| | غزوة بني المصطلق دروس وعبر | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: غزوة بني المصطلق دروس وعبر الأحد 30 يونيو 2019, 4:58 am | |
| غزوة بني المصطلق دروس وعبر الحمد لله الذي يسمع ويرى، الحمد لله الذي يعلم السر وأخفى، الحمد لله الذي يسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" [النساء: 1].
وبعد... فلا تزال السيرة النبوية معيناً لا ينضب لكل باحث عن الحق ساعٍ إلى معرفة هدي خير الورى -صلى الله عليه وسلم-، ومهما كثر على هذا المعين الواردون ونـهل منه الناهلون فسوف يظل كما هو في صفائه وقوته وغزارة مادته.
ولما كان الجهاد في سبيل الله من أهم سمات حياته المباركة -صلى الله عليه وسلم-، فقد اعتنى أهل العلم بدراسة غزواته وبعوثه، ليس فقط لمعرفة هديه في حربه وسلمه، بل أيضاً لاستنباط كثير من الأحكام الفقهية التي لا تخلو من الإشارة إليها غزوة، ومحاولة استخلاص بعض الحكم العظيمة من تلك الغزوات، واستجلاء بعض أساليبه -صلى الله عليه وسلم- في إعداد أصحابه وتربيتهم، وغير ذلك مما قد يفتح الله به على من يشاء من عباده.
ومن هذا الباب لا زلنا وإياكم في هذه الموسوعة المباركة بإذن الله: (غزوات النبي المصطفى دروس وعبر)، ومع (غزوة بني المصطلق دروس وعبر). وأسال الله الكريم الوهاب العزيز التواب أن ينفع بهذا العمل، و يجعله لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، و يجعله في ميزان حسناتي يوم ألقاه إنه ولي ذلك والقادر عليه. """"" غزوة بني المصطلق * غزوة بني المصطلق: ومن هم بنو المصطلق: هم بطن من خزاعة, والمصطلق جدهم, وهو جذيمة بن سعد ابن عمرو بن ربيعة ابن حارثة بن عمرو بن عامر ماء السماء.
* غزوة بني المصطلق: التي اختلف العلماء في تاريخها, وانحصرت أقوالهم فيها في ثلاثة أقوال، فمن قائل إنها في شعبان سنة ست، قال بذلك ابن إسحاق وخليفة بن خياط، وابن جرير الطبري.
ومن قال بأنها في شعبان من العام الرابع للهجرة، مثل المسعودي.
وذهبت طائفة إلى أنها كانت في شعبان من السنة الخامسة، منهم موسى بن عقبة، وابن سعد، وابن قتيبة، والبلاذري، والذهبي، وابن القيم، وابن حجر العسقلاني، وابن كثير -رحمهم الله- ومن المحدثين الخضري بك، والغزالي، والبوطي.
وقد كانت وفاة سعد بن معاذ في أعقاب غزوة بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت في ذي القعدة من السنة الخامسة على القول الراجح, فيتعين أن تكون غزوة بني المصطلق قبلها.
* غزوة بني المصطلق: التي من أهم أسبابها: أ- تأييد هذه القبيلة لقريش واشتراكها معها في معركة أحد ضد المسلمين، ضمن كتلة الأحابيش التي اشتركت في المعركة تأييدًا لقريش. ب- سيطرة هذه القبيلة على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزًا منيعًا من نفوذ المسلمين إلى مكة. ج- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلغه أن بني المصطلق يجمعون له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار ينظم جموعهم، فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فهزمهم شر هزيمة.
* غزوة بني المصطلق: التي فيها زواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها-.
* غزوة بني المصطلق: التي من أسماءها أيضاً المريسيع فعندما بلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن بني المصطلق يجمعون له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار ينظم جموعهم، فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فهزمهم شر هزيمة.
* غزوة بني المصطلق: تعتبر هذه الغزوة من الغزوات الفريدة المباركة التي أسلمت عقبها قبيلة بأسرها.
* غزوة بني المصطلق: التي كان شعار المسلمين فيها: يَا مَنْصُورُ، أمت أمت.
* غزوة بني المصطلق: التي أعتق فيها المسلمين كل ما كان في أيديهم من بني المصطلق، كرامةً لمصاهرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزواجه من جويرية بنت الحارث.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: أعتق مائة أهل بيت بتزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياها، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها.
* غزوة بني المصطلق: في مرجع الناس منها قال أهل الإفك ما قالوا، وأنزل الله تعالى في ذلك براءة عائشة أم المؤمنين رضوان الله عليها ما أنزل.
دروس وعبر من غزوة بني المصطلق 1- المنافقين و محاولة إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار: خرج في غزوة بني المصطلق عددٌ كبير من المنافقين مع المسلمين، وكان يغلب عليهم التخلف في الغزوات السابقة، لكنهم لما رأوا اطراد النصر للمسلمين خرجوا طمعًا في الغنيمة.
وعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن الحقد الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فكلما كسب الإسلام نصرًا جديدًا ازدادوا غيظًا على غيظهم, وقلوبهم تتطلع إلى اليوم الذي يهزم فيه المسلمون لتشفى من الغل، فلما انتصر المسلمون في المريسيع سعى المنافقون إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار ويحكي شاهد عيان آخر هو جابر بن عبد الله الأنصاري ما حدث عند ماء المريسيع، وأدى إلى كلام المنافقين لإثارة العصبية وتمزيق وحدة المسلمين، قال: (كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟».
قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: «دعوها فإنها منتنة» فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».
وفي رواية قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، لا، ولكن أذن بالرحيل»، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرتحل فيها، فارتحل الناس.
ثم مشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نيامًا.
وإنما فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، ونزلت السورة التي ذكر فيها المنافقون في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسول الله بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: هذا الذي أوفى الله بأذنه.
2- عبد الله بن أُبي والإساءة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-: لما أخفقت المحاولة سعوا إلى إيذاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نفسه وأهل بيته, فشنوا حربًا نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها، ولنترك الصحابي زيد بن أرقم وهو شاهد عيان ومشارك في الحادث الأول يحكي خبر ذلك, قال: (كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أُبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي, فذكره للنبي -صلى الله عليه وسلم- فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقه, فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: "إذا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ" [المنافقين: 1] فبعث إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ، فقال: «إن الله قد صدقك يا زيد».
وقد مشى عبد الله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمعه منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، فقال من حضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه.
فلما سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال: يا نبي الله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أو بلغك ما قال صاحبكم؟».
قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبي؟» قال: وما قال؟ قال: «زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل».
قال: فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت، هو الذليل وأنت العزيز.
ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه, فإنه يرى أنك استلبت ملكه، إن هذه الحادثة من السيرة النبوية العطرة مليئة بالدروس والعبر.
|
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بني المصطلق دروس وعبر الأحد 30 يونيو 2019, 5:04 am | |
| فمن أهم تلك الدروس: 3- (أ) الحفاظ على السُّمعة السياسية ووحدة الصف الداخلية: وهذا الدرس يظهر في قوله -صلى الله عليه وسلم-: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟ إنها المحافظة التامة على السمعة السياسية، والفرق كبير جدًّا بين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمدٍ محمدًا، ويؤكدون على ذلك بلسان قائدهم الأكبر أبي سفيان: ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمدًا، وبين أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولا شك أن وراء ذلك محاولات ضخمة ستتم في محاولة الدخول إلى الصف الداخلي في المدينة من العدو، بينما هم يائسون الآن من قدرتهم على شيء أمام ذلك الحب وتلك التضحيات.
ولم يقف النبي -صلى الله عليه وسلم- موقفًا سلبيًّا حيال تلك المؤامرة التي تزعَّمها ابن سلول لتصديع الصف المسلم، وإحياء نعرات الجاهلية في وسطه...
بل اتخذ إزاءها الخطوة الإيجابية التالية: أ- سار رسول الله بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم الثاني حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً.
وبهذا التصرُّف البالغ الغاية في السياسة الرشيدة قضى على الفتنة قضاءً مُبرمًا، ولم يدع مجالاً للحديث فيما قال ابن أبي.
ب- لم يواجه النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن سلول ومؤامراته المُدَبَّرة بالقوة واستعمال السلاح حرصًا على وحدة الصف المسلم، وذلك لأن لابن أبي أتباعًا وشيعة مسلمين مغرورين، ولو فتك به لأرعدت له أنوف، وغضب له رجال متحمسون له، وقد يدفعهم تحمسهم له إلى تقطيع الوحدة المسلمة، وليس في ذلك أي مصلحة للمسلمين ولا للإسلام، وإنها لسياسة شرعية حكيمة رشيدة في معالجة المواقف العصبية في حزم وقوة أعصاب وبُعد نظر.
وهذه البراعة في الحكمة والسياسة وتدبير الأمور متفرعة عن كونه -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً إلى الناس لكي تقتدي به الأمة في تصرفاته العظيمة.
وقد كان لتسامح الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع رأس المنافقين أبعد الآثار فيما بعد، فقد كان ابن أبي ابن سلول كلما أحدث حدثًا كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه، ويعنفونه، ويعرضون قتله على النبي -صلى الله عليه وسلم-، والرسول يأبى ويصفح، فأراد رسول الله أن يكشف لسيف الحق عن آثار سياسته الحكيمة، فقال: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلتَ لي لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم لقتلته» فقال عمر: قد -والله- علمت لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم بركة من أمري.
4- (ب) (بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا): كان لابن أبي ابن سلول ولدٌ مؤمن مخلص يسمى عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فلما علم بالأحداث ونزول السورة، أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: (يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي ابن سلول فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي بين الناس، فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمنًا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا».
ولما وصل المسلمون مشارف المدينة تصدى عبد الله لأبيه عبد الله بن أبي، وقال له: قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فلما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استأذنه في ذلك، فأذن له.
5- (ج) مثل أعلى في الإيمان: جسَّده عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول في موقفه من والده، وتقديمه وإخلاصه لله ولرسوله، وتقديم محبتهما ومراضيهما على محبة ومراضي الأبوة.
لقد ضرب الابن أروع مثل في الإيمان والتضحية بعاطفة الأبوة، فقابله -صلى الله عليه وسلم- صاحب القلب الكبير والخلق العظيم بمثل رفيع في العفو والرحمة وحسن الصحبة «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» يا لروعة العفو، ويا لجلال العظمة النبوية, فقد تلطف النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الصحابي الجليل، وهدَّأ من روعه، وأذهب هواجسه.
6- (د) محاربة العصبية الجاهلية: إن العصبية الممقوتة والتي نصفها بالجاهلية غير مقصورة على العصبية القبلية أي الاشتراك في النسب الواحد، نسب القبيلة التي ينتمون إليها, وإنما الاشتراك في معنى أو وصف معين يجعل المشتركين فيه يتعاونون ويتناصرون فيما بينهم بالحق وبالباطل، ويكون ولاؤهم فيما بينهم على أساس هذا المعنى أو الوصف المشترك، فعندما كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، قال الأنصاري: يا للأنصار, وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟» قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «دعوها فإنها منتنة», ووجه الدلالة بهذا الخبر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر هذه المناداة لما تشعره من معنى العصبية، مع أن المنادي استعمل اسمًا استعمله القرآن وهو (المهاجرين) (والأنصار).
فالمهاجري استنصر بالمهاجرين مع أنه هو الذي كسع، فكأنه بندائه هذا يريد عونهم، لاشتراكه وإياهم بمعنى واحد وهو (المهاجرة)، وكذلك الأنصاري استنصر بالأنصار؛ لأنه منهم ويشترك وإياهم بوصف واحد ومعنى واحد وهو مدلول كلمة (الأنصار), وكان حق الاثنين -إذا كان لابد من الاستنصار بالغير- أن يكون الاستنصار بالمسلمين جميعًا، وعلى هذا فالمطلوب من الدعاة التأكيد على نبذ العصبية بجميع أنواعها سواء كانت عصبية تقوم على أساس الاشتراك بالقبيلة الواحدة، أو على أي أساس آخر، من بلد, أو مذهب، أو حزب، أو عرق، أو لون، أو دم، أو جنس، وأن يكون الولاء والتناصر على أساس الاشتراك بالأخوة الإسلامية التي أقامها وأثبتها واعتبرها الله تعالى بين المسلمين بقوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" [الحجرات: 10]، وأن يكون التناصر فيما بينهم تناصرًا على الحق لا على الباطل بمعنى أن ينصروا المحق، وأن يكونوا معه, لا مع المعتدي.
لقد أوضح الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن العصبيات هي من دعاوى الجاهلية، وقال: «لينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره» فجعل التناصر في طلب الحق والإنصاف وأبطل المفهوم الجاهلي: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا.
إن مهمة الدعاة وطلاب العلم والعلماء والفقهاء في التخلص من العصبية، ودعوة المسلمين إلى نبذها, كما أمر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة، ولأهميتها الكبيرة علينا أن نبذل ما في وسعنا لقلعها من النفوس.
7- توجيه القرآن الكريم للمجتمع الإسلامي في أعقاب غزوة بني المصطلق: نزلت سورة (المنافقون) في أعقاب غزوة بني المصطلق، حيث كان المسلمون راجعين إلى المدينة, وذلك بدليل رواية الإمام الترمذي (فلما أصبحنا قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة المنافقون).
فقد تحدثت السورة بإسهاب عن المنافقين، وأشارت إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم وفضحت أكاذيبهم، إلا أنها في الختام حذرت المؤمنين من الانشغال بزينة الدنيا ومتاعها، وحثت على الإنفاق.
ويمكن لدارس هذه السورة أن يلاحظ عدة محاور مهمة منها: 1- تحدثت السورة الكريمة في البدء عن أخلاق المنافقين، وفضحت كذبهم في أقوالهم ووصفت حالهم؛ فابتدأت هذه السورة بإيراد صفات المنافقين التي من أهمها الكذب في ادعاء الإيمان، وحلف الإيمان الكاذبة، وجبنهم وضعفهم وتآمرهم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى المؤمنين, وصدهم الناس عن دين الله, قال تعالى: "إذا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ" [المنافقون: 1-4].
2- ثم بينت الآيات عنادهم وتصميمهم على الباطل، وعصيانهم لمن يدعوهم إلى الحق وبينت مقالاتهم الشنيعة بالتفصيل خاصة ما قالوه في غزوة بني المصطلق من أنهم سيطردون الرسول والمؤمنين من المدينة، وأن العزة لهم، إلى غير ذلك من الأقوال العظيمة الفظيعة.
قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ *هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ" [المنافقون: 5-8].
وهكذا كان المجتمع المدني يتربى بالأحداث, والقرآن الكريم يقوم بتوجيهه وتعليمه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم بالإشراف على ذلك.
حادثة الإفك والدروس والعبر منها: حاك المنافقون في هذه الغزوة حادثة الإفك، بعد أن فشل كيدهم في المحاولة الأولى لإثارة النعرة الجاهلية، فقد ألمت بالبيت النبوي هذه النازلة الشديدة والمحنة العظيمة التي كان القصد منها النيل من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن أهل بيته الأطهار، هذا وقد أجمع أهل المغازي والسير على أن حادثة الإفك كانت في أعقاب غزوة بني المصطلق، وتابعهم في ذلك المفسرون، والمحدثون.
وقد أخرج البخاري ومسلم حديث الإفك في صحيحيهما، وهذا سياق القصة من صحيح البخاري: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه, فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي, فخرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه.
فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوته تلك, وقفل ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل, فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش, فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جَزْعِ ظَفَارٍ قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم, إنما نأكل العُلقة من الطعام, فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السنة فبعثوا الجمل، وساروا, فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب, فأقمت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليَّ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي, فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني, فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه, حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها, فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة , فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول.
كانت قصة الإفك حلقة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أعداء الدين، وكان من لطف الله تعالى بنبيه -صلى الله عليه وسلم- وبالمؤمنين أن كشف الله زيفها وبطلانها، وسجل التاريخ بروايات صحيحة مواقف المؤمنين من هذه الفرية, لاسيما موقف أبي أيوب وأم أيوب، وهي مواقف يتأسى بها المؤمنون عندما تعرض لهم في حياتهم مثل هذه الفرية، فقد انقطع الوحي، وبقيت الدروس لتكون عبرة وعظة للأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. |
| | | أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 51967 العمر : 72
| موضوع: رد: غزوة بني المصطلق دروس وعبر الأحد 30 يونيو 2019, 5:13 am | |
| 8- (أ) تبرئة السيدة عائشة -رضي الله عنها-: من الإفك بقرآن يتلى إلى آخر الزمان, قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ" [النور: 11].
9- (ب) الخير يبزغ في الشر: حكمة الله تعالى اقتضت أن يبزغ الخير من ثنايا الشر، فقد كان ابتلاء أسرة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بحديث الإفك خيرًا لهم, حيث كتب لهم الأجر العظيم على صبرهم وقوة إيمانهم, قال تعالى: "لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" [النور: 11].
10- (ج) الحفاظ على سمعة المؤمنين: الحرص على سمعة المؤمنين، وعلى حسن الظن فيما بينهم, قال تعالى: "لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ" [النور: 12].
11- (د) تكذيب القائلين بالإفك: قال تعالى: "لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ" [النور: 13].
12- (هـ) بيان فضل الله على المؤمنين ورأفته بهم: قال تعالى: "وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ" [النور: 14].
13- (و) التثبت من الأقوال قبل نشرها: يجب التثبت من الأقوال قبل نشرها، والتأكد من صحتها, قال تعالى: "وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ" [النور: 16].
14- (ز) النهي عن اقتراف مثل هذا الذنب العظيم أو العودة إليه: قال تعالى: "يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [النور: 17، 18].
15- (ح) النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين: قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونٌَ" [النور: 19].
16- (ط) بيان فضل الله سبحانه على عباده المؤمنين ورأفته بهم وكرر ذلك تأكيدًا له: قال تعالى: "وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ" [النور: 20].
17- (ي) النهي عن تتبع خطوات الشيطان التي تؤدي للهلاك: قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [النور: 21].
18- (ك) الحث على النفقة على الأقارب وإن أساءوا: قال تعالى: "وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [النور: 22].
19- (ل) غيرة الله تعالى على عباده المؤمنين: ودفاعه عنهم, وتهديده لمن يرميهم بالفحشاء باللعن في الدنيا والآخرة, قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ" [النور: 23-25].
قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات: ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ارتكب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مُفتنة، كل واحد منها كافٍ في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الآيات الثلاث: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ" إلى قوله: "هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ" [النور: 23-25] لكفى بها حديثًا جعل القذفة معلونين في الدارين جميعًا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله.
20- من سنن الله: جاء في سياق الآيات بيان سنة من سنن الله الجارية في الكون وهي أن الطيبين يجعلهم الله من نصيب الطيبات, والطيبات يجعلهن من نصيب الطيبين، قال تعالى: "الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" [النور: 26].
21- الناس مع الإفك أربعة أقسام: والناس عندما رُميت الصديقة بنت الصديق بالإفك كانوا على أربعة أقسام: قال فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد -عند تعليقه على حديث يتعلق بقصة الإفك-: إن الناس عندما رُميت الصديقة بنت الصديق بالإفك كانوا أربعة أقسام: قسم: وهو أكثر الناس، حموا أسماعهم وألسنتهم فسكتوا، ولم ينطقوا إلا بخير ولم يصدقوا ولم يكذبوا.
وقسم: سارع إلى التكذيب، وهم أبو أيوب الأنصاري وأم أيوب رضي الله عنهما، فقد وصفوه عند سماعه بأنه إفك وبرؤوا عائشة مما نسب إليها في الحال.
أما القسم الثالث: فكانوا جملة من المسلمين لم يصدقوا ولم يكذبوا ولم ينفوه، ولكنهم يتحدثون بما يقول أهل الإفك, وهم يحسبون أن الكلام بذلك أمر هين لا يعرضهم لعقوبة الله؛ لأن ناقل الكفر ليس بكافر, وحاكي الإفك ليس بقاذف, ومن هؤلاء حمنة بنت جحش وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة.
أما القسم الرابع: فهم الذين جاءوا بالإفك وعلى رأس هؤلاء عدو الله عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين لعنه الله وهو الذي تولى كبره.
وقد أشار الله عز وجل إلى فضل القسم الثاني من هذه الأقسام، وأنه كان ينبغي لجميع المسلمين أن يقفوا هذا الموقف, فقال: "لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ" [النور: 12].
أما القسم الثالث: فقد أشار الله عز وجل إلى أنه ما كان ينبغي لهم أن يتحدثوا بمثل هذا الحديث حيث يقول: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ" [النور: 15، 16].
وقد أثبت الله عز وجل لأهل هذا القسم فضائلهم التي عملوها حيث أثبت لمسطح هجرته وإيمانه عندما حلف أبو بكر أنه لن ينفق على مسطح، ولن يتصدق عليه وهو من ذوي قرابته, فقال عز وجل: "وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [النور: 22].
أما القسم الرابع: وهو جماعة عبد الله بن أبي الذين جاءوا بالإفك واخترعوا هذا الكذب, فقد أشار الله إلى موتهم على الكفر، وأنه لن يقبل منهم توبة، وأنه أنزل عليهم لعنته في الدنيا والآخرة, حيث قال: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ" [النور: 23-25].
22- الصالحون مستهدفون: من هذه الحادثة نأخذ أن الأنبياء وأتباعهم مستهدفون من قبل أعداء الإسلام من الكافرين والمنافقين وأتباعهم؛ بتلفيق التهم ضدهم، ورميهم في أعراضهم وفي أنفسهم، ولكن الله يدافع عنهم، ويرد كيد الأعداء في نحورهم، ويزيد أنبياءه وأولياءه الصالحين رفعة في الدنيا وثواباً في الآخرة، وأنه مهما لفق الملفقون من التهم ورموا به أولياء الله ؛ فإن الله تعالى كاشف ذلك، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون (4). سبحان ربنا عالم السر وأخفى! سبحانك ما أحلمك!
23- بشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم-: جاءت محنة الإفك منطوية على حكمة إلهية استهدفت إبراز شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهارها صافية مميزة عن كل ما قد يلتبس بها، فلو كان الوحي أمرًا ذاتيًّا غير منفصل عن شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-, لما عاش الرسول -صلى الله عليه وسلم- تلك المحنة بكل أبعادها شهرًا كاملاً، ولكن الحقيقة التي تجلت للناس بهذه المحنة أن ظهرت بشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونبوته، فعندما حسم الوحي اللغط الذي دار حول أم المؤمنين عائشة -ل- عادت المياه إلى مجاريها بينها وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفرح الجميع بهذه النتيجة بعد تلك المعاناة القاسية، فدل ذلك على حقيقة الوحي، وأن الأمر لو لم يكن من عند الله تعالى لبقيت رواسب المحنة في نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفة خاصة, ولانعكس ذلك على تصرفاته مع زوجته عائشة رضي الله عنها، وهكذا شاء الله أن تكون هذه المحنة دليلاً كبيرًا على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
24- منهج مواجهة الشائعات: قد رسم القرآن الكريم لنا منهجاً في مواجهة الشائعات -وما أكثرها في زماننا هذا-!!:
فأولى الخطوات: عرض الأمر على القلب، واستفتاء الضمير ؛ فالمؤمن لا ينبغي أن يكون أذنا يمر الكلام عليه بلا ترو ولا تفهم، إنما بنقد واعتبار، فيتوقف حتى يتبين "أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" [الحجرات: 6].
قال تعالى مبيناً للمؤمنين أهمية هذه الخطوة في قصة الإفك: "لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً" [النور: 12].
نعم، كان هذا هو الأولى: أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في هذه الحمأة، وكذلك فعل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه حينما قالت له امرأته أم أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم، وذلك الكذب؛ أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك.
وهكذا إذا سمع المسلم شائعة أو تهمة ملفقة رمي بها أحد عباد الله الصالحين أو الدعاة المخلصين؛ عليه أن يظن بأخيه خيراً، ويعلم أبعاد حرب الحق والباطل، وليعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبله رمي في عرضه، لكن الله يدافع عن الذين آمنوا، وليعلم أن هذا هو دأب المنافقين والمأجورين والحاقدين مع عباد الله المؤمنين، الذين يدعون إلى صراط الله المستقيم، وأن هذا هو دأب الجبناء الذين يعملون من خلف الأستار بتلفيق أخس التهم الباطلة، ولكن؛ إن ربك لبالمرصاد.
والخطوة الثانية من منهج مقابلة الشائعات: طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي: قال تعالى مبيناً ذلك: "لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون" [النور: 13]؛ فعند طلب البينة تتضح الحقيقة، ولن يجد المبطل الأفاك بينة.
ويُبَيِّنُ سبحانه وتعالى خطورة الغفلة عن هاتين الخطوتين: قال تعالى: "ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم" [النور: 15]
فلقد احتسبها الله للجماعة المسلمة درساً قاسياً، فأدركهم بفضله ورحمته، ولم يمسهم بعقابه أو عذابه.
25- حَدِّ القذف وأهميته في المحافظة على أعراض المسلمين: كان المجتمع الإسلامي يتربى من خلال الأحداث، فعندما وقعت حادثة الإفك أراد المولى -عز وجل- أن يشرع بعض الأحكام التي تساهم في المحافظة على أعراض المؤمنين, ولذلك نزلت سورة النور، التي تحدثت عن حكم الزاني والزانية وعن قبح فاحشة الزنا، وعما يجب على الحاكم أن يفعله إذا ما رمى أحد الزوجين صاحبه، وعن العقوبة التي أوجبها الله على الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى غير ذلك من الأحكام.
إن الإسلام حرم الزنا، وأوجب العقوبة على فاعله، فقد حرم أيضًا كل الأسباب المسببة له، وكل الطرق الموصلة إليه، ومنها إشاعة الفاحشة والقذف بها لتنزيه المجتمع من أن تسري فيه ألفاظ الفاحشة والحديث عنها؛ لأن كثرة الحديث عن فاحشة الزنا وسهولة قولها في كل وقت يهون أمرها لدى سامعيها، ويجرئ ضعفاء النفوس على ارتكابها، لهذا حرمت الشريعة الإسلامية القذف بالزنا، وأوجبت على من قذف عفيفًا أو عفيفة, طاهرًا أو طاهرة, بريئًا أو بريئة من الزنا حد القذف وهو الجلد ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبة صادقة نصوحًا.
هذا وقد أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حد القذف على مسطح وحسان وحمنة، وروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحا وحسانًا وحمنة، وذكره الترمذي قال القرطبي: والمشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حُدَّ حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد عبد الله بن أبي، وقد وردت آثار ضعيفة تدل على أن عبد الله بن أبي أقيم عليه الحد، ولكنها كلها ضعيفة لا تقوم بها حُجَّة .
26- الحكمة في عدم حَدِّ عبد الله بن أبي: وقد ذكر ابن القيم وجه الحكمة في عدم حد عبد الله بن أبي فقال: أ- قيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلاً لذلك, وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ويكفيه عن الحد. ب- وقيل: كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه. ج- وقيل: الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد, فإنه كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين. د- وقيل: بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته عليه، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارًا, وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم من الإسلام، ثم قال في ختام كلامه ولعله تُرك لهذه الوجوه كلها.
27- اعتذار حسان -رضي الله عنه- للسيدة عائشة -رضي الله عنها-: قد بينت الروايات أن مَنْ خاض في الإفك قد تاب ما عدا ابن أُبي، وقد اعتذر حسان -رضي الله عنه- عما كان منه.
وقال يمدح عائشة بما هي أهلٌ له : من المحصنات غير ذات غوائل رأيتك وليغفر لك الله حرة وتصبح غرثي من لحوم الغوافل حصان رزان ما تزن بريبة بك الدهر بل قيل امرئ متناحل وإن الذي قد قيل ليس بلائق فلا رفعت سوطي إلي أناملي فإن كنت أهجوكم كما بلغوكم لآل رسول الله زين المحافل فكيف وودي ما حييت ونصرتي قصارًا، وطال العز كل التطاول وإن لهم عزًا يرى الناس دونه
28- جواز الإغارة على مَنْ بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذار: ومن دروس هذه الغزوة جواز الإغارة على من بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذار، ومنها صحة جعل العتق صداقًا كما فعل -صلى الله عليه وسلم- مع جويرية بنت الحارث في هذه الغزوة.
29- مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر: ومن الدروس مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن.
30- كُفر مَنْ سَبَّ عائشة : -رضي الله عنها- وقد أجمع العلماء قاطبة على أن مَنْ سَبَّ عائشة -رضي الله عنها- بعد براءتها براءةً قطعيةً بنص القرآن ورماها بما اتهمت به فإنه كافر؛ لأنه مُعاندٌ للقرآن.
31- حكم العزل عن النساء: ومن الأحكام التي عرفت في هذه الغزوة حكم العزل عن النساء حيث سأل الصحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنه فأذن به وقال: «ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة».
فذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزوجة الحرة بإذنها, ونزلت آية التيمم في هذه الغزوة، تنويهًا بشأن الصلاة، وتنبيهًا على عظيم شأنها، وأنه لا يحول دون أدائها فقد الماء، وهو وسيلة الطهارة التي هي أعظم شروطها، كما لا يحول الخوف وفقد الأمن من إقامتها.
واكتفي بهذا القدر من الدروس والعبر من هذه الغزوة،أسأل الله أن ينفع بها، ويكتب الأجر، ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل. هذا وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
| | | | غزوة بني المصطلق دروس وعبر | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |