ويلحق في ذلك منع أهل الظلال والزيغ من التعبد في أوقاتٍ مخصوصة؛ سواءً في مكة وغيرها؛ ممن أمر الشارع بالإتيان إليها على وَجْه العموم في جميع مواسم العام؛ فيقال أنه إذا كان ثمة من أهل البدع من يتعبد بأوقاتٍ وأزمنةٍ محددة فيما دَلَّ الدليلُ على أنَّ التعبَّد فيه على وَجْه العموم جائزٌ يجوز منعه؛ كمن يعتمر في رجب، أو يحتفل بليالٍ معروفة؛ كالميلاد وليلة الإسراء في بعض المساجد ونحو ذلك، وإن كان دخول المساجد والتعبد فيها هو من أعظم العبادات، ومن المشروع في الديانة، وصَدُّ الناس عن المساجد مِنْ أعظم الآثام، وقد حَذَّر الله مِنْ ذلك أعظم تحذير، وحذر منه عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة.
وعليه فإنَّ خلاصة هذه المسألة أنه يجوز تحديد أزمنة محدَّدة لمصلحة تيسير أمر الحجاج من عدم الزحام ونحو ذلك، (وإلا فالأصل أنه ما وجد سَعَة وما وجد فُسحة فإنه لا يجوز مَنعهم بحالٍ)؛ فمن أراد قَصْدَ الحج في أي يومٍ من أيام السنة فإنه يُيَسَّر له ذلك ولا يُمنَعُ منه على وجه العموم؛ فينبغي أن يُغَلَّبَ هذا الأصلُ على العِلَّةِ وعلى النازلة قَدْر الإمكان، إلا إذا كان في ذلك علة أو نازلة ظاهرة بيِّنة؛ فإنها تُغلَّبُ لعِلَّةٍ ظاهرةٍ تتعلق بمقاصد التشريع؛ لثبوت ذلك عن بعض أصحاب رسول الله .
ومن المسائل النازلة في هذا الباب ما يُسمَّى في عصرنا بـ "قوافل" أو "حملات الحج"؛ هذه القوافل وحملات الحج هي من النوازل في هذا الزمان، وقد تباين الناسُ في هذا الباب؛ بين مُغالٍ وغير مُغالٍ، بين مُتَّبعٍ للمشقة، وبين مُتَّبعٍ للتيسير والسعة، وبين مُسرفٍ يدفع الغالي والنفيس؛ لتقليل الراحة وطلب السَّعة، وعدم النظر إلى أصْل المشقةِ في الحج؛ وذلك أن الشارع قد سمَّى الحج جهاداً، فقد جاء عن رسول الله كما جاء في البخاري من حديث عائشة عليها - رضوان الله تعالى - أنه قال : "على النساء جهاد لا قتال فيه" وقال : "الحج"، وقد جاء في غير البخاري بذكر العمرة، وهي غير محفوظة؛ فسمَّى رسول الله الحجَّ جهاداً؛ وذلك لما فيه من الجهد والمشقة، ورسول الله وأصحابه كانوا - عليهم رضوان الله تعالى - مع يُسر بعضهم إلا أنه يَتَحيَّن التقشف والتقلل وعدم تلمُّس المبالغة بالراحة؛ كما جاء عن أنس بن مالك - عليه رضوان الله تعالى - في المسند وغيره من حديث يزيد بن أبان عن أنس بن مالك قال : حج رسول الله على رَحلٍ رَثٍّ، وقميصه لا يساوي أربعة دراهم، وحَجَّ أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى على ذلك.
وقد جاء عن عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - أنه رأى رفقة قد جاءوا إلى الحج من أهل اليمن بعد وفاة رسول الله على رواحل رثَّة، بها مزادتهم، فقال عليه رضوان الله تعالى: من أراد أن ينظر إلى رسول الله ومن معه فلينظر إلى هذا الوفد. يعني الذين جاءوا إلى الحج وحالهم تلك المذكورة.
وقد جاء عن أنس بن مالك - عليه رضوان الله تعالى - كما جاء في الصحيح من حديث أمامة أنَّ أنس بن مالك - عليه رضوان الله تعالى - أنه حجَّ على رَحلٍ، وليس بشحيح؛ أي أنه ليس بضيق ذات اليد؛ وإنما يملك مالاً؛ إلا أنه تقلَّلَ من ذلك وترك الإسراف.
ومن نظر إلى أحوال كثيرٍ من أهل الحملات في وقتنا وجد المبالغة في ذلك، وبعضهم يدفع الألوف المؤلفة لكي يتيسر له الحج، فلا يلتمس فيه مشقة، فأحبَّ أن يُفسح له الطريق، فلم ينظر إلى حال رسول الله في حجه وهو من هو، فكان رسول الله يحج على راحلةٍ واحدةٍ، وعلى هذه الراحلة مزادته وطعامه، وفيها رحله عليه الصلاة والسلام ومتاعه؛ قال: قد جاء عن بعض السلف أنَّ أول من حج براحلتين؛ راحلة يمتطيها وراحلة عليها مزادته هو عثمان بن عفان - عليه رضوان الله تعالى؛ فرسول الله من نظر إلى حاله وجد أنه لا يلتمس المشقة ويتقصدها؛ وإنما كان رسول الله يَحُجُّ راكباً وماشياً، وكان رسول الله لا يؤذي أحداً ولا يزاحم، وكان يحذر أصحابه - عليهم رضوان الله تعالى - من الزحام وأذية الخلق؛ وذلك دفعاً للمشقة، وطلباً للتيسير، وقد رخَّص عليه الصلاة والسلام كذلك للضعفاء أن ينفروا بَعْد منتصفِ الليل مِن مزدلِفة أو بعد طلوع القمر؛ كما جاء ذلك عن غير واحدٍ مِن أصحاب رسول الله ، كعبد الله بن عباس، والفضل، وأسماء، وغيرهم من أصحاب رسول الله ؛ نفروا مع أنَّ المبيت في مزدلفة واجبٌ؛ طلباً للتيسير وكذلك رخص رسول الله للعباس ومَن معه ألا يبيت بِمِنى؛ وذلك لمصلحة سقاية الحج، ورخَّص رسول الله لمَنْ يسبقه فيضرب له خيمةً بِـ"نَمِرَة"؛ ومعلومٌ أنَّ البقاء بـ "مِنَى" يومَ التروية وقبل ذلك هو السُّنَّةُ والأولى؛ ولكن ذلك لمَّا كان يتعلَّق بمصلحة المسلمين وتيسير طريقهم جاز الترخُّص ببعض الأحوال، إلا أنَّ الإنسان أن يلتمس دَفْعَ المشقَّةِ على وَجْهِ العموم وطلب التيسير والترفُّه ليس ذلك من نهج محمدٍ .
وهذا مذمومٌ من وجوه:
- الوجه الأول : أنَّ النبيِّ قد حَذَّر من الإسراف؛ وذلك أن التيسيرَ في الحج لا يمكن إلا بدفع مبالغ باهظة لحملاتٍ معينة تيسر للإنسان تَنَقُّلَه وتيسر له ملبسه ومطعمه بشيءٍ لا يتخيل الإنسان أنه في حج؛ وهذا معلومٌ مشاهَدٌ لمن لمس ذلك، وقد حَذَّر رسول الله من الإسراف؛ كما جاء في السنن من حديث بَهْز بن حكيم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدَّه أن رسول الله قال : "كل واشرب وتصدق من غير سَرَفٍ ولا مَخْيَلَة". قد حَذَّر الله من الإسراف بقوله جلَّ وعلا : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا، وبيَّن أن الإسرافَ مِنْ خصال الشياطين، ومِن كان على نَحْوِهم؛ كذلك الثاني أنَّ رسول الله مع تيسير أمره، وأنَّ الحجَّ كان في آخرِ أحواله، بعد أن بَسَطَ الله له في الرزق، فكان رسول الله يَدَّخِرُ في آخر حياته قوتَ سنةٍ كاملةٍ، وهذا يدلُّ على تيسير الرِّزْق، وكذلك السَّعَة لليد، ثم أنَّ من نظر إلى حال رسول الله فقد جاء بهَدْيٍ وأهدى، وهي مائة، فذبح رسول الله بيده ثلاثاً وستين، ورجلٌ يَمْلِكُ ذلك من الهدي ويأتي براحلة واحدة رثة وعليها مزادَتُه وطعامه ولباسُه؛ وهذا يدلُّ على أنَّ رسول الله قد تقصَّدَ عَدَمَ تتبُّع التيسير على وجه العموم، وإنْ كان التيسير مطلوباً؛ وذلك لدفعِ المشقة والأذية عن الناس؛ أما من جهة الإنسان بنفسه فإن الأصل في الحج أنه من الجهاد.
- الأمر الثاني : أنَّ الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كانوا على نهج محمدٍ كما جاء عن أنس بن مالك وعبد الله بن عمر؛ بل وعن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى؛ فإنَّ كثيراً من الحجَّاج الذين يبالغون بدفع الأموال الطائلة، ويبالغون بطلب الراحة والأماكن الفسيحة ونحو ذلك، ولا يرغبون بالجلوس مع الناس، ويرغبون بخلواتٍ؛ ليس لذكر الله والتعبد؛ وإنما دفعاً لمخالفة الناس وخُلُوِّ الذِّهن أو الانشغال بقراءة كتبٍ لا علاقة لها بالمناسك ونحو ذلك، لا شكَّ أن هذا من البعد.
وقد جاء في المصنَّفِ عن عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - أنَّ رجلاً قال له : ما أكثر الحجاج! فقال عبد الله بن عمر: ما أقلهم! ثم نظر عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - إلى رجلٍ على رَحلٍ رثٍ، قال، لعلَّ هذا، يعني من هؤلاء القليل؛ فإن الفوز والنجاح وكذلك القبول فيمن طَلَبَ المشقة مِن غير أذيَّةٍ في نفسه أولى مِن غيره؛ وذلك أنَّ رسول الله كانت حالُهُ كذلك.
ومن النوازل في هذا الباب مسألة المواقيت، ومحاذاتها جَوَّاً :
أولاً : يقال أنَّ المحاذاة من جهة الجو لم يدل عليها الدليل من جهة الأصل. وهذا معلومٌ.
العلماء يُلحقون هذه المسألة بأصلٍ وقاعدةٍ، وهي أنَّ الهواء له حُكْمُ القرار، وأنَّه داخلٌ في ملك الإنسان، وكذلك يستدلون بقياس الأَولى؛ قالوا أنَّ رسول الله لمَّا جعل للمحاذي في البر، وليس في ملك المالك لو كان يملك ذلك؛ فجَعَله في حُكمه، وقد جاء هذا عن رسول الله ، وجاء عن عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - لما وقَّت ذات عِرق، ولم يكن قبل ذلك ذات عرق؛ فوقَّت عليه رضوان الله تعالى تيسيراً للناس، فلما كان كذلك كان الهواءُ مِن باب أَولى.
والمحاذاة بالطائرة هي من المسائل التي عليها الاتفاق؛ أنَّ مَن حاذي الميقات من جهة الجو؛ أنه يجوز له الإحرام، ولا يجب عليه أن يعودَ إلى الميقات.
ويتفرع عن هذه المسألة تبعٌ لها مسألةٌ قد تكلم عليها جماعة من العلماء؛ وهي حُكْم جُدَّة؛ هل هي من المواقيت أم لا، وهذه من المسائل التي قد تكلم عليها جماعة من المتأخرين، وقد صَنَّفَ في ذلك بعض الفقهاء من الحنفية من المتأخرين كتاباً سمَّاه "دفع الشِّدَّة بجواز تأخير الإحرام إلى جُدَّة"؛ وذلك لجعفر النُّعَيمْي الحنفي - عليه رحمة الله، وجَوَّز أن يكون المحرم يوخِّر إحرامه إلى جدة، وجعلها مُحاذيهً.
أولاً : ينبغي النظر إلى تأصيل المسألة، أنَّ مسألة المواقيت قد دلَّ الدليل على أمورٍ مما يُحْرِمُ منه الحاجُ أو المعتمرُ، وذلك في عدة أحوالٍ:
- الحالة الأولى : من جهة من كان من أهل الآفاق مِن وراء المواقيت؛ فإنه يجب عليه أن يحرم من المواقيت الموصوفة عن رسول الله في حديث عبد الله بن عباس، ولا يجوز له أن يتجاوز هذه المواقيت، وإن تجاوزها وجبَ عليه أن يعود ما لم يكن في ذلك مشقَّة عليه؛ فإن كان في ذلك مشقة فإنه ينجبر على خلافٍ في الدم؛ فعامة العلماء على وجوب الدم، وذهب بعض السلف كإبراهيم النخعي إلى عدم وجوبه، وهو الأظهر.
- أما إذا كانوا - وهي الثانية - دون المواقيت فإنهم يُهلُّون من مكانهم الذي هم فيه - أي من بلدهم - وألا يُغادروا البنيان إلا بإحرام؛ فإن غادروه بغير إحرام فقد تجاوزوا ميقاتهم.
- الثالثة : مسألة المحاذاة للمواقيت : وهذه يأتي الكلام عليها.
- الرابعة : وهي ميقات أهل مكة : وميقات أهل مكة يختلف ويتباين إذا أرادوا الحجَّ أو العمرة، ويقال أنَّ المكيَّ إذا كان يريد حّجَّاً فإنه يُحرم من مكة من داره، ولا يخرج إلى الحِلّ؛ وهذا الذي عليه عامة أهل العلم. أمَّا إذا أراد العمرة على خلافٍ عند العلماء في استحباب مشروعية العمرة للمكي؛ هل تُشرع العمرة للمكيّ أم لا؟ فذهب بعضُ السلف - وهو قولٌ لعبد الله بن عباس وعطاء بن أبي رباح - أن المكي ليس عليه عمرة.
وجاء ذلك عن عبد الله بن عمر - عليه رضوان الله تعالى - أنَّ المكي ليس عليه عمرة؛ وإنما عليه الطواف؛ لكن إذا أراد العمرة أو كان ثَمَّةَ آفاقي قد جاء إلى مكة ثم نوى عمرةً فإنه يخرج إلى الحِل ليعتمر، كما جاء في حديث عائشة - عليها رضوان الله تعالى - وفي هذه المسألة إجماعٌ.
وذهب بعض أهل الرأي وبعض أهل الظاهر من المتأخرين إلى أنَّ الحج والعمرة يحرم منهما من الحل، وهذا لا شكَّ أنه قولٌ مردودٌ مخالفٌ لما عليه الإجماع، ومسألتنا هنا تَلحَقُ بمسألة المحاذاة، وهي:
القسمُ الثالث؛ يقال أن المحاذاة قد دلَّ عليها الدليل، وهي مَحَلُّ اتفاق عند العلماء؛ سواءً كان من البرِّ أو من البحر، أو مسألة الجو، وهي من مسائلِ النوازل.
ويتفرع عن هذا مَسألتنا وهي مَسألة الميقات من جُدَّة؛ الإحرام من جُدَّة هل هو ميقات أم لا؟ يقال : لما دل الدليل على المحاذاة، ينظر إلى جدة هل هي محاذية أم لا؟ أولاً: لمن كان قادماً من البحر؛ من نَظَر إلى كلام العلماء - عليهم رحمة الله - وَجَدَ أنهم يقولون أنه يُحْرِمُ مَن كان قادماً من البحر من السفينة؛ مَن كان قادماً من المغرب ونحو ذلك؛ من بلاد السودان أو المغرب وغير ذلك؛ وهذا الذي عليه قول عامة العلماء؛ خلافاً للإمام مالك في رواية؛ فقد روى عنه ابن نافع - عن الإمام مالك - أنه لا يحرم المحرم بالسفينة؛ فكأنه يرى أنَّه يُحرِمُ بعد قدومه إلى البَرّ.
وجدة لم تكن معمورةً بذلك، ولم يكن يصل إليها هذا العدد وهؤلاء الحجاج بهذا الجَمْع؛ فكانت غير مقصودةٍ، وهذه المسألة كانت من النوازل، وأفتى فيها جماعةٌ من العلماء بأقوالٍ :
- منهم من قال أنها ميقاتٌ للجميع؛ سواءً كانوا ممَّن يَقْدُمُ عن طريق البرِّ أو البحر أو الجو؛ أنه يُحرم إذا قَدُمَ من جدة.
- ومنهم من قال أنها ميقاتٌ لمن قدم من البحر؛ من المغرب ونحو ذلك، وحمل رواية الإمام مالك - عليه رحمة الله تعالى - على ذلك.
- ومنهم من قال أنها ميقاتٌ على وجه العموم؛ سواءً قُصدت من البر أو البحر أو الجو.
- ومنهم من قال أنها ليست بميقاتٍ على وجه العموم.
وعلى كلٍ فيقال أن الصواب في هذه المسألة أن جدة ميقاتٌ لمن قدم إليها ممن لا يمر على ميقاتٍ غيرها ممن يأتي عن طريق البحر، أو يأتي عن طريق الجو، أو كان من أهلها فإنه يُحرم منها؛ أما أهلها؛ وذلك لأن من قال بالمنع فإنه يقول أنها دون المواقيت؛ فيكون إحرامها من دون الميقات، فتكون هذه المسألة داخلةٌ في الاتفاق؛ وإنما النزاع فيمن كان قادماً من خارجها؛ فالذي يظهر - والله أعلم - أنه يجوزُ لمن قدم إلى جدة عن طريق البحر أو عن طريق الجو؛ ممَّن لا يَمُرُّ بميقاتٍ، وهل هي أولى أن يُحرم الإنسان من جدة أو أن يحرم عن طريق الجو - الذي يظهر والله أعلم أنَّ إحرام كثيرٍ من الحجاج والمعتمرين الذين يعتمرون عن طريق الجو؛ أنهم لا يحرمون بمحاذاة الميقات تصويباً على الميقات؛ وإنما يحاذونه من جهةٍ أخرى مائلةٍ عنه؛ وذلك يُرَجِّحُ أنَّ الإحرامَ يكون من جهة جدة لمن كان قادماً بالطائرة أولى من أن يُحرم من الجو، وهذا هو الأظهر.
وذلك أنها لاحتمال أن تكون محاذية؛ وذلك أنَّ أقربَ ميقاتٍ يحاذي جدة هو "يَلَمْلَمْ"؛ ويبعدُ عن مكة نحواً من تسعين كيلو؛ وأما "جدة" فإنها تبعدُ عن مكة نحواً من سبعين.
والمحاذاة هنا من نَظَرَ إليها من جِهَةِ النظر إلى الطُّرُق المعبَّدة فإنه يجد بَوناً شاسعاً، ومن نظر إلى التصويب فإنه يجد في ذلك تقارباً، وقد حدثني من نظر في هذه المسألة بالمقاييس؛ قال أني لم أجد فَرْقاً بيِّناً كبيراً بين "يلملم" و "جدة"؛ أما من نظر إلى الطرق المعبَّدة أو قياس المسافات بِطُرُقٍ ملتويةٍ ونحو ذلك فإنه يجد مسافةً شاسعةً؛ وحينئذٍ يستشكل هذا الأمر.
وعليه يُعْلِمُ أنَّ جدة داخلةٌ في المحاذاة؛ وإن لم تدخُل في المحاذاة فإنها داخلةٌ فيمن يأتي عن طريق البحر، وقد رخَّص في ذلك غيرُ واحدٍ من العلماء، وهو روايةٌ عن الإمام مالك تحتمل دخولها في هذا الباب رواها عنه ابن المقفع؛ أنه قال: لا يُحْرِمُ راكبُ البحرِ بالسفينة. حمله بعضهم أنه قصد بذلك أنَّه يُحْرِمُ بعد وصوله البَرّ؛ ومنهم من قال أنه أراد بذلك أنه ينفر إلى الميقات؛ كجحفة ويلملم ونحو ذلك، وهذا كله يحتاج إلى بيان.
وظاهر كلام مالك - عليه رحمة الله - أنَّه منع في روايةٍ من الإحرام من البحر، ولا يُزاد عن قوله في ذلك، وقد صنَّف في ذلك كما تقدَّم جعفر الحنفي كتابه "دفع الشدة بجواز تأخير الإحرام إلى جدة" وهذا أراد به مسألةً مخصوصةً لمن قدم عن طريق البحر، وما أراد به تأصيلاً للمسألة على أنَّ جدة يجوز الإحرام منها على وجهِ العموم، فتكون كذات عرق فمسألة المحاذاة تُدْخَلُ في المواقيت عند عامة العلماء؛ وذلك للإجماع لمَّا حدد عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - ذات غرق.
ويَلْحَقُ في هذه المسألة ما في حكمها مما يحتاجه الناس، ومعنى المحاذاة عند العلماء أنْ يحاذي القادم موضعاً قَدَّرَه النبي ؛ وليس المرادُ بذلك أن يكون بين ميقاتين كما يفهمه البعض.
ومن المسائل النوازل في هذا الباب مما يتعلق بالإحرام - وهو ما تكلم عليه جماعةٌ من الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين - وهو ما يسمَّى بالتُّبَّان، وهي السروايل المفتوقة، أو لُبس الإزار المخيط على البدن على حُكم الإنسان، يسميه العلماء تُبَّاناً.
لُبْسُ التُّبَّان قد عن بعض الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - لُبسُه، والتُّبَّان عند النساء يُسَمَّى بالتنورة، وقد ثبت لبسه عن بعض الصحابة كعمار بن ياسر - عليه رضوان الله تعالى.
قد روى ابن أبي شيبة في المصنف من حديث العلاء عن حبيب بن أبي ثابت قال : رأيتُ على عمار بعرفة تُبَّاناً، وإسناده عنه صحيح، وجاء من حديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - أنَّها كان لها موالى يجمعون لها متاعها على رحلها؛ فربما ظهرت عوراتهم فَرَخَّصَت لهم بالتُّبَّان. وإسناده صحيح عنها، وقد علقه البخاري في الصحيح. وهذا أعلى ما جاء في هذه المسألة، وما تكلم فيه الفقهاء في هذه المسألة يدخل في باب الأقيسة؛ منهم مَن مَنَعَ، ومنهم مَنْ أجاز؛ والذي يظهر والله أعلم؛ وذلك مِن وجوهٍ :
- الوجه الأول : أنَّ الأصل بالمخيط التحريم؛ وذلك أنَّ رسول الله قد حَرَّم على المُحْرِم جميع المخيط بأنواعه، ورخَّص رسول الله بالإزار والرِّداء؛ بفعله عليه الصلاة والسلام وفعل أصحابه.
- وما كان مخيطاً على البدن - سواءً كان على الحِقوا أو على غيره - فهو داخلٌ في جملةِ محظورات الإحرام.
وأما التعليل بما جاء عن الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - كعمار فيقال أن عماراً مضطرٌّ لذلك؛ وذلك أنه كان مريضاً؛ كما ثبت عنه - عليه رضوان الله تعالى - كما جاء في الغريب من حديث عَبْد خير؛ قال : رأيت على عمار - عليه رضوان الله تعالى - تُبَّاناً، فقلت له في ذلك، فقال : إني ممثون. ومعنى ممثون أي مصاب بالمثانة.
وقد جاء عند بعض أهل السِّير من حديث المغيرة عن عمَّار بن ياسر وعبد الله بن مسعود - عليهم رضوان الله تعالى - في أيام الفتنة لما أرادوا الدخول على عثمان بن عفان؛ ضُرِبَ عمارٌ - عليه رضوان الله تعالى - في مثانته حتى كان لا يحبس بوله.
من نظر إلى حديث عَمَّارٍ بن ياسرٍ - عليه رضوان الله تعالى - يَظنُّ أنه أراد بذلك ترخُّصاً وأنه فعل ذلك أخذاً بالجواز، وهذا فيه قصور؛ فعند النظر في حال عمَّارٍ يَعْلَمُ أنه ما فعل ذلك إلا مِن جهة أذيته؛ ثم أنَّ التُّبَّان أيْسَرُ للحاج؛ فَلَمَّا كان لم يلبسه الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - دَلَّ على بقائه على الأصل، ثُمَّ أنَّ ذِكرَ الراوي في هذا، وهو حَييّ بن ثابت عن عَمَّارٍ، وأنه رأى عماراً بعرفة وهو لابسٌ تُبَّاناً دليلٌ على أنه استغرب ذلك، ثم جاء ذلك مفسَّراً من حديث عبد خير عن عمار أنه رآه في ذلك فسأله فكأنه استنكر حاله فقال : إني رجلٌ ممثون؛ يعني مصابٌ بالمثانة.
وأمَّا ما جاء عن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - فظاهرها أنها قَد رخَّصت لمواليها؛ وذلك لانشغالهم بالأمتعةِ ونحو ذلك، وما يقتضي من خِدمة الحاجّ مِن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - وغيرها، من صعودٍ ونزول. وحفظ العورات مقصودٌ شرعاً، وذلك أن رسول الله قَد رخَّصَ فيما دون ذلك بترك بعض الواجبات، كما رَخَّص رسول الله بِتَرك المبيت بمِنى لبعض الصحابة، ورخَّص رسول الله لبعضهم أن يؤجلوا رمي أيام التشريق فيجمعوها في يومٍ واحد للرعاة، ورخَّص رسول الله للعبّاس ومَن معه ألا يبيت بمِنى في أيام التشريق؛ وذلك لسقاية الحاج، ورخَّص رسول الله للضعفاء في أن ينفروا، ويقال : لَعَلَّ عائشة - عليها رضوان الله تعالى - لَمَسَتْ ذلك. والدليل على ذلك أن عائشة - عليها رضوان الله تعالى - قَيَّدت ذلك الترخيص بظهور العورة.
وقد يقال أن مثل حالهم ينبغي أن يحترزوا ولا يفعلوا مَحظوراً؛ يقال أن احتراز من هو موكولٌ بأمتعة الحجاج؛ فيصعد وينزل ويضع المتاع في مواضع متعددة - في ذلك من المشقة ما فيه؛ ثم أن التباين فيه تيسير على الحجاج، ودفع مشقةٍ من أذية مرضٍ ونحو ذلك؛ ففيه سَترٌ للعورة لمَّا كان لم يفعل ولم يترخص به أحدٌ من الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - غير ما ذُكر دلَّ على أنه داخلٌ في جُملَةِ المحظورات.
وأمَّا من استدل بظواهر فِعل الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - فاستدلاله قاصرٌ في هذا الباب؛ لما تقدَّم الإشارة إليه.
والتُّبَّان لتفصيله على الحقو فإنه لا يكون إزاراً؛ فلما خرج عن كونه إزاراً يكون مخيطاً، والمخيط من محظورات الإحرام، ويلحق بالسراويل التي قد نهى رسول الله عَن لبسها؛ قال عليه الصلاة والسلام : "لا يلبس المُحرمُ السراويل ولا العمامة ولا القميص ولا الثياب". وهذا دليلٌ على أنَّه يدخل في حكمها ما يُلحَق بها من جهة التعريف؛ فالشارع حينما نصَّ على تحريم العمامة يدخل في ذلك الطاقية والقِباع وما يُغَطِّي به الإنسان رأسه من الفوَطِ ونحو ذلك، كذلك حينما حَرَّم رسول الله ومنع لبس الثياب يدخل في ذلك ما في حكمها، وحينما منع رسول الله من لبس الخِفاف يدخل في ذلك ما في حكها من الجوارب وغير ذلك.
ولا يقال بأخذ ظاهر النص عن رسول الله ؛ يقول المُزَني - عليه رحمة الله : ولا زال الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - وأئمة السلف - تابعاً عن تابعٍ - يأخذون وينظرون إلى مقاصد التشريع؛ فما وافق الحق حق وما وافق الباطل باطل؛ فيأخذون بالأقيسة في ذلك والاعتبار فيها؛ فإنَّ رسول الله حينما نهى عن لبس العمامة ولبس السراويل يدخل في ذلك ما في حكمها من الطاقية والتُّبَّان؛ فألحَقَ في ذلك التُّبَّان أنه داخلٌ في حكمها.
وأما أفعال الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - لا يُحتج بأفعالهم إن تجردت من تفصيل حالٍ؛ مالم يظهر من ذلك قرينةٌ قويَّة تدل على أنه فعل ذلك ترخصاً، وليس هذا بظاهر عن الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - في هذه المسألة؛ ومسألة الاحتجاج بأقوال الصحابة وأفعالهم تحتاج إلى تأصيل؛ لهذا يعترض فيها كثيرٌ من طلاب العلم؛ فيحتجون في بابٍ ولا يحتجون بآخر، ويستشكلون في هذا الباب عند النظر في كلام العلماء - عليهم رحمة الله؛ فالإمام أحمد - عليه رحمه الله - من أكثر الأئمة الذين يحتجون بأقوال الصحابة في مسائل العلم، وفي بعض المسائل يردها لظهور الدليل، أو لضعف التعليل فيها ومخالفة العمل عند الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - أو مخالفة أصلٍ، أو غلبة الظنِّ أنه أخذ بتلك النازلة مما يخالف ما جاء عن رسول الله ، والإمام أحمد من أشدِّ الأئمة احترازاً في مخالفة الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى؛ فإذا نصَّ على معرفة قول صحابيٍّ وخالفه فلا يُتَتَبَّع في ذلك؛ لأنه مِن أشدِّهم احترازاً في هذا الباب.
ومن المسائل في هذا ما يلبسه الحجاج في إحرامهم أو قبل إحرامهم من اللُّبس في السواعد، أو اللُّبس على الخاصرة؛ كالساعة التي توضَعُ على المِعْصَم ونحو ذلك، أو ما يعلقه الإنسان على عنقه؛ من حَمَّالٍ يحمل ماله، أو ما ثَمُنَ من متاعه ونحو ذلك؛ فيقال أنَّ العلماء تكلموا على مسألةٍ وهي ربط الإزار والرداء؛ رَبْطُ الإزار والرداء بنفسه ممنوعٌ منه عند جمهور العلماء؛ فالرداء ينبغي أن يرمى طرفاه على ناحيةٍ من نواحي الإنسان؛ عن يمينه أو عن يساره؛ أمَّا ربطه بخياطةِ أهل الرداء فذهب جمهور العلماء وبه قال الأئمة الأربعة إلى أنه من محظورات الإحرام، وذهب بعض العلماء إلى وجوب الفدية، وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة؛ خلافاً لأبي حنيفة الذي قال بعدم وجوب الفدية.
وأمَّا الإزار فلا يربط إلا عند سَتر العورة؛ أي يُربط بنفسه، ويختلف أن يضع عليه الإنسان شيئاً ليُمسك به؛ كحزام أو أسورة ومشابك ونحو ذلك؛ أما إن خاطَهُ بنفسه فإنَّ هذا من محظورات الإحرام، ويجوز ربطه سَتْراً للعورة، إذا لَم يجد ما يربُطُه به من الأحزمة والأوتار ونحو ذلك.
ذَهَبَ إلى جواز ذلك بهذا التعليل غيرُ واحدٍ من العلماء، وهو قول الحنابلة، والشافعية، وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب فيه الدم، وهو قول الإمام مالك، وذهب أبو حنيفة إلى عدم وجوب الدم فيه.
ويَلْحَقُ في هذا ما في حُكْم ذلك، وهل يدخل في هذا الحكم الساعة التي على معصم الإنسان أو ما ينوط به عنقه مِن الحبال والأوتار التي تحمل متاعه ونحو ذلك أو ماله؟ الذي يظهر والله أعلم أنها لا تدخل في ذلك؛ وذلك أنَّ الساعة والأوتار التي يضعها الإنسان في يده ليست من جملة اللباس ولا تسمى لباساً؛ فلما كانت لا تسمى لباساً لا تدخل تحت قول النبي - عليه الصلاة والسلام : "لا يلبس المحرم ". ولما كانت كذلك تكون من جملة ما يضعه الإنسان على جسده ولا يسمى لباساً؛ كالموثقات؛ كموثقات الجروح، والقطن في الآذان، والخاتم في الأُصْبُع ونحو ذلك.
ومن مظاهر هذه المسألة ما جاء عن جماعةٍ من العلماء من النصِّ على لبس الخاتم للمُحرِم، وحكوا الاتفاق على جوازه؛ حكاه الإمام النووي - عليه رحمة الله، وكذلك ما يُعلِّقه الإنسان في عنقه من أسورة حُكيَ الإجماع على جوازه؛ كأن يُعلِّق المصحف، أو يُعلَّق محفظة النقود، أو الجوَّال أو غير ذلك، فإن هذا جائز، ولا يكون مخيطاً لأني لا يسمى لباساً؛ فهو خارجٌ عن اللباس من جهة الأصل؛ فإذا خرج من جهة الأصل لا يكون فَرعاً في هذا الباب؛ فلا يحتاج حينئذ إلى النظر فيه.
نقف عند هذا الحد، وغداً نُكمل بإذن تعالى ...
ينبغي الإشارة إلى مَسألةٍ وهي أنَّ بعض المسائل كانت موجودةً ومطروقةً عند العلماء في مسائل الحج، لكن الذي أرى والله - أعلم - أنَّ أمثال هذه المسائل وهي قليلةٌ في الحج ينبغي أن يندثر فيها الخلاف، وأن يكون فيها القول قولاً واحداً؛ وذلك كمسألة الطواف في المسعى؛ كأن يطوف الإنسان في البيت العتيق، ثم يأتي بشيءٍ يسيرٍ في المسعى؛ هذه المسألة يتكلم فيها الفقهاء من المذاهب الأربعة؛ وذلك لأن المسعى خارج البيت، وإلى عَهْدٍ قريبٍ من نحو عقدين أو ثلاثة عقود كان ما بين المطاف والمسعى أسواق تجارية ومساكن يسكن فيها؛ فالناس تبيع وتشتري؛ بل يوجد مياه مجاري أيضاً وروائح ونحو ذلك؛ فالناس يبسطون ويبيعون ويشترون فليس له حكم المسجد، والعلماء ينصون على هذه المسألة في كتب الفقه نظراً للحال، فلما دخلت في التوسعة ودخل المسعى؛ بل دخل ما في خلف المسعى في المسجد؛ حينئذٍ لا يظهر لي حكاية الخلاف في مسألة طواف شيء من الطواف في المسعى.
وثمة من المسائل ما صورته موجودة وأصله موجود؛ لكن لحاجة الناس، وكذلك صياغته عند بعض المعاصرين ونحو ذلك يحتاج إلى الكلام فيه؛ كمسألة البُنيان في المشاعر في "مِنى" و "مزدلفة" مما أثير من نحو عام ونحو ذلك؛ بناء ناطحات السحاب ونحو ذلك لأنها أيسر للناس؛ هل يجوز البناء في "منى"؟ وإن كان ثمة بناء هل تؤجَّر أم تُعطى بالمجان؟ ثم كيف يتنافس الناس في ذلك والنبي قال: "منى مناخ من سبق"، وهل هذا المناخ أنه للإنسان أن يتخير ما شاء؟ وهل يمكن أن يستعاض بذلك بشيءٍ مشروعٍ يسمى بالقرعة - والقرعة مشروعة عند تزاحم أصحاب الحقوق ونحو ذلك؟ هذه التعليلات نُلحقها بإذن الله تعالى فقي هذه المسألة بموضعها بإذن الله.
لا أريد أن يأخذنا الوقت بالنسبة للإجابة على مسائل يأتي الكلام عليها.
- سائلٌ يقول : ذكرتَ أنَّ على المفتي ألا يَذْكُر الخلاف دون ترجيح، والقاري لفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية يجد جُملةً من التساؤلات يذكر الخلاف فيها دون ترجيحٍ؟
- مسألة الترجيح في المسائل للعامة، هذا من المهمات؛ خاصَّةً في عَصرنا؛ لغلبة تتبَُع الرُّخص ونحن لا نتكلم على المسألة مِن جهة التأصيل؛ فالعلماء كثيراً ما يتكلمون على المسائل في كتب الفقه ونحو ذلك، ويذكرون الخلاف، وفي كثيرٍ من الأحيان لا يتكلمون على مسألة الراجح والمرجوح في أمثال هذه المسائل، ثم أنه ينبغي أن ينظر أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية هل ساق هذه المسائل لعامةٍ تكون أحوالهم كأمثال هذه الحال التي في وقتنا في انفتاح الناس ونَقْل الفتوى ونحو ذلك؛ أمَّا أن يكون الإنسان يفتى على الناس عامة على وجه العموم، ويراه الناسُ في القنوات الفضائية، أو في وسائل الإعلام على وَجه العموم، ويرى هذه الفتوى العامي والجاهل وصاحب الهوى ونحو ذلك، ويجدها ربما رخصَّةً لأن يأخذ بأحد القولين، ثم أيضاً أنه قد يكون العالم يُحْجِمُ عن الترجيح تَورُّعاً؛ لأنه لا يعلمُ الراجح في هذه المسألة، وليس هذا متعلقاً بإيراد الكلام على مسائل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وإنما هو من جهة التأصيل، ثم أنَّ العلماء - عليهم رحمة الله - في كلامهم في الغالب في المصنفات والنوازل وكذلك ذِكْر الخلاف في الغالب أنَّ الكلام يقصدون به أشخاصاً؛ بخلاف الفتوى في زمننا؛ فإنها تضيع عند سائر الناس على اختلاف أجناسهم؛ ففي الزمن الأول حينما يفتي المفتي يفتي لمن حوله، وقد يَنقُلُ مَنْ حوله تلك الفتوى إلى غيرهم؛ فيتحملون أمانة النقل؛ أمَّا مِن جهة المتكلم في عصرنا فإنه يتكلم بالفتوى من القول، ثم بعد ذلك يسمعها الناس على اختلاف أجناسهم وهو لا يعلم من المقصود؛ لهذا قد يكون الإنسان السائل صاحب ضرورة؛ فأنت تفتي له بالضرورة، أو تكون حاله تختلف عن حالٍ؛ فيترخص هذا المستفتي بهذا القول، أو نتنزل له بأخذ قولٍ في مسألةٍ من المسائل ونحو ذلك، وما نترخص به على وجه العموم.
- يأتي الكلام على شدة الزحام بـ "منى" و "مزدلفة" والمبيت.
- يقول : هل السُّمنة في الجسم تجيز لبس التبَّان؟
- إذا كان الإنسان يتأذى من سُمنته، ولا يستطيع المشي لمسافاتٍ طويلةٍ ونحو ذلك - مَعلومٌ أن المناسك تستلزم المشي لمسافاتٍ طويلةٍ بين المشاعر؛ سواءً لرمي الجمار أو في الطواف والسعي ونحو ذلك - إن كان يتأذَّى فلا حرج عليه من لبسه، أما إذا كان لا يتأذى ويستطيع دَفع الأذى بغير ذلك من الاحتياط لنفسه، أو كذلك استعمال بعض الأدوية ونحو ذلك فإن هذا هو الأَولى.
- وما حكم من يحج مع الجمعيات الخيرية مجاناً، وهم يقدمون هذا عنه - يعني يقصد المال؟
- لا حرج في ذلك؛ فقد جاء عن بعض السلف؛ جاء عن الأحول وجاء عن الأسود وغيرهم؛ فقد كان عبد الله بن المبارك يحجج جماعةً من الناس على نفقته.
- يقول ما صحة حديث : "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"؟
- الحديث قد تفرَّد به نعيم بن حماد الخزاعي، ولا يصح، والحديث : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" : الحديث صحيحٌ وفي الصحيح.
- يقول : ما حكم وضع الكمام على الأنف والفم؟
- يأتي الكلام عليه بإذن الله.
- إيجار الخيام يأتي الكلام عليه.
- "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" الحديث تفرد به العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة؛ قد أنكره أحمد وسُفيان وأبو حاتم والدراقطني وغيرهم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.