بسم الله الرحمن الرحيم
...جلب للسنة ودفع للبدعة، وهذا قد جاء عن رسول الله بذلك جملة من الأخبار، قد يرجع إليها وتؤصل المسألة ويُفَرَّع عليها؛ أن رسول الله قد بَيَّن حدود الحَرَم؛ حرم المدينة؛ كما جاء في الصحيح أنَّ رسول الله قال : «المدينة حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثَورٍ». وهذا الحديث قد جاء في الصحيح، وإن كان قد تكلَّم في بعض ألفاظه بعضُ العلماء، وقد أشار إلى هذا بعض الشُّراح؛ وذلك أنّّ رسول الله في قوله : «المدينة حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثَور»؛ قالوا : فإنه لا يوجد في المدينة جَبَلٌ يسمى ثوراً؛ وإنما هو بمكة، وتأوَّلوا هذا الخبر على تأويلات؛ منهم من قال أنَّ المراد بثورٍ هو أُحد، ووهم بعض الرواة فنقله، وقد ذهب إلى هذا جماعة من المحققين من أهل اللغة ونحو ذلك كأبي عبيد القاسم بن سلام وجماعة أيضاً ممن يعتني بالبلدانيات كالزبير بن بكار ومصعب وكذلك الزبيري وغيرهم ومنهم من قال أن المراد بذلك تقدير المسافة، كما بين عير إلى ثور بمكة وذهب إلى هذا ابن قدامة - عليه رحمة الله تعالى - في كتابه المغني والذي يظهر والله أعلم أنه ثمة جبل بالمدينة يسمى ثور، وقد نص على هذا غير واحد ممن اعتنى بالبلدانيات كياقوت الحموي في كتابه المعجم ووهم من غلَّط الرواة في ذلك فإنهم جماعة من الرواة الثقات قد تواطئوا على ذلك والتوهيم والتغليط في ذلك فيه نظر ولهذا قد أشار الحافظ ابن حجر - عليه رحمة الله تعالى - حال كلامه عند هذا الحديث أن كثيراً من الرواة أو من الشراح حينما يروون هذا الخبر لا يذكرون ثوراً فيه فيقولون المدينة حرمٌ ما بين عير إلى كذا، فيذكرون كذا كأنهم تشككوا من ذكر لفظ ثور فيه، ومنهم من يقول ما بين عير إلى أحد تغليباً لهذا الأمر يقول محب الطبري : قد حدثني العالم الحافظ الثقة المجاور بمسجد رسول الله عبد السلام البصري أن ثمة جبل بالمدينة يسمى ثوراً وهو خلف جبل أحد ويكون حينئذ جبل أحد داخل في حرم المدينة، ونص على ذلك غير واحد من الأئمة كابن تيمية - عليه رحمة الله تعالى - أن ثمة جبل بهذا المراد بهذا أن رسول الله يحدد بعلامات مشروعة يراها الناس بعض الحدود الشرعية لكي لا يتجاوزها الناس وهذا هو المقصود فإنه إن لم يكن للعلامات الشرعية حدوداً من الطبيعة أو من جهة الوضع لم يحصل المقصود من جهة التحديد ولم تعرف الأماكن ولهذا جعل رسول الله لمسجده حدوداً وسور يحده فيشرع فيه الصلاة ويشرع فيه الاعتكاف، فإن خرج عن ذلك جاز فيه ما لا يجوز فيه فللنبي r حجرات وهي حجرات أزواجه كن متلاصقات وأقربهن هي حجرة عائشة عليه رضوان الله تعالى كان لها باب على مسجده وباب إلى خارج مسجده ويتجوز رسول الله r في حجرتها ما لا يتجوز في ذلك المسجد للحدود التي قد جعلها رسول الله r، وعليه يعلم أن تلك الحدود إذا كان ثمة مصلحة في إعادة توضيحها وبيانها بمعالم ورسوم ونحو ذلك كتحديد المواقيت لكثرة الوافدين أو كثرة الواردين على ذلك ممن يحتاج إلى وضع الألواح بلغاتهم المتباينة ووضع الحدود ونحو ذلك وكذلك وضع الحدود في المشاعر من بيان حدود عرفة ومزدلفة ونحو ذلك، فإن هذا من المشروع، ويلحق في هذا صور يأتي الكلام عليها كمسألة الخط في المطاف ومسألة العلمين في المسعى ونحو ذلك وأصل هذه ولكن يقال من جهة التأصيل أن هذا مشروع وهو من المقاصد الشرعية، وقد تقدم الإشارة إلى بعض الأدلة في ذلك.
ومن المسائل النازلة في هذا من محظورات الإحرام وهو استعمال بعض المنظفات من الصابون والشامبو والمناديل ونحو ذلك التي تسمى معطرة أو بنكهة كذا وكذا ونحو ذلك يقال أن استعمال العطر للمحرم حال إحرامه من محظورات الإحرام باتفاق العلماء، وقد جاء ذلك في نصوص عن رسول الله r منها حديث يعلى وغيره في الرجل الذي قد تضمخ بخلوق عين جبة وقال رسول الله r له: «أما الجبة فانزعها واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» .
وهذا نص عن رسول الله r على خلاف عند العلماء في بعض صور مس العطر بالنسبة لمن قصد إحراماً هل يشرع له التطيب قبل إحرامه إذا كان قاصداً جمهور العلماء على مشروعيته وهو قول الحنفية والحنابلة والشافعية خلافاً للمالكية الذين قالوا بعدم مشروعية ذلك وأنه باقٍ على أصله كذلك مشروعية التطيب بعد تحلله من رمي الجمرة قبل الطواف هل يشرع له ذلك أم لا؟
وهذه مسألة ليس هذا محل بسطها وإنما الكلام على مس المحرم بعض المنظفات التي هي من جهة الأصل لم توضع للتعطر ونحو ذلك وإنما وضعت للتنظيف؛ كاستعمال الصابون الذي يكون بنكهة بعض الفواكه كالبرتقال وكذلك الليمون أو بعض الأشجار ونحو ذلك هل هذه من المحظورات أم لا؟ يقال أن هذا لا يخلوا من حالين:
الحالة الأولى : أن تكون هذه المواد قد وضعت لأجل العطر فتستعمل لذلك كبعض المناديل التي توضع قصداً لأجل التعطير وتسمى المناديل المعطرة فهي في الأصل لم توضع للتنظيف وإنما وضعت للتعطير على خلاف في أنواعها؛ منها ما يكون القصد منه التنظيف وإزالة ما يعلق في الجسد وكذلك الملابس من دهنيات وأصباغ ونحو ذلك، فإن هذه تكون مشروعة وإن كان بها شيء من التعطير.
النوع الثاني : وهو ما لم يقصد فيه التعطير وإنما المقصود فيه التنظف ويكون فيها من جهة الإضافة شيء من النكهات؛ كوضع بعض روائح النباتات ونحو ذلك، فإن هذا لم يكن العطر فيه مقصوداً كوضع الصابون برائحة الليمون أو برائحة النعناع أو رائحة البرتقال ونحو ذلك كذلك الشامبو ونحو ذلك الذي يستعمله بعض من الإخوة على الرأس ونحو ذلك، فإن هذا مما يجوز استعماله لأنه لم يوضع قصداً للتعطر فهو استعمل أصلا من جهة الأصل للتنظف؛ فالإنسان حينما يقصد ذلك يقصد التنظف لا يقصد التعطر، ثم أن هذه المواد المضافة أصلاً على وجه الاستقلال ليست من باب العطريات؛ فأكل برتقال وهو من جهة الأصل من غير إضافة لم يكن من العطريات وإن كان له رائحة زكية يقصده الإنسان، ثم أن المقصود من نهي الشارع عن استعمال العطريات أو العطور بأنواعها بالنسبة للمحرم هو أن يكون المحرم حال إحرامه متجنباً وجوه الترفه وكذلك أن يكون متجرداً من أحوال الراحة والدَّعة ولهذا شرع النبي له أن يلبس إزاراً ورداء ويتجرد من سائر أنواع المخيط بعداً عن الزينة والتزين بالملابس ونحو ذلك؛ من الجبة والعمائم والقمص ونحو ذلك ويتجرد من ذلك فهذا هو المقصد أن يبتعد عن التزين ونحو ذلك الأمر الثاني أن يبعد عنه دوافع الشهوة؛ فإن العطريات من دوافع إثارة الشهوة خاصة إذا تعلق به مجاورة نساء ونحو ذلك لهذا رسول الله قال : «من مست عطراً فلا تصلي معنا العشاء» .
وجاء عن رسول الله أنه نهى المرأة أن تخرج وهي متعطرة وتمر من بين الرجال، وكذلك نهيُ رسول الله عن تعطر المرأة بما يظهر ريحه، وقد جاء ذلك خبر في المسند وفي السنن أن رسول الله قال : «عطر المرأة ما ظهر لونه وخفي ريحه، وعطر الرجل ما لم يظهر لونه وظهر ريحه» على خلاف في هذا الحديث في صحته وضعفه والظاهر أنه معلول وعلى كلٍ كلُ هذه المقاصد لا ترد على هذا المانع.
ومن المسائل النوازل أيضاً في هذا الباب أن النبي قد شرع الاغتسال قبل دخول مكة وهذا من السنن المهجور والكلام هنا أنه لما قرب الميقات أو بعض المواقيت من مكة وذلك ليس قربا مكانياً وإنما زمانياً؛ فإن الإنسان يحرم، ثم يصل إلى مكة بزمن يسير بخلاف السابق؛ فإن الذي يحرم من يلملم أو يحرم من الجحفة والمواقيت القريبة فهل يقال أنه يأتي بهذه الشعيرة التي ثبتت عن رسول الله أنه يغتسل قبل دخوله مكة أم أنه يكتفي بغسله عند إحرامه لقلة الوقت وأنه لم يعرق ولم يصل إلى جسده شيء من النجاسات ولم يختلط بشيء من غيره مما يتأذى منه الإنسان من الأتربة والغبار أو أكلِ الطعام ونحو ذلك فالمسافة الزمنية بين الميقات ومكة لمن يحرم من جدة أو يحرم من يلملم أو الجحفة ونحو ذلك هي قريب من الساعة هل يقال بأنه يقف ويغتسل وهل يعتبر قصر المسافة زمناً من النوازل التي تدفع هذه السُنية ونحو ذلك؟
يقال أن هذا، ثبت عن رسول الله قد اغتسل عند دخوله مكة، كما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر أنه قد نزل بذي طوى، ثم بالبطحاء فاغتسل، ثم دخل مكة فذكر أن رسول الله يفعل ذلك فهل يقال أن من قصر زمنه كحال زمننا ممن يصل سريعاً ويكتفي باغتساله عند الميقات ونحو ذلك؟
أولاً: يقال أن السنة ثابتة فلا تدفع بالعلل الظنية؛ والعلل الظنية هنا قصر المسافة، ثم أن ذلك يرجع إلى الأصل هل اغتسال رسول الله هو من باب التعبد المحض أم هو من باب التنظف لدخول الحرم؟ فيكون يستحب لمن أراد دخول الحرم أن يغتسل على وجه العموم يقال أنه إذا قلنا أنه يستحب له أن يغتسل لدخول الحرم فلابد أن يلزم من هذا القول أن يغتسل كل من أراد أن يدخل الحرم سواء كان معتمراً أو حاجاً أو غير حاج وهذا لم يقل به أحد من العلماء عليه يعلم دفع هذا القول.
والوجه الثاني: أن يقال أن هذا متعلق بالنسك ولما كان متعلقاً بالنسك شرع للإنسان أن يغتسل في مثل هذا المكان ومما يؤيد ذلك أن المكي حينما يحرم من مكة وكذلك من كان آفاقياً، ثم نزل بمكة وأراد أن يعتمر كأن يخرج إلى التنعيم وهو عائد من الحل هل له أن يغتسل من هذا المكان وكان قد اغتسل في داره ونحو ذلك؟ أو المكي حينما يريد الحج فإنه يحرم من داره فهل يغتسل لإحرامه، ثم يغتسل لدخول الحرم مرتين ونحو ذلك؟ يقال أنه لما كان قد وجد بمكة والنبي قد أحرم لدخولها لا يشرع له الاغتسال لدخولها وإنما يشرع له أن يغتسل للإحرام وإن كان بمكة، وعليه يعلم أن اغتسال النبي عند إحرامه إن صح عنه فعلاً، وقد ثبت عنه وهو محل إجماع عند العلماء، وقد جاء ذلك عن غير واحد من السلف قد حكوا الإجماع في ذلك هل هو من باب التعبد أم من باب التنظف إذا قيل أنه من باب التنظف فإنه يشرع للمكي على وجه العموم أن يغتسل عند دخوله الحرم سواء كان لحج أو عمرة و غير ذلك وهذا لم يقل به أحد من العلماء، وإذا قيل أنه للنسك فإنه يشرع للمكي أيضاً أن يغتسل لنسكه عند دخوله قبل نية الإحرام، كما هو ثابت وهو محل إجماع، وعليه يعلم أن الأصل في ذلك أن للإنسان إذا أراد أن يدخل مكة وهو متلبس بعمرة أو بحج أن يغتسل قبل دخوله إياها وأن هذا الحكم باقي سواء قد قصرت المسافة أو لم تقصر وهذا ظاهر الدليل عن رسول الله .
ومن المسائل النوازل في هذا الباب أنه يشرع لمن قرب من البيت أن يبتدأ بالطواف من عند الحجر ومعلوم أن الحجر هو بداية الطواف وهذا محل اتفاق عند السلف على خلاف عند الفقهاء من المتأخرين، ومن العلامات التي وضعت للطواف خط قد أزيل قريباً يبتدأ من الحجر إلى آخر المطاف، وقد يصل إلى خارج المطاف إلى المباني المسقوفة ليعلم الطائف داخلها؛ داخل القباب ونحو ذلك ووضعت هذه العلامة أيضاً في الطوابق في الدور الثاني والسطح ونحو ذلك حتى يراها الطائف هذه العلامة هل هي مشروعة أم لا؟ أولاً يقال من جهة تأصيل المسألة ينظر إلى أن الطواف لابد من ابتدائه أن يكون من عند الحجر ومن طاف من غير الحجر، فإن طوافه ذلك باطل وهذا الذي عليه عامة السلف وهو قول جمهور العلماء نص على ذلك غير واحد منهم؛ الإمام أحمد ومالك والشافعي خلافاً للحنفية الذين قالوا أن الإنسان له أن يعقد سبعاً من أي جهة قد ابتدأ وهذا قول لا يعول عليه ومعلوم أن الحنفية من جهة التأصيل والقواعد لديهم أنه لا يشترط عندهم في أبواب العبادات ترتيب ولا يشترط عندهم موالاة، وعليه حينئذ يأخذون بعض الأفعال التي جاءت عن رسول الله على وجه الاستحباب أو يجعلونها على وجه الاتفاق، وعلى هذا يقول أهل الرأي أن من طاف منكساً فابتدأ من الحجر الأسود إلى الركن اليماني، ثم إلى الحجر الأسود أن طوافه صحيح وهذا قول لا يعول عليه ومخالف لما جاء عن رسول الله واستقر عليه العمل وهو من الإحداث في دين الله، إذا علم ذلك، هل العلامة التي تؤدي إلى تحقق مقصود الأمر الشرعي من ذلك هل هي مشروعة أم لا؟ أولاً إذا تقرر الحكم الشرعي في ذلك هل المصلحة في وضع ذلك أم لا؟ أولاً يقال أنه لا مصلحة من إيراد ذلك وذلك أن الإنسان يبتدأ الطواف من الحجر الأسود بالمحاذاة لا من جهة التصويب وذلك أن التصويب من جهة الزوايا غير مقصود وإنما المقصود المحاذاة، كما كان رسول الله يبتدأ من عند الحجر بالمحاذاة ومعلوم أن محاذاة البعيد لما دق من الزوايا كلما بعد اتسع وكلما قرب ضاق وهذا معلومٌ حتى عند علماء الهندسة والفلك ونحو ذلك؛ فإنهم يقولون أن الإنسان إذا كان يريد أن يحاذي نقطة يحاذيها بمسافات إذا كان بعيداً وكلما يقرب منها فإنها تضيق المسافة، وعليه كلما بعد يتسع، فإذا بعد الإنسان عن الحجر زادت مسافة المحاذاة وكلما دنا منها تحدد الإنسان عليه تنتفي العلة وهي مسألة وضع الخط، عليه يُعلم أن الإنسان إذا دنا من الحجر انتفى علة التحديد فإنه يرى الحجر، وإذا كان بعيداً عنه لا حاجة إلى أن يوضع الخط، ثم أن في ذلك دفعاً لكثير من المفاسد التي قد طرأت عند وضع ذلك ومعلوم أنه قد وضع حادثاً بالقرن الخامس عشر الهجري ومن المفاسد في ذلك تعلق كثير من أهل البدع بذلك؛ كأنهم قد جعلوا هذا الخط موضعاً للعبادة؛ فمنهم من يتمسح به بقدميه ونحو ذلك، ثم ما يحدثه من بعض المفاسد من الزحام وتجمع كثير من الناس ويظنون أنه ينبغي له أن يقف قبل ذلك لحظات، ثم بعد ذلك يمشي، ومنهم من يظن أنه لابد أن يستقبل القبلة على هذا الخط من بعض العجم، وقد لاحظ ذلك كثير من الناس، وبعد إزالته وجد في ذلك فسحة كثيرة، عليه يعلم أنه ليس من المقاصد ولا من المصالح الشرعية على الصحيح وضع ذلك وأن إزالته هو الصواب.
أما إذا خفي على الإنسان معالم الكعبة كمن يطوف في السطوح أو يطوف في الدور الثاني ونحو ذلك فعليه يقال أنه إذا كان لا يرى الكعبة يشرع وضع علامات بناءاً على ذلك الأصل وذلك لأنه لا يرى الكعبة من باب زحام ونحو ذلك حتى يرى ابتداء الطواف ونهايته.
ومن المسائل النازلة من يطوف على عربة أو محمولاً - وهو معذور - هل له أن يضطبع؟ وهو أن يظهر كتفه الأيمن وأن يرمي بطرفي ردائه على كتفه الأيسر.
أولاً: أن يقال أن الإضطباع مشروع؛ قد جاء في ذلك أحاديث عن رسول الله منها ما جاء في سنن الترمذي من حديث بن يعلى عن أبيه وما جاء في سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عباس عن رسول الله وهو مشروع عند جماهير أهل العلم خلافاً للإمام مالك إذا علم أن ذلك مشروع، وقد ثبت في ذلك نص عن رسول الله ، وقد جاء فيه جملة من الأخبار عن السلف - عليهم رحمة الله - الذين قطعوا بمشروعيته أولاً يقال إذا كانت العلة عن رسول الله في الإضطباع والرمل هو أن المشركين لما قدم رسول الله إلى مكة، فإن النبي أراد أن يغيظ المشركين بالإضطباع والرمل بإظهار القوة أمامهم فإنهم يقولون قد وهن النبي حمى يثرب فأراد النبي أن يظهر بمظهر القوة ففعل النبي ذلك.
ومن كان محمولاً لا يظهر منه الرمل ولا يظهر منه ذلك التعليل وهو إظهار تلك القوة وليس له أن يحرك يده اليمنى، ومعلوم أن تحريك اليد اليمنى هو مقصود بالرمل كذلك مقصود بالإضطباع، وعلى هذا يقولون أن من استدار على شيء، وقد وضع الشيء على يساره فإنه يحتاج إلى تحريك يده اليمنى أكثر من يساره، وإذا دار على شيء ووضع الشيء على يمينه يحتاج إلى تحريك يده اليسرى أكثر من يمينه وهذا معلوم وكلما ضاقت الدائرة احتاج إلى التحريك أكثر وهذا معلوم بالنظر وهو محل اتفاق عليه يعلم أنه لما انتفت العلة فيمن يركب بعربة أو يكون محمولاً هل يشرع له ذلك أم لا؟ يقال أنه يرجع إلى ذلك الأصل، هل هذه العلة باقية وهي مسألة الإضطباع والرمل؟ يقال أن النبي شرع ذلك لعلة فلما انتفت هذه العلة فهل يقال أن هذا الحكم باقي أم لا؟ نعم إن الحكم باقي وهذا عليه إجماع العلماء ممن قال بمشروعية الإضطباع والرمل لما كانت العلة منتفية من جهة الأصل وباقية من جهة الحكم ولم يتعلق بها الحكم وجوداً وعدماً كان بقاء الحكم فيمن يطوف على عربة أو يطوف محمولاً من باب أولى بل أنهما في الحكم سواء.
من المسائل أيضاً طواف الإنسان فوق مستوى الكعبة كأن يطوف الإنسان في الدور الثاني أو السطح أولا يقال أنه قدم تقدم تقرير أن الهواء له حكم القرار، وقد ثبت ذلك فعله عن جماعة من الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - من جهة الصلاة فيقال أن العلماء قد اتفقوا أن من صلى وسقف الكعبة فوقه أن الصلاة صحيحة وهذا محل اتفاق عندهم، وإذا صلى الإنسان وهو فوق مستوى الكعبة هل صلاته صحيحة أم لا؟ عامة العلماء على صحة صلاته، وذهب بعض الفقهاء من الشافعية إلى عدم صحة صلاة من صلى فوق مستوى سطح الكعبة، وقد رد على من قال بهذا القول بعض الفقهاء من الشافعية كالإمام النووي - عليه رحمة الله تعالى - وأبطل قول من قال بذلك بحجج منها قال أنه لو قدر - والعياذ بالله - أن تهدم الكعبة ولا يبقى منها أثر هل يقال بعدم صحة صلاة من قام حولها ومعلوم أنها إذا هدمت فإنه يكون أعلى من سطحها فصلاته صحيحة وهذا محل اتفاق، ثم أنه قال، وقد اتفق العلماء بالنظر والتسليم إلى صحة صلاة من صلى فوق جبل أبي قبيس ومعلوم أن جبل أبي قبيس أعلى من مستوى سطح الكعبة وهو مشرف عليها فالصلاة فيه صحيحة كذلك من صلى فوق السطوح أو صلى في الدور الثاني أو الثالث مما هو أعلى من مستوى سطح الكعبة، ومما يدل على أن الهواء له حكم القرار من جهة الحكم أن النبي قد حرم على المحرم صيد البر ويلحق في ذلك صيد الجو تبعاً فلو صاد إنسان وهو في الجو صيداً في الجو فإنه يجب عليه الفدية كأن يصيده بسهام أو نبال أو بندقية ونحو ذلك، فإذا قيل أن الطواف في الدور الثاني أو في السطح خارج عن مستوى سطح الكعبة عليه يقال أنه خارج عن التكليف بذلك وهو خارج عن التكليف بالإحرام أو بسائر الإحرام فمن صاد شيئاً من الصيد وهو في السطح أو في الدور الثاني هل يقال أنه صاد شيئاً في الهواء فلا ينطبق عليه الحكم أن هذا القول قول باطل، وعليه يعلم فساده وبه يعلم أن من طاف في الأرض ومن طاف في الدور الثاني أو طاف في السطح أن طوافه صحيح وهذا الذي ينبغي أن يصار إليه ولا ينبغي أن يحكى في ذلك خلافاً ولكن لما كان السامعون لهذا الكلام هم من طلبة العلم لا بأس بذكر هذا الخلاف.
ويتفرع عن هذا الخلاف هو من طاف شيء من الطواف في الأرض وأراد أن يكمل طوافه بالدور الثاني وهذا من فروع هذه المسألة وإن كان يلحقها من جهة الأصل في مسألة الموالاة وتقدم أن من القواعد عند الحنفية أنهم لا يشترطون موالاة في سائر العبادات؛ سواء في أبواب الصلاة أو الطهارة فلا يشترطون الموالاة في الوضوء فلو غسل عضواً في موضع، ثم غسله حتى نشف في موضع آخر أو الصلاة عند الجمع بين صلاتين فلو أراد أن يجمع الظهر مع العصر فصلى الظهر، ثم أراد أن يؤخر العصر إلى آخر وقت صلاة الظهر قالوا أن ذلك جائز، كذلك من جهة الموالاة في الحج في جميع الأحوال من جهة الطواف فلو طاف شوطاً، ثم أراد أن يؤجله إلى الليل جاز له ذلك فإنه على قولهم يرون الجواز وهو من باب أولى وأما من أراد أن يكمل في الدور الثاني وكان الفاصل يسيراً صح ذلك قياساً عل مسألة الصلاة فيمن قطعه صلاة ومعلوم أن الإنسان إذا قطعته صلاة في المطاف فإنه يصلي، ثم يتم طوافه باتفاق العلماء يقول ابن عبد البر - عليه رحمة الله تعالى - : ولا أعلم خلافاً في ذلك إلا ما يروى عن الحسن فإنه قال بأنه يستأنف طوافه.
كذلك من المسائل في هذا مسألة الصلاة عند مقام إبراهيم وهذه مسألة وإن كانت من جهة الأصل مسألة قديمة ولكن لما الخلاف قد وجد في مسألة مشروعية نقل المقام لا نريد أن نتكلم عن هذه المسألة لأنها مسألة يتعلق فيها كثيراً من المصالح والمفاسد ولكن نتكلم على ما لو حصل ذلك بتقديم أو تأخير يقال أن الصلاة خلف المقام هل هي متعلقة بذلك الجُرم الذي لو حرك أو أزيل فإنه يزول معه هذا الحكم أو أن الأمر متعلق بأصل مكانه فلو أزيل فإنه ينتفي ذلك الحكم وهو أداء الصلاة خلف المقام؟ أولاً يقال أن الأمر من جهة النظر لا يتعلق بهذا الحجر وإنما يتعلق بمكانه؛ ومعلوم أن مكانه قريباً من الكعبة، فإن إسماعيل كان يناول أباه الحجر وهو قريباً منه فإنما حرك وحركه السيل في الصدر الأول وبقي في مكانه ولما كان كذلك من صلى بين الحجر وبين الكعبة هل هو مصلي بين الكعبة وبين المقام أو لابد أن يكون بين المقام الحادث الذي قد جرفه السيل؟ هل يكون قد أتى وامتثل بذلك أم لا؟ أولاً يقال أنه يرجع إلى مسألة الأصل هل هو من جهة الأصل متعلق بهذا الحجر، فإن غير أو حيد عنه ونحو ذلك أم أن الشارع قيده من جهة العلامة بهذا الحجر وشرعت الصلاة نحو هذه الناحية؟ يقال أن الكعبة - والعياذ بالله - لو أزيل مكانها ووضع في مكان آخر هل المقصود أن يتوجه الإنسان إلى مكانها أو يتوجه إلى الإنسان إلى ذلك الحجر؟ الأولى أن يقال أن الإنسان يتوجه إلى مكانها وهذا محل تسليم لا أن يتوجه إلى ذلك الحجر الذي زيد فيه أو نقص فلما كان كذلك كان كذلك الاتجاه إلى مسألة المقام أن يتوجه الإنسان إلى مكانه عليه يعلم لو تيسر للإنسان أن يصلي بين المقام وبين الكعبة أنه قد صلى ناحية المقام وهذا ينبغي التيسير فيه لما كان الزحام في هذا الموضع - وهو للطوَّاف - كان الأولى بالإنسان أن ينأى عن الزحام ويصلي بعيداً عن ذلك، ثم أن الصلاة من جهة الأصل لا تتعلق بالمقام بذاته لهذا قد ثبت عن غير واحد من الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى - أنهم قد صلوا خارج المسجد فلما كانت الصلاة خارج المسجد، وقد فعلها رسول الله في المسجد دل على أن مسألة المقام لا يتعلق بذاته حكم الركعتين فلما كان لا يتعلق فيه حكم الركعتين كان التوجه إلى موضعه الأصلي هو أولى من التوجه لهذا الحجر، فقد صلى عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى - ركعتي الطواف بذي طوى. وإسناده عنه صحيح قد جاء عنه في موطأ الإمام مالك.
ومن المسائل أيضاً في مسألة المسعى؛ المسعى هو ما بين الصفا والمروة، كما جاء في حديث جابر بن عبد الله قد رواه الإمام مسلم من حديث إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله سعى بين الصفا والمروة والسعي بين الصفا والمروة هو المناسك باتفاق على خلاف عند العلماء في ركنيته أو وجوبه أو استحبابه على ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد - عليه رحمة الله - وليس هذا محل الكلام عليه وإنما الكلام على مسائل من النوازل في المسعى أولها مسألة المسائل الحادثة بالركوب في المسعى ووضع العربات الحادثة الكهربائية التي يركبها بعض العجزة أو المرضى ونحو ذلك وتكون كهربائية فيضغط الإنسان زراً فتمشي به إلى ناحية، ثم يرجع إلى ناحية أخرى، هذا يرجع بنا إلى تأصيل مسألة؛ وهي مسألة الركوب بالمسعى أولاً رسول الله كان بالمسعى ماشياً، وقد ثبت ذلك النص عنه، كما جاء في حديث جابر بن عبد الله فإنه قد مشى ولذلك سعى بين العلمين لم يكن راكباً، وقد جاء عند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود، وقد ثبت أيضاً موقوفاً على عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله تعالى.
وأما الركوب في المسعى فهو خلاف السنة عند جمهور العلماء بل ذهب بعض العلماء إلى وجوب المشي وأن الركوب مخالف إلا لمن كان معذوراً وهذا الذي عليه - أعني التأكيد - على مسألة المشي على خلاف في الوجوب عند السلف - عليهم رحمة الله - فقد ثبت عن غير واحد أنه أكد في ذلك وذم من ركب من غير حاجة في السعي، ثبت ذلك عن عائشة - عليها رضوان الله - وعروة بن الزبير، وسودة بنت عبد الله بن عمر - عليهم رضوان الله تعالى - بالتأكيد على المشي وإن شق على الإنسان ما استطاع إلى المشي سبيلاً ، قد ثبت في ذلك نصوص عنهم بالتأكيد عليه؛ كما جاء عن عائشة فيما رواه الإمام مالك في موطئه قالت : إني لا أستطيع أن أركب فيما بين الصفا والمروة وإنما أمشي بينهما، وقد ثبت ذلك أيضاً، كما جاء في الموطأ من حديث هشام بن عروة عن أبيه أن سودة بنت عبد الله بن عمر وكانت زوجة بن الزبير كانت قد ابتدأت بطوافها بين الصفا والمروة حينما انصرف الناس من صلاة العشاء وكانت ثقيلة فما انتهت من طوافها بين الصفا والمروة إلا عند أذان الصبح الأول فكان ابن الزبير يسعى معها ويرى أناساً راكبون فينكر عليهم فيقولون إنا نفعل ذلك لأجل المرض حياء منه فيقول بن الزبير لقد خابوا وخسروا قد استدل من قال بالوجوب بأمثال هذه الآثار وأن رسول الله لم يثبت عنه أنه ركب، وعلى هذا من يقول بالوجوب فإنه يقول بالدم وهذا قول جماهيرهم ومن قال بالاستحباب وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول جماعة من الفقهاء من الحنفية أنه ليس بواجب وذهب إلى هذا الإمام الشافعي - عليه رحمة الله تعالى - وأنه من المتأكدات والسنن، وعليه أن الإنسان لو احتاج أو فعل ذلك من غير حاجة أن سعيه صحيح سواء كان محمولاً أو على آلة ونحو ذلك، وقد قال الشافعي - عليه رحمة الله تعالى - معلقاً على أثر سودة بنت عبد الله بن عمر وقول ابن الزبير خابوا وخسروا : قال لو قال أن سعيهم باطل لما اكتفى بقوله خابوا وخسروا وإنما دل على أنهم فرطوا من جانب متأكد بهم من جهة الشرع نقص من ثوابهم بقدر تقصيرهم وأن سعيهم صحيح، عليه يعلم أن تلك العربات لو فعلها الإنسان وهو محتاج إليها أنه كالمريض إن فعل ذلك في حال صحته أنه مأجور على فعله في حال الصحة إن كان يمشي وإن كان يركب في حال صحته ومرضه لا يحصل له الأجر، كما جاء عن رسول الله في الصحيح من حديث أبي موسى أن رسول الله قال : «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما يعمل وهو صحيح مقيم» عليه من فعل شيء حال مرضه أو تركه وكان حريصاً علي الامتثال به حال صحته فإنه يكتب له ما كان يفعله حال الصحة ويكون له الأجر - أي الأجر كاملاً -، فإذا فعل حال الصحة فركب، فإن سعيه صحيح فهو ناقص بقدر تفريطه بما حث عليه النبي .
ويقاس على ذلك ويخرج عليه من المسائل ما قد يقال بها وهي لم تحدث ونحو ذلك، وقد قرأت الدعوة إليها ونحو ذلك وهو وضع سلالم كهربائية بين الصفا والمروة؛ وهو أن يسعى الإنسان على سير كهربائي يذهب به ويجيء ونحو ذلك أولا يقال أن هذا مخرج على مسألتنا.
ومن المسائل النوازل في هذا الباب مسألة السعي وهي علامات العلمين في بطن الوادي وهي المصبوغة باللون الأخضر
أولاً : قد ثبت عن رسول الله أنه إذا دنا من بطن الوادي سعى، كما جاء في حديث جابر بن عبد الله - عليه رضوان الله تعالى - وغيره، وسعيه ليس بالجري الشديد وإنما هو بين المشي فيشد الإنسان فيقارب بين خطاه ويسرع بينهما وهذا هو ظاهر فعل النبي ولكن هذه الأعلام التي قد وضعت خضراء أصلها وضعت بعد انصرام عهد الخلفاء الراشدين وهي وضعت مبكراً في أواخر عهد الصحابة - عليهم رضوان الله تعالى -، وقد نص على هذه الأعلام الخضر غير واحد من الفقهاء؛ كالإمام الشافعي - عليهم رحمة الله تعالى - في كتابه الأم فقال : عندنا من العَلَم الأخضر من جهة المسجد سعة، مما يدل على أن العلم كان موجوداً، ثم تغيرت حاله حتى وضع أنوار خضراء أو صبغت الأميال ونحو ذلك، وهذا هل هو من المقاصد الشرعية أم لا؟ تقدم الإشارة إلى أصل هذه المسألة وهي وضع أعلام لمن جهل بعض الأماكن الشرعية لتحديدها لتحقيق مقصد العبادة؛ أولاً لما كان النبي يسعى في بطن الوادي ولما كان بطن الوادي قد ردم فاستوى طرفا هذا الوادي فلا يعلم بطن الوادي من أعلاه كان وضع هذه الأعلام لتحقيق مصلحة السعي بين العلمين متحقق شرعاً وهو من المصالح المرسلة ولا زال العلماء يقرون ذلك وهو محل عمل عندهم.
ومن المسائل النوازل في مسألة المسعى وهو ما طرأ حديثاً من توسعة المسعى وهو وضع مسار بحجم المسار الموجود محاذ له ومواز له من الصفا والمروة فيكون المسعى الحالي لمن قدم من المروة إلى الصفا والحادث لمن قدم من الصفا إلى المروة، أولا يقال أن رسول الله قد جاء النص عنه أنه سعى بين الصفا والمروة فالبينية هنا من جهة اللغة أن من كان بين شيئين فلا يخلو من حالين على الأغلب إما أن يكون قد وجه وجهه ناحية أحدهما فما خلفه الطرف الآخر وإما أن يكون قد وضع أحدهما على يساره فالآخر عن يمينه، فهل يكون كل ما خلفه أحد الأطرف فيكون بينهما، فإذا كان بينهما، وقد وضع أحدهما على يساره فهل يكون كل ما على يساره ممن هو دون ذلك المكان هو بينه هل تدخل فيه البينية أم لا؟ يقال أن هذه المسألة لها فروع عدة غير هذا الفرع تتعلق بتحقيق هذه البينية؛ البينية تتحقق في كل ما كان عن يمين الإنسان ويساره، فإن الإنسان إذا كان بين نقطتين فلا يلزم أن يكون بينهما أن يكون على خط مستقيم بين هاتين النقطتين فإنه إن تجاوز أحدهما أو تجاوز ذلك الخط، من كان عن يمينه أو عن يساره هو بينهما، وقد توسطهما وكذلك إذا جعل أحدهما خلفه والآخر أمامه يسمي ما خلفه وإن كان محاذياً للنقطة التي خلفه يسمي كل ما خلفه وراءه وكذلك من كان تلقاء وجهه فإنه يسميه أمامه، يتعلق هذا بمسألة البينية ويتعلق هذا بمسألة أخرى - إن قلنا بعدم رجحان هذا التعليل - بمسألة الزحام.
ومسألة الزحام واتصال الصفوف وحاجة الناس إلى ذلك هل يلحق في هذه المسألة أم لا؟ من جهة الرجوع إلى المسائل يجد الإنسان أن مسائل المناسك والمسائل التعبدية لا علاقة لها بما يخرج عنها من مسائل المعاملات ونحو ذلك؛ بعض من تكلم في هذه المسألة الحق هذه المسألة بمسألة التمليك؛ فلو أن إنساناً قد ملك أرضاً ليس له أن يملك ما كان بجوارها وإنما يملك فضاءها، عليه يقال أن رسول الله حينما حدد المواقيت جعل السلف مكاناً محاذياً لها في حكمها مع أن لا يتعلق في ذلك ملكية، وجاء عن رسول الله في مسألة المعاملات في مسألة البيوع فيمن اشترى أيضاً أنه ليس حق فيمن جاورها إلا في مسألة واحدة وهي مسألة الشفعة إذا أراد الإنسان أن يبيع أرضاً مجاورة لشخص آخر أنه أولى بها، كما جاء عن رسول الله أنه قال : «الجار أحق بشفعة جاره». إذا كان كذلك علم أن ثمة فارق بين مسألة التمليك وهي الاستحقاق والملكية وبين مسائل العبادات في أمثال ذلك؛ فالصحابة - عليهم رضوان الله تعالى -، كما جاء عن عمر جعل ما كان محاذياً للميقات، كما في ذات عرق في حكمها، كما قال - عليه رضوان الله تعالى - انظروا حذوها فنظروا فجعل - عليه رضوان الله تعالى - ذات عرق، ثم من جهة النظر من جهة تحقيق المصلحة في اتصال صفوف أن لها حكم من جهة الأصل وهذا يرجعنا إلى مسائل عدة :
المسألة الأولى : مسألة الصلاة حول الكعبة؛ الصلاة في الصدر الأول كانت من جهة الحجر الأسود والباب، كانوا صفاً واحداً ولم تكن الصفوف مستدارة على الكعبة إلا في عهد خالد بن عبد الله القسري، كما ذكر ذلك الفاكهي - عليه رحمة الله تعالى - في كتابه "أخبار مكة"؛ قال أنَّ الصفوف كانت من جهة واحدةٍ من جهة الباب؛ فإذا انتهى شطر الكعبة، أو زادوا عليها قليلاً، أحدثوا صَفَّاً آخر؛ حتى زاد ذلك، فلما كان في خلافة خالدٍ بن عبد الله القَسْري وإمارته على مكة جعل الصفوف مستديرة، فاستقر على ذلك العمل.
وقد أفتى بجواز ذلك غير واحد من العلماء؛ كما أخرج الفاكهي في أخبار مكة من حديث ابن جريج قال : سألتُ عطاءً - عليه رضوان الله تعالى - عن الصلاة خلف الباب فيمن صلَّى، هل يصلى الناس وإنْ خرجوا عن الباب يسيراً، ثم يصلوا صفوفاً أم يصلوا صفاً واحداً حول الكعبة، قال : بل يصلوا صفَّاً واحداً حول الكعبة أوْلى من صلاتهم صفوفاً كثيرة خلف الباب، واستدل بقول الله - وهذا استنباطٌ لطيفٌ منه - قال: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ، قال : فلما كان العرش مقصوداً بالتوجه إليه كانت الاستدارة فيه مشروعة؛ وهذا لم يكن في السابق، واستقر عليه العمل.
المرادُ من ذلك أن نرجع المسألة إلى قبل استدارة الصفوف؛ فلو صلَّى الناس من جهة الباب، ثم زادت الصفوف حتى خرجت عن التصويب عن الكعبة، هل تصح صلاة من زاد عن أطراف الكعبة فتوجه إلى غيرها وهو خلف الإمام؟
يقال : قد اتفق العلماء على أنَّ من صلَّى الصلاة وحاله كذلك أنَّ صلاته صحيحة، وهذا محل اتفاقٍ عندهم؛ لأنَّ مقصد الزحام صحيح؛ وعليه يقال : لو صلى جماعة من الناس، وأبطلوا مسألة الاستدارة؛ فصلوا من ناحية الباب خلف إمامٍ حتى خرج طرف الصف عن مسألة التصويب عن الكعبة صحت صلاتهم، وهذا محل اتفاق.