| | غزوة بدر دروس وعبر | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| | | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بدر دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 10:40 pm | |
| دروس وعبر من غزوة بدر 1- وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم: حين نودي على الجهاد وعد الله المؤمنين هذا الوعد: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 7].. والنفس البشرية دائمًا تميل إلى الراحة والدعة وتتوقى المشقة والضرر، ولو كان في الراحة الخسران وفي الضرر والمشقة النصر والتمكين وهذا ما حكاه القرآن، في هذا الوعد ويتأكد في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة؛ لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد.
قال الحسن: "لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك".
وأنشد أبو سعيد الضرير: ربّ أمرٍ تتقيه جرَّ أمرًا ترتضيه خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه
ومن كلام الحكماء: "ربّ مسرة هي الداء، ومرض وهو الشفاء".
وكما قيل: كم نعمةٍ مطويةٍ لك بين أنياب النوائب ومسرةٍ قد أقبلت من حيث ترتقب المصائب فاصبر على حدثان دهرك فالأمور لها عواقب ولكل كرب فرجة ولكل خالصة شوائب
و (عسى) من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة، وهو خير لكم في أنكم تَغلبون وتَظفرون وتَغنمون وتُؤجرون، ومن مات مات شهيدًا، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال، وهو شر لكم في أنكم تُغلبون وتُذلون ويذهب أمركم، ثم يقول القرطبي معقِّبًا: "وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهادَ، وجبُنوا عن القتال، وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد؟! وأسَرَ وقَتَل وسبى واسترقَّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته"!.
هذا الذي قاله الإمام القرطبي على الأندلس نقوله نحن عن فلسطين، وقد انتزعها بضعة ملايين من يهود، من أيدي مليار مسلم؛ وذلك لتركهم الجهاد، وقعودهم عن القتال، وإخلادهم إلى الأرض، وإتباعهم الشهوات؛ إذ الجهاد والقتال كريه إلى النفس وبغيض إلى القلب، بينما الترف والشهوات وزينة الأرض محبوبة إلى النفس ويهواها القلب، وغابت عنهم حقيقة هذه الآية، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وفي بدر ﴿ لِيُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الأنفال: 7].
2- قوة الإيمان هي السلاح البتار: فما الذي حمل هؤلاء الأصحاب على أن يقفوا هذا الموقف مع أن جذوة المعركة وجوانبها المادية؛ لتجعل أشدَّ الناس تفاؤلاً ينظر إلى آثارها من خلال غيوم سُود؟
إنه الإيمان بالله الذي يضع أمر الله ورسوله في جانب، والدنيا كلها في جانب آخر، وإنه التسليم لله ورسوله مهما حذَّر العقل، ونهت ظواهر الأشياء، وإنها الثقة التي لا تُجادل في أن الموت في الله شرف، لا يقل عن شرف النصر على الناس، وهيهات لمن يحمل هذه المبادئ أن يَذِلَّ أو يُهزَم، أو يكون بعيدًا عن تأييد الله ونصره.
وهكذا جرفت موجة الإيمان كافة عوامل التردد، وجاءت الساعة الرهيبة ودار القتال، ومشى مَلَك الموت يقطع رقاب الكفار، وتنجست الرمال بدماء الطائفة التي آذت الله ورسوله، وَوَطِئَت أقدام المسلمين حدودًا وجباهًا طالما استنكرت أن تسجد لله رب العالمين.
يقول شاهد عيان لأبي لهب يصف له ما كان: ولا تسيء يا عماه ما كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافَنَا يقتلونَنَا؛ ويأمرونَنَا كيف شاءوا.. لقينا رجالاً لا يتلقاهم شيء، ولا يقوم لهم شيء، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤمِنينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ* ذَلِكُم وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: 17ـ18].
وإذا كان الله قد أمر بإعداد ما نستطيع من قوة لمواجهة الأعداء؛ فإن أعظم القوة الإيمان الصادق بالله، وعدونا لا يخشى في ميدان المعركة الأسلحة التي بأيدينا، ولكنه يخشى من سلاح الإيمان الذي يستمد قوته من الله؛ لأنه السلاح الذي لا يقهر واليقين الذي لا يغلب، ولا أدلَّ على ذلك في عصرنا الحاضر من تسخير الأعداء كل قواهم لاغتيال الشيخ أحمد ياسين، وهو القعيد الذي لا يحمل طلقةً، ومن قبله يتآمر العالم على اغتيال الإمام البنا- رحمهما الله- الأعزل من أي سلاح، وليس لذلك من سبب إلا الخوف من مخازن أسلحة الإيمان، فالمصلحون المخلصون والدعاة الصادقون يحملون بين جنباتهم مصانع إيمان تبث إنتاجها في قلوب من حولهم، ويمدون به كل جبان رعديد، فإذا به في الميدان أسدٌ هصورٌ، كما يبعث الإيمان بالأمل في قلوب اليائسين القانطين، فيتوجهون لملاقاة العدو، وكلهم يقين أن نصر الله آتٍ، وأن التمكين لهم قريب: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران160].
3- قوة الترابط بين المؤمنين: وبعد قوة الإيمان تأتي قوة الترابط بين المؤمنين والمحبة فيما بينهم والتآلف بين قلوبهم، وهذه منَّةٌ من الله ومن أعظم أسرار النصر: يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 62-63].
وقفنا أمام غزوة بدر الكبرى، فعلمنا أن من أسباب النصر العظيمة تآلف القلوب وتراحمها، كان أصحاب النبي في قلة من العدد والعدة، ولكن كانت بينهم المحبة والصفاء والمودة، كانوا متراحمين متعاطفين متآلفين متكاتفين متناصرين متآزرين، شعارهم: لا إله إلا الله فسبحان من أعزهم وهم أذلاء، سبحان من أغناهم وهم فقراء، سبحان من رفعهم وهم وضعاء.
التآلف والتعاطف والتكاتف والتناصر والتآزر سبيل إلى نصر المؤمنين، طريق لعزة الأخيار والصالحين، فإن وجدت أهل الإسلام متعاطفين متراحمين فاعلم أن النصر حليفهم، وإن وجدتهم متقاطعين متباعدين متناحرين، إن مزقتهم الجماعات والحزبيات والرايات والشعارات فادمع على الإسلام بين أهله.
إن من أبرز سمات معركة بدر أنه تلاشت فيها العصبيات والقبليات وعبية الجاهلية، فلم يكن المسلمون ينتصرون لقبيلة أو لون أو جنسية، بل كانوا ينصرون الإسلام وأهله ويواجهون المشركين أعداء الله بغض النظر عما بينهم من خلافات إن وُجد بينهم خلافات، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 76].
وهذا هو حال المسلم في كل مكان وزمان، ينصر إخوانه المسلمين ولو اختلفت ألسنتهم وألوانهم؛ لأنه بذلك ينصر الدين والعقيدة والملة، فالمسلمون يوم بدر قاتل الأخ أخاه والابن أباه، فلا مجال للمساومات؛ إذ العقيدة لا تقبل المساومات ولا التنازلات.
ولقد استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة في أسرى بدر، فقال عمر له: أرى أن تمكّنّا فنضرب أعناقهم، فتمكِّن عليًّا من أخيه عقيل فيضرب عنقه، وتمكّنّي من فلان نسيبي فأضرب عنقه، وأشار أبو بكر على الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يقبل الفدية ففعل، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: 67].
وما أحسن بيان هذا المعنى في قول الإمام البنا: "ولقد كنت -ولا زلت- أقول في كل مناسبة: "إنكم لن تُغلَبوا أبدًا من قلة عددكم، ولا من ضعف وسائلكم، ولا من كثرة خصومكم، ولا من تألُّب الأعداء عليكم، ولو تجمع أهل الأرض جميعًا ما استطاعوا أن ينالوا منكم، إلا ما كتب الله عليكم، ولكنكم تُغلبون أشدَّ الغلب، وتفقدون كل ما يتصل بالنصر والظفر بسبب إذا فسدت قلوبكم، ولم يصلح الله أعمالكم، أو إذا تفرقت كلمتكم، واختلفت آراؤكم.. أما ما دمتم على قلب رجل واحد متجه إلى الله تبارك وتعالى، آخذ في سبيل طاعته، سائر نهج مرضاته، فلا تهنوا أبدًا ولا تحزنوا أبدًا، وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم".
والحديث عن غزوة بدر في سورة الأنفال يؤيد هذا المعنى؛ حيث يقول تعالى في صدر السورة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1 ].
فإصلاح ذات البين وتوحيد الصف، ورفع النزاع والخصومة بين المؤمنين من أولى مقومات النصر ولوازمه، والتفرق والتنازع من أعظم مسببات الضعف والفشل.. ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 42].
4- الثبات وذكر الله عند لقاء الأعداء: في الحديث عن غزوة بدر، والتعقيب عليها في سورة الأنفال يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45] أمر الله تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه، بل يستغيثوا به ويتوكلوا عليه أن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على أعدائهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [ البقرة: 250]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147].
5- الشورى بين القائد الجند: لما بلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نجاةُ القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي -صلى الله عليه وسلم- استشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في الأمر, وأبدى بعض الصحابة عدم ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربية مع قريش، حيث إنهم لم يتوقعوا المواجهة ولم يستعدوا لها، وحاولوا إقناع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بوجهة نظرهم.
وقد أجمع قادة المهاجرين على تأييد فكرة التقدم لملاقاة العدو, وكان للمقداد بن الأسود موقفٌ متميزٌ، فقد قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عُدلَ به: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك, وبين يديك وخلفك.
فرأيت الرسول -صلى الله عليه وسلم- أشرق وجهه وسرَّه، وفي رواية: قال المقداد: يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ ولكن امضِ ونحن معك، فكأنه سرَّى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وبعد ذلك عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، وكان إنما يقصد الأنصار؛ لأنهم غالبية جنده، ولأن بيعة العقبة الثانية لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول -صلى الله عليه وسلم- خارج المدينة، وقد أدرك الصحابي سعد بن معاذ، وهو حامل لواء الأنصار، مقصد النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فنهض قائلاً: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: «أجل»، قال: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله).
سُرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- من مقالة سعد بن معاذ، ونشطه ذلك فقال -صلى الله عليه وسلم-: «سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» .
كانت كلمات سعد مشجعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وملهبة لمشاعر الصحابة فقد رفعت معنويات الصحابة وشجعتهم على القتال.
إن حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على استشارة أصحابه في الغزوات يدل على تأكيد أهمية الشورى في الحروب بالذات؛ ذلك لأن الحروب تقرر مصير الأمم، فإما إلى العلياء، وإما تحت الغبراء.
6- استكشاف قوة الأعداء: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- باستكشاف قوة الأعداء بنفسه؛ حيث صحب أبا بكر، وتجوَّلا حول معسكر مكة، فوجدا شيخًا من العرب فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قريش وعن محمد وأصحابه- سأل عن الجيشين زيادةً في التكتم- ولكن الشيخ قال لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أخبرتنا أخبرناك»، قال: أو ذاك بذاك؟ قال: «نعم» قال الشيخ: "فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذي به جيش المدينة- وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذي به جيش مكة".
ولما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «نحن من ماء»، ثم انصرف عنه وبقي الشيخ يتفوَّه، ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟!
ثم أرسل ثلاثة من قادة المهاجرين، علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، في نفر من الصحابة إلى ماء بدر فوجدوا غلمانًا يستقون لجيش مكة، فألقوا عليهم القبض وجاءوا بهم والرسول -صلى الله عليه وسلم- يصلي، فقالوا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهم فضربوهم، فقالوا: نحن لأبي سفيان، ونحن في العير، فأمسكوا عنهم، فسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: «إن صدقوكم ضربتموهم وإذا كذبوكم تركتموهم؟» ثم أقبل عليهم يسألهم، فأخبروه أن قريشًا خلف هذا الكثيب وأنهم ينحرون يومًا عشرًا ويومًا تسعًا، وأعلموه بمن خرج من مكة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «القوم ما بين الألف والتسعمائة»، وقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها «.
كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- حرصه على معرفة جيش العدو والوقوف على أهدافه ومقاصده؛ ولأن ذلك يعينه على رسم الخطط الحربية المناسبة لمجابهته وصد عدوانه, فقد كانت أساليبه في غزوة بدر في جمع المعلومات تارة بنفسه وأخرى بغيره، وكان -صلى الله عليه وسلم- يطبق مبدأ الكتمان في حروبه، فقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية هذا المبدأ قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 83]. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بدر دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 10:44 pm | |
| 7- المسلم الصادق موصول بجند السماء: إن المسلم في مواجهته للباطل يحشد ما استطاع من قوة، ولا يدَّخر في ذلك وُسعًا، ثم هو بعد ذلك لا يرهب قوة الأعداء، وإن كانت تفوقه عددًا وعتادًا؛ لأنه على يقين من أنه ليس في الميدان وحده، وإنما معه جند الله الذي لا يعلمها إلا هو، وفي بدر يتجلى ذلك في مواقف عدة؛ حيث تنتصر القلة المؤمنة على الكثرة المشركة وذلك بفضل ما سخر الله للمسلمين من جند السماء والأرض...
والتي كان منها: أ- الملائكة مدد من السماء: حين استغاث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين بربهم أمدهم بالملائكة: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9]، والمتأمل يرى أن عدة الملائكة بعدة المشركين، وبذلك يتحقق ما أخبر به الله من البشرى والطمأنينة للمؤمنين: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 10].
ب- النوم والمطر: قبل المعركة كان المسلمون في حالة من التعب والإعياء والخوف يحتاجون معها إلى قسط من الراحة قبل المواجهة، كما أن ساحة المعركة كانت في حاجة إلى تجهيز وإعداد بما يمكِّن المسلمين من الحركة في الميدان وفي المقابل يعوق حركة المشركين؛ فأنزل الله عليهم النعاس والمطر.. ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾ [الأنفال: 11].
يقول الماوردي: "وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما: أن قوَّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني: أن أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يقال: الأمنُ مُنِيم، والخوف مُسْهِر ، وعن علي -رضي الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائمٌ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي تحت الشجرة حتى أصبح ، وعن عروة بن الزبير -رضي الله عنه- قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهسًا، وأصاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه منها ما لبَد الأرض ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشًا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ، وروي أنهم كانوا على جنابة وظمأ، وأن الشيطان ألقى في قلوبهم الحزن، وقال: أتزعمون أن فيكم نبيًّا، وأنكم أولياء الله، وتصلون مجنبين محدثين؟! فأنزل الله من السماء ماءً فسال عليهم الوادي ماءً؛ فشرب المسلمون وتطهَّروا وثبت أقدامهم وذهبت وسوسته.
ج- سلاح الرعب: إن سلاح الرعب من أقوى الأسلحة التي يتحقق بها الغلبة على الأعداء، وهذا السلاح إذا سرى في أقوى الجيوش وأعتاها، فإنه ينهار ولا يغني عنه لا عدد ولا عتاد، وهذا السلاح لا يملك خزائنه إلا من يقدر على الوصول إلى القلب الذي هو محلّ التثبيت والخوف والهلع، وتأمل قول رب القلوب: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: 12].
ومن خصائص نبينا -صلى الله عليه وسلم- وخصائص الأمة الإسلامية النصر بالرعب مسيرة شهر؛ فعن جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أُعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة«.
إن الرعب سلاح يفتك بالمشركين والكافرين قبل المواجهة، قال الله تعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ [آل عمران: 151]، وفي حق يهود يقول: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار﴾ [الحشر: 2]، وفي حق الأحزاب: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ [الأحزاب: 26]؛ فسلاح الرعب سلاح ينفذ إلى أعماق القلوب، فيسلب من أصحابها العقلَ والحسَّ، ويجعلها في حالة من الذهول واللا وعي ﴿لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 264].
8- من يحارب الإسلام إنما يحارب الله: إن الذين ينصبون لواء الحرب والعداء على الإسلام والمسلمين إنما يعلنون الحرب على الله، ومن يعلن الحرب على الله لن تقوم له قائمة مهما كان عدده وعتاده، والعجيب أن قريشًا كانت تعلم ذلك، وهذه الواقعة تؤكد ذلك؛ فقد جاء في تفسيرقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال: 47].
عند القرطبي أن المقصود بالآية: «يعني أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير, خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث خُفاف الكناني, وكان صديقا لأبي جهل، بهدايا إليه مع ابن عم له، وقال: إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي مع ما خف من قومي، فقال أبو جهل: إنا كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرًا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرًا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا؛ فتهابنا آخر الأبد، فوردوا بدرًا، ولكن جرى ما جرى من هلاكهم».
9- خُطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر ترسم طريق النصر: كل هذه المعاني السابقة وغيرها تجدها في خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر؛ حيث حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، وأنهاكم عما نهاكم عنه، فإن الله عظيم شأنه، يأمر بالحق ويحب الصدق، ويعطي على الخير أهله على منازلهم عنده، به يذكرون وبه يتفاضلون، وإنكم قد أصبحتم بمنزل الحق لا يقبل الله فيه أحد إلا ما ابتُغي به وجهه، وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهمَّ، وينجي به من الغَمِّ، وتدركون النجاة في الآخرة، فيكم نبي الله يحذركم ويأمركم، فاستحيوا اليوم أن يطلع الله عز وجل على شيء من أمركم يمقتكم عليه، فإن الله يقول: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [غافر10].
انظروا الذي أمركم به من كتابه وأراكم من آياته، وأعزَّكم به بعد ذلة؛ فاستمسكوا به يرضى به ربكم عنكم، وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمرًا تستوجبوا الذي وعدكم به من رحمته ومغفرته؛ فإن وعده حق، وقوله صدق، وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا وإليه المصير، يغفر الله لي وللمسلمين»).
10- مروءة ووفاء: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل أبي البختري وفاءً لما قدم له من معروف وهو بمكة؛ لأنه كان كفَّ القوم عنه وهو بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغ عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض صحيفة المقاطعة، ولكن أبا البختري قُتل؛ حيث إن المجذر بن زياد لقيه في المعركة مع صاحب له يقاتلان سويًّا فقال المجذر: يا أبا البختري إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نهانا عن قتلك، فقال: وزميلي؟! فقال: لا.. والله ما نحن بتاركي زميلك ما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بك وحدك؛ فقال: لا والله إذن لأموتن أنا وهو جميعًا، لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصًا على الحياة.
فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبى إلا القتال، يرتجز: لن يُسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله فاقتتلا، فقتله المجذر إلى قتله).
11- أخوة الإيمان تعلو على أخوة النسب: كان مصعب بن عمير ا حامل لواء المسلمين، وكان أخوه أبو عزيز بن عمير في صف المشركين، ثم وقع أسيرًا في يد أحد الأنصار، فقال مصعب للأنصاري: شد يدك به فإن أمه ذات متاع، فقال أبو عزيز: يا أخي هذه وصيتك بي؟ فقال مصعب: إنه أخي دونك، تلك كانت حقائق وليس مجرد كلمات: إنه أخي دونك, إنها القيم المطروحة لتقوم الإنسانية على أساسها, فإذا العقيدة هي آصرة النسب والقرابة وهي الرباط الاجتماعي، فرابطة الإيمان أعلى الروابط وأبقاها، وتعلو على روابط الدم والنسب والأرض.
12- سيف عكاشة والمعجزة: وذكر ابن القيم في زاد المعاد: أن سيف عُكَّاشة بن محصن انقطع يومئذ، فأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- جذلا من حطب، فقال: «دونك هذا» فلما أخذه عكاشة وهزه، عاد في يده سيفًا طويلاً شديدًا أبيض، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة أيام أبي بكر.
وقال رفاعة بن رافع: "رميت بسهم يوم بدر، ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعا لي، فما آذاني منها شيء".
قال الدكتور أبو شهبة: "وما ينبغي لأحد أن يزعم أن المعجزات الحسية لا ضرورة إليها بعد القرآن، فها هي قد بدت آثارها واضحة جلية في إسلام البعض، وتقوية يقين البعض الآخر، وإثبات أنه نبي يوحى إليه، فقد أخبر بمغيبات انتفى في العلم بها كل احتمال إلا أنه خبر السماء، وغير خفي ما يحدثه من انقلاب عود أو عرجون في يد صاحبه سيفا بَتَّارًا في إيمانه وتقوية يقينه، وجهاده به جهادًا لا يعرف التردد أو الخور، وحرصه البالغ على أن يخوض المعارك بسيف خرقت به العادة وصار مثلاً وذكرى في الأولين والآخرين.
13- حقيقة النصر من الله تعالى: إن حقيقة النصر في بدر كانت من الله تعالى قال سبحانه فقد بين سبحانه وتعالى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى في قوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 126], وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 10].
في هاتين الآيتين تأكيد على أن النصر لا يكون إلا من عند الله عز وجل, والمعنى: ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و(العزيز) أي: ذو العزة التي لا ترام, و(الحكيم) أي: الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى.
ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه مع التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده, وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون، لكن يجب أن لا يغتروا بها، وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين، وأن النصر الذي كان في بدر، وقتلهم المشركين، ورمي النبي -صلى الله عليه وسلم- المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته.
وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه, قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 17].
ولما بيَّن سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده، وضح بعض الحكم من ذلك النصر، قال تعالى: ﴿لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران: 127، 128].
وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتذكروا دائماً تلك النعمة العظيمة؛ نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر, قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال: 26]. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بدر دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 10:49 pm | |
| 14- يوم الفرقان: سُمي يوم بدر يوم الفرقان, ولهذه التسمية أهمية عظيمة في حياة المسلمين، وقد تحدَّث الأستاذ سيد قطب عن وصف الله تعالى ليوم بدر بأنه يوم الفرقان في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41]، فقال: كانت غزوة بدر، التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده, فرقانًا بين الحق والباطل، كما يقول المفسرون إجمالاً، وفرقانًا بمعنى أشمل وأدق وأوسع وأعمق كثيرًا.
كانت فرقانًا بين الحق والباطل فعلاً.. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء.. الحق الذي يتمثل في تفرد الله سبحانه بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة، ولهذا السلطان المتوحد, ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك, والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك، ويغشي على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء, وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء، فهذا الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر، حيث فرق بين ذلك الحق الكبير، وهذا الباطل الطاغي، وزيَّل بينهما فلم يعودا يلتبسان.
لقد كانت فرقانًا بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد، كانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير؛ فرقانًا بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور, وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية، وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص، والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات, وكانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر, كذلك فرقانًا بين العبودية الواقعية للأشخاص، والأهواء، وللقيم والأوضاع والشرائع والقوانين وللتقاليد والعادات, وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم دونه، ولا مشرع إلا إياه، فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس فلا تخضع إلا لحاكميته وشرعه، وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة.
وكانت فرقانًا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد المصابرة والصبر والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، والإسلام بوصفه تصويرًا جديدا للحياة, ومنهجًا جديدًا للوجود الإنساني، ونظامًا جديدًا للمجتمع، وشكلاً جديدًا للدولة، بوصفه إعلانًا عامًّا لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته, ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته.
إلى أن قال: وأخيرًا فلقد كانت بدر فرقانًا بين الحق والباطل بمدلول آخر، ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾.
لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة، فأراد الله لهم غير ما أرادوا، أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان (غير ذات الشوكة)، وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشوكة), وأن تكون معركة وقتالاً وقتلاً وأسرًا، ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة، وقد قال الله سبحانه: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة، إن الحق لا يحق وإن الباطل لا يبطل -في المجتمع الإنساني- بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حقٌّ وهذا باطلٌ، إن الحق لا يحق, وإن الباطل لا يبطل, ولا يذهب من دنيا الناس، إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا ويهزم جند الباطل ويندحروا، فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد نظرية للمعرفة والجدل، أي لمجرد الاعتقاد السلبي.
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة، وكان هذا النصر العملي فرقانًا واقعيًا بين الحق والباطل بهذا الاعتبار الذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته سبحانه من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بيته بالحق، ومن وراء إفلات القافلة (غير ذات الشوكة) ولقاء الفئة ذات الشوكة.
ولقد كان هذا كله فرقانًا بين منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم.. وإنه لفرقان ندرك به اليوم ضرورته، حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين، حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين، وهكذا كان يوم بدر: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: 41].
بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة، والله على كل شيء قدير، وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء، مثل لا يجادل فيه مجادل، ولا يماري فيه ممارٍ.. مثل من الواقع المشهود، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله، وأن الله على كل شيء قدير.
15- الولاء والبراء من فقه الإيمان: رسمت غزوة بدر لأجيال الأمة صورًا مشرقة في الولاء والبراء, وجعلت خطًا فاصلاً بين الحق والباطل، فكانت الفرقان النفسي والمادي والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني, فعاشها الصحابة واقعًا ماديًّا وحقيقة نفسية، وفيها تهاوت القيم الجاهلية.
فالتقى الابن بأبيه والأخ بأخيه: 1- كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة في صف المسلمين، وكان أبوه عتبة وأخوه الوليد وعمه شيبة في صف المشركين، وقد قتلوا جميعًا في المبارزة الأولى. 2- كان أبو بكر الصديق في صف المسلمين.. وكان ابنه عبد الرحمن في صف المشركين. 3- كان مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين، وكان أخوه أبو عزيز بن عمير في صف المشركين، ثم وقع أسيرًا في يد أحد الأنصار، فقال مصعب للأنصاري: شد يدك به فإن أمه ذات متاع، فقال أبو عزيز: يا أخي هذه وصيتك بي؟ فقال مصعب: إنه أخي دونك، تلك كانت حقائق وليس مجرد كلمات: إنه أخي دونك, إنها القيم المطروحة لتقوم الإنسانية على أساسها, فإذا العقيدة هي آصرة النسب والقرابة وهي الرباط الاجتماعي . 4- كان شعار المسلمين في بدر (أَحَدٌ، أَحَدٌ) وهذا يعني أن القتال في سبيل عقيدة تتمثل بالعبودية للإله الواحد، فلا العصبية ولا القبلية, ولا الأحقاد والضغائن, ولا الثأر هو الباعث والمحرك، ولكنه الإيمان بالله وحده.
ومن هذا المنطلق كانت صور الإيمان مختلفة المظاهر واحدة في مضمونها, وللإيمان فقه عظيم, ومن هذا الفقه حينما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، هاجر إليها كل من استطاع ذلك من المسلمين في مكة، وحبس من كان مضطهدًا ولم يستطع ذلك, فلما كان يوم بدر كان بعض هؤلاء في صف المشركين منهم: عبد الله بن سهيل بن عمرو، والحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه.
فأما عبد الله بن سهيل بن عمرو فقد انحاز من صف المشركين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشهد المعركة، وكان أحد الصحابة الذين نالوا هذا الشرف العظيم .
وأما الآخرون فلم يفعلوا ذلك، وشهدوا المعركة في صف المشركين وقد أصيبوا جميعًا فقتلوا تحت راية الكفر، فنزل في حقهم قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كان قوم من المسلمين أقاموا بمكة، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم, فأصيب بعضهم, فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا على الخروج، فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾ إنهم لم يُعذروا إذ كانت إمكانات الانتقال إلى صف المؤمنين متوافرة، ولم يكن الفاصل كبيرًا بين الصفين، ولن يعدموا لو أرادوا الفرصة في الانتقال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما فعل عبد الله بن سهيل.
إن للإيمان مستلزمات تعبر عن صدقه وقوته، ومن مستلزماته استعلاؤه على كل القيم مما سواه, فإذا كان كذلك كان لأصحابه الأثر الفعال، والقوة الفاعلة في بناء الحق والخير الذي أراده الله، إن الإيمان يصبغ السلوك، فإذا به يشع من خلال الحركة والجهد، ومن خلال الكلمة والابتسامة، ومن خلال السمت والانفعال؛ ولذا لم يعذر الذين كانوا في صف المشركين؛ لأن الإيمان الذي ادعوه لم توجد له مستلزمات فلم يؤت ثماره .
ولهذا الفهم العميق لفقه الإيمان ضرب الصحابة الكرام في بدر مُثلاً عُليا لصدق الإيمان، التي تدل على أنهم آثروا رضاء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على حب الوالد والولد والأهل والعشيرة، فلا يعجب المسلم من ثناء الله تعالى على هذه المواقف الصادقة في قوله تعالى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22].
16- المعجزات التي ظهرت في بدر وما حولها: من المعجزات التي ظهرت على يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بدر إخباره عن بعض المغيَّبات، ومن المعلوم أن علم الغيب مختص بالله تعالى وحده، وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه الكريمة في غير آية من كتابه العزيز، قال تعالى: ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: 65].
وقال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].
ومن المعلوم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يعلمون الغيب ولا اطلاع لهم على شيء منه، فقد قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 50]، وكما جاءت الأدلة تدل على أن الله تبارك وتعالى قد اختص بمعرفة علم الغيب، وأنه استأثر به دون خلقه، جاءت أدلة تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل فأودعهم، ما شاء الله من غيبه بطريق الوحي إليهم, وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم﴾ [آل عمران: 179]، وقال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: 26، 27].
فنخلص من ذلك أن ما وقع على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأخبار بالمغيبات فبوحي من الله تعالى, وهو إعلام الله عز وجل لرسوله -صلى الله عليه وسلم- للدلالة على ثبوت نبوته وصحة رسالته, وقد اشتهر وانتشر أمره -صلى الله عليه وسلم- باطلاع الله له على المغيبات.
وكان لأحداث غزوة بدر نصيب من تلك المعجزات الغيبية منها: 1- مقتل أمية بن خلف: فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرًا، قال: فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد، فقال أمية لسعد: ألا تنظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت؟ فبينما سعد يطوف إذا أبو جهل، فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة، فقال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدًا وأصحابه؟ فقال: نعم, فتلاحيا بينهما, فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي.
ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام، قال: فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك، وجعل يمسكه فغضب سعد فقال: دعنا عنك.
فإني سمعت محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال: نعم.
قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أنه سمع محمدًا يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد، قال: فلما خرجوا إلى بدر جاء الصريخ, قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فأراد ألا يخرج، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يومًا أو يومين، فسار معهم يومين فقتله الله.
2- مصارع الطغاة: فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل يقول لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: «هذا مصرع فلان غدًا، إن شاء الله» قال: فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
3- إخبار العباس بن عبد المطلب بالمال الذي دفنه, وإعلام عمير بن وهب بالحديث الذي حدث بينه وبين صفوان: ومن ذلك لما طلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عمه دفع الفداء، وأجابه العباس: ما ذاك عندي يا رسول الله، فقال له: «أين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلتَ لها: إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم»، قال: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا الأمر ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل.
وما حدَّث به عمير بن وهب لما جاء متظاهرًا بفداء ابنه، وهو يريد قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- باتفاق مع صفوان بن أمية، فقد أنبأه نبأ المؤامرة، فكانت سببًا في إسلامه وصدق إيمانه.
17- حكم الاستعانة بالمشرك: في غزوة بدر -في الأحداث التي سبقتها- أراد مشرك أن يلحق بجيش المسلمين, وطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- الموافقة على قبوله معهم، والاشتراك فيما هم ذاهبون إليه فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ارجع فلن أستعين بمشرك»فالحديث يبين أن القاعدة والأصل عدم الاستعانة بغير المسلم في الأمور العامة، ولهذه القاعدة استثناء، وهو جواز الاستعانة بغير المسلم بشروط معينة وهي: تحقق المصلحة، أو رجحانها بهذه الاستعانة، وألا يكون ذلك على حساب الدعوة ومعانيها، وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به، وأن يكون تابعًا للقيادة الإسلامية، لا متبوعًا، ومقودًا فيها لا قائدًا لها، وألا تكون هذه الاستعانة، مثار شبهة لأفراد المسلمين، وأن تكون هناك حاجة حقيقية لهذه الاستعانة وبمن يستعان به، فإذا تحققت هذه الشروط جازت الاستعانة على وجه الاستثناء، وإذا لم تتحقق لم تجز الاستعانة.
وفي ضوء هذا الأصل رفض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشتراك المشرك مع المسلمين في مسيرهم إلى عير قريش إذ لا حاجة به أصلاً, وفي ضوء الاستثناء وتحقق شروطه استعان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمشرك عبد الله بن أريقط الذي استأجره النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر في هجرتهما إلى المدينة؛ ليدلهما على الطريق إليها.. وهكذا على هذا الاستثناء وتحقق شروطه قبل -صلى الله عليه وسلم- حماية عمه أبي طالب له، كما قبل جوار أو إجارة المطعم بن عدي له عند رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف، وكذلك قبول الصحابة الكرام جوار من أجارهم من المشركين ليدفع هؤلاء الأذى عمن أجاروهم، وضبط هذه القاعدة مع فهم شروط الاستثناء في واقع الحياة يحتاج إلى فقه دقيق وإيمان عميق. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بدر دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 11:15 pm | |
| 18- النصر مع الصبر: من عِبَر يوم بدر أخذنا أن الصبر مفتاح الفرج فما ضاقت الأمور على من صبر، الصبر مفتاح الخير.
أخذنا من غزوة بدر أن مع العسر يسرًا، وأن عاقبة الصبر خير ﴿واصبر وما صبرك إلا بالله﴾ [النحل: 127].
صبر حبيب الله ورسول الله فأقر الله عينه ونصر الله حزبه: ﴿بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا﴾ [آل عمران: 125].
فإن وجدت عبدًا من عباد الله قد صُبَّتْ عليه المِحَن والبلايا من الله ونَصَبَ وجهه صَابرًا لله، فبشره بحسن العاقبة والمآل من الله، علمنا أن الصبر عواقبه الخير، ولقد صدق رسول الهدى إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: «ما أُعطي عبد عطاء أفضل من الصبر».
بالصبر يتوسع ضيق الدنيا، وبالصبر تتبدد همومها وغمومها وأحزانها، يطيب العيش وترتاح النفوس وتطمئن القلوب، وصدق عمر وأرضاه إذ قال: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر).
19- سر الانتصار: والحق أن "الإسلام" هو السر وراء انتصار المسلمين الفريد، وهو ما تكشف عنه المقارنة بين حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده، فقد حدث لهم "تحول عظيم" كان من بين مظاهره أن المسلم أصبح له وزن كبير في موازين القوى، وها هو "المثنى بن حارثة الشيباني" يصف الفرق بين المقاتل العربي في الجاهلية وهذا المقاتل ذاته بعد الإسلام فيقول: "قد قاتلت العرب والعجم الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد علي من ألف من العرب، ولمائة اليوم من العرب أشد علي من ألف من العجم".
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتاله دفاعًا عن الدين يحارب عربًا بعرب، بل قرشيين بقرشيين، فلا يمكن أن تكون هناك مزايا لدى طرف دون طرف في القوة والشجاعة، فالسر وراء انتصار المسلمين هو أن الإسلام وجه نزعات العرب في نفوسهم إلى غاية عظمى رفعت أقدارهم، وهي إعلاء كلمة الله، وإعزاز راية دينه، وما يدخل في مفهوم كلمة سبيل الله من قيم فاضلة وقضايا عادلة وأهداف نبيلة، وكان الإسلام حريصًا على أن يزود المسلمين بتلك الدوافع التي تملأ نفوسهم حمية واستبسالاً، ولهذا كان "حساب المقاتل المجاهد " في الحرب وفي ميزان القوى مقدرًا بما في قلبه من عقيدة وإيمان، وربما في نفسه من مبادئ يُحارب عنها، وأسباب تدعوه إلى خوض هذه الحرب.
وهذا ما نجده في قول الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65]، وذلك لأن الذين كفروا قد خلت نفوسهم من المبادئ الكريمة والدوافع الصادقة، ولذلك "حُرموا الفقه" الذي كان من شأنه أن يبصرهم بالمبادئ التي يقاتلون عليها، والمثل التي يدافعون عنها، ومن حرم هذا الفقه في مجال الحرب، فقد تعرى من كل سلاح يدافع به، وكانت عاقبته الهزيمة والبوار.
وقد برز ذلك في أول مواجهة بين المسلمين والكفار في غزوة بدر الكبرى، إذ كان هدف المسلمين "إعلاء كلمة الله"، بينما كان هدف المشركين ما عبَّر عنه قول زعيمهم أبي جهل: "والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا ننحر الجزور ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها.
فإذا ما تأملنا موقف المسلمين، فإننا نجد الإسلام ينزه المقاتل عن دوافع المفاخرة أو حب الظهور أو الرغبة في الثناء، فهو لا يستحق الجنة ولا يجد ريحها إلا إذا كان جهاده خالصًا من أجل إعلاء كلمة الله، فقد سُئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يُقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».
قال الحسن بن الربيع: خرج فارس ملثم فقتل فارسًا من العدو كان قد نال من المسلمين، فكبر له المسلمون، وعاد ودخل في غمار الناس ولم يعرفه أحد فتتبعته حتى سألته بالله أن يرفع لثامه، فعرفته وقلت أخفيت نفسك من هذا الفتح العظيم الذي يسره الله على يديك! فقال "الذي فعلت له، لا يخفى عليه عملي".
20- صفات المنصورين: المؤمنون الذين ضمن الله لهم النصر وأخبر أن لهم الغلبة ولا سلطان للكافرين عليهم، ذكرهم الله -تعالى- في أوائل سورة الأنفال، حيث قال -تعالى- مبينًا صفة المؤمنين المنصورين في الدنيا والآخرة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 2 -4].
فهؤلاء هم المنصورون والسعداء في الدنيا والآخرة "ما داموا" متصفين بهذه الصفات الخمس التي وصفهم الله بها، أما إذا حادوا عن دينهم وعدلوا عن كتاب ربهم، عند ذلك يتخلى الله عنهم وعن نصرهم: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “ويقول: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي”، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لسعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-: "وآمرك ومن معك من الأجناد أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليه من عدوه، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله".
21- نصر الله سنة ماضية: نصر الله للمؤمنين سنة ماضية يشهد بها سجل التاريخ الإسلامي في عهد النبوة وفي فتوح الإسلام ومعارك المسلمين ضد الصليبيين والمغول وغيرهما.
ولقد سأل الإمبراطور البيزنطي هرقل قادته: أخبروني ويلكم من هؤلاء القوم الذين تلقونهم؟ أليسوا بشرًا مثلكم؟..
فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: نحن أكثر منهم أضعافًا، وما لقيناهم في موطن إلا ونحن أكثر منهم.
قال: ويلكم فما بالكم تنهزمون إذا لقيتموهم؟.. فقام شيخ من الحاضرين يجيب عن سؤاله فكان مما قال: من أجل أن القوم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يظلمون أحدًا ويتناصفون فيما بينهم، إذا حملنا عليهم صبروا، وإذا حملوا علينا لم يكذبوا.!!
وتلك وقفةٌ ينبغي أن تقفَها الأمةُ كلها، وهي في حال انكسارها وتراجعها؛ لتستمد من تاريخها نورًا يبدد ظلام حاضرها، ورُشدًا لمن ضلَّ منها عن طريقه، وهدًى للسائرين في ضلالة، والخابطين خبطَ عشواء؛ حتى لا نبدو كأننا أمةٌ لا تاريخَ لها تفيدُ منه، ولا جذورَ لها تستعصم بها، على أن وقائع يوم بدر لم تكن مجرد تاريخ ينبغي تدبُّره، بل كانت قرآنًا يُتلى إلى قيام الساعة، ومواقف نبوية مركوزة في ضمير أمتنا ووعيها.
إن شعوبنا المسحوقة قهرًا وعسفًا، وطغيانًا وعجزًا، في حاجة إلى أن تتدبر قولَ ربنا عن الجماعة المؤمنة يوم بدر: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران: 123]، وقوله عن أصحاب الدعوات على امتداد تاريخ الصراع بين الحق والباطل (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249]، وتدركَ أن النصر من عند الله وحدَه، يمنحه من نصَرَ دينه وأعزَّ دعوتَه، وأعدَّ عدتَه، وأجادَ التوكلَ عليه، بغير نظر إلى قلةٍ أو كثرةٍ.. ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 9-10]، وقوله -تعالى-: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: 12] وقوله تعالى -: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 17].
أيها المجاهدون المستضعفون في أقطار الأرض, يا أهلَنا في فلسطين والعراق والشام وأفغانستان وكشمير والشيشان وغيرها، يا مَن استُبيحت أوطانُهم، واحتُلَّت بلادُهم، وانتُهكت حرماتُهم، ودِيست مقدساتُهم، لا يكادُ يشعر بهذه الآيات القرآنية الكريمة أحدٌ مثلما تشعرون أنتم بها، وقد أحسستم عزة الإسلام رغم قهر أعدائكم، وتخاذل المنافقين عنكم، وخيانات المارقين لكم، ورأيتم من تباشير النصر وآيات الرحمن وكريم لطفه وعزيز تأييده ما عَمِيت عن إدراكه عيونُ القاعدين والمثبِّطين والخائرين والعاجزين.. ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139].
إن جهادكم ليس عدوانًا على أحد، ولا إرهابًا كما يرجُف المرجِفون، بل أنتم من اعتدى عليه المجرمون، وأرادوا لهم الخَسْف والهوان، وفُرض عليكم القتال فرضًا، فلابديلَ لكم عنه، وهو كريهٌ إلى أنفسكم، وكذلك كان شأنُ أسلافكم يوم بدر.. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
وهم إنما خرجوا لاسترداد بعض أموالهم التي سلبَها منهم المشركون، ففاتتْهم العيرُ، ووجدوا أنفسَهم في مواجهة النفير وجحافل الشرك في غروره وعُجْبه، وقد ﴿خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال: 47].
فكونوا على ثقة أن اختيارَ اللهِ لكم- حين فرضَ عليكم الجهاد وردَّ عاديةَ الظالمين- خيرٌ من اختياركم لأنفسكم، وقد كنتم في بلادكم آمنين، وكذلك كان اختيارُ الله لأهل بدر ليخطُّوا أبهى نصر في تاريخ الإسلام.. ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: 5-7].
22- النصر ثمرة الإخلاص: لقد نزل النصر على أهل بدر من القلة المؤمنة بعد أن اطلع الله -تعالى- عليهم فرأى في قلوبهم الإخلاص، وفي نفوسهم العزم، وقد حرروا ولاءهم لله -تعالى- وحده، ولمَّا التقى الجمعان كان القول الفصل لآصرة الإيمان وأُخوَّة الإسلام، التي استعلت على أواصر القربى وروابط الدم، أما قبل اللقاء فكان الاستعدادُ الجازمُ والرؤيةُ الصافيةُ والطاعةُ البصيرةُ للقيادةِ المؤمنةِ المجاهدة، وقد قال سعد بن معاذ للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يشاورهم: "لقد آمنا بك وصدقناك.. فامض يا رسول الله لما أردتَّ، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلَّف منا واحد، وما نكره أن تلقَى بنا عدوَّنا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعلَّ الله يريك منا ما تقرُّ به عينك..".
أما القيادة المؤمنة المتمثلة في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت في مقدمة صفوف المجاهدين، حتى قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لقد رأيتُنا يومَ بدر ونحن نلوذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أقربنا من العدو".
23- توحد القيادة والشعب: إن أمتنا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى أن تستلهم روح بدر، تلك التي توحَّدت فيها رؤية القيادة والأمة، واتَّسقت مساراتهم فكانت مسارًا واحدًا، وعملاً متوحدًا، وإن درس الشورى واحترام إرادة الأمة لمِن أبرز دروس بدر التي ننظر إليها بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا في إجلال، وننظر إلى واقعنا الراهن بعد هذه القرون في حسرة وأسف..!!
لقد شاور الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في أمر محاربة العدو الرابض على مقربةٍ منهم، وقَبِلَ مشورة أحدهم وهو الحباب بن المنذر أن يغيِّر موضع الجيش إلى مكان آخر يتحكم في مياه منطقة القتال، فنـزل النبي -صلى الله عليه وسلم- على رأيه، وهو جَدُّ سعيد.
ولم تكن الشورى في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته مقتصرةً على أمور الحكم وقضايا السياسة، بل كانت خُلقًا عامًا، تربَّى عليه ذلك الجيل الفريد، واستمسك به، وإن النصر في تاريخنا لشديدُ الارتباط بالحرية السياسية، كما أن الهزيمة والنكوص قرين الاستبداد والقهر، وهل ضاعت القدس وسيناء والجولان وغيرها عام 1967م إلا في أجواء القهر السياسي، حين استأسد الحاكمون على شعوبهم، وكانوا بغاثًا أمام العدو، حين جدَّ الأمر وحان القتال.. (أسد عليَّ.. وفي الحروب نعامة)، وهل احتل الأمريكان -ومن حالفهم- العراقَ في نكبة دامية إلا في ظل استبداد حاكمها وطغيانه؟!
وبقي على الشعوب أن تدفع ثمن هذا وذاك من كرامتها ودماء أبنائها، وهو ثمن فادح ثقيل ما كانت ستدفع معشارَه لو أخذت على أيدي ظالميها، واضطَّرتهم إلى لزوم الجادة، وأعادتهم إلى الصواب، وأفاقتهم من نشوة الحكم وغرور السلطان، وأوقفتهم على حقيقة أمرهم أنهم أُجَراءُ عند شعوبهم -محض أجراء- إن أحسنوا بقَوا، وإن أساءوا عُزِلوا، ورَحِم الله أبا بكر الصديق ا حين قال مخاطبًا شعبَه: "إني وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيرِكم، فإن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني". |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بدر دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 11:17 pm | |
| 24- لا عُذرَ في القعود: إن المجاهدين يوم بدر لم يُبْقُوا حُجةً لقاعد، ولا عذرًا لمتخاذل يحتجُّ بقلة ذات اليد، وعظم إمكانات العدو وقدراته، فواجَهوا جيشًا يفوقُهم عددَا بثلاث مرات، ولم يكن في جيش المسلمين سوى سبعين بعيرًا يعتقبونها، فيركب البعيرَ الواحدَ الثلاثةُ والأربعةُ منهم، واحدًا تلو الآخر، وكانوا كما وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه ربَّه: "اللهم إنهم حفاةٌ فاحملهم، عالةٌ فأغنهم، جياعٌ فأطعمهم.."، وكان في مقدورهم القعود لكل ذلك.
ولأنهم يخوضون معركةً لم يتحسَّبوا لها، إذ خرجوا لعِير قريش، وبقي منهم عدد صالح بالمدينة لو يعلم قتالاً لخف إلى مشاركتهم.. لكنهم حين فُرِض عليهم القتال، ورأوا أنه لابد منه وقد سارت إليهم قريش.. أدركوا أنه لا ملجأَ من الله إلا إليه، فاستغاثوا ربَّهم، وأحسنوا اللجوءَ إليه، وفرُّوا من حولهم وقوتهم إلى حوله وقوته.. ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 9].
وقد روى الإمام أحمد بسنده عن علي بن أبي طالب قوله: "لقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وذلك ليلةَ بدر.. وهو يُكثِر من قول: يا حي يا قيوم.. ويكررها وهو ساجد..".
25- الدعاء ومقاطعة العدو: قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾، لما نظم -صلى الله عليه وسلم- صفوف جيشه، وأصدر أوامره لهم وحرضهم على القتال، رجع إلى العريش الذي بُني له ومعه صاحبه أبو بكر -رضي الله عنه-, وسعد بن معاذ على باب العريش لحراسته وهو شاهر سيفه، واتجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه يدعوه ويناشده النصر الذي وعده ويقول في دعائه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تُعبد في الأرض أبدًا»، وما زال -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر ورده على منكبيه وهو يقول: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك, فأنزل الله عز وجل: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ وفي رواية ابن عباس م قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر: «اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك الله، فخرج -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾.
وهذا درس رباني مهم لكل قائد أو حاكم أو زعيم أو فرد في التجرد من النفس وحظها، والخلوص واللجوء لله وحده، والسجود والجثي بين يدي الله سبحانه؛ لكي ينزل نصره.
ويبقى مشهد نبيه، وقد سقط رداؤه عن كتفه وهو مادٌّ يديه يستغيث بالله, يبقى هذا المشهد محفورًا بقلبه ووجدانه، يحاول تنفيذه في مثل هذه الساعات، وفي مثل هذه المواطن، حيث تناط به المسئولية وتلقى عليه أعباء القيادة.
يا قومَنا.. نحن أحوج ما نكون اليوم إلى أن نتأسَى برسولنا وصحبه في تمامِ التوكل على الله، وحسنِ الدعاء بين يديه، ودوامِ الاستغاثة به؛ حتى يتنـزَّل علينا نصرُه، ويرتفعَ عنا بلاؤه، ونحن في حاجة أيضًا إلى إدراك دور كل منا في دعم الجهاد ونصرة إخوانه في ساحات الشرف والابتلاء: بالدعاء لهم.. دعاءَ الصالحين الموقنين بالإجابة، وبمقاطعة منتجات العدو، وإضعاف اقتصاده، وشلِّ يده عن مقدراتنا وثرواتنا؛ لعل الله -عز وجل- يرى فينا خيرًا وصدقًا فيُنـزِلَ علينا نصرَه وتمكينَه.
اللهم نصرك الذي وعدتنا.. إنك سميع قريب.. ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
26- الرضا بقضاء الله تعالى وقدره: قال تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير﴾ [الحديد: 22]، وقال سبحانه: ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾ [القمر: 49]، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة».
ويتضح الرضا بالقضاء والقدر جليًا في سبب الغزوة، عن كعب بن مالك قال: (لم أتخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت عن غزوة بدر، ولم يعاتب أحد تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم على غير ميعاد سابق).
قال تعالى: ﴿إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم﴾ [الأنفال: 42].
فرضي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجميع الصحابة الذين خرجوا معه للقاء عير قريش بما قدَّره الله من لقائهم بجيش قريش.
27- الاستشارة من أسباب النصر: إن استشارة أهل التقوى من أهل العلم بالدين وأهل الخبرة في أمور الدنيا من أسباب النصر وصلاح أحوال المجتمع المسلم؛ ويتضح ذلك جلياً عندما استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه من المهاجرين والأنصار في لقاء جيش المشركين، ولقد استجاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمشورة الحباب بن المنذر عندما تحرك الرسول -صلى الله عليه وسلم- بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل أدنى ماء من مياه بدر، فقام الحباب بن المنذر وقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟ قال: بل هو الحرب والرأي والمكيدة، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي أدنى (أقرب) ماء من القوم ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد أشرت علي بالرأي»، فنهض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسار معه الصحابة حتى نزل بالمكان الذي أشار به الحباب بن المنذر.
إن هذه الحرية التي ربَّى عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه مكنت مجتمعهم من الاستفادة من عقول جميع أهل الرأي السديد والمنطق الرشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحًا باهرًا، وإن كان حديث السن؛ لأنه لم يكن يفكر برأيه المجرد, أو آراء عصبة مهيمنة عليه قد تنظر لمصالحها الخاصة قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين العامة، وإنما يفكر بآراء جميع أفراد جنده، وقد يحصل له الرأي السديد من أقلهم سمعة وأبعدهم منزلة من ذلك القائد؛ لأنه ليس هناك ما يحول بين أي فرد منهم والوصول برأيه إلى قائد جيشه.
ونلحظ عظمة التربية النبوية التي سرت في شخص الحباب بن المنذر، فجعلته يتأدب أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتقدم دون أن يُطلب رأيه، ليعرض الخطة التي لديه، لكن هذا تم بعد السؤال العظيم الذي قدمه بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ إن هذا السؤال ليشي بعظمة هذا الجوهر القيادي الفذ الذي يعرف أين يتكلم ومتى يتكلم بين يدي قائده، فإن كان الوحي هو الذي اختار هذا المنزل، فلأن يقدم فتقطع عنقه أحب إليه من أن يلفظ بكلمة واحدة، وإن كان الرأي البشري فلديه خطة جديدة كاملة باستراتيجية جديدة.
إن هذه النفسية الرفيعة، عرفت أصول المشورة، وأصول إبداء الرأي، وأدركت مفهوم السمع والطاعة، ومفهوم المناقشة، ومفهوم عرض الرأي المعارض لرأي سيد ولد آدم، عليه الصلاة والسلام.
وتبدو عظمة القيادة النبوية في استماعها للخطة الجديدة، وتبني الخطة الجديدة المطروحة من جندي من جنودها أو قائد من قوادها.
28- علو منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الصحابة: لقد كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- منزلة رفيعة في قلوب أصحابه -رضي الله عنهم-، فقد كانوا على أتم استعداد للتضحية بأنفسهم وأولادهم وأموالهم من أجل الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويتضح ذلك جليا في قول سعد بن معاذ: «يا نبي الله، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك».
فأثنى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرا، ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عريشا فكان فيه.
29- وجوب الحذر من الأعداء: يجب أن نحذر من أعدائنا حتى لا نؤاخذ على غرة يجب علينا جمع المعلومات التي تساعدنا على التعرف على أحوال أعدائنا وقوتهم وتحركاتهم حتى لا يباغتونا، فيحدث ما لا تحمد عقباه، ويتضح ذلك جليا عندما بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر فأصابوا رجلين من قريش لسقي الماء، فأتوا بهما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستطاع أن يحصل منهما على معلومات مهمة عن عدد قريش وقوتهم.
30- النصر من عند الله العزيز الحكيم: يجب علينا الإيمان بأن النصر إنما يكون من عند الله وحده مع وجوب الأخذ بالأسباب ولو كانت قليلة، ويتضح ذلك جليا عندما نعقد مقارنة بين قوة جيش المسلمين وقوة المشركين في غزوة بدر، حيث كان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر، وعدد المشركين تسعمائة وخمسين رجلاً، وكان مع المسلمين سبعون بعيراً يعتقبونها، كل ثلاثة على بعير، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه اثنان من الصحابة يعتقبون بعيراً واحداً، وكان مع المسلمين فرسان فقط أحدهما للزبير بن العوام والثاني للمقداد بن الأسود، وكان مع المسلمين ستون درعاً، بينما كان للمشركين أكثر من سبعمائة بعير، ومعهم مائتا فرس، وستمائة درع.
فإذا نظرنا إلى الأسباب المادية وجدنا تفوق المشركين، ولكن يجب علينا أن نؤمن أننا لا نعتمد في حربنا مع أعداء الإسلام على كثرة العدد والأسلحة، ولكننا نعتمد أولا وأخيرا على قوة إيماننا بالله تعالى وحده، وأنه هو الحافظ لهذا الدين وإن كانت قوتنا المادية قليلة، قال الله تعالى: ﴿وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم﴾ [آل عمران: 126]، وقال تعالى: ﴿كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين﴾ [البقرة: 249]، وتتجلى نصرة الله لأهل الإيمان في غزوة بدر بنزول المطر عليهم وإلقاء النعاس عليهم وتثبيتهم عند القتال وإلقاء الرعب في قلوب المشركين ونزول الملائكة وقتالهم في صف المسلمين. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بدر دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 11:21 pm | |
| 31- طاعة الله والدعاء من أسباب النصر: المحافظة على الطاعات والإخلاص في الدعاء من أعظم أسباب النصر على الأعداء؛ كان ذلك عندما دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عريشه ومعه أبو بكر الصديق، فأخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يناشد ربه بالدعاء قائلاً: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض».
فما زال يهتف لربه مادًا يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه وألقاه على منكبيه ثم التزمه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: ﴿إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين﴾ [الأنفال: 9]، فأمده الله بالملائكة.
فمتى نصرنا الله بطاعته واجتناب نواهيه وتحكيم شرعة جاء النصر المبين والتمكين, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].
وقال جل شأنه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55].
32- ولا تنازعوا فتفشلوا: ويتضح ذلك عندما اختلف الصحابة في غنائم غزوة بدر فقال الذين جمعوا الغنائم هي لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون المشركين: هي لنا، وقال الذين كانوا يحرسون النبي -صلى الله عليه وسلم-: هي لنا، فلما اشتد الخلاف في هذا الأمر نزل قول الله تعالى: ﴿يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين﴾ [الأنفال: 1].
روى أحمد عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، قال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقسمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المسلمين عن بواء -يقول على السواء .
فيجب علينا عند الاختلاف والتنازع في أمر ما أن نرد التنازع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لنقف على الحكم الشرعي في هذا الأمر، قال تعالى: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويل﴾ [النساء: 59].
33- علو منزلة أهل بدر على غيرهم من الصحابة: إن الصحابة الذين شهدوا غزوة بدر هم الذين اصطفاهم الله على غيرهم من المؤمنين وذلك؛ لأن غزوة بدر كانت هي المفتاح لوصول الإسلام إلى البشرية جمعاء، وأصحاب بدر هم النجوم المضيئة في التاريخ الإسلامي حتى أصبح يقال للواحد منهم «البدري»، وكفى بهذا الوصف شرفاً وتعظيماً له في حياة الناس، وكفى به أجراً وإحساناً عند الله تعالى، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده المؤمنين.
وظهر ذلك في قصة حاطب بن ابي بلتعة ا عندما أرسل كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم بخروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم، وأخبر الوحي الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وهَمّ عمر بن الخطاب ا أن يقتل حاطباً، إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم».
وروى البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه -وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة».
34- الإسلام والأسرى: لما رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة فرَّق الأسرى بين أصحابه، وقال لهم: «استوصوا بهم خيرًا»وبهذه التوصية النبوية الكريمة ظهر تحقيق قول الله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان: 8].
فهذا أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير يحدثنا عما رأى قال: كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «استوصوا بالأسارى خيرًا»، وكنت في نفر من الأنصار, فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر، وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا أبو العاص بن الربيع ا يحدثنا قال: "كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيرًا، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر, والخبز معهم قليل، والتمر زادهم, حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد، وكانوا يحملوننا ويمشون".
كان هذا الخلُق الرحيم الذي وضع أساسه القرآن الكريم في ثنائه على المؤمنين، وذكر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فاتخذوه خلقًا، وكان لهم طبيعة, قد أثر في إسراع مجموعة من أشراف الأسرى وأفاضلهم إلى الإسلام، فأسلم أبو عزيز عقيب بدر, بُعيد وصول الأسرى إلى المدينة, وتنفيذ وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وأسلم معه السائب بن عبيد بعد أن فدى نفسه، فقد سرت دعوة الإسلام إلى قلوبهم، وطهرت نفوسهم، وعاد الأسرى إلى بلادهم وأهليهم يتحدثون عن محمد -صلى الله عليه وسلم- ومكارم أخلاقه، وعن محبته وسماحته، وعن دعوته وما فيها من البر والتقوى والإصلاح والخير.
إن هذه المعاملة الكريمة للأسرى شاهد على سمو الإسلام في المجال الأخلاقي، حيث نال أعداء الإسلام في معاملة الصحابة أعلى درجات مكارم الأخلاق، التي تتمثل في خلق الإيثار.
ألا تسمع الدنيا بهذه الصورة الكريمة لمعاملة الأسرى في الإسلام، بعد ما سمعت ما كان وما يكون في سجن أبي غريب، وما كان في سجن جوانتانامو بل وفي سجون معظم دول العالم، وليس لأسرى، وإنما لأحرار أبرياء لم تثبت عليهم أي تهمة، ولم يحرموهم من حقوق الإنسان الذي كرمه الله بل حق الحياة المكفول للحيوان حرم السجين منه، ومنهم من قضى نحبه تحت التعذيب، ومنهم من ينتظر، وسمعت بهم الدنيا، وما تحركت أي قوة لفك قيدهم أو إطلاق سراحهم.
35- الإسلام يهتم بالعلم: إن الإسلام دائما يدعو إلى العلم، ويظهر هذا الاهتمام جليا في غزوة بدر عندما شرع المسلمون في قبول فداء الأسارى مقابل أربعة أو ثلاثة آلاف درهم، ومن لم يكن عنده مال من الأسرى وكان يحسن القراءة والكتابة دفع إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عشرة من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة، فإذا أجادوها تم إطلاق سبي هذا الأسير، وكان ممن تعلم الكتابة بهذه الطريقة: زيد بن ثابت -رضي الله عنه-.
هذه الطريقة النبوية المباركة في فداء الأسارى كانت طريقة غير مسبوقة قبل ذلك.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة؛ وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلم عشرة من الغلمان يفدي نفسه.
وقبول النبي -صلى الله عليه وسلم- تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت الذي كانوا فيه بأشد الحاجة إلى المال يرينا سمو الإسلام في نظرته إلى العلم والمعرفة، وإزالة الأمية، وليس هذا بعجيب من دين كان أول ما نزل من كتابه الكريم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: 1-4].
واستفاضت فيه نصوص القرآن والسنة في الترغيب في العلم وبيان منزلة العلماء، وبهذا العمل الجليل يعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أول من وضع حجر الأساس في إزالة الأمية وإشاعة القراءة والكتابة، وأن السبق في هذا للإسلام.
36- الشيطان يخذل أتباعه: إن الشيطان دائماً بالمرصاد للإنسان يزين له المعصية حتى إذا وقع فيها تركه وتبرأ منه، ويتضح ذلك في غزوة بدر، قال عبد الله بن عباس م: لما كان يوم بدر سار إبليس برعيته وجنوده من المشركين وألقى في قلوب المشركين أن أحداً لن يغلبكم وإني جارٌ لكم، فلما التقوا ونظر الشيطان إلى مدد الملائكة نكص على عقبه ورجع مدبراً وقال: إني أرى ما لا ترون.
فعلى المسلم العاقل أن يعلم الشيطان يخذل من أطاعه في أي وقت وفي أي مكان، وصدق الله العظيم حيث يقول في كتابه العزيز: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر: 16].
وقال سبحانه عن الشيطان يوم القيامة: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم: 22].
37- الأسوة الحسنة -صلى الله عليه وسلم-: نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة الحسنة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [الأحزاب: 21]، ولقد تجلّت هذه القدوة الحسنة في كثير من مواقفه -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر الكبرى.
وسوف نذكر بعضاً من هذه المواقف: 1- عن عبد الله بن مسعود ا قال: «كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب ن زميلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت عقبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي (جاء دوره في السير على قدميه) فقالا: نحن نمشي عنك، فقال: «ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما». 2- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس أي عم النبي -صلى الله عليه وسلم- فداءه، قال: «والله لا تذرون منه درهم».
قال ابن حجر -رحمه الله- تعليقا على هذا الحديث: «الحكمة في ذلك أنه خشي أن يكون في ذلك محاباة له لكونه عمه لا لكونه قريبهم من ناحية النساء فقط».
ولقد حثنا الله تعالى على الاقتداء بنينا محمد -صلى الله عليه وسلم- والرضا بجميع أحكامه، وحذرنا مخالفته، قال تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء: 65].
وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 51].
وقال جل شأنه: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7].
وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾ [الأحزاب: 36].
وقال سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].
38- الكتمان وأهميته في الحروب: لقد تحلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفة الكتمان في عامة غزواته، فعن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها...".
|
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بدر دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 11:24 pm | |
| وفي غزوة بدر ظهر هذا الخلق الكريم في الآتي: 1- سؤاله -صلى الله عليه وسلم- الشيخ الذي لقيه في بدر عن محمد وجيشه، وعن قريش وجيشها. 2- تورية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إجابته عن سؤال الشيخ ممن أنتما؟ بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «نحن من ماء» وهو جواب يقتضيه المقام، فقد أراد به -صلى الله عليه وسلم- كتمان أخبار جيش المسلمين عن قريش. 3- وفي انصرافه فور استجوابه كتمانٌ أيضًا, وهو دليل على ما يتمتع به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحكمة، فلو أنه أجاب هذا الشيخ ثم وقف عنده لكان هذا سببًا في طلب الشيخ بيان المقصود من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من ماء». 4- أمره -صلى الله عليه وسلم- بقطع الأجراس من الإبل يوم بدر، فعن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر. 5- كتمانه -صلى الله عليه وسلم- خبر الجهة التي يقصدها عندما أراد الخروج إلى بدر، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: «... إن لنا طلبةً فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا...“.
وقد استدل الإمام النووي بهذا الحديث على استحباب التورية في الحرب، وأن لا يبين القائد الجهة التي يقصدها لئلا يشيع هذا الخبر فيحذرهم العدو.
ونلحظ أن التربية الأمنية في المنهاج النبوي مستمرة منذ الفترة السرية، والجهرية بمكة، ولم تنقطع مع بناء الدولة، وأصبحت تنمو مع تطورها، وخصوصًا في غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
39- بناء عريش القيادة: بعد نزول النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه على أدنى ماء بدر من المشركين، اقترح سعد بن معاذ ا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بناء عريش له يكون مقرًا لقيادته ويأمن فيه من العدو، وكان مما قاله سعد في اقتراحه: (يا نبي الله ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام, يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك) فأثنى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تل مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر -رضي الله عنه-, وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ويُستفاد من بناء العريش أمور, منها: 1- لابد أن يكون مكان القيادة مشرفًا على أرض المعركة، يتمكن القائد فيه من متابعة المعركة وإدارتها. 2- ينبغي أن يكون مقر القيادة آمنًا بتوافر الحراسة الكافية له. 3- ينبغي الاهتمام بحياة القائد، وصونها من التعرض لأي خطر. 4- ينبغي أن يكون للقائد قوة احتياطية أخرى تعوض الخسائر التي قد تحدث في المعركة.
40- من نعم الله على المسلمين قبل القتال: من المنن التي منَّ الله بها على عباده المؤمنين يوم بدر أنه أنزل عليهم النعاس والمطر، وذلك قبل أن يلتحموا مع أعدائهم, قال تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ﴾ قال القرطبي: (وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها, فكان النوم عجيبًا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، وكأن الله ربط جأشهم).
وعن علي -رضي الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح.
وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أولهما: أن قوَّاهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني: أن أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم كما يقال: «الأمن مُنيم، والخوف مُسْهِر».
وبيَّن سبحانه وتعالى أنه أكرم المؤمنين بإنزال المطر عليهم في وقت لم يكن المعتاد فيه نزول الأمطار, وذلك فضلاً منه وكرمًا، وإسناد هذا الإنزال إلى الله للتنبيه على أنه أكرمهم به.
قال الإمام الرازي: (وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه، إذ كان جنبًا، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جَرَمَ عدَّ الله تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه...).
وقوله تعالى: ﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ) فقد روى ابن جرير عن ابن عباس م قال: نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني حين سار إلى بدر - والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة -أي كثير مجتمعة- فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين، فأمطر الله عليكم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشي الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم.
فقد بين سبحانه أنه أنزل على عباده المؤمنين المطر قبل المعركة فتطهروا به حسيًّا ومعنويًّا إذ ربط الله به على قلوبهم وثبت به أقدامهم، وذلك أن الناظر في منطقة بدر يجد في المنطقة رمالا متحركة لا زالت حتى اليوم ومن العسير المشي عليها، ولها غبار كبير، فلما نزلت الأمطار تماسكت تلك الرمال وسهل السير عليها، وانطفأ غبارها, وكل ذلك كان نعمة من الله على عباده.
41- الخطة المحكمة للرسول -صلى الله عليه وسلم- في المعركة: ابتكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قتاله مع المشركين يوم بدر أسلوبًا جديدًا في مقاتلة أعداء الله تعالى، لم يكن معروفًا من قبل حتى قاتل -صلى الله عليه وسلم- بنظام الصفوف, وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: 4].
وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة, وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعًا لقلة المقاتلين أو كثرتهم.
وتكون الصفوف الأولى من أصحاب الرماح لصد هجمات الفرسان, وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء.
وكان من فوائد هذا الأسلوب في غزوة بدر: 1- إرهاب الأعداء ودلالة على حسن وترتيب النظام عند المسلمين. 2- جعل في يد القائد الأعلى -صلى الله عليه وسلم- قوة احتياطية عالج بها المواقف المفاجئة في صد هجوم معاكس, أو ضرب كمينٍ غير متوقع، واستفاد منه في حماية الأجنحة من خطر المشاة والفرسان، ويعد تطبيق هذا الأسلوب لأول مرة في غزوة بدر سبقًا عسكريًا تميزت به المدرسة العسكرية الإسلامية على غيرها منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان.
ويظهر للباحث في السيرة النبوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يباغت خصومه ببعض الأساليب القتالية الجديدة، وخاصة تلك التي لم يعهدها العرب من قبل، على نحو ما قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم بَدْرٍ، وأُحُدٍ وغيرهما.
ومن جهة النظرة العسكرية، فإن هذه الأساليب تدعو إلى الإعجاب بشخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- وبراعته العسكرية؛ لأن التعليمات العسكرية التي كان يصدرها خلال تطبيقه لها، تطابق تمامًا الأصول الحديثة في استخدام الأسلحة.
وتفصيل ذلك فقد اتبع -صلى الله عليه وسلم- أسلوب الدفاع ولم يهاجم قوة قريش، وكانت توجيهاته التكتيكية التي نفذها جنوده بكل دقة سببًا في زعزعة مركز العدو، وإضعاف نفسيته، وبذلك تحقق النصر الحاسم بتوفيق الله على العدو برغم تفوقه، بنسبة 3 إلى 1, فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتصرف في كل موقف حسب ما تدعو إليه المصلحة؛ وذلك لاختلاف مقتضيات الأحوال والظروف، وقد طبق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الجانب العسكري أسلوب القيادة التوجيهية في مكانها الصحيح.
أما أخذه بالأسلوب الإقناعي في غزوة بدر فقد تجلى في ممارسة فقه الاستشارة في مواضع متعددة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يقود جنده بمقتضى السلطة، بل بالكفاءة والثقة، وهو -صلى الله عليه وسلم- أيضا لا يستبد برأيه، بل يتبع مبدأ الشورى وينزل على الرأي الذي يبدو صوابًا، ومارس -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر أسلوب القيادة التوجيهية.
فقد تجلى في أمور, منها: 1- الأمر الأول: أمره -صلى الله عليه وسلم- الصحابة برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم؛ لأن الرمي يكون أقرب إلى الإصابة في هذه الحالة «إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل». 2- الأمر الثاني: نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن سل السيوف إلى أن تتداخل الصفوف«ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم». 3- الأمر الثالث: أمره -صلى الله عليه وسلم- الصحابة بالاقتصاد في الرمي«واسْتَبْقُوا نَبْلَكم».
وعندما تقارن هذه التعليمات الحربية بالمبادئ الحديثة في الدفاع تجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان سباقًا إليها من غير عكوف على الدرس ولا التحاق بالكليات الحربية، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يرمي من وراء تعليماته التي استعرضناها آنفا إلى تحقيق ما يعرف حديثًا بكبت النيران إلى اللحظة التي يصبح فيها العدو في المدى المؤثر لهذه الأسلحة، وهذا ما قصده -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «واستبقوا نبلكم». |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بدر دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 11:28 pm | |
| 42- الاستفادة من الظروف الطبيعية أثناء قتال الأعداء: ولم يهمل -صلى الله عليه وسلم- فرصة الاستفادة من الظروف الطبيعية أثناء قتال العدو، فقد كان يستفيد من كل الظروف في ميدان المعركة لمصلحة جيشه، ومن الأمثلة على ذلك ما فعله -صلى الله عليه وسلم- قبل بدء القتال يوم بدر، يقول المقريزي: وأصبح -صلى الله عليه وسلم- ببدر قبل أن تنزل قريش, فطلعت الشمس وهو يصفهم فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه فاستقبلوا الشمس .
وهذا التصرف يدل على حسن تدبيره -صلى الله عليه وسلم-؛ واستفادته حتى من الظروف الطبيعية لما يحقق المصلحة لجيشه، وإنما فعل ذلك لأن الشمس إذا كانت في وجه المقاتل تسبب له عَشا البصر فتقل مقاومته ومجابهته لعدوه.
وفيما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر إشارة إلى أن الظروف الطبيعية كالشمس والريح والتضاريس الجغرافية وغيرها لها تأثير عظيم على موازين القوى في المعارك, وهي من الأسباب التي طلب الله منا الأخذ بها لتحقيق النصر والصعود إلى المعالي.
43- ما وقع لسواد بن غزية: كان -صلى الله عليه وسلم- في بدر يعدل الصفوف ويقوم بتسويتها لكي تكون مستقيمة متراصة، وبيده سهم لا ريش له يعدل به الصف، فرأى رجلاً اسمه سواد بن غزية، وقد خرج من الصف فطعنه -صلى الله عليه وسلم- في بطنه، وقال له: «استوِ يا سواد» فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بطنه وقال: «استقد» فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: «ما حملك على هذا يا سواد» قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير.
ويُستفاد من قصة سواد -رضي الله عنه- أمور, منها: 1- حرص الإسلام على النظام. 2- العدل المطلق: فقد أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القود من نفسه. 3- حب الجندي لقائده. 4- تذكر الموت والشهادة. 5- جسد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبارك، ومسه فيه بركة, ولهذا حرص عليها سواد. 6- بطن الرجل ليس بعورة بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كشف عنه ولو كان عورة لما كشف عنه.
44- التعبئة المعنوية على القتال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على أن يكونوا أصحاب إرادات قوية راسخة ثابتة ثبات الشُّمِّ الرواسي، فيملأ قلوبهم شجاعة وجرأة وأملاً في النصر على الأعداء، وكان يسلك في سبيل تكوين هذه الإرادة القوية أسلوب الترغيب والترهيب، الترغيب في أجر المجاهدين الثابتين، والترهيب من التولي يوم الزحف، والفرار من ساحات الوغى، كما كان يحدثهم عن عوامل النصر وأسبابه ليأخذوا بها ويلتزموها، ويحذرهم من أسباب الهزيمة ليقلعوا عنها، وينأوا بأنفسهم عن الاقتراب منها.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يحث أصحابه على القتال ويحرضهم عليه امتثالاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65].
وفي غزوة بدر الكبرى قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض».
فقال عمير بن الحمام الأنصاري -رضي الله عنه-: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: «نعم».
قال: بخٍ بخٍ (كلمة تعجب).
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما يحملك على قول: بخٍ بخٍ؟».
قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها قال: «فإنك من أهلها».
فأخرج تمرات من قرنه (جعبة النشاب) فجعل يأكل منه، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل.
وفي رواية قال: قال أنس -رضي الله عنه-: فرمى ما كان معه من التمر، وقاتل وهو يقول: ركضًا إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة للنفاد غـير التقى والـبر والـرشاد
فقاتل رحمه الله حتى استشهد.
ومن صور التعبئة المعنوية أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يبشرهم بقتل صناديد المشركين، وزيادة لهم في التطمين كان يحدد مكان قتلى كل واحد منهم, كما كان يبشر المؤمنين بالنصر قبل بدء القتال فيقول: «أبشر أبا بكر».
ووقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول للصحابة رضوان الله عليهم: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة».
وقد أُثرت هذه التعبئة المعنوية في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم والذين جاءوا من بعدهم بإحسان.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يطلب من المسلمين أن لا يتقدم أحد إلى شيء حتى يكون دونه، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: (... فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون دونه»فدنا المشركون فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض».
45- العمل بالأسباب وانتظار المدد الرباني: من أساسيات العقيدة الأخذ بالأسباب كما أمر الله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60].
وبعد الإعداد والأخذ بالأسباب يكون المؤمن على يقين تامٍّ أن الله هو الفاعل الحقيقي، فإن شاء أمضى الأسباب، وجعل قوتها المؤثرة أقوى من قوة القائم بها، وإن شاء عطَّلها وسلبَها الأثر.
بعد أن دعا -صلى الله عليه وسلم- ربه في العريش، واستغاث به خرج من العريش فأخذ قبضة من التراب، وحصَبَ بها وجوه المشركين وقال: «شاهت الوجوه» ثم أمر -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا، فأوصل الله تعالى تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبقَ أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17]، ومعنى الآية: أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميته, فالرمي يراد به الحذف والإيصال فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال.
ونلحظ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذ بالأسباب المادية والمعنوية وتوكل على الله، فكان النصر والتأييد من الله تعالى، فقد اجتمع في بدر الأخذ بالأسباب بالقدر الممكن مع التوفيق الرباني في تهيئة جميع أسباب النصر متعاونة متكافئة مع التأييدات الربانية الخارقة والغيبية، ففي عالم الأسباب تشكل دراسة الأرض والطقس ووجود القيادة والثقة بها والروح المعنوية لبنات أساسية في صحة القرار العسكري، ولقد كانت الأرض لصالح المسلمين، وكان الطقس مناسبًا للمعركة، والقيادة الرفيعة موجودة والثقة بها كبيرة، والروح المعنوية مرتفعة، وبعض هذه المعاني كان من الله بشكل مباشر وتوفيقه, وبعضها كان من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذًا بالأسباب المطلوبة، فتضافر الأخذ بالأسباب مع توفيق الله وزيد على ذلك التأييدات الغيبية والخارقة فكان ما كان, وذلك نموذج على ما يعطاه المسلمون بفضل الله إذا ما صلحت النيات عند الجند والقادة، ووجدت الاستقامة على أمر الله، وأخذ المسلمون بالأسباب. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بدر دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 11:33 pm | |
| 46- نهاية الطغاة: أ- مصرع أبي جهل بن هشام المخزومي: قال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما, فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها.
قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟» فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: «كلاكما قتله»، وقضى بسَلَبـِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح.
وفي حديث أنس قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر: «من ينظر ما صنع أبو جهل؟» فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضرباه (ابنا عفراء حتى برد فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل، قال: وهل فوق رجل قتله قومه أو قال: قتلتموه, وفي حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: أدركت أبا جهل يوم بدر صريعا، فقلت: أي عدو الله قد أخزاك الله؟ قال: وبما أخزاني؟ من رجل قتلتموه، ومعي سيف لي، فجعلت أضربه ولا يحتك فيه شيء، ومعه سيف له جيد، فضربت يده فوقع السيف من يده فأخذته، ثم كشفت المغفر عن رأسه، فضربت عنقه، ثم أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟» قلت: الله الذي لا إله إلا هو.
قال: فانطلق فاستثبت فانطلقت وأنا أسعى مثل الطائر، ثم جئت وأنا أسعى مثل الطائر أضحك فأخبرته.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «انطلق» فانطلقت معه فأريته، فلما وقف عليه -صلى الله عليه وسلم- قال: «هذا فرعون هذه الأمة».
كان الدافع من حرص الأنصاريين الشابين على قتل أبي جهل ما سمعاه من أنه كان يسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهكذا تبلغ محبة شباب الأنصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذل النفس في سبيل الانتقام ممن تعرض له بالأذى.
وما جرى بين عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وأبي جهل وهو في الرمق الأخير من الحوار فيه عبرة بليغة، فهذا الطاغية الذي كان شديد الأذى للمسلمين في مكة قد وقع صريعًا بين أيدي من كان يؤذيهم.
ويشاء الله تعالى أن يكون الذي يقضي على آخر رمق من حياته هو أحد المستضعفين، ولقد كان أبو جهل مستكبرًا جبارًا حتى وهو صريع وفي آخر لحظات حياته.
فقد جاء في رواية لابن إسحاق أنه قال لعبد الله بن مسعود لما أراد أن يحتز رأسه: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رويعي الغنم.
فالله تعالى لم يعجِّل لهذا الخبيث أبي جهل بضربات الأبطال من أشبال الأنصار، ولكنه أبقاه مصروعًا في حالة من الإدراك والوعي بعد أن أصابته ضربات أشفت به على الهلاك الأبدي، ليريه بعين بصره ما بلغه من المهانة والذل والخذلان على يد من كان يستضعفه ويؤذيه، ويضطهده بمكة من رجال الرعيل الأول -السابقين إلى مظلّة الإيمان وطهر العقيدة، والتعبد لله بشرائعه، التي أنزلها رحمة للعالمين- عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فيعلو على صدره، ويدوسه بقدميه، ويقبض على لحيته تحقيرًا له، ويقرّعه تقريعًا يبلغ من نفسه مجمع غروره واستكباره في الأرض، ويستل منه سيفه إمعانًا في البطش به فيقتله به، ويمعن في إغاظته بإخباره أن النصر عقد بناصية جند الله وكتيبة الإسلام، وأن شنار الهزيمة النكراء وعارها، وخزيها وخذلانها قد رزئت به كتائب الغرور الأجوف في حشود النفير الذي قاده هذا الكفور الخبيث...
ب- مصرع أمية بن خلف: قال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت (الرحمن) قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته (عبد عمرو).
فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرز هحين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار، فقال: أمية بن خلف لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم، فقتلوه ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له: ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتجللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه, وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه.
وفي رواية أخرى لعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قال: كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماك أبوك؟ قال: فأقول نعم.
قال: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به، أما أنت فلا تجبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف.
قال: وكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه، قال: فقلت: يا أبا علي اجعل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، قال: قلت: نعم.
قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله فأجبته فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه علي، وهو آخذ بيده قال: ومعي أدراع لي قد استلبتها، فأنا أحملها، فلما رآني قال: يا عبد عمرو فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، فقلت: نعم، قال: هل لك فيَّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قال: قلت: نعم، ها لله؟ قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده وبيد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ ثم خرجت أمشي بهما، قال ابن هشام: يريد باللبن أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن.
ونلحظ من الروايات السابقة: 1- ما جرى من بلال -رضي الله عنه- حينما رأى عدوه اللدود أمية بن خلف الذي كان يسومه أقسى وأعنف أنواع العذاب في مكة، فلما رآه في يد عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أسيرًا صرخ بأعلى صوته: لا نجوت إن نجا.
إنه موقف من مواقف التشفي في أعداء الله، والتشفي من كبار الكفرة الفجار وفي الحياة الدنيا نعمة يفرج الله بها عن المكروبين من المؤمنين الذين ذاقوا الذل والهوان على أيدي أولئك الفجرة الطغاة, قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 14، 15].
2- إن فيما جرى لأمية بن خلف من قتل مفزع درسًا بليغًا للطغاة المُتجبرين، وعبرة للمُعتبرين، الذين يغترون بقوتهم وينخدعون بجاههم ومكانتهم، فيعتدون على الضعفاء، ويسلبونهم حقوقهم، فمآلهم إلى عاقبة سيئة ووخيمة في الآخرة، وقد يمكن الله للضعفاء منهم في الدنيا قبل الآخرة كما حدث لأمية بن خلف وأضرابه من طغاة الكفر, قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5].
3- وفي قول عبد الرحمن بن عوف: «يرحم الله بلالاً ذهبت أدراعي وفجعني بأسيريَّ» مع ما جرى من بلال من مُعارضة وانتزاع الأسيرين من يده بقوة الأنصار الذين استنجد بهم دليل على قوة الرباط الأخوي بين الصحابة الكرام.
4- موقف لأم صفوان بنت أمية: قيل لأم صفوان بنت أمية بعد إسلامها، وقد نظرت إلى الحباب بن المنذر بمكة: هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر، قالت: دعونا من ذكر من قُتل على الشرك، قد أهان الله عليًا بضربه الحباب بن المنذر، وأكرم الله الحباب بضربه عليًا، قد كان على الإسلام حين خرج من هاهنا، فقتل على غير ذلك، وهذا الموقف يدل على قوة إيمانها، ورسوخ يقينها حيث اتضحت لها عقيدة الولاء والبراء، فأصبحت تحب المسلمين وإن كانوا من غير قبيلتها، وتكره الكافرين وإن كانوا من أبنائها.
وقولها على ابنها علي: «قد كان على الإسلام حين خرج من ههنا فقتل على غير ذلك» تعني أنه كان ممَّن عُرف عنهم الإسلام بمكة وخرجوا مع قومهم يوم بدر مُكرهين, فلما التقى الصَّفان فتنوا حينما رأوا قلة المسلمين فقالوا: قد غرَّ هؤلاء دينهم, فنزل فيهم قول الله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 49].
ج- مصرع عبيدة بن سعيد بن العاص على يد الزبير: قال الزبير بن العوام -رضي الله عنه-: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة فطعنته في عينه فمات، قال هشام، فأُخبرت أن الزبير قال: (لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت فكان الجهد أن نزعتها، وقد انثنى طرفاها).
قال عروة: فسأله إياها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاه، فلما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاها، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها، فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قُتل.
(هذا الخبر يصور لنا دقة الزبير بن العوام -رضي الله عنه- في إصابة الهدف، حيث استطاع أن يضع الحربة في عين ذلك الرجل مع ضيق ذلك المكان, وكونه قد وزع طاقته بين الهجوم والدفاع، فلقد كانت إصابة ذلك الرجل بعيدة جدًا لكونه قد حمى جسمه بالحديد الواقي، لكن الزبير استطاع إصابة إحدى عينيه، فكانت بها نهايته، ولقد كانت الإصابة شديدة العمق مما يدل على قوة الزبير الجسدية، إضافة إلى دقته ومهارته في إصابة الهدف).
د- مصرع الأسود المخزومي: قال ابن إسحاق: وقد خرج الأسود المخزومي، وكان رجلاً شرسًا سيئ الخلق فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دمًا نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن يبر يمينه, وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
وقد سأل أمية بن خلف عبد الرحمن بن عوف عن الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ فأجابه عبد الرحمن: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال أمية: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل: وهذه شهادة من أحد زعماء الكفر، وهذا يعني أنه -رضي الله عنه- قد أثخن في جيش الأعداء قتلاً وتشريدًا.
وكان هذا أول من قتل من المشركين بيد أسد الله تعالى حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-, فقد جاء هذا اللئيم الشرس يتحدى المسلمين، فتصدى له بطل الإسلام حمزة، فقضى عليه ولقن أمثاله من الحاقدين المتكبرين درسًا في الصميم.
47- إنها جنان كثيرة: عن أنس -رضي الله عنه- قال: أصيب حارثة بن سراقة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: «ويحك أَوَهَبلْتِ أَوَجَنَّة واحدة هي؟ إنها جنانٌ كثيرةٌ, وإنه في جنةِ الفردوسِ»وفي رواية: «يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى».
48- الشوق إلى الآخرة: قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أن عوف بن مالك وهو ابن عفراء قال: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ قال: «غمسة يده في العدو حاسرًا»فنزع درعًا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتل.
ولما سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر وعرض عليه جيش بدر رد عمير بن أبي وقاص فبكى عمير فأجازه، فعقد عليه حمائل سيفه، ولقد كان عمير يتوارى حتى لا يراه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال سعد: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر يتوارى فقلت: ما لك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، وقد استُشهد بالفعل.
وهذا الخبر يدل على قوة ارتباط الصحابة الكرام بالآخرة، وحرصهم على رضوان الله تعالى؛ ولذلك انطلق عوف بن الحارث -رضي الله عنه- كالسهم وهو حاسر غير متدرع يثخن في الأعداء حتى أكرمه الله بالشهادة، لقد تغيرت مفاهيم المجتمع الجديد، وتعلق أفراده بالآخرة، وأصبحوا حريصين على مرضاته بعد أن كان جل همهم أن تتحدث عنهم النساء عن بطولاتهم، ويرضى سيد القبيلة عنهم، وتنشد الأشعار في شجاعتهم.
49- بيوت الصحابة تتنافس من أجل الجنة: قال الحافظ ابن حجر: قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: استهم يوم بدر سعد بن خيثمة وأبوه فخرج سهم سعد فقال له أبوه: يا بني آثرني اليوم، فقال سعد: يا أبت لو كان غير الجنة فعلت، فخرج سعد إلى بدر فقُتِلَ بها، وقتل أبوه خيثمة يوم أحد.
وهذا الخبر يعطي صورة مشرقة عن بيوتات الصحابة في تنافسهم وتسابقهم على الجهاد في سبيل الله تعالى، فهذا سعد بن خيثمة ووالده لا يستطيعان الخروج معًا لاحتياج أسرتهما وعملهما لبقاء أحدهما، فلم يتنازل أحدهما عن الخروج رغبة في نيل الشهادة حتى اضطروا إلى الاقتراع بينهما، فكان الخروج من نصيب سعد -رضي الله عنهما-، وكان الابن في غاية الأدب مع والده، ولكنه كان مشتاقًا إلى الجنة فأجاب بهذا الجواب البليغ: (يا أبت لو كان غير الجنة فعلت). |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51866 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بدر دروس وعبر الأربعاء 26 يونيو 2019, 11:37 pm | |
| 50- محاولة اغتيال القائد -صلى الله عليه وسلم-: قال عروة بن الزبير: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحِجْر، بعد مصاب أهل بدر بيسير, وكان عمير بن وهب شيطانًا من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: (والله ما في العيش بعدهم خير).
قال له عمير: صدقت، أما والله لولا دَيْنٌ علي ليس عندي قضاؤه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة, ابني أسير في أيديهم.
قال: فاغتنمها صفوان بن أمية فقال: عليّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم علي شأني وشأنك.
قال: أفعل.
قال: ثم أمر عمير بسيفه، فشحذ وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحًا سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشرٍّ وهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر.
ثم دخل عمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه.
قال -صلى الله عليه وسلم-: «فأدخله عليَّ» قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبَه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون.
ثم دخل به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادنُ يا عميرُ».
فدنا ثم قال: انعموا صباحًا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة».
فقال: أما والله، يا محمد إن كنت بها لحديث عهد.
فقال: «فما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه.
قال: «فما بال السيف في عنقك؟» قال: قبَّحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئًا؟!! قال: «اصدقني ما الذي جئْتَ به؟» قال: ما جئت إلا لذلك.
قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دَيْنٌ عليَّ وعيالٌ عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمَّل لك صفوان بن أمية بدَينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائلٌ بينك وبين ذلك».
قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فقِّهُوا أخاكم في دينه، وعلّموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا».
ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لِمَنْ كان على دين الله عز وجل، وأنا أحِبُّ أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله، وإلى الإسلام، لعلَّ الله يهديهم, وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلحق بمكة وكان صفوان بن أمية حين خرج عُمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تُنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عن الرُّكبان، حتى قدم راكبٌ فأخبره بإسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدًا».
وفي هذه القصة دروس وعبر منها: 1- حرص المشركين على التصفية الجسدية للدعاة، فهذا صفوان بن أمية وعمير بن وهب يتفقان على قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يرشدنا إلى أن أعداء الدعوة قد لا يكتفون برفض الدعوة، والتشويش عليها، وصد الناس عنها، بل يريدون اغتيال الدعاة، وتدبير المؤامرات لقتلهم، وقد يستأجرون المجرمين لتنفيذ هذا الغرض الخسيس.
وقد يستغل الأغنياء المترفون من أعداء الدعوة حاجة الفقراء وفقرهم فيوجهونهم لقاء مبلغ من المال إلى خدمة مآربهم، وإن أدى ذلك إلى هلاكهم، فها هو صفوان قد استغل فقر عمير وقلة ذات يده ودَيْنه ليرسله إلى هلاكه.
2- ظهور الحس الأمني الرفيع الذي تميز به الصحابة -رضي الله عنهم-، فقد انتبه عمر ابن الخطاب لمجيء عمير بن وهب وحذَّر منه، وأعلن أنه شيطان ما جاء إلا لشرٍّ، فقد كان تاريخه معروفًا لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكة, وهو الذي حرض على قتال المسلمين في بدر، وعمل على جمع معلومات عن عددهم؛ ولذلك شرع عمر في أخذ الأسباب لحماية الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فمن جهته فقد أمسك بحمالة سيف عمير الذي في عنقه بشدة فعطله عن إمكانية استخدام سيفه للاعتداء على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمر نفرًا من الصحابة بحراسة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
3- الاعتزاز بتعاليم هذا الدين, فقد رفض -صلى الله عليه وسلم- أن يتعامل بتحية الجاهلية، ولم يرد على تحية عمير حين قال له: أنعموا صباحًا، وأخبره بأنه لا يحيي بتحية أهل الجاهلية؛ لأن الله تعالى أكرم المسلمين بتحية أهل الجنة.
4- سمو أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أحسن إلى عمير، وتجاوز عنه وعفا عنه مع أنه جاء ليقتله, بل أطلق ولده الأسير بعد أن أسلم عمير وقال لأصحابه: «فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره».
5- قوة إيمان عمير، فقد قرر أن يواجه مكة كلها بالإسلام، وقد أذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفعل، وواجه، وتحدى، وعاد أدراجه إلى المدينة، وأسلم على يديه ناس كثير، وكان حين تعد الرجال يطرحه عمر -رضي الله عنه- ممن يزن عنده ألف رجل، وكان أحد الأربعة الذين أمد بهم أمير المؤمنين عمر، عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- الذين كان كلُّ واحد منهم بألف.
51- إمداد الله للمسلمين بالملائكة: ثبت من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومرويات عدد من الصحابة البدريين؛ أن الله تعالى ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب, قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: 12].
وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾.
وأورد البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وغيرهم عددًا من الأحاديث الصحيحة التي تشير إلى مشاركة الملائكة في معركة بدر، وقيامهم بضرب المشركين وقتلهم.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزومفنظر إلى المُشرك أمامه فخرَّ مُستلقيًا فنظر إليه فإذا هو خُطِم أنفه، وشُقَّ وجهه كضربة السَّوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدَّث بذلك رسول الله فقال: «صدقت, ذلك مددٌ من السماء الثالثة».
ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب».
ومن حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: (فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني, لقد أسرني رجل أجلحمن أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: «اسكت فقد أيدك الله بملك كريم».
ومن حديث أبي داود المازني قال: (إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري).
إن إمداد الله تعالى للمؤمنين بالملائكة أمر قطعي ثابت لا شك فيه، وأن الحكمة من هذا الإمداد تحصيل ما يكون سببًا لانتصار المسلمين، وهذا ما حصل بنزول الملائكة، فقد قاموا بكل ما يمكن أن يكون سببا لنصر المسلمين: من بشارتهم بالنصر، ومن تثبيتهم بما ألقوه في قلوبهم من بواعث الأمل في نصرهم، والنشاط في قتالهم، وبما أظهروه لهم من أنهم معانون من الله تعالى، وأيضا بما قام به بعضهم من الاشتراك الفعلي في القتال، ولا شك أن هذا الاشتراك الفعلي في القتال قوى قلوبهم وثبتهم في القتال، وهذا ما دلت عليه الآيات وصرحت به الأحاديث النبوية.
وقد يسأل سائل: ما الحكمة في إمداد المسلمين بالملائكة مع أن واحدًا من الملائكة كجبريل عليه السلام قادر بتوفيق الله على إبادة الكفار؟
وقد أجاب الأستاذ عبد الكريم زيدان على ذلك فقال: لقد مضت سُنَّة الله بتدافع الحق وأهله مع الباطل وأهله، وأن الغلبة تكون وفقًا لسُنن الله في الغلبة والانتصار، وأن هذا التدافع يقع في الأصل بين أهل الجانبين: الحق والباطل، ومن ثمرات التمسك بالحق والقيام بمتطلباته أن يحصلوا على عون وتأييد من الله تعالى، بأشكال وأنواع متعددة من التأييد والعون، ولكن تبقى المدافعة والتدافع يجريان وفقًا لسُنن الله فيهما، وفي نتيجة هذا التدافع فالجهة الأقوى بكل معاني القول اللازمة للغلبة هي التي تغلب، فالإمداد بالملائكة هو بعض ثمرات إيمان تلك العُصبة المُجاهدة، ذلك الإمداد الذي تحقق به ما يستلزم الغلبة على العدو، ولكن بقيت الغلبة موقوفة على ما قدمه أولئك المؤمنون في قتال ومباشرة لأعمال القتال، وتعرضهم للقتل، وصمودهم وثباتهم في الحرب، واستدامة توكلهم على الله، واعتمادهم عليه، وثقتهم به، وهذه معانٍ جعلها الله حسب سننه في الحياة أسبابًا للغلبة والنصر، مع الأسباب الأخرى المادية، مثل العُدة والعدد والاستعداد للحرب وتعلم فنونه... إلخ.
ولهذا فإن الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يباشروا بأنفسهم إزهاق الباطل وقتال المبطلين، وأن يهيئوا الأسباب المادية والإيمانية للغلبة والانتصار، وبأيديهم إن شاء الله تعالى ينال المبطلون ما يستحقونه من العقاب, قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 14، 15].
إن نزول الملائكة عليهم السلام من السماوات العلى إلى الأرض لنصر المؤمنين حدث عظيم.
إنه قوة عظمى، وثبات راسخ للمؤمنين حينما يوقنون بأنهم ليسوا وحدهم في الميدان، وأنهم إذا حققوا أسباب النصر واجتنبوا موانعه, فإنهم أهل لمدد السماء، وهذا الشعور يعطيهم جرأة في مقابلة الأعداء، وإن كان ذلك على سبيل المغامرة، لبعد التكافؤ المادي بين جيش الكفار الكبير عددًا القوي إعدادًا وجيش المؤمنين القليل عددًا الضعيف إعدادًا.
وهو في نفس الوقت عامل قوي في تحطيم معنوية الكفار وزعزعة يقينهم، وذلك حينما يشيع في صفوفهم احتمال تكرار نزول الملائكة الذين شاهدهم بعضهم عيانًا، إنهم مهما قدروا قوة المسلمين وعددهم فإنه سيبقى في وجدانهم رعب مزلزل من احتمال مشاركة قوى غير منظورة لا يعلمون عددها ولا يقدرون مدى قوتها، وقد رافق هذا الشعور المؤمنين في كل حروبهم التي خاضها الصحابة -رضي الله عنهم- في العهد النبوي، وفي عهد الخلفاء الراشدين, كما رافق بعض المؤمنين بعد ذلك فكان عاملاً قويًا في انتصاراتهم المتكررة الحاسمة مع أعدائهم.
52- بعد النصر ومخاطبة أهل القليب: انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين على المشركين, وكان قتلى المشركين سبعين رجلا، وأسر منهم سبعون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا، منهم ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار, ولما تم الفتح وانهزم المشركون أرسل -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بنصر الله للمسلمين وهزيمة المشركين.
ومكث -صلى الله عليه وسلم- في بدر ثلاثة أيام، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: (إنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال...).
ولعل الحكمة في ذلك: 1- تصفية الموقف بالقضاء على أية حركة من المقاومة اليائسة التي يحتمل أن يقوم بها فلول المنهزمين الفارين هربًا إلى الجبال. 2- دُفن من استُشهد من جند الله مما لا تكاد تخلو منه معركة، فقد دفن شهداء المسلمين في أرض المعركة، ولم يرد ما يشير إلى الصلاة عليهم، ولم يدفن أحد منهم خارج بدر. 3- جمع الغنائم وحفظها، وإسناد أمرها إلى من يقوم بهذا الحفظ حتى تؤدى كاملة إلى مستحقيها، وقد أسندت أنفال وغنائم بدر إلى ابن الحارث عبد الله بن كعب الأنصاري، أحد بني مازن. 4- إعطاء الجيش الظافر فرصة يستروح فيها، بعد الجهد النفسي والبدني المضني الذي بذله أفراده في ميدان المعركة، ويضمد فيها جراح مجروحيه، ويذكر نعم الله عليه فيما أفاء الله عليه من النصر المؤزر الذي لم يكن داني القطوف، سهل المنال، ويتذاكر أفراده وجماعاته ما كان من أحداث ومفاجآت في الموقعة، مما كان له أثر فعال في استجلاب النصر، وما كان من فلان في شجاعته وفدائيته وجرأته على اقتحام المضائق وتفريج الأزمات، وما تكشفت عنه المعركة من دروس عملية في الكر والفر, والتدبير المحكم الذي أخذ به العدو، وما في ذلك من عبر، واستذكار أوامر القيادة العليا وموقفها في رسم الخطط، ومشاركتها الفعلية في تنفيذها، ليكون من كل ذلك ضياء يمشون في نوره في وقائعهم المستقبلية، ويجعلون منه دعائم لحياتهم في الجهاد الصبور المظفر بالنصر المبين. 5- مواراة جيف قتلى الأعداء الذين انفرجت المعركة عن قتلهم، والتعرف عليهم وعلى مكانتهم في حشودهم, وعلى من بقي منهم مصروعًا بجراحه لم يدركه الموت، للإجهاز على من ترى قيادة جيش الإسلام المصلحة في القضاء عليه اتقاء شره في المستقبل, كالذي كان من أمر الفاسق أبي جهل فرعون هذه الأمة، والذي كان في شأن رأس الكفر أمية بن خلف وأضرابهما، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإلقاء هؤلاء الأخباث في رَكِيٍّمن قُلُب بدر خبيث مُخْبث, ثم وقف على شفة الركي, وقد ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- وقف على القتلى فقال: «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس».
ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون الجواب».
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخًا، وتصغيرًا، ونقمة، وحسرة، وندمًا.
53- الحياة البرزخية للأموات: الحديث السابق الذي ورد فيه أنه -صلى الله عليه وسلم- وقف على القتلى فقال: «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس».
ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا».
إن مناداة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لقتلى قريش بينت أمرًا عظيمًا، وهو أنهم بدَأوا حياة جديدة، هي حياة البرزخ الخاصة، وهم فيها يسمعون كلام الأحياء، غير أنهم لا يجيبون ولا يتكلمون، والإيمان بهذه الحياة من عقائد المسلمين، ونعيم القبر وعذابه ثابتان في صحيح الأحاديث، حتى إنه -صلى الله عليه وسلم- مر بقبرين وقال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير», وذكر أن سبب تعذيبهما النم بين الناس، وعدم الاستنزاه من البول.
ولابد من التسليم بهذه الحقائق الغيبية، بعد أن تحدث عنها الصادق المصدوق، وقطع بها القرآن الكريم في تعذيب آل فرعون, قال تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46].
وأما الشهداء فقد قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169].
وبعد هذا التطواف مع الدروس والعِبَرِ.. فهذا غيضٌ من فيض ودرس من مدرسة بدر الكبرى التي يجب على المسلمين أن يقفوا أمامها وقفة إجلال وتقدير، لينظروا من خلالها إلى المعايير الإيمانية في مواجهة الحق مع الباطل، وكيف أن الفئة المؤمنة القليلة العدد والعتاد، والمستضعفة في الأرض كيف أنها حين أخلصت لربها، وتجردت لعقيدتها، وانخلعت من الأهواء والشهوات، فإن الله -عز وجل- أعزَّها، وسخَّر لها جنود السموات والأرض، فتحقق لها النصر الذي وعد الله به عباده في محكم التنزيل: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 171 - 173].
اللهم انصر دينك وكتابك وسُنَّة نبيِّك يارب العالمين, واكتب لنا الشَّهادة في سبيلك بعد طول عُمر وحسن عمل, إنك ولي ذلك والقادر عليه. هذا وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
| | | | غزوة بدر دروس وعبر | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |