أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn مؤسس ومدير المنتدى
عدد المساهمات : 52561 العمر : 72
| موضوع: عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام الإثنين 11 أكتوبر 2010, 10:20 am | |
| عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام
نُبْذَة:
مِثْل عِيْسَى مِثْل آَدَم خَلَقَه الْلَّه مِن تُرَاب وَقَال لَه كُن فَيَكُوْن، هُو عِيْسَى بْن مَرْيَم رَسُوْل الْلَّه وَكَلِمَتُه أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم، وَهُو الَّذِي بَشَّر بِالْنَّبِي مُحَمَّد، آَتَاه الْلَّه الْبَيِّنَات وَأَيَّدَه بِرُوْح الْقُدُس وَكَان وَجِيْها فِي الْدُّنْيَا وَالآْخِرَة وَمَن الْمُقَرَّبِيْن..
كَلِم الْنَّاس فِي الْمَهْد وَكَهْلا وَكَان يَخْلُق مِن الْطِّيْن كَهَيْئَة الْطَّيْر فَيَنْفُخ فِيْهَا فَتَكُوْن طَيْرا، وَيُبْرِئ الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَيُخْرِج الْمَوْتَى كُل بِإِذْن الْلَّه، دَعَا الْمَسِيح قَوْمَه لِعِبَادَة الْلَّه الْوَاحِد الْأَحَد وَلَكِنَّهُم أَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوَا وَعَارَضُوْه..
وَلِم يُؤْمِن بِه سِوَى بُسَطَاء قَوْمِه، رَفَعَه الْلَّه إِلَى الْسَّمَاء وَسَيَهْبِط حِيْنَمَا يَشَاء الْلَّه إِلَى الْأَرْض لِيَكُوْن شَهِيْدا عَلَى الْنَّاس.
سِيْرَتِه:
الْحَدِيْث عَن نَبِي الْلَّه عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام، يَسْتَدْعِي الْحَدِيْث عَن أُمِّه مَرْيَم، بَل وَعَن ذُرِّيَّة آَل عِمْرَان هَذِه الذُّرِّيَّة الَّتِي اصْطَفَاهَا الْلَّه تَعَالَى وَاخْتَارَهَا، كَمَا اخْتَار آَدَم وَنُوْحا وَآَل إِبْرَاهِيْم عَلَى الْعَالَمِيْن.
آَل عِمْرَان أَسِرَّة كَرِيْمَة مُكَوَّنَة مِن عِمْرَان وَالِد مَرْيَم، وَامْرَأَة عِمْرَان أَم مَرْيَم، وَمَرْيَم، وَعِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام؛ فَعِمْرَان جَد عِيْسَى لِأُمِّه، وَامْرَأَة عِمْرَان جَدَّتِه لِأُمِّه، وَكَان عِمْرَان صَاحِب صَلَاة بَنِي إِسْرَائِيْل فِي زَمَانِه، وَكَانَت زَوْجَتُه امْرَأَة عِمْرَان امْرَأَة صَالِحَة كَذَلِك، وَكَانَت لَا تَلِد، فَدَعَت الْلَّه تَعَالَى أَن يَرْزُقُهَا وَلَدا، وَنَذَرَت أَن تَجْعَلَه مُفَرَّغا لِلْعِبَادَة وَلِخِدْمَة بَيْت الْمَقْدِس، فَاسْتَجَاب الْلَّه دُعَاءَهَا، وَلَكِن شَاء الْلَّه أَن تَلِد أُنْثَى هِي مَرْيَم، وَجَعَل الْلَّه تَعَالَى كِفَالَتَهَا وَرِعَايَتِهَا إِلَى زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام، وَهُو زَوْج خَالَتِهَا، وَإِنَّمَا قَدْر الْلَّه ذَلِك لِتَقْتَبِس مِنْه عِلْما نَافِعَا، وَعَمَلَا صَالِحا.
كَانَت مَرْيَم مِثَالَا لِلْعِبَادَة وَالْتَّقْوَى، وَأَسْبَغ الَلّه تَعَالَى عَلَيْهَا فَضْلِه وَنَعَّمَه مِمَّا لَفَت أَنْظَار الْآَخِرِين، فَكَان زَكَرِيَّا عَلَيْه الْسَّلَام كُلَّمَا دَخَل عَلَيْهَا الْمِحْرَاب وَجَد عِنْدَهَا رِزْقا، فَيَسْأَلُهَا مِن أَيْن لَك هَذَا، فَتُجِيْب: (قَالَت هُو مِن عِنْد الْلَّه إِن الْلَّه يَرْزُق مَن يَشَاء بِغَيْر حِسَاب).
كُل ذَلِك إِنَّمَا كَان تَمْهِيْدا لِلْمُعْجِزَة الْعُظْمَى؛ حَيْث وُلِد عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام مِن هَذِه الْمَرْأَة الْطَّاهِرَة الْنَّقِيَّة، دُوْن أَن يَكُوْن لَه أَب كَسَائِر الْخَلْق، وَاسْتَمِع إِلَى بِدَايَة الْقِصَّة كَمَا أَوْرَدَهَا الْقُرْآَن الْكَرِيْم، قَال تَعَالَى:
وَإِذ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِن الْلَّه اصْطَفَاك وَطَهَّرَك وَاصْطَفَاك عَلَى نِسَاء الْعَالَمِيْن (42) (آَل عِمْرَان) بِهَذِه الْكَلِمَات الْبَسِيطَة فَهِمْت مَرْيَم أَن الْلَّه يَخْتَارُهَا، وَيُطَهِّرَهَا وَيَخْتَارُهَا وَيَجْعَلُهَا عَلَى رَأْس نِسَاء الَوَجَوْد.. هَذَا الْوُجُوْد، وَالْوُجُود الَّذِي لَم يَخْلُق بَعْد.. هِي أَعْظَم فَتَاة فِي الْدُّنْيَا وَبَعْد قِيَامَة الْأَمْوَات وَخَلَق الْآَخِرَة..
وَعَادَت الْمَلَائِكَة تَتَحَدَّث: يَا مَرْيَم اقْنُتِي لِرَبِّك وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَع الْرَّاكِعِيْن (43) (آَل عِمْرَان)
وِلَادَة عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام:
كَان الْأَمْر الْصَّادِر بَعْد الْبِشَارَة أَن تَزِيْد مِن خُشُوْعَهَا، وَسُجُوْدِهَا وَرُكُوْعَهَا لِلَّه.. وَمَلَأ قَلْب مَرْيَم إِحَسَّاس مُفَاجِئ بِأَن شَيْئا عَظِيْمَا يُوْشِك أَن يَقَع.. وَيَرْوِي الَلّه تَعَالَى فِي الْقُرْآَن الْكَرِيْم قِصَّة وِلَادَة عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام فَيَقُوْل:
وَاذْكُر فِى الْكِتَاب مَرْيَم إِذ انْتَبَذَت مِن أَهْلِهَا مَكَانْا شَرْقِيّا (16) فَاتَّخَذَت مِن دُوْنِهِم حِجَابَا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوْحَنَا فَتَمَثَّل لَهَا بَشَرَا سَوِيّا (17) قَالَت إِنِّي أَعُوْذ بِالْرَحْمـن مِنْك إِن كُنْت تَقِيّا (18) قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُوْل رَبِّك لِأَهَب لَك غُلَاما زَكِيّا (19) قَالَت أَنَّى يَكُوْن لِى غُلَام وَلَم يَمْسَسْنِى بَشَر وَلَم أَك بَغِيّا (20) قَال كَذَلِك قَال رَبُّك هُو عَلَى هَيِّن وَلِنَجْعَلَه ءَايَة لِلْنَّاس وَرَحْمَة مِّنَّا وَكَان أَمْرَا مَّقْضِيّا (21) (مَرْيَم)
جَاء جِبْرِيْل –عَلَيْه الْسَّلَام- لْمَرْيَم وَهِي فِي الْمِحْرَاب عَلَى صُوْرَة بِشَر فِي غَايَة الْجَمَال. فَخَافَت مَرْيَم وَقَالَت: (إِنِّي أَعُوْذ بِالْرَّحْمَن مِنْك إِن كُنْت تَقِيا) أَرَادَت أَن تَحْتَمِي فِي الْلَّه.. وَسَأَلْتُه هَل هُو إِنْسَان طَيِّب يُعْرَف الْلَّه وَيَتَّقِيْه.
فَجَاء جَوَابِه لِيَطْمْئِنْهَا بِأَنَّه يَخَاف الْلَّه وَيَتَّقِيْه: (قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُوْل رَبِّك لِأَهَب لَك غُلَاما زَكِيا) اطْمَئِنت مَرْيَم لِلْغَرِيْب، لَكِن سِرْعَان مَا تَذَكَّرْت مَا قَالَه (لِأَهَب لَك غُلَاما زَكِيا) اسْتَغْرَبْت مَرْيَم الْعَذْرَاء مِن ذَلِك.. فَلَم يَّمْسَسْهَا بَشِّر مِن قَبْل.. وَلَم تَتَزَوَّج، وَلَم يَخْطُبُهَا أَحَد، كَيْف تُنْجِب بِغَيْر زَوَاج!!
فَقَالَت لِرَسُوْل رَبِّهَا: (أَنَّى يَكُوْن لِي غُلَام وَلَم يَمْسَسْنِي بَشَر وَلَم أَك بَغِيا) قَال الْرُّوْح الْأَمِيْن: (كَذَلك قَال رَبُّك هُو عَلَي هَيِّن وَلِنَجْعَلَه آَيَة لِلْنَّاس وَرَحْمَة مِّنَّا وَكَان أَمْرا مَّقْضِيا) اسْتَقْبَل عَقَل مَرْيَم كَلِمَات الْرُّوْح الْأَمِيْن.. أَلَم يَقُل لَهَا إِن هَذَا هُو أَمْر الْلَّه ..؟
وَكُل شَيْء يَنْفَذ إِذَا أَمَّر الْلَّه.. ثُم أَي غَرَابَة فِي أَن تَلِد بِغَيْر أَن يَّمْسَسْهَا بَشِّر..؟ لَقَد خُلِق الْلَّه سُبْحَانَه وَتَعَالَى آَدَم مِن غَيْر أَب أَو أُم، لَم يَكُن هُنَاك ذِكْر وَأُنْثَى قَبْل خَلْق آَدَم.
وَخَلَقْت حَوَّاء مِن آَدَم فَهِي قَد خُلِقَت مِن ذَكَر بِغَيْر أُنْثَى.. وَيَخْلُق ابْنَهَا مِن غَيْر أَب.. يَخْلُق مِن أُنْثَى بِغَيْر ذِكْر.. وَالْعَادَة أَن يَخْلُق الْإِنْسَان مِن ذِكْر وَأُنْثَى.. الْعَادَة أَن يَكُوْن لَه أَب وَأُم.. لَكِن الْمُعْجِزَة تَقَع عِنَدَمّا يُرِيْد الْلَّه تَعَالَى أَن تَقَع..
عَاد جِبْرِيْل عَلَيْه الْسَّلام يَتَحْدُث: (إِن الْلَّه يُبَشِّرُك بِكَلِمَة مِّنْه اسْمُه الْمَسِيْح عِيْسَى ابْن مَرْيَم وَجِيْها فِي الْدُّنْيَا وَالآَخِرَة وَمِن الْمُقَرَّبِيْن (45) وَيُكَلِّم الْنَّاس فِي الْمَهْد وَكَهْلا وَمِن الْصَّالِحِيْن)
زَادَت دَهْشَة مَرْيَم.. قَبْل أَن تُحَمِّلَه فِي بَطْنِهَا تَعْرِف اسْمَه.. وَتُعْرَف أَنَّه سَيَكُوْن وِجِيِهْا عِنْد الْلَّه وَعِنْد الْنَّاس، وَتُعْرَف أَنَّه سَيُكَلِّم الْنَاس وَهُو طِفْل وَهُو كَبِيْر.. وَقَبْل أَن يَتَحَرَّك فَم مَرْيَم بِسُؤَال آَخَر.. نُفِخ جِبْرِيْل عَلَيْه الْسَّلَام فِي جَيْب مَرْيَم –الْجَيْب هُو شِق الْثَّوْب الَّذِي يَكُوْن فِي الْصَّدْر- فَحَمَلَت فَوْرَا.
وَمَرّت الْأَيَّام.. كَان حَمْلُهَا يَخْتَلِف عَن حَمْل الْنِّسَاء.. لَم تَمْرَض وَلَم تَشْعُر بِثِقَل وَلَا أَحَسَّت أَن شَيْئا زَاد عَلَيْهَا وَلَا ارْتَفَع بَطْنِهَا كَعَادَة الْنِّسَاء.. كَان حَمْلُهَا بِه نِعْمَة طَيِّبَة. وَجَاء الْشَّهْر الْتَّاسِع.. وَفِي الْعُلَمَاء مِن يَقُوْل إِن الْفَاء تُفِيْد الْتَّعْقِيب الْسَّرِيْع.. بِمَعْنَى أَن مَرْيَم لَم تَحْمِل بِعِيْسَى تِسْعَة أَشْهُر، وَإِنَّمَا وَلَدَتْه مُبَاشَرَة كَّمُعْجِزَة..
خَرَجَت مَرْيَم ذَات يَوْم إِلَى مَكَان بَعِيْد.. إِنَّهَا تُحِس أَن شَيْئا سَيَقَع الْيَوْم.. لَكِنَّهَا لَا تَعْرِف حَقّيِقَة هَذَا الْشَّيْء.. قَادَتِهَا قَدَمَاهَا إِلَى مَكَان يَمْتَلِئ بِالْشَّجَر.. وَالْنَّخْل، مَكَان لَا يَقْصِدُه أَحَد لِبُعْدِه.. مَكَان لَا يَعْرِفُه غَيْرَهَا.. لَم يَكُن الْنَّاس يَعْرِفُوْن أَن مَرْيَم حَامِل.. وَإِنَّهَا سَتَلِد.. كَان الْمِحْرَاب مُغْلَقَا عَلَيْهَا، وَالْنَّاس يَعْرِفُوْن أَنَّهَا تَتَعَبَّد فَلَا يَقْتَرِب مِنْهَا أَحَد..
جَلَسَت مَرْيَم تَسْتَرِيْح تَحْت جِذِع نَخْلَة؛ لَم تَكُن نَخْلَة كَامِلَة، إِنَّمَا جِذْع فَقَط، لِتَظْهَر مُعْجِزَات الْلَّه سُبْحَانَه وَتَعَالَى لِمَرْيَم عِنْد وِلَادَة عِيْسَى فَيُطَمْئِن قَلْبِهَا.. وَرَاحَت تُفَكِّر فِي نَفْسِهَا.. كَانَت تَشْعُر بِأَلَم.. وَرَاح الْأَلَم يَتَزَايَد وَيَجِيْء فِي مَرَاحِل مُتَقَارِبَة.. وَبَدَأَت مَرْيَم تَلِد..
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاض إِلَى جِذْع الْنَّخْلَة قَالَت يَا لَيْتَنِي مِت قَبْل هَذَا وَكُنْت نَسْيا مَّنْسِيا (23) (مَرْيَم) إِن أَلَم الْمِيْلَاد يَحْمِل لِنَفْس الْعَذْرَاء الْطَّاهِرَة آَلِامَا أُخْرَى تِتْوَقَّعْهَا وَلَم تَقَع بَعْد..
كَيْف يَسْتَقْبِل الْنَّاس طِفْلَهَا هَذَا..؟ وَمَاذَا يَقُوْلُوْن عَنْهَا..؟ إِنَّهُم يَعْرِفُوْن أَنَّهَا عَذْرَاء.. فَكَيْف تَلِد الْعَذْرَاء..؟ هَل يَصْدُق الْنَّاس أَنَّهَا وَلَدَتْه بِغَيْر أَن يَّمْسَسْهَا بَشِّر..؟
وَتَصَوَّرْت نَظَرَات الْشَّك.. وَكَلِمَات الْفُضُول.. وَتَعْلِيْقَات الْنَّاس.. وَامْتَلَأ قَلْبِهَا بِالْحُزْن.. وَوَلَدَت فِي نَفْس الْلَّحْظَة مِن قَدَر عَلَيْه أَن يَحْمِل فِي قَلْبِه أَحْزَان الْبَشَرِيَّة.. لَم تَكَد مَرْيَم تَنْتَهِي مِن تَّمَنِّيْهَا الْمَوْت وَالْنِّسْيَان، حَتَّى نَادِهِا الْطِفْل الَّذِي وُلِد:
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَد جَعَل رَبُّك تَحْتَك سَرِيا (24) وَهُزِّي إِلَيْك بِجِذْع الْنَّخْلَة تُسَاقِط عَلَيْك رُطَبا جَنِيا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنا فَإِمَّا تَرَيِن مِن الْبَشَر أَحَدا فَقُوْلِي إِنِّي نَذَرْت لِلْرَّحْمَن صَوْما فَلَن أُكَلِّم الْيَوْم إِنْسِيا (26) (مَرْيَم)
نَظَرَت مَرْيَم إِلَى الْمَسِيْح.. سَمِعْتُه يَطْلُب مِنْهَا أَن تَكُف عَن حُزْنِهَا.. وَيَطْلُب مِنْهَا أَن تَهُز جِذْع الْنَّخْلَة لِتُسْقِط عَلَيْهَا بَعْض ثِمَارَهَا الْشَّهِيَّة.. فَلْتَأْكُل، وَلْتَشْرَب، وَلْتَمْتَلِئ بِالْسَّلام وَالْفَرَح وَلَا تُفَكِّر فِي شَيْء.. فَإِذَا رَأَت مِن الْبَشَر أَحَدا فَلْتَقُل لَهُم أَنَّهَا نَذَرْت لِلْرَّحْمَن صَوْما فَلَن تَكَلَّم الْيَوْم إِنْسَانَا.. وَلْتَدَع لَه الْبَاقِي..
لَم تَكَد تُلْمَس جِذْعُهَا حَتَّى تُسَاقِط عَلَيْهَا رُطَب شَهِي.. فَأَكَلْت وَشَرِبْت وَلَفَّت الْطِّفْل فِي مَلَابِسِهَا.. كَان تَفْكِيْر مَرْيَم الْعَذْرَاء كُلُّه يَدُوْر حَوْل مَرْكَز وَاحِد.. هُو عِيْسَى، وَهِي تَتَسَاءَل بَيَّنَهَا وَبَيْن نَفْسِهَا: كَيْف يَسْتَقْبِلُه الْيَهُوْد..؟
مَاذَا يَقُوْلُوْن فِيْه..؟ هَل يَصْدُق أَحَد مِن كَهَنَة الْيَهُوْد الَّذِيْن يَعِيْشُوْن عَلَى الْغِش وَالْخَدِيْعَة وَالْسَّرِقَة..؟ هَل يَصْدُق أَحَدَهُم وَهُو بَعِيْد عَن الْلَّه أَن الْلَّه هُو الَّذِي رَزَقَهَا هَذَا الْطِّفْل؟ إِن مَوْعِد خَلْوَتِهَا يَنْتَهِي، وَلَا بُد أَن تَعُوْد إِلَى قَوْمِهَا.. فَمَاذَا يَقُوْلُوْن الْنَّاس؟
مُوَاجَهَة الْقَوْم:
كَان الْوَقْت عَصْرَا حِيْن عَادَت مِرْيَم.. وَكَان الْسُّوْق الْكَبِيْر الَّذِي يَقَع فِي طَرِيْقِهَا إِلَى الْمَسْجِد يَمْتَلِئ بِالْنَّاس الَّذِي فَرَّغُوا مِن الْبَيْع وَالْشِّرَاء وَجَلَسُوا يُثَرْثِرُون. لَم تَكَد مَرْيَم تَتَوَسَّط الْسُّوْق حَتَّى لَاحَظ الْنَّاس أَنَّهَا تُحْمَل طِفْلَا، وَتَضُمُّه لِصَدَرِهَا وَتَمْشِي بِه فِي جَلَال وَبُطْئ..
تُسَائِل أَحَد الْفُضُولِيِّين: أَلَيْسَت هَذِه مَرْيَم الْعَذْرَاء..؟ طِفْل مِن هَذَا الَّذِي تَحْمِلُه عَلَى صَدْرِهَا..؟ قَال أَحَدُهُم: هُو طِفْلَهَا.. تَرَى أَي قِصَّة سَتَخْرُج بِهَا عَلَيْنَا..؟ وَجَاء كَهَنَة الْيَهُوْد يَسْأَلُوْنَهَا.. ابْن مَن هَذَا يَا مَرْيَم؟ لِمَاذَا لَا تُرْدِيْن؟ هُو ابْنُك قِطْعَا.. كَيْف جَاءَك وُلِد وَأَنْت عَذْرَاء؟ يَا أُخْت هَارُوْن مَا كَان أَبُوْك امْرَأ سَوْء وَمَا كَانَت أُمُّك بَغِيا (28) (مَرْيَم)
الْكَلِمَة تَرْمِي مَرْيَم بِالْبِغَاء.. هَكَذَا مُبَاشَرَة دُوْن اسْتِمَاع أَو تَحْقِيْق أَو تُثَبِت.. تِّرْمِيَهَا بِالْبِغَاء وَتُعِيْرَهَا بِأَنَّهَا مِن بَيْت طَيِّب وَلَيْسَت أُمِّهَا بَغْيا.. فَكَيْف صَارَت هِي كَذَلِك؟ رَاحَت الْاتِّهَامَات تَسْقُط عَلَيْهَا وَهِي مَّرْفُوْعَة الْرَّأْس.. تُوْمِض عَيْنَاهَا بِالْكِبْرِيَاء وَالْأُمُومَة.. وَيُشِع مِن وَجْهِهَا نُوْر يَفِيْض بِالثِّقَة.. فَلَمَّا زَادَت الْأَسْئِلَة، وَضَاق الْحَال، وَانْحَصَر الْمَجَال، وَامْتَنَع الْمَقَال، اشْتَد تَوَكُّلِهَا عَلَى ذِي الْجَلَال وَأَشَارَت إِلَيْه..
أَشَارَت بِيَدِهَا لِعِيْسَى.. وَانْدَهَش الْنَّاس.. فَهِمُوْا أَنَّهَا صَائِمَة عَن الْكَلَام وَتَرْجُو مِنْهُم أَن يَسْأَلُوْه هُو كَيْف جَاء.. تَسَاءَل الْكَهَنَة وَرُؤَسَاء الْيَهُوْد كَيْف يُوَجِّهُوْن الْسُّؤَال لِطِفْل وُلِد مُنْذ أَيَّام.. هَل يَتَكَلَّم طِفِل فِي لِفَافَتَه..؟!
قَالُوْا لِمَرْيَم: (كَيْف نُكَلِّم مَن كَان فِي الْمَهْد صَبِيا). قَال عِيْسَى: قَال إِنِّي عَبْد الْلَّه آَتَانِي الْكِتَاب وَجَعَلَنِي نَبِيا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكا أَيْن مَا كُنْت وَّأَوْصَانِي بِالصَّلَاة وَالْزَّكَاة مَا دُمْت حَيا (31) وَبْرا بِوَالِدَتِي وَلَم يَجْعَلْنِي جَبَّارا شَقِيا (32) وَالْسَّلَام عَلَي يَوْم وُلِدْت وَيَوْم أَمُوْت وَيَوْم أُبْعَث حَيا (33) (مَرْيَم)
لَم يَكَد عِيْسَى يَنْتَهِي مِن كَلَامِه حَتَّى كَانَت وُجُوْه الْكَهَنَة وَالْأَحْبَار مُمْتَقِعَة وَشَاحِبَة.. كَانُوْا يَشْهَدُوْن مُعْجِزَة تَقَع أَمَامَهُم مُبَاشَرَة.. هَذَا طِفْل يَتَكَلَّم فِي مَهْدِه.. طِفْل جَاء بِغَيْر أَب.. طِفْل يَقُوْل أَن الْلَّه قَد آَتَاه الْكِتَاب وَجَعَلَه نَبِيَّا.. هَذَا يَعْنِي إِن سَلَّطْتَهُم فِي طَرِيْقِهَا إِلَى الانْهِيَار.. سَيُصْبِح كُل وَاحِد فِيْهِم بِلَا قِيَمَة عِنْدَمَا يَكْبُر هَذَا الْطِّفْل..
لَن يَسْتَطِيْع أَن يَبِيْع الْغُفْرَان لِلْنَّاس، أَو يَحْكُمُهُم عَن طَرِيْق ادِّعَائِه أَنَّه ظَل الْسَّمَاء عَلَى الْأَرْض، أَو بِاعْتِبَارِه الْوَحِيْد الْعَارِف فِي الْشَّرِيِعَة.. شِعْر كَهَنَة الْيَهُوْد بِالْمَأسَاة الْشَخْصِيَّة الَّتِي جَاءَتْهُم بِمِيْلاد هَذَا الْطِّفْل..
إِن مُجَرَّد مَجِيْء الْمَسِيْح يَعْنِي إِعَادَة الْنَاس إِلَى عِبَادَة الْلَّه وَحْدَه.. وَهَذَا مَعْنَاه إِعْدَام الْدِّيَانَة الْيَهُوْدِيَّة الْحَالِيَّة.. فَالْفَرْق بَيْن تَعَالِيْم مُوْسَى وَتَصَرُّفَات الْيَهُوْد كَان يُشْبِه الْفَرْق بَيْن نُجُوْم الْسَّمَاء وَوَحْل الْطُّرُقَات.. وَتُكَتِّم رُهْبَان الْيَهُوْد قِصَّة مِيْلاد عِيْسَى وَكَلَامُه فِي الْمَهْد.. وَاتَّهَمُوْا مَرْيَم الْعَذْرَاء بِبُهْتَان عَظِيْم.. اتَّهَمُوْهَا بِالْبِغَاء.. رُغْم أَنَّهُم عَايَنُوَا بِأَنْفُسِهِم مُعْجِزَة كَلَام ابْنِهِا فِي الْمَهْد.
وَتُخْبِرُنَا بَعْض الرِّوَايَات أَن مَرْيَم هَاجَرَت بِعِيْسَى إِلَى مِصْر، بَيْنَمَا تُخْبِرُنَا رِوَايَات أُخْرَى بِأَن هَجَرَتْهَا كَانَت مِن بَيْت لَحْم لِبَيْت الْمَقْدِس. إِلَا أَن الْمَعْرُوْف لَدَيْنَا هُو أَن هَذِه الْهِجْرَة كَانَت قَبْل بِعْثَتِه.
مُعْجِزَاتِه:
كَبُر عِيْسَى.. وَنَزَل عَلَيْه الْوَحْي، وَأَعْطَاه الْلَّه الْإِنْجِيْل. وَكَان عُمْرُه آَنَذَاك -كَمَا يُرَى الْكَثِيْر مِن الْعُلَمَاء- ثَلَاثُوْن سَنَة. وَأَظْهَر الْلَّه عَلَى يَدَيْه الْمُعْجِزَات.
يَقُوْل الْمَوْلَى عَز وَجَل فِي كِتَابِه عَن مُعْجِزَات عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام: وَيُعَلِّمُه الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَالْتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيْل (48) وَرَسُوْلِا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيْل أَنِّي قَد جِئْتُكُم بِآَيَة مِّن رَّبِّكُم أَنِّي أَخْلُق لَكُم مِن الْطِّيْن كَهَيْئَة الْطَّيْر فَأَنْفُخ فِيْه فَيَكُوْن طَيْرا بِإِذْن الْلَّه وَأُبَرِّى الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَأُحْي الْمَوْتَى بِإِذْن الْلَّه وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُوْن وَمَا تَدَّخِرُوْن فِى بُيُوْتِكُم إِن فِي ذَلِك لَآَيَة لَّكُم إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِيْن (49) وَمُصَدِّقا لِّمَا بَيْن يَدَي مِن الْتَّوْرَاة وَلِأُحِل لَكُم بَعْض الَّذِي حُرِّم عَلَيْكُم وَجِئْتُكُم بِآَيَة مِّن رَّبِّكُم فَاتَّقُوا الْلَّه وَأَطِيْعُوْن (50) إِن الْلَّه رَبِّي وَرَبَّكُم فَاعْبُدُوْه هـذَا صِرَاط مُّسْتَقِيْم (51) (آَل عِمْرَان)
فَكَان عِيْسَى –عَلَيْه الْسَّلَام- رَسُوْلِا لِبَنِي إِسْرَائِيْل فَقَط. وَمُعْجِزَاتِه هِي:
عَلَّمَه الْلَّه الْتَّوْرَاة.
يَصْنَع مَن الْطِّيْن شَكْل الْطَّيْر ثُم يَنْفُخ فِيْه فَيُصْبِح طَيْرا حَيّا يَطِيْر أَمَام أَعْيُنِهِم.
يُعَالَج الْأَكْمَه (وَهُو مِن وُلْد أَعْمَى)، فَيَمْسَح عَلَى عَيْنَيْه أَمَامَهُم فَيُبْصِر.
يُعَالَج الْأَبْرَص (وَهُو الْمَرَض الَّذِي يُصِيْب الْجِلْد فَيُجْعَل لَوْنُه أَبْيَضَا)، فَيُمسْح عَلَى جِسْمِه فَيَعُوْد سَلِيْمَا.
يُخْبِرُهُم بِمَا يُخَبِّئُوْن فِي بُيُوْتِهِم، وَمَا أُعِدَّت لَهُم زَوْجَاتِهِم مِن طَعَام.
وَكَان –عَلَيْه الْسَّلَام- يُحْيِي الْمَوْتَى.
إِيْمَان الْحَوَارِيُّوْن:
جَاء عِيْسَى لِيُخَفِّف عَن بَنِي إِسْرَائِيْل بِإِبَاحَة بَعْض الْأُمُور الَّتِي حَرَّمَتَها الْتَّوْرَاة عَلَيْهِم عِقَابَا لَهُم. إِلَا أَن بَنِي إِسْرَائِيْل –مَع كُل هَذِه الْآَيَات- كَفَرُوَا.
قَال تَعَالَى: فَلَمَّا أَحَس عِيْسَى مِنْهُم الْكُفْر قَال مَن أَنْصَارِي إِلَى الْلَّه قَال الْحَوَارِيُّوْن نَحْن أَنْصَار الْلَّه آَمَنَّا بِاللَّه وَاشْهَد بِأَنَّا مُسْلِمُوْن (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلَت وَاتَّبَعْنَا الْرَّسُوْل فَاكْتُبْنَا مَع الْشَّاهِدِيْن (53) (آَل عِمْرَان)
وَقَال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِيْن آَمَنُوْا كُوْنُوْا أَنْصَار الْلَّه كَمَا قَال عِيْسَى ابْن مَرْيَم لِلْحَوَارِيِّيْن مَن أَنْصَارِي إِلَى الْلَّه قَال الْحَوَارِيُّوْن نَحْن أَنْصَار الْلَّه فَآَمَنَت طَّائِفَة مِّن بَنِي إِسْرَائِيْل وَكَفَرَت طَّائِفَة فَأَيَّدْنَا الَّذِيْن آَمَنُوْا عَلَى عَدُوِّهِم فَأَصْبَحُوْا ظَاهِرِيْن (14) (الْصَّف)
قِيَل أَن عَدَد الْحَوَارِيِّيْن كَان سَبْعَة عَشَر رَجُلا، لَكِن الرِّوَايَات الْأَرْجَح أَنَّهُم كَانُوْا اثْنَي عَشَر رَجُلا. آَمَن الْحَوَارِيُّوْن، لَكِن الْتَّرَدُّد لَا يَزَال مَوْجُوْدا فِي نُفُوْسِهِم.
قَال الْلَّه تَعَالَى قِصَّة هَذَا الْتَّرَدُّد: إِذ قَال الْحَوَارِيُّوْن يَا عِيْسَى ابْن مَرْيَم هَل يَسْتَطِيْع رَبُّك أَن يُنَزِّل عَلَيْنَا مَآَئِدَة مِّن الْسَّمَاء قَال اتَّقُوْا الْلَّه إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِيْن (112) قَالُوَا نُرِيْد أَن نَّأْكُل مِنْهَا وَتَطْمَئِن قُلُوْبُنَا وَنَعْلَم أَن قَد صَدَقْتَنَا وَنَكُوْن عَلَيْهَا مِن الْشَّاهِدِيْن (113) قَال عِيْسَى ابْن مَرْيَم الْلَّهُم رَبَّنَا أَنْزِل عَلَيْنَا مَآَئِدَة مِّن الْسَّمَاء تَكُوْن لَنَا عِيْدَا لِّأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَة مِّنْك وَارْزُقْنَا وَأَنْت خَيْر الْرَّازِقِيْن (114) قَال الْلَّه إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُم فَمَن يَكْفُر بَعْد مِنْكُم فَإِنِّي أُعَذِّبُه عَذَابا لَا أُعَذِّبُه أَحَدا مِّن الْعَالَمِيْن (115) (الْمَائِدَة)
اسْتَجَاب الْلَّه عَز وَجَل، لَكِنَّه حَذَّرَهُم مِن الْكُفْر بَعْد هَذِه الْآَيَة الَّتِي جَاءَت تَلْبِيَة لُطَلْبِهُم. نَزَلَت الْمَائِدَة، وَأَكْل الْحَوَارِيُّوْن مِنْهَا، وَظَلُّوا عَلَى إِيْمَانِهِم وَتَصْدِيقَهُم لِعِيْسَى –عَلَيْه الْسَّلَام- إِلَّا رَجُل وَاحِد كَفَر بَعْد رَفْع عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام.
رَفَع عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام:
لَمَّا بَدَأ الْنَّاس يَتَحَدَّثُوْن عَن مُعْجِزَات عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام، خَاف رُهْبَان الْيَهُوْد أَن يُتَّبَع الْنَّاس الْدِّيْن الْجَدِيْد فَيُضَيِّع سُلْطَانُهُم. فَذَهَبُوا لْمَلِك تِلْك الْمَنَاطِق وَكَان تَابِعا لِلْرُّوَم. وَقَالُوْا لَه أَن عِيْسَى يَزْعُم أَنَّه مَلِك الْيَهُوْد، وَسَيَأْخُذ الْمُلْك مِنْك.
فَخَاف الْمَلِك وَأَمَر بِالْبَحْث عَن عِيْسَى –عَلَيْه الْسَّلَام- لِيَقْتُلَه. جَاءَت رِوَايَات كَثِيْرَة جِدا عَن رَفَع عِيْسَى –عَلَيْه الْسَّلَام- إِلَى الْسَّمَاء، مُعْظَمُهَا مِن الْإِسْرَائِيْلِيَّات أَو نَقْلِا عَن الْإِنْجِيْل. وَسَنُشِير إِلَى أَرْجَح رِوَايَة هُنَا.
عِنَدَمّا بَلَغ عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام أَنَّهُم يُرِيْدُوْن قَتْلِه، خَرَج عَلَى أَصْحَابِه وَسَأَلَهُم مِن مِنْهُم مُسْتَعْد أَن يُلْقِي الْلَّه عَلَيْه شَبَهُه فَيُصْلَب بَدَلَا مِنْه وَيَكُوْن مَعَه فِي الْجَنَّة. فَقَام شَاب، فَحَن عَلَيْه عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام لِأَنَّه لَا يَزَال شَابّا. فَسَأَلَهُم مَرَّة ثَانِيَة، فَقَام نَفْس الْشَّاب.
فَنَزَل عَلَيْه شَبَه عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام، وَرَفْع الْلَّه عِيْسَى أَمَام أَعْيُن الْحَوَارِيِّيْن إِلَى الْسَّمَاء. وَجَاء الْيَهُوْد وَأَخَذُوا الشُّبَه وَقَتَلُوْه ثُم صَلَبُوْه. ثُم أَمْسَك الْيَهُوْد الْحَوَارِيِّيْن فَكَفَر وَاحِد مِنْهُم.
ثُم أَطْلَقُوْهُم خَشْيَة أَن يَغْضَب الْنَّاس. فَظَل الْحَوَارِيُّوْن يَدْعُوَن بِالْسِّر. وَظِل الْنَّصَارَى عَلَى الْتَّوْحِيْد أَكْثَر مِن مِئَتَيْن سُنَّة. ثُم آَمَن أَحَد مُلُوْك الْرُّوْم وَاسْمُه قُسْطَنْطِيْن، وَأُدْخِل الْشِّرْكِيَّات فِي دِيَن الْنَّصَارَى.
يَقُوْل ابْن عَبَّاس: افْتَرَق الْنَّصَارَى ثَلَاث فَرْق. فَقَالَت طَائِفَة: كَان الْلَّه فِيْنَا مَا شَاء ثُم صَعِد إِلَى الْسَّمَاء. وَقَالَت طَائِفَة: كَان فِيْنَا ابْن الْلَّه مَا شَاء ثُم رَفَعَه الْلَّه إِلَيْه. وَقُلْت طَائِفَة: كَان فِيْنَا عَبْد الْلَّه وَرَسُوْلِه مَا شَاء ثُم رَفَعَه الْلَّه إِلَيْه.
فَتَظَاهَرْت الْكَافِرَتَان عَلَى الْمُسْلِمَة فَقَتَلُوْهَا فَلَم يَزَل الْإِسْلَام طَامِسا حَتَّى بَعَث الْلَّه مُحَمَّدا –صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- فَذَلِك قَوْل الْلَّه تَعَالَى: (فَأَيَّدْنَا الَّذِيْن آَمَنُوْا عَلَى عَدُوِّهِم فَأَصْبَحُوْا ظَاهِرِيْن).
وَقَال تَعَالَى عَن رَفْعِه: وَقَوْلِهِم إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيْح عِيْسَى ابْن مَرْيَم رَسُوْل الْلَّه وَمَا قَتَلُوْه وَمَا صَلَبُوْه وَلـكِن شُبِّه لَهُم وَإِن الَّذِيْن اخْتَلَفُوَا فِيْه لَفِي شَك مِّنْه مَا لَهُم بِه مِن عِلْم إِلَا اتِّبَاع الْظَّن وَمَا قَتَلُوْه يَقِيْنْا (157) بَل رَفَعَه الْلَّه إِلَيْه وَكَان الْلَّه عَزِيْزَا حَكِيْمَا (158) وَإِن مِن أَهْل الْكِتَاب إِلَا لَيُؤْمِنَن بِه قَبْل مَوْتِه وَيَوْم الْقِيَامَة يَكُوْن عَلَيْهِم شَهِيْدا (159) (الْنِّسَاء)
لَا يَزَال عِيْسَى –عَلَيْه الْسَّلَام- حَيّا. وَيَدُل عَلَى ذَلِك أَحَادِيْث صَحِيْحَة كَثِيْرَة. وَالْحَدِيْث الْجَامِع لَهَا فِي مُسْنَد الْإِمَام أَحْمَد:
حَدَّثَنَا عَبْد الْلَّه، حَدَّثَنِي أَبِي،حَد ثَنَا يَحْيَى، عَن ابْن أَبِي عَرُوْبَة قَال: ثَنَا قَتَادَة، عَن عَبْد الْرَّحْمَن بْن آَدَم، عَن أَبِي هُرَيْرَة،: (عَن الْنَّبِي صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال: الْأَنْبِيَاء إِخْوَة لِعَلَّات، دِيْنُهُم وَاحِد وَأُمَّهَاتُهُم شَتَّى، وَأَنَا أَوْلَى الْنَّاس بِعِيْسَى ابْن مَرْيَم لِأَنَّه لَم يَكُن بَيْنِي وَبَيْنَه نَبِي، وَأَنَّه نَازِل فَإِذَا رَأَيْتُمُوْه فَاعْرِفُوْه، فَإِنَّه رَجُل مَرْبُوع إِلَى الْحُمْرَة وَالْبَيَاض، سِبْط كَأَن رَأْسَه يَقْطُر وَإِن لَم يُصِبْه بَلَل بَيْن مُمَصَّرَتَيْن، فَيَكْسِر الْصَّلِيب وَيَقْتُل الْخِنْزِيْر، وَيَضَع الْجِزْيَة، و يُعَطِّل الْمَلَل حَتَّى يُهْلِك الْلَّه فِي زَمَانِه الْمِلَل كُلَّهَا غَيْر الْإِسْلَام، وَيُهْلِك الْلَّه فِي زَمَانِه الْمَسِيْح الدَّجَّال الْكَذَّاب، وَتَقَع الْأَمَنَة فِي الْأَرْض حَتَّى تَرْتَع الْإِبِل مَع الْأُسْد جَمِيْعَا، وَالْنُّمُوْر مَع الْبَقَر، وَالْذِّئَاب مَع الْغَنَم، وَيَلْعَب الْصِّبْيَان بِالْحَيَّات لَا يَضُر بَعْضُهُم بَعْضَا، فَيَمْكُث مَا شَاء الْلَّه أَن يَمْكُث ثُم يُتَوَفَّى، فَيُصْلِي عَلَيْه الْمُسْلِمُوْن وَيَدْفِنُوْنَه.)
(مَرْبُوع) لَيْس بِالْطَّوِيْل وَلَيْس بِالْقَصِيْر، (إِلَى الْحُمْرَة وَالْبَيَاض) وَجْهَه أَبْيَض فِيْه احْمِرَار، (سِبْط) شَعْرُه نَاعِم، (مُمَصَّرَتَيْن) عَصَاتَين أَو مَنَّارَّتَين وَفِي الْحَدِيْث الْآَخَر يُنَزِّل عِنْد الْمَنَارَة الْبَيْضَاء مِن مَسْجِد دِمَشْق.
وَفِي الْحَدِيْث الْصَّحِيْح الْآَخَر يُحَدَّد لَنَا رَسُوْلُنَا الْكَرِيم مُدَّة مَكَوْثِه فِي الْأَرْض فَيَقُوْل: (فَيَمْكُث أَرْبَعِيْن سَنَة ثُم يُتَوَفَّى، و يُصَلِّي عَلَيْه الْمُسْلِمُوْن). لَا بُد أَن يَذُوْق الْإِنْسَان الْمَوْت. عِيْسَى لَم يَمُت وَإِنَّمَا رَفَع إِلَى الْسَّمَاء، لِذَلِك سَيَذُوق الْمَوْت فِي نِهَايَة الْزَّمَان.
وَيُخْبِرُنَا الْمَوْلَى عَز وَجَل بِحِوَار لَم يَقَع بَعْد، هُو حُوّارَه مَع عِيْسَى عَلَيْه الْسَّلَام يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُوْل: وَإِذ قَال الْلَّه يَا عِيْسَى ابْن مَرْيَم أَءَنْت قُلْت لِلْنَّاس اتَّخِذُوْنِي وَأُمِّي إِلـهَيْن مِن دُوْن الْلَّه قَال سُبْحَانَك مَا يَكُوْن لِي أَن أَقُوْل مَا لَيْس لِي بِحَق إِن كُنْت قُلْتُه فَقَد عَلِمْتَه تَعْلَم مَا فِى نَفْسِي وَلَا أَعْلَم مَا فِى نَفْسِك إِنَّك أَنْت عَلَام الْغُيُوْب (116) مَا قُلْت لَهُم إِلَا مَا أَمَرْتَنِي بِه أَن اعْبُدُوْا الْلَّه رَبِّي وَرَبَّكُم وَكُنْت عَلَيْهِم شَهِيْدا مَا دُمْت فِيْهِم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْت أَنْت الْرَّقِيْب عَلَيْهِم وَأَنْت عَلَى كُل شَىْء شَهِيْد (117) إِن تُعَذِّبْهُم فَإِنَّهُم عِبَادُك وَإِن تَغْفِر لَهُم فَإِنَّك أَنْت الْعَزِيْز الْحَكِيْم (118) (الْمَائِدَة)
هَذَا هُو عِيْسَى بِن مَرْيَم عَلَيْه الْسَّلَام، آَخَر الْرُّسُل قَبْل سَيِّدِنَا مُحَمَّد صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم.
|
|