{وَأَوْحَيْنَا إِلَى...}
(أم موسى عليها السلام)
{لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}
(اللَّهُ جَلَّ جَلَالُه).
كنت أتعجب فيما مضى عن سر تفصيل القرآن لقصة سيدنا موسى بالذات، فلقد ورد ذكر اسم موسى في القرآن 136 مرة في 34 سورة، ذَكَرَ اللَّهُ فيها جميع مراحل حياته، ابتداءً من قصة ميلاده، وحتى انتصاره على عدو اللَّه فرعون وحكاياته المريرة مع مُعاندي بني إسرائيل.
فدار في خاطري وأنا أقرأ دعاء موسى في سورة طه: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)}، أن اللَّهَ ربما اختار موسى ليتكلَّم عنه بهذه الكثرة، بل وليُكلّمَهُ بذاته العلية، ليُثبت للبشر حقيقةً إلهيةً خالدةً، ألا وهي أن العظمة الإنسانية تكمُنُ في أفعال الإنسان وليس كما يظنُّها البعض بفصاحة اللسان وحلاوة الكلام ووضوح المنطق!
فموسى كان صعب اللسان، قليل الفصاحة، فكلّمَهُ رَبُّ الفصاحة بعظمة جَلاله!
فربما كان هذا سببًا من أسباب ذلك التفصيل لقصة موسى!
ولكن الشيء الذي أنا متأكدٌ منه هو أن قصة موسى بالذَّات هي قصة بناء الأمم بامتياز، فأراد اللَّه تفصيلها للمسلمين لكي ينهلوا منها سُبَلَ النُّهوض بأمتهم في أي وقت أرادوه، حتى ولو طال زمان الانحدار بهم.
فقصة موسى وفرعون هي قصة نصر اللَّه لعباده المستضعفين في كل الأزمنة، وهي سُنَّةُ اللَّه التي جرت في الخلق منذ الأزل، والتي تتلخص بأن اللَّه تعالى سوف يأخذ بيد المستضعفين ليرفعهم على المستكبرين ويُورثَهُم أرضهم وديارهم ولو طال زمن الظلم والعدوان.
لذلك أمر اللَّهُ رسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في بداية روايتها بأن يقُصَّها على المؤمنين لكي يتعظوا منها فقال تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)}.
ولنستمع الآن إلى 7 آيات من سورة القصص أعتبرها ملخص قصة القيام الإِسلامي بعد سنوات الهزيمة والانحدار، يقول اللَّه تعالى: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)}.
وبدأ التنفيذ...
يقول اللَّه مباشرة بعد تلك الآيات: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى...}.
فلقد كانت أم موسى هي أساس قيام الأمة بعد سنوات الهزيمة والانحدار، ولقد كان بناء أمة بأسرها يبدأ بامرأة واحدة، بل كانت هزيمة أكبر قوة إجرامية على على مر التاريخ الإنساني تبدأ بتلك المرأة.
هزيمة أعظم جبارٍ عرفه الإنسان بدأت بامرأة فقيرة تسكن في بيت صغيرِ على ضفاف النيل، وهنا يأتي دور المرأة المسلمة في صناعة النصر، فالمرأة هي التي أراد اللَّه من خلالها أن يَمُنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض ويجعلهم أئِمَّةً.
فواللَّهِ لن تقوم أمة من هزيمتها وهي تحتقر نساءها!
فزوجتُك التي عوَّدتها على الذُّل والهوان لن تنجب لك إلا ذليلًا!
وأختك التي تضربها في الغداة والعشي لن تربّي إلا إمعة!
وأمك التي لا تحترمها لن تدعو لك إلا بالهزيمة والخذلان!
وابنتك التي تمنعها من العلم لن تكون إلا تافهة تضاف إلى التافهات في هذه الأمة!
فاللَّهَ اللَّهَ في النساء، فهُنَّ أساس البناء الصحيح، وهن أساس القيام!
وقصة أم موسى بدأت قبل ذلك بكثير، وبالتحديد قبل 300 عام أو يزيد، في ذلك الوقت بيع طفل بثمن بخس في أرض مصر بعد أن وجدته سيَّارة في بئرٍ من آبار فلسطين، هذا الطفل كان يُقال له (يوسف)!
ليصبح يوسف بذلك عبدًا عند ملك من ملوك (الهكسوس) الذين كانوا يحتلّون مصر في حينها، ثم أصبح بعدها وزيرًا مقرباً للملك، ليأتي بأهله جميعًا إلى مصر ليعيشوا في رعاية الملك في سلامٍ وأمان.
ولكن المشكلة تبدأ بعد ذلك بسنوات عندما جاء الفرعون (أحمس الأول) ليُنهي دولة الهكسوس، وليعتبر أحفاد يوسف وإخوته خونة تعاونوا مع الاحتلال الهكسوسي لمصر، فكان ذلك هو سبب استعباد الفراعنة لبني إسرائيل، فلقد كان يوسف هذا هو يوسف بن يعقوب أو يوسف بن إسرائيل عليه وعلى أبيه وعلى جده وعلى أبي جده السَّلام.
وكانت ذرية يوسف وإخوته الأحد عشر هم أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر!
المهم أن بني إسرائيل رضوا بحياة الذُّل والإهانة في مصر لمدة 300 عام، وهذه الأعوام الـ 300 هي التي كوَّنت الشخصية المميزة لأولئك القوم، فقد تعوّدوا خلالها على حياة الذُّل والاستعباد، حتى جاء فرعون من الفراعنة يُسَمَّى (رمسيس الثاني)، هذا الفرعون كان سفاحًا مجرمًا، فلقد رأى ذلك الفرعون في منامه أنه سيولد في بني إسرائيل مولودٌ سيدمر حكمه ويزيل سلطانه.
فقام هذا المجرم بقتل كل مواليد بني إسرائيل من الذكور، وبعد أن نقص عدد العبيد في قصره نتيجة لتقلّص أعداد الإسرائيليين أمر فرعون بقتل الأولاد في سَنَةٍ وإبقائهم في سَنَةٍ، فوُلِدَ لامرأة من بني إسرائيل (يقال لها في كتب التاريخ اليهودية اسم يُكابد) مولودٌ ذكر اسمه (هارون) في السَّنَّةِ التي ليس لها قتل، ثم وُلِدَ لها في سَنَةِ القتل مولودٌ ذكر.
فخافت عليه خوفًا شديدًا، فأوحى اللَّه إليها عن طريق الإلهام أمرًا عجيبًا، فقد أوحى اللَّه إليها أن تضعه في تابوت، فتقذفه في نهر النيل، فما كان من هذه السيدة العظيمة إلا أن استجابت لأمر اللَّه من دون أي تردد.
ولكنها بعثت بابنتها لتَرْقُبَ ذلك الصندوق المُبحر في مياه النيل!
فما الذي رأته أخت موسى؟
وماذا حصل بعد ذلك في هذه القصة العجيبة؟
ومَنْ هي تلك المرأة المسلمة التي اعتبرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أعظم نساء العالمين؟
مَنْ هي تلك البطلة العملاقة التي أعتبرها شخصيًا أقوى امرأةٍ في تاريخ الإنسانية؟!
يتبع...
يتبع إن شاء الله...