف من ذهب بماء المزن”، فاستدل بذلك بعض أهل العلم على أن الجنب إذا عُلم أنه مات جنباً وهو من الشهداء أنه يغسل وقد رجح ذلك ابن القيم.
46- النُّعاس في الخوف والحرب نعمة جليلة: إنَّ النعاس في الخوف والحرب نعمة، وفي الصلاة ومجالس الذكر غفلة، ففي معركة أحد لما أراد الله أن يمن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى الصحابة، أصابهم نعاس حتى سقط سيف أبي طلحة من يده كما قال أنس قال تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ (الأنفال: 11) أي: سكينة وهدوءاً، وراحة لقلوبكم، فهو في الخوف والحرب أمنةٌ وهدوءٌ من الله، ولكنه في الصلاة وفي مجالس الذكر من الشيطان.
ومن تمام ثبات قلب المؤمن أن ينعس في المعركة، ومشاهير الشجعان في الإسلام كانوا ينعسون وسط المعركة علامة على قوة قلوبهم، وقد ذكر ابن كثير عن شبيب بن يزيد الخارجي البطل الكبير وهو من قوادهم ما سمع بأشجع منه بعد الصحابة، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: كان في ستين رجلاً يلقى ثلاثة آلاف فيهزمهم، وكان ينعس قبيل المعركة على بغلته، وهذا من شجاعة قلبه ومن حماسته ينعس والصفوف أمامه، حتى إن زوجته واسمها غزالة، دخلت الكوفة، فأرهبت الكوفة كلها، والحجاج كان أمير الكوفة في عهدها، فلما دخلت من باب الكوفة الشرقي خرج هو من الغربي، فدخلت بعمود في يديها تضرب باب الإمارة وتقول للحجاج: اخرج يا عدو الله، ثم ارتقت المنبر منبر الجامع، فخطبت خطبة، فيقول أحد المسلمين للحجاج: يا ذليل تقتل علماء المسلمين وتقتل ضعفاء المسلمين، ولما أتت غزالة الخارجية هربت منها.
أسدٌ علي وفي الحروب نعامة هلا برزت إلى غزالة في الوغى فتخاء تنفر من صفير الصافر أم كان قلبك في جناحي طائر |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52644 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة اُحد دروس وعبر الخميس 27 يونيو 2019, 4:01 am | |
| 47- متابعة حركة العدو وكتمان الأخبار: كان العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرَّك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ضمَّنها جميع تفاصيل الجيش، وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة وجَدَّ في السير, حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة، التي تبلغ مساحتها خمسمائة كيلومتر، في ثلاثة أيام وسلّم الرسالة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في مسجد قباء.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتابع أخبار قريش بدقة بواسطة عمِّه العباس، قال ابن عبد البر: "وكان -رضي الله عنه- يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب أن يقدم على رسول الله فكتب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أن مقامك في مكة خير".
كانت المعلومات التي قدَّمها العباس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- دقيقة فقد جاء في رسالته: "أن قريشًا قد أجمعت المسير إليك, فما كنت صانعًا إذا حلوا بك فاصنعه، وقد توجهوا إليك وهم ثلاثة آلاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة ذراع وثلاثة آلاف بعير, وأوعبوا من السلاح".
لم يكتف النبي -صلى الله عليه وسلم- بمعلومات المخابرات المكية، بل حرص على أن تكون معلوماته عن هذا العدو متجددة مع تلاحق الزمن، وفي هذا إرشاد لقادة المسلمين بأهمية متابعة الأخبار التي يتولد عنها وضع خطط واستراتيجيات نافعة، ولذلك أرسل -صلى الله عليه وسلم- الحباب بن المنذر بن الجموح إلى قريش يستطلع الخبر، فدخل بين جيش مكة وحزر عَدَده وعُدَده ورجع, فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما رأيت؟» قال: رأيت أي رسول الله عددًا، حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، والخيل مائتي فرس، ورأيت دروعًا ظاهرة حزرتها سبعمائة درع، قال: «هل رأيت ظعنًا؟» قال: رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أردن أن يحرضن القوم ويذكرونهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم لا تذكر من شأنهم حرفًا, حسبُنا الله ونِعْمَ الوكيل، اللهمَّ بِكَ أجُولُ وبِكَ أصُولُ».
كما أرسل -صلى الله عليه وسلم- أنسًا ومؤنسًا ابني فضالة يتنصتان أخبار قريش، فألفياها قد قاربت المدينة، وأرسلت خيلها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها، وعادا فأخبراه بخبر القوم.
وبعد أن تأكد من المعلومات حرص -صلى الله عليه وسلم- على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي, خوفًا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل إعداد العُدة، ولذلك حين قرأ أبي بن كعب رسالة العباس أمره -صلى الله عليه وسلم- بكتمان الأمر، وعاد مُسرعًا إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار في كيفية مواجهة الموقف، وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أطلع سيد الأنصار سعد بن الربيع على خبر رسالة العباس فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرًا، فاستكتمه إيَّاه، فلما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عند سعد، قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله؟ فقال لها: لا أمَّ لَكِ, أنتِ وذاك، فقالت: قد سمعت ما قال لك، فأخبرته بما أسَرَّ به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاسترجع سعد، وقال: يا رسول الله، إني خِفْتُ أن يفشو الخبر فترى أني أنا المُفشي له وقد استكتمتني إيَّاه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «خَلِّ عنهَا».
وفي هذه الحادثة درس بالغ للعسكريين وتحذيرهم من إطلاع زوجاتهم على أسرارهم العسكرية، وخططهم وأوامرهم، وينبغي الحذر من إفشاء مثل هذه الأسرار لأن إفشاءها يُهدِّدُ الأمَّة ومستقبلها بكارثة كبرى.
إن تاريخ الأمم والشعوب في القديم والحديث يحدثنا أن كثيرًا من الهزائم والمآسي والآلام قد حلّت بكثير من الأمم نتيجة لتسرب أسرار الجيوش إلى أعدائها عن طريق زوجة خائنة، أو خائن في ثوب صديق, أو قريب في الظاهر عدو في الحقيقة والواقع.
48- دروس في الصبر تقدمها الصحابيات للأمة: أ- صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها: لما استُشهد أخوها حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- في أحد وجاءت لتنظر إليه وقد مثل به المشركون؛ فجدعوا أنفه وبقروا بطنه، وقطعوا أذنيه ومذاكيره، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابنها الزبير بن العوام: «القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها» فقال لها: يا أمه إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن ترجعي، قالت: ولِمَ؟ وقد بلغني أنه قد مُثّل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.
فلما جاء الزبير بن العوام -رضي الله عنه- إلى رسول الله فأخبره بذلك، قال: «خلِّ سبيلها» فأتته فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت, واستغفرت له.
ب- حمنة بنت جحش رضي الله عنها: لما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من دفن أصحابه -رضي الله عنهم- ركب فرسه وخرج المسلمون حوله راجعين إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا حمنة: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «أخوك عبد الله بن جحش» قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون, غفر الله له, هنيئًا له الشهادة, ثم قال لها: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «خالك حمزة بن عبد المطلب» قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له، هنيئا له الشهادة، ثم قال لها: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «زوجك مصعب بن عمير»، قالت: واحزناه، وصاحت وولولت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن زوج المرأة منها لبمكان» لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها، وصياحها على زوجها ثم قال لها: «ولم قلت هذا؟» قالت: يا رسول الله ذكرت يتم بنيه فراعني, فدعا لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم من الخلف.
فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت منه محمدًا وعمران وكان محمد بن طلحة أوصل الناس لولدها.
ج- المرأة الدينارية رضي الله عنها: قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأحد, فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، تريد صغيرة، وهكذا يفعل الإيمان في نفوس المسلمين.
د- أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد الخزرجية رضي الله عنها: خرجت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقف على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه، فقال سعد: يا رسول الله، أمي, فقال رسول الله: «مرحبًا بها» فدنت حتى تأمَّلت رسول الله فقالت: أما إذا رأيتك سالمًا، فقد أشوت المصيبة، فعزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: «يا أم سعد، أبشري وبشِّري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعًا، وهم اثنا عشر رجلاً، وقد شفعوا في أهليهم» قالت: رضينا يا رسول الله، ومَنْ يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادْعُ يا رسول الله لِمَنْ خُلفوا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم, وأحسن الخلف على مَنْ خُلفوا».
49- أهمية الشورى: بعد أن جمع -صلى الله عليه وسلم- المعلومات الكاملة عن جيش كفار قريش جمع أصحابه رضي الله عنهم وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- البقاء في المدينة، وقال: «إنا في جنة حصينة» فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أن رجالاً من المسلمين ممن كان فاته بدر قالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا.
من الواضح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عوَّد أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم حتى ولو خالفت رأيه، فهو إنما يشاورهم فيما لا نص فيه تعويدًا لهم على التفكير في الأمور العامة ومعالجة مشاكل الأمة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الرأي، ولم يحدث أن لام الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحدًا؛ لأنه أخطأ في اجتهاده ولم يوفق في رأيه، وكذلك فإن الأخذ بالشورى ملزم للإمام, فلابد أن يطبق الرسول -صلى الله عليه وسلم- التوجيه القرآني: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159).
لتعتاد على ممارسة الشورى وهنا يظهر الوعي السياسي عند الصحابة رضوان الله عليهم، فرغم أن لهم إبداء الرأي, فإنه ليس لهم فرضه على القائد, فحسبهم أن يبينوا رأيهم ويتركوا للقائد حرية اختيار ما يترجح لديه من الآراء، فلما رأوا أنهم ألحوا في الخروج وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عزم على الخروج بسبب إلحاحهم، عادوا فاعتذروا إليه، لكن الرسول الكريم علمهم درسًا آخر هو من صفات القيادة الناجحة وهو عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ، فإن ذلك يزعزع الثقة بها ويغرس الفوضى بين الأتباع.
50- تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة: عند خروجه -صلى الله عليه وسلم- إلى الغزوة قال لأصحابه: «مَنْ رجل يخرج بنا على القوم من طريق لا يمر بنا عليهم؟» فأبدى أبو خيثمة -رضي الله عنه- استعداده قائلا: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لربعي بن قيظي، وفي رواية ابن هشام: لمربع بن قيظي وكان رجلاً منافقًا ضرير البصر، فلما أحس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين، قام يحثو في وجوههم التراب، وهو يقول: إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي، وقد ذكر أنه أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد، لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال لهم: «لا تقتلوه, فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر»، وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني الأشهل قبل نهي رسول الله عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه.
ولا شك في أن مروره -صلى الله عليه وسلم- بين الأشجار والبساتين يدلنا على حرصه -صلى الله عليه وسلم- على الأخذ بالاحتياطات الأمنية المناسبة في أثناء السير؛ لأن الطرق العامة تكشف للأعداء على مقدار قوات المسلمين, وهذا أمر محذور، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- علم الأمة الأخذ بالسرية من حيث المكان، ومن حيث الزمان، لئلا يستطيع الأعداء معرفة قواتهم فيضعوا الخطط المناسبة لمجابهتها، وبذلك يذهب تنظيم القادة وإعدادهم لجيوشهم في مهب الرياح.
وفي هذا الخبر تطبيق عملي لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا تعارضت المصلحتان فالرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما مر بالجيش في أرض المنافق مربع بن قيظي، وترتب على ذلك إفساد المزرعة، لكن فيه مصلحة للجيش باختصار الطريق لهم إلى أحد، فبين -صلى الله عليه وسلم- أن ما يكون به مصلحة للدين مقدم على ما سواه من المصالح الأخرى، فهنا تعارضت مصلحتان مصلحة عامة ومصلحة خاصة، ومصلحة الدين في هذا الموقف مصلحة عامة وهي مقدمة على المصلحة الخاصة، وهي مصلحة المال.
وقد رتب الشارع الحكيم مقاصد الشرع في تحقيق المنافع لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها، فإذا نظرنا إلى كليات الدين الخمس وأهميتها وجدنا أن هذه الكليات متدرجة حسب الأهمية: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فما يكون به حفظ الدين مقدم على ما يكون به حفظ النفس عند تعارضهما، وما يكون به حفظ النفس مقدم على ما به يكون حفظ العقل، وما به يكون حفظ النسل مقدم على ما به حفظ المال، والترتيب بهذا الشكل من هذه الكليات يحظى باتفاق العلماء.
51- سُنّة الابتلاء: من العبر والدروس في غزوة أحد ذلك الدرس الذي تجده ظاهرًا في جميع فصول هذه الغزوة وأحداثها، ألا وهو الابتلاء، فإن ابتلاء الله تعالى للمؤمنين سنة ماضية وراسخة، فيه من الفوائد والحكم ما لا يحصل بالعافية والأمن، فعلى رغم أن البلاء في هذه الغزوة كان مريرًا قاسيًا، إلا أن الله عاتب بعض من استنكر ذلك فقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 142)، فمن ظن أن الجنة تحصل له بأبخس الأثمان وأضعف الأعمال فقد أخطأ الحساب؛ إذ لابد للجنة من مهر يقدمه العبد في هذه الدنيا، به يتميز الأولياء من الأدعياء، فالبلاء يميز الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، والبلاء يكشف عن معادن الرجال.
كما قال الأول: جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي
فإن الله لما ابتلى المسلمين بهذه النازلة أبدى المنافقون رؤوسهم، وتكلموا بما كانوا يكتمون، وظهرت مخبأتهم، وعاد تلويحهم تصريحًا، وانقسم الناس في هذه الغزوة إلى كافر ومؤمن ومنافق، وعرف المؤمنون أن لهم عدوًا في أنفسهم، فماز الله بذلك الخبيث من الطيب، قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179).
فعرف المؤمنون في هذه الغزوة ضعفهم، وبها عرفوا أعداءهم، وهذبهم بها، ومحص قلوبهم، وجعلها سببًا لبلوغ منازل ودرجات قضى في سابق حكمه أنها لهم، قصرت عنها أعمالهم فاتخذ منهم شهداء كتب لهم أعلى المنازل ورفعهم أعلى الدرجات.
كما أن الله سبحانه وتعالى هيأ بما حدث في هذه الغزوة من البغي والعدوان على أولياء الله تعالى وأحبابه وأصفيائه، هيأ بذلك أسباب محق أعدائه؛ فإن الله إذا أراد أن يهلك أعداءه قيض لهم الأسباب التي يستحقون بها الهلاك والمحق، ومن أعظم هذه الأسباب بعد الكفر بالله بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه، وتفننهم في محاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: «من آذى لي وليًا فقد آذنته بالحرب».
فإذا عتا أعداء الله على أوليائه وحزبه فإن ذلك من أمارات وعلامات قرب محق الله لهم، قال الله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 140، 141).
وما تشهده الأمة اليوم من تسلط الكفار وأشياعهم على حزب الله وأوليائه ما هو إلا إحدى علامات قرب محق الله لهؤلاء المعتدين.
فالحمد لله الحكيم العليم الخبير.
وعلى ورثة الأنبياء من أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة أن يتقوا الله ويصبروا؛ فإن أجل الله قريب، وعليهم أن لا يضجروا إذا أصابهم أذى أو نزل بهم مكروه؛ فإن الله قد قال: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (المجادلة: 21).
وقد صدق القائل: لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
والابتلاء مهما طالت مدته وامتد وقته واشتدت كربته وتوالت أحداثه وكثرت ضحاياه فإن عاقبته أن يرتفع وينكشف فإنه: مهما دجى الليل فالتاريخ أخبرنا أن النهار بأحشــاء الدجى يثب
وينبغي لأولياء الله أن لا يهنوا ولا يذلوا لما نزل بهم من كرب أو حل بهم من ضيم؛ فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، لا يرفعها انكسار عسكري ولا يزيلها ضعفه، بل الأمر كما قال الله تعالى لأوليائه بعد انقضاء هذه المعركة: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139)، فإن ما أصابهم إنما هو في ذات الله تعالى، فعليهم أن يتجلدوا لأعدائهم والشامتين بهم.
كما قيل: وتجلُّدي للشامتين أُريهمُ أني لريب الدهر لا أتضعضع
وعلى أولياء الله أن يعلموا أنه إذا كان البلاء يصيب الرسل ومن معهم مع صحة إيمانهم وصدق بذلهم وعظيم جاههم عند الله تعالى فإصابته لمن دونهم أولى وأحرى.
والى هنا أكتفي وأسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن ينفعنا بما نقول ونسمع ونكتب وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم. |
| | | | غزوة اُحد دروس وعبر | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |