أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: يَحْيَى عَلَيْه الْسَّلَام الثلاثاء 12 أكتوبر 2010, 12:31 pm | |
| يَحْيَى(عَلَيْه الْسَّلَام)
يَحْيَى -عَلَيْه الْسَّلَام- نَبِي مِن أَنْبِيَاء بَنِي إِسْرَائِيْل، ظَهَرَت آَيَة الْلَّه وَقُدْرَتِه فِيْه حِيْن خَلَقَه، حَيْث كَان أَبُوْه نَبِي الْلَّه زَكَرِيَّا -عَلَيْه الْسَّلَام- شَيْخا كَبِيْرا، وَكَانَت أُمُّه عَاقِرا لَا تَلِد، وَكَان يَحْيَى -عَلَيْه الْسَّلَام- مُحِبا لِلْعِلْم وَالْمَعْرِفَة مُنْذ صِغَرِه، وَقَد أَمَرَه الْلَّه تَعَالَى بِأَن يَأْخُذ الْتَّوْرَاة بِجِد وَاجْتِهَاد، فَاسْتَوْعْبِهَا وَحَفِظَهَا وَعَمِل بِمَا فِيْهَا، وَالْتَزِم بِأَوَامِر الْلَّه سُبْحَانَه وَابْتَعَد عَن نَّوَاهِيْه، قَال تَعَالَى: {يَا يَحْيَى خُذ الْكِتَاب بِقُوَّة وَآَتَيْنَاه الْحُكْم صَبِيا} [مَرْيَم: 12].
وَقَد ابْتَعَد يَحْيَى عَن لَهُو الْأَطْفَال، فَيُحْكَى أَنَّه كَان يَسِيْر وَهُو صَغِيْر إِذ أَقْبَل عَلِى بَعْض الْأَطْفَال وَهُم يَلْعَبُوْن فَقَالُوَا لَه: يَا يَحْيَى تَعَال مَعَنَا نَلْعَب؛ فَرَد عَلَيْهِم يَحْيَى -عَلَيْه الْسَّلَام- رَدا بَلِيَغا فَقَال: مَا لِلَّعِب خُلِقْنَا، وَإِنَّمَا خَلَقْنَا لِعِبَادَة الْلَّه، وَكَان يَحْيَى مُتَوَاضِعا شَدِيْد الْحَنَان وَالشَّفَقَة وَالْرَّحْمَة وَخَاصَّة تُجَاه وَالِدَيْه، فَقَد كَان مِثَالَا لِلْبِر وَالْرَّحْمَة وَالْعَطْف بِهِمَا، قَال تَعَالَى عَن يَحْيَى: {وَحَنَانا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاة وَكَان تَقِيا . وَبِرا بِوَالِدَيْه وَلَم يَكُن جَبَّارا عَصِيا} [مَرْيَم:13-14].
وَحَمَل يَحْيَى لِوَاء الْدَّعْوَة مَع أَبِيْه، وَكَان مُبَارَكا يَدْعُو الْنَّاس إِلَى نُوُر الْتَّوْحِيْد لِيُخْرِجَهُم مِن ظُلُمَات الْكُفْر وَالضَّلَال إِلَى نُوْر الْإِسْلَام، وَكَان شَدِيْد الْحِرْص عَلَى أَن يَنْصَح قَوْمِه وَيَعِظُهُم بِالْبُعْد عَن الانْحِرَافَات الَّتِى كَانَت سَائِدَة حِيْن ذَاك، وَذَات يَوْم جَمَع يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيْل فِي بَيْت الْمَقْدِس ثُم صَعِد الْمِنْبَر، وَأَخَذ يَخْطُب فِي الْنَّاس، فَقَال: (إِن الْلَّه أَمَرَنِي بِخَمْس كَلِمَات أَن أَعْمَل بِهِن، وَآَمُرُكُم أَن تَعْمَلُوَا بِهِن.. أَوَّلُهُن أَن تَعْبُدُوَا الْلَّه وَلَا تُشْرِكُوْا بِه شَيْئا، فَإِن مَثَل مَن أَشْرَك بِالْلَّه كَمَثَل رَجُل اشْتَرَى عَبْدا مِن خَالِص مَالِه بِذَهَب أَو وَرِق (فِضَّة) فَقَال: هَذِه دَارِي، وَهَذَا عَمَلِي فَاعْمَل وَأَد إِلَي، فَكَان يَعْمَل وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْر سَيِّدِه، فَأَيُّكُم يَرْضَى أَن يَكُوْن عَبْدُه كَذَلِك ؟!
وَإِن الْلَّه أَمَرَكُم بِالصَّلَاة، فَإِذَا صَلَّيْتُم، فَلَا تَلْتَفِتُوْا، فَإِن الْلَّه يَنْصِب وَجْهَه لِوَجْه عَبْدِه فِي صَلَاتِه مَا لَم يَلْتَفِت، وَآَمُرُكُم بِالصِّيَام، فَإِن مَثَل ذَلِك كَمَثَل رَجُل فِي عِصَابَة مَعَه صُرَّة فِيْهَا مِسْك، فَكُلُّهُم يَعْجَب أَو يُعْجِبُه رِيْحُهَا، وَإِن رِيَح الْصَّائِم أَطْيَب عِنْد الْلَّه -تَعَالَى- مِن رِيْح الْمِسْك، وَآَمُرُكُم بِالْصَّدَقَة فَإِن مَثَل ذَلِك كَمَثَل رَجُل أَسَرَه الْعَدُو، فَأَوْثَقُوْا يَدَه إِلَى عُنُقِه، وَقَدَّمُوْه لِيَضْرِبُوْا عُنُقَه، فَقَال: أَنَا أَفْدِيْه مِنْكُم بِالْقَلِيْل وَالْكَثِيْر، فَفَدَى نَفْسَه مِنْهُم، وَآَمُرُكُم أَن تَذْكُرُوْا الْلَّه، فَإِن مِثْل ذَلِك كَمَثَل رَجُل خَرَج الْعَدُو فِي أَثَرِه سِرَاعا، حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْن حَصِيْن، فَأَحْرَز نَفْسَه مِنْهُم، كَذَلِك الْعَبْد لَا يُحْرِز نَفْسَه مِن الْشَّيْطَان إِلَّا بِذِكْر الْلَّه) [الْتِّرْمِذِي].
وَكَان يَحْيَى يُحِب الْعُزْلَة وَالِانْفِرَاد بِنَفْسِه فَكَان كَثِيْرا مَا يُذْهِب إِلَى الْبَرَارِي وَالْصَّحَارِي، لِيُعْبَد الْلَّه عَز وَجَل فِيْهَا وَحْدَه، وَرُوِي أَن يَحْيَى -عَلَيْه الْسَّلَام- لَم يَأْت بِخَطِيْئَة قَط، وَلَم يَقْبَل عَلَى ذَنْب أَبَدا، قَال رَسُوْل الْلَّه صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: (لَا يَنْبَغِي لِأَحَد أَن يَقُوْل أَنَا خَيْر مِّن يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا مَا هُم بِخَطِيْئَة وَلَا عَمِلَهَا) [أَحْمَد] وَلَقَد رَأَى الْنَّبِي -صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- يَحْيَى -عَلَيْه الْسَّلَام- لَيْلَة الْمِعْرَاج فِي الْسَّمَاء الْثَّانِيَة يَجْلِس مَع عِيْسَى بْن مَرْيَم، يَقُوْل صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: (.... ثُم صَعِد حَتَّى أَتَى الْسَّمَاء الْثَّانِيَة فَاسْتَفْتَح، قِيَل مَن هَذَا؟ قَال: جِبْرِيْل.. قِيَل: وَمَن مَعَك؟ قَال: مُحَمَّد، قِيَل: وَقَد أُرْسِل إِلَيْه؟ قَال: نَعَم.. فَلَمَّا خَلَصْت إِذَا بِيَحْيَى وَعِيْسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَة، قَال: هَذَا يَحْيَى وَعِيْسَى فَسَلِّم عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْت فَرَدَّا، ثُم قَالَا: مَرْحَبا بِالْأَخ الْصَّالِح وَالْنَّبِي الْصَّالِح) [الْبُخَارِي] وَرُوِي أَنَّه مَات قَتِيْلَا عَلَى يَد بَنِي إِسْرَائِيْل.
وَالْمَقْصُوْد أَن الْلَّه تَعَالَى أَمَر رَسُوْلَه مُحَمْدَا صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَن يَقُص عَلَى الْنَّاس خَبَر زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام، وَمَا كَان مِن أَمْرِه حِيْن وَهَبَه الْلَّه وَلَدا عَلَى الْكِبَر، وَكَانَت امْرَأَتُه مَع ذَلِك عَاقِرَّا فِي حَال شَبِيْبَتِهَا، وَقَد أَسَنَّت أَيْضا، وَحَتَّى لَا يَيْأَس أَحَد مِن فَضْل الْلَّه وَرَحْمَتِه وَلَا يَقْنَط مِن فَضْلِه تَعَالَى، فَقَال تَعَالَى: (ذَكَر رَحْمَة رَبِّك عَبْدَه زَكَرِيَّا * إِذ نَادَى رَبَّه نِدَاء خَفِيّا). قَام مِن الْلَّه فَنَادَى رَبَّه مُنَادَاة أَسْرِهَا عَمَّن كَان حَاضِرَا عِنْدَه مَخَافَتِه، فَقَال: يَا رَب، يَا رَب. فَقَال الْلَّه: لَبَّيْك لَبَّيْك لَبَّيْك، (قَال: رَب إِنِّي وَهَن الْعَظْم مِنِّي) أَي: ضَعُف وَخَار مِن الْكِبَر، (وَاشْتَعَل الْرَّأْس شَيْبَا)، اسْتِعَارَة مِن اشْتِعَال الْنَّار فِي الْخُطَب، أَي: غَلَب عَلَى سَوَاد الْشَّعَر شَيْبَه، وَهَكَذَا قَال زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام: { إِنِّي وَهَن الْعَظْم مِنِّي وَاشْتَعَل الْرَّأْس شَيْبَا } (سُوْرَة مَرْيَم:4)
وَقَوْلُه: { وَلَم أَكُن بِدُعَائِك رَب شَقِيّا } أَي: مَا دَعَوْتَنِي فِيْمَا أَسْأَلُك إِلَّا الْإِجَابَة، وَكَان الْبَاعِث لَه عَلَى هَذِه الْمَسْأَلَة أَنَّه لَمَّا كَفَل مَرْيَم بِنْت عِمْرَان بْن ماثَان، وَكُن كُلَّمَا دَخَل عَلَيْهَا مِحْرَابِهَا وَجَد عِنْدَهَا فَاكِهَة فِي غَيْر أَوَانِهَا وَلَا أَوَانِهَا، وَهَذِه مِن كَرَامَات الْأَوْلِيَاء، فَعَلِم أَن الْرَّازِق لِلْشَّيْء فِي غَيْر أَوَانِه قَادِر عَلَى أَن يَرْزُقْه وَلَدَا، وَإِن كَان قَد طُعِن فِي سِنِّه { هُنَالِك دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه قَال رَب هَب لِي مِن لَّدُنْك ذُرِّيَّة طَيِّبَة إِنَّك سَمِيْع الْدُّعَاء } (سُوْرَة آَل عِمْرَان:38)
وَقَوْلُه: { وَإِنِّي خِفْت الْمَوَالِي مِن وَرَائِي وَكَانَت امْرَأَتِي عَاقِرَّا } قِيَل: الْمُرَاد بِالْمَوَالِي الْعَصَبَة، وَكَأَنَّه خَاف مِن تَصَرُّفِهِم بَعْدَه فِي بَنِي إِسْرَائِيْل بِمَا لَا يُوَافِق شَرْع الْلَّه وَطَاعَتِه، فَسَأَل وُجُوْد وَلَد مِن صُلْبِه يَكُوْن بَرَأ تَقِيّا مَرْضِيّا، وَلِهَذَا قَال: (فَهَب لِي مِن لَدُنْك) أَي: مِن عِنْدِك بِحَوْلِك وَقُوَّتِك (وَلِيّا يَرِثُنِي) أَي: فِي الْنُّبُوَّة وَالْحَكَم فِي بَنِي إِسْرَائِيْل (وَيَرِث مِن آَل يَعْقُوْب وَاجْعَلْه رَب رَضِيا) يَعْنِي: كَمَا كَان آبَاؤُنَا وَأَسْلَافِه مِن ذُرِّيَّة يَعْقُوْب أَنْبِيَاء، فَاجْعَلْه مَثَلُهُم فِي الْكَرَامَة الَّتِي أَكْرَمْتَهَا بِهَا مِن الْنُّبُوَّة وَالْوَحْي، وَلَيْس الْمُرَاد هَاهُنَا وِرَاثَة الْمَال كَمَا زَعَم ذَلِك مِن زَعَمَه مِن الْشِّيْعَة.
فَلَمَّا بَشِّر بِالْوَلَد وَتَحَقَّق الْبِشَارَة شَرَع يَسْتَعَلِّم عَلَى وَجْه الْتَّعَجُّب وُجُوْد الْوَلَد لَه وَالْحَالَة هَذِه (قَال رَب أَنَّي يَكُوْن لِي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتِي عَاقِرَا وَقَد بَلَغْت مِن الْكِبَر عِتِيّا) أَي: كَيْف يُوْجَد وُلِد مِن شَيْخ كَبِيْر، قِيَل: كَان عُمْرُه إِذ ذَاك سَبْعَا وَسَبْعِيْن سَنَة، وَالْأَشْبَه وَالْلَّه أَعْلَم أَنَّه كَان أَسَن مِن ذَلِك وَكَانَت امْرَأَتِي فِي حَال شَبِيْبَتِهَا عَاقِرَّا لَا تَلِد، وَالْلَّه أَعْلَم. وَهَكَذَا أُجِيْب زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام، قَال لَه الْمُلْك الَّذِي يُوْحِي إِلَيْه بِأَمْر رَبِّه: (كَذَلِك قَال رَبُّك هُو عَلَى هَيِّن) أَي: هَذَا سَهْل يَسِيْر عَلَيْه (وَقَد خَلَقْتُك مِن قَبْل وَلَم تَك شَيْئا) أَي: قُدْرَتِه أَوْجَدْتُك بَعْد أَن لَم تَكُن شَيْئا مَّذْكُورا، أَفَلَا يُوْجَد مِنْك وُلِد وَإِن كُنْت شَيْخَا؟!
وَقَال تَعَالَى: { فَاسْتَجَبْنَا لَه وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَه زَوْجَه، إِنَّهُم كَانُوْا يُسَارِعُوْن فِي الْخَيْرَات وَيَدْعُوْنَنَا رَغَبَا وَرَهَبَا، وَكَانُوْا لَنَا خَاشِعِيْن } (سُوْرَة الْأَنْبِيَاء:90)
وَمَعْنَى إِصْلَاح زَوْجَتِه: أَنَّهَا كَانَت لَا تَحِيْض فَحَاضَت، وَقِيْل: كَان فِي لِسَانِهَا شَيْء، أَي بَذَاءَة. (قَال رَب اجْعَل لِّي آَيَة) أَي: عَلَامَة عَلَى وَقْت تُعَلِّق مِنِّي الْمَرْأَة بِهَذَا الْوَلَد الْمُبَشِّر بِه، (قَال آَيَتُك أَلَا تُكَلِّم الْنَّاس ثَلَاث لَيَال سَوِيّا) يَقُوْل: عَلَامَة ذَلِك أَن يَعْتَرِيَك سَكَت لَا تَنْطِق مَعَه ثَلَاثَة أَيَّام إِلَا رَمْزَا، وَأَنْت فِي ذَلِك سِوَي الْخَلْق صَحِيْح الْمِزَاج مُعْتَدِل الْبِنْيَة، وَأْمُر بِكَثْرَة الْذِّكْر فِي هَذِه الْحَال بِالْقَلْب وَاسْتِحْضَار ذَلِك بِفُؤَادِه بِالْعَشِي وَالْإِبْكَار، فَلَمَّا بَشِّر بِهَذِه الْبِشَارَة خَرَج مَسْرُورَا بِهَا عَلَى قَوْمِه مِن مِحْرَابِه، (فَأَوْحَى إِلَيْهِم أَن سَبِّحُوْا بُكْرَة وَعَشِيا).
وَفِي قَوْلِه: (يَا يَحْيَى خُذ الْكِتَاب بِقُوَّة وَآَتَيْنَاه الْحُكْم صَبِيّا) يُخْبِر تَعَالَى عَن وُجُوْد الْوَلَد وَفْق الْبِشَارَة الْإِلَهِيَّة لِأَبِيْه زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام، وَأَن الْلَّه تَعَالَى عَلَّمَه الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَهُو صَغِيْر فِي حَال صِبَاه. قَال عَبْد الْلَّه بْن الْمُبَارَك: قَال مَعْمَر: قَال الْصَّبِيَّان لِيَحْيَى بْن زَكَرِيَّا: اذْهَب بِنَا نَلْعَب، فَقَال: مَا لِلَّعِب خُلِقْنَا، قَال: وَذَلِك قَوْلُه: (وَآَتَيْنَاه الْحُكْم صَبِيّا). وَأَمَّا قَوْلُه: (وّحِنُانُا مِن لَّدُنَّا) فَرُوِي ابْن جَرِيْر عَن عَمْرِو بْن دِيْنَار، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس أَنَّه قَال: لَا أَدْرِي مَا الْحَنَان. وَيَحْتَمِل أَن يَكُوْن ذَلِك صِفَة لتَحَنَن يَحْيَى عَلَى الْنَّاس وَلَاسِيَّمَا عَلَى أَبَوَيْه، وَهُو مَحَبَّتِهِمَا وَالشَّفَقَة عَلَيْهِمَا وَبِرَّه بِهِمَا. وَأَمَّا الْزَّكَاة فَهُو طَهَارَة الْخَلْق وَسَلَامَتِه مِن الْنَّقَائِص وَالْرَّذَائِل، وَالْتَّقْوَى طَاعَة الْلَّه بِامْتِثَال أَوْامِرِه وَتَرْك زَوَاجِرْه.
ثُم ذَكَر بِرِّه بِوَالِدَيْه وَطَاعَتُه لَهُمَا أَمْرَا وَنَهْيَا، وَتَرْك عُقُوْقِهِمَا قَوْلَا وَفِعْلَا فَقَال: (وَبِرّا بِوَالِدَيْه وَلَم يَكُن جَبَّارِا عَصِيّا) ثُم قَال: (وَسَلَام عَلَيْه يَوْم وُلِد وَيَوْم يَمُوْت وَيَوْم يُبْعَث حَيّا)، هَذِه الْأَوْقَات الْثَّلاثَة أَشَد مَا تَكُوْن عَلَى الْإِنْسَان، فَإِنَّه يَنْتَقِل فِي كُل مِنْهَا مِن عَالَم إِلَي عَالِم آَخَر، فَيَفْقِد الْأَوَّل بَعْد مَا كَان أَلَّفَه وَعَرَّفَه، وَيَصِيْر إِلَي الْآَخَر وَلَا يَدْرِي مَا بَيْن يَدَيْه، وَلِهَذَا يَسْتَهِل صَارِخَا إِذَا خَرَج مِن بَيْن الْأَحْشَاء وَفَارَق لِيْنِهَا وَضَمَّهَا، وَيَنْتَقِل إِلَي هَذِه الْدَّار لَيُكابِد هُمُوْمَهَا وَغَمَّهَا. وَقَال ابْن الْمُبَارَك عَن وُهَيْب بْن الْوَرْد، قَال: فَقَد زَكَرِيَّا ابْنُه ثَلَاثَة أَيَّام، فَخَرَج يَلْتَمِسُه فِي الْبَرِّيَّة، فَإِذَا هُو قَد احْتَفَر قَبْرَا وَأَقَام فِيْه يَبْكِي عَلَى نَفْسِه، فَقَال: يَا بَنِي أَنَا أَطْلُبُك مِن ثَلَاثَة أَيَّام وَأَنْت فِي قَبْر قَد احْتَفَرَتِه قَائِم تَبْكِي فِيْه؟ فَقَال: يَا أَبَت أَلَسْت أَنْت أَخْبَرَتْنِي أَن بَيْن الْجَنَّة وَالْنَّار مَقَام لَا يُقْطَع إِلَّا بِدُمُوْع الْبَكَّائِيْن؟ فَقَال لَه: أَبْك يَا بَنِي، فَبَكَيَا جَمِيْعَا.
وَذَكَرُوَا أَنَّه كَان كَثِيْر الْبُكَاء حَتَّى أَثَّر الْبُكَاء فِي خَدَّيْه مِن كَثْرَة دُمُوْعُه. وَذَكَرُوَا فِي قَتْلِه أَسْبَابَا مِن أَشْهَرِهَا أَن بَعْض مُلُوْك ذَلِك الْزَّمَان بِدِمَشْق كَان يُرِيْد أَن يَتَزَوَّج بِبَعْض مَحَارِمُه أَو مَن لَا يَحِل لَه تَزْوِيْجُهَا، فَنَهَاه يَحْيَى عَلَيْه الْسَّلَام عَن ذَلِك، فَبَقِى فِي نَفْسِهَا مِنْه، فَلَمَّا كَان بَيْنَهَا وَبَيْن الْمَلِك مَا يُحِب مِنْهَا اسْتُوْهِبْت مِنْه دَم يَحْيَى، فَوَهَبَه لَهَا، فَبَعَثْت إِلَيْه مِن قَتْلِه وَجَاء بِرَأْسِه وَدَمِه فِي طَسْت إِلَي عِنْدَهَا، فَيُقَال أَنَّهَا هَلَكَت مِن فَوْرِهَا وْسَاعِتْهَا. وَقِيْل: بَل أَحَبَّتْه امْرَأَة ذَلِك الْمَلَك وَرَاسَلَتْه فَأَبَى عَلَيْهَا، فَلَمَّا يَئِسْت مِنْه تَحِيَّلْت فِي أَن اسْتَوْهَبْتُه مِن الْمُلْك، فَتُمْنَع عَلَيْهَا الْمَلَك، ثُم أَجَابَهَا إِلَي ذَلِك، فَبَعَث مِن قَتْلِه وَأَحْضَر إِلَيْهَا رَأْسِه وَدَمِه فِي طَسْت. ثُم اخْتُلِف فِي مَقْتَل يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا هَل كَان بِالْمَسْجِد الْأَقْصَى أَم بِغَيْرِه عَلَى قَوْلَيْن. فَقَال الْثَّوْرِي عَن الْأَعْمَش عَن شِمْر بْن عَطِيّة قَال: قُتِل عَلَى الْصَّخْرَة الَّتِي بِبَيْت الْمَقْدِس سَبْعُوْن نَبِيّا مِنْهُم يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام.
وَقَال أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَّام، حَدَّثَنَا عَبْد الْلَّه بْن صَالِح، عَن الْلَّيْث، عَن يَحْيَى ابْن سَعِيْد، عَن سَعِيْد بْن الْمُسَيَّب قَال: قَدِم بُخْتُنَصَّر دِمَشْق فَإِذَا هُو بِدَم يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا يَغْلِي، فَسَأَل عَنْه فَأَخْبَرُوْه، فَقُتِل عَلَى دَمِه سَبْعِيْن أَلْفَا فَسَكَن.
|
|