دروس وعبر من قصة موسى عليه السلام وفرعون
*- سبب كثرة ذكر قصة موسى مع فرعون في القرآن.
إن الناظر للقرآن العظيم ليجد أن القصص والحوادث قد أخذت حيزًا كبيرًا من آياته وخطاباته ونداءاته، وفي كل قصة عبرة وما يعقلها إلا العالمون.
وقصص القرآن الكريم تحكي صورًا من صور الصراع القديم بين الحق المؤيد من السماء والباطل الذي يلوذ به الأعداء.
ومن تلك القصص قصة عظيمة ما زال الناس يصدرون منها ويردون، قصة تميزت بكثرة عرضها وتنوع مشاهدها، غاص المفسرون في أعماقها فرأوا العجب العجاب.
كيف لا والذي قصها هو رب الأرباب؟! فيا لبلاغة الخطاب، ويا لروعة الجواب، سلوى الدعاة، وبشارة الأمل، وعظيم التوكل، وقوة الإيمان، وفأل المستضعفين والمضطهدين، إنها قصة النبي الكريم مع الطاغية اللئيم، إنها قصة نبي الله موسى بن عمران عليه السلام مع فرعون الظالم.
هذه القصة لِم كثر في القرآن ذكرها وبآياته طال حديثها؟! قال المفسرون: "لأنها من أعجب القصص؛ فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر، فسخره الله أن ربّى هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد، ثم ترعرع ورزق النبوة والرسالة، فعاد إلى القصر الذي ترعرع فيه داعيًا ومذكرًا ومنذرًا"، وأيضًا أن بني إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى عليه السلام هم آخر الأمم قبل أمة محمد ، وإن كان عيسى عليه السلام قد جاء بعد موسى إلا أنه جاء لبني إسرائيل أيضًا، وأيضًا لكثرة الآيات لنبي إسرائيل؛ تسع آيات بينات.
*- قصة موسى مع فرعون.
لقد تعمد فرعون قتل أبناء بني إسرائيل؛ لأنه بلغه أن غلامًا منهم سيولد يكون هلاك حاكم مصر على يديه، فانزعج لذلك وأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل، ثم خشي انقراض شعبه، فأمر بقتل المواليد سنة وتركهم سنة، فيقدر الله سبحانه أن يولد موسى عليه السلام في السنة التي تقتل فيها المواليد من بني إسرائيل، وقد حزنت أمه حين حملت به خوفًا عليه، وحين وضعته، وكذلك وهي ترضعه، ويُوحى إليها أن إذا خافت عليه أن تضعه في صندوق وتلقيه في البحر، فيا سبحان الله، ويا عجبًا من قدرة الله، البحر بأمواجه المتلاطمة ومياهه الغامرة وأعماقه المظلمة هو الملاذ الآمن للطفل الرضيع، سبحانك إلهنا ما أعظمك، سبحانك ربنا ما أقدرك.
نعم البحر المائج والموج الهائج هو الملاذ الآمن للطفل الرضيع؛ لأنه وعد وهو أحق من وعد: فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
وها هي الرياح العاتية تتقاذف صندوق الرضيع موسى عليه السلام ذات اليمين وذات الشمال، إلى أين؟ إلى بيت فرعون؛ ليكون جبروت فرعون هباءً وخواءً أمام جبروت الجبار وقدرته جل في علاه وتقدس في سماه.
ها هو موسى يولد ويسلم من القتل ويصل إلى بيت فرعون دون عناء، فهل لفرعون أن يقتله أو بالسوء يتعرضه؟! كلا ورب الكعبة، الله يحفظه، ومن السوء يمنعه، بل يربيه ويرعاه فرعون دهرًا من الزمن، وما علم أن الذي بين يديه نهايته على يديه، سبحانه أحكم الحاكمين، يعلم ولا نعلم، يقدر ولا نقدر، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وتتوالى المواقف والأحداث ليأتي الأمر الإلهي لعبده ونبيه موسى بالبدء بالدعوة و الذهاب إلى رأس الكفر والطغيان: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43، 44].
وما أجمل أن يسبح الدعاة في بحر قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا. فهل نحن خير أم موسى عليه السلام؟! بل موسى ولا شك. وهل من ندعوهم شر من فرعون؟! بل فرعون أشر. فرفقًا معشر الدعاة، وصدق المصطفى : ((ومن يحرم الرفق فقد حرم الخير كله)). فالابتسامة الصادقة والكلمة الرفيقة والهمسة اللطيفة مفاتيح عظيمة لمغاليق القلوب.
ويبدأ موسى في دعوة فرعون وملئه بادئًا خطابه: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47]، وتطرق أذن الطاغية: مِنْ رَبِّكَ، فيتعجب ويسأل: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49، 50].
فعند كلمة: خَلْقَهُ عبر أيّ عبر، وتحت كلمة: هَدَى مجلدات من الصور، هدى كل شيء، هدى الطفل يوم أن رضعته أمه لا يعرف شيئا، هداه إلى ثدي أمه ليمص اللبن، فمن الذي دله لثديها وعلمه كيف يمص؟! إنه الله الواحد الأحد الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
هدى النحلة أن تطير آلاف الأميال لتأخذ الرحيق ثم تعود إلى خليتها، من الذي علمها؟! من الذي دلها؟! إنه الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. هدى النملة تدخر قوتها من الصيف لفصل الشتاء، تسير في نظام دقيق عجيب، من الذي علمها؟! من الذي بصرها؟! إنه الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
ويُسقط في يد فرعون، فيلجأ إلى القوة والسلطان ويهدّد بالسجن، وهذه لغة الطغاة والمجرمين، قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29].
ثم ها هو المشهد يقترب من نهايته، والمعركة تصل إلى ذروتها، فها هو موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفينة، ولا يملكون خوضه، وما هم بمسلحين، وقد قارب فرعون وجنوده يطلبونهم ولا يرحمون، ودلائل الحال تقول: البحر أمامهم والعدو خلفهم، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]، ويبلغ الكرب مداه، ويصل الضيق منتهاه، إلا أن موسى عليه السلام لا يشك لحظة، وملء قلبه الثقة بالحق المبين واليقين بعون أرحم الراحمين، قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62].
(كلا) بهذا الجزم والتأكيد، (كلا) بهذا الثبات واليقين، وحق لموسى أن يملأ فاه بـ(كلا)، ومعتمده مَنِ البحر والسموات والأرضين والبشر كلهم ملكه يصرفهم كيف يشاء، وها هو طريق النجاة ينفتح من حيث لا يحتسبون، فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63].
ينشق طريق يابس ولكأنه لم تصبه قطرة ماء، والبحر كالجبال العظيمة واقف ذات اليمين وذات الشمال، وتسير الطائفة المؤمنة والله يرقبها وبالحفظ يكلؤها، تسير واثقة بنصر الله مؤمنة بوعد الله، لكن العناد والطغيان والتجبر المتأصل في نفس فرعون أبى عليه إلا السير خلفهم، فلما تكامل قوم موسى خارجين من البحر وتكامل قوم فرعون داخلين في البحر أمر الله بحره أن أطبق عليهم، وصدق الله: وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 65-68].
*- نور الله غالب مهما حاول المجرمون طمس معالمه، انظروا إلى سحرة فرعون كم وعدهم فرعون ثم انقلبوا فجأة حين أبصروا دلائل الإيمان، فيا لله كانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء بررة، قال سعيد بن جبير رحمه الله: "لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم وتزخرفت لقدومهم".
*-إن نور الله مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثروا في عقول الدهماء فترة من الزمن واستمالوهم بالمنح والعطايا فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، وتأملوا في حال فرعون وسحرته، وكم وعدوا لقاء مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه ، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان، ولاذوا بحمى الملك الديان، فكانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء بررة:
{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) [الأعراف: 113-122].
إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية هذا الموقف بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة السابقين.
وإنه موقف حاسم ينتهي بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان.
وليس هذا أول خرق في سفينة فرعون فقد كان في بيته مؤمنون، ومع ضعف النساء فقد تحدت آسية امرأة فرعون زوجها، وشمخت بإيمانها ولم تفتنها الدنيا ومباهجها.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (11) سورة التحريم.
ووجد في آل فرعون مؤمنون ناصحون رغم العنت والأذى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (28) سورة غافر.
بل وجد سوى هؤلاء ذرية من آل فرعون آمنوا بموسى رغم الخوف وخشية الفتنة في الدين {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (83) سورة يونس.
قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما - في تأويل هذه الأية - ( فإن الذرية التى آمنت لموسى من ناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسير، منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون وامرأة خازنه.
وكذلك يبدد نور الإيمان دياجير الظلام في أجواء تَخنق فيها العبودية لله رب العالمين ويكره الناس على العبودية من دون الله ..
*- ما أعظم الإيمان إذا تمكن من سويداء القلوب، يستسهل صاحبه عندئذٍ كل يسير، ويعرض نفسه للخطر الكبير، لمه؟ في سبيل رضا العليم الخبير. انظر إلى السحرة، فرعون يتوعد ويتهدد:
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل، ومع ذلك يطلقها السحرة في وجه أعتى الطغاة فرعون: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 72، 73].
دونك الأرض يا فرعون، افعل في أجسادنا ما تشاء فسلطانك مقيدٌ بها، وما أقصر الحياة الدنيا وأهونها، أما الأرواح فأنى لك أن تحجبها عن الخضوع لربها ومولاها؟!
*- ثلاثة قضايا ابتدأ الله بها وحيه لموسى، ولكأنها الزاد والمعين على دعوته ورسالته، وهكذا كل الدعاة، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه: 13-15].
نعم الاعتصام بلا إله إلا الله وإقامة الصلاة والإيمان باليوم الآخر.
عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفًا عصيبة ملؤها الخوف والأذى، إلى أن وصل بهم الأمر إلى أن يسروا بصلواتهم في بيوتهم، فأرشدهم الله إلى وسائل يتجاوزن بها الصعاب، وهي:
أولاً: الصبر والصلاة، قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [يونس: 87]، وقال سبحانه: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف: 128].
ثانيًا: الإيمان بالله والتوكل عليه، قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84].
ثالثًا: الدعاء وصدق اللجوء إليه، قال تعالى: فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85 ، 86].
رابعًا: الاستقامة على الخير وعدم الاستعجال في الحصول على المطلوب، قال تعالى: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس: 89]، قال ابن جريج: "يقال: إن الله استجاب دعاء موسى على فرعون بعد أربعين سنة".
*- إن الصراع مهما امتد أجله والفتنة مهما استحكمت حلقاتها والليل مهما ادلهم ظلامه ومهما كثرت الجراحات ومهما قتل الرجال ويتم الأطفال فإن الله ناصرٌ دينه، أبى الله إلا ذلك، أبى الله إلا ذلك، أبى الله إلا ذلك، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8].
وإذا كان الحق قد انتصر في هذه القصة على مشهد من الناس، فليس ذلك شأن القصص كله في القرآن، إذ ليس أمد النصر ينتهي في هذه الحياة، وليس معنى النصر مقصورًا على النصر المحسوس للناس، فقد ينال النصر فرد أو مجموعة من الصادقين وإنْ خُيلَّ للناس أنهم قد استضعفوا أو أهينوا أو غلبوا في هذه الدنيا.
لقد انتصر الخليل إبراهيم عليه السلام على الطغاة وإن قذف في النار، وانتصر أصحاب الأخدود وإن حفرت لهم الأخاديد وأحرقوا، وانتصر الغلام المؤمن وإن كانت روحه أزهقت على ملأ من الناس الذين لم يتمالكوا أنفسهم إلا أن ضجوا: آمنا برب الغلام ....
*-إن الثبات على مبدأ الحق حتى الممات نصر، وأن نصر المبادئ والقيم نجاح ونصر، وقد يشهد الأبناء والأحفاد هذا النصر الذي بذرت بذوره الأولى في عهد آبائهم وأجدادهم، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف:41، 42].
*- الحفاظ على النصر، فبمضاعفة الشكر تتضاعف النعم، وكما يمتحن الله بالضعف والذلة يمتحن بالقوة والنصر، وإن الأمة إذا انتصرت ثم غيرت وبدلت بدل الله نصرها هزيمة وعزها ذُلاً.
فهؤلاء بنو إسرائيل بعدما أنجاهم الله من فرعون وانتصروا ما لبث كثير منهم إلا وأن ارتد، اتخذوا العجل وعصوا أمر الله بالذهاب إلى الأرض المقدسة، عابوا نبيهم، بل وصار أمرهم بعد ذلك إلى قتل أنبيائهم ورسلهم، فماذا حل بهم من أمة قال الله في شأنها: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 122] حتى صار حالهم إلى: وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة: 60].
وهكذا أمة الإسلام، انتصرت وتصدرت إبان تاريخها الأول، ثم غيرت وبدلت، فانظروا إلى دمائها المسفوكة في كثير من الأصقاع، وسنن الله لا تتغير، ونواميس كونه لا تتبدل، ألا يا ليت قومي يعلمون.
*- إن يوم نجاة موسى عليه السلام من فرعون ليوم فرح عظيم، إنه يوم عاشوراء يوم العاشر من المحرم، لذلك سن صيامه، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ عَاشُورَاءَ قَالَ مَا عَلِمْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- صَامَ يَوْمًا يَتَحَرَّى فَضْلَهُ عَلَى الأَيَّامِ إِلاَّ هَذَا الْيَوْمَ يَعْنِى شَهْرَ رَمَضَانَ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ.
و عَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ عُمَرُ رضى الله عنه: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً. قَالَ فَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقَالَ: « لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ ».
أَوْ « مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ ». قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ قَالَ: « وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ ». قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ قَالَ: « لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ ». قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ قَالَ: « ذَاكَ صَوْمُ أَخِى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ». قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ قَالَ: « ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهِ ». قَالَ: فَقَالَ: « صَوْمُ ثَلاَثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ ». قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: « يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ ». قَالَ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: « يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ ».
ومن حرص السلف عليه أنهم كانوا يصومونه حتى في أسفارهم كما ذكر ذلك عن ابن عباس والزهري وغيرهم، بل ثبت في البخاري أن الصحابة كانوا يصومون صبيانهم تعويدًا لهم على الفضل، ويلهونهم باللعب حتى الإفطار.
وأعلى المراتب في صيامه أن يصام عاشوراء مع التاسع والحادي عشر، ثم يليها صوم التاسع والعاشر، ثم يليها صومه وحده، وإن ضعفت فلا تغلبن على اليوم العاشر؛ فالذنوب كثيرة، والعمل قليل، والوقوف بين يدي الله قريب.
*- تكثر القصص في القرآن بشكل عام، وفي كل قصة عبرة، وما يعقلها إلا العالمون.
وتحكى قصص القرآن صوراً للصراع القديم بين الحق المؤيد من السماء والباطل الذي يلوذ به الملأ والكبراء خداعاُ وعناداُ واستكبار وحفاظاُ على الذوات ليس إلا ، كما تكشف القرآن عن مواقف المؤمنين وحقيقته وآثار الإيمان ومواقف الظالمين ونهاية الفجار.
ولئن كانت القصص تشغل مساحة عريضة في القرآن. فإن قصة موسى عليه السلام مع فرعون تتميز بكثرة عرضها وتنوع مشاهدها وهي من أطول قصص الانبياء عليهم السلام في القرآن، فما الحكمة من كثرة ذكرها؟
قال المفسرون: لأنها من أعجب القصص. فإن فرعون حذِر من موسى كل الحذر فسخره القدر لتربية هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ثم ترعرع ، وعقد الله له سببا من بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم.
وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويؤمن برسالة الله ، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية والنفس الخبيثة الأبية، وقوي رأسه وتولى بركنه، وادعى ما ليس له، وتجرأ على الله وعتا وبغى، وأهان حزب الإيمان من بنى إسرائيل.
والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون _ عليهما السلام _ ويحوطهما بعنايته ويحرسها بعينه التى لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلات والآيات تقوم على يدي موسى شيئاُ فشيئاُ، ومرة بعد مرة مما يبهر العقول ويدهش الألباب، ومما لا يقوم له شيء ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله . وما نريهم من آية إلا هى أكبر من أختها [الزخرف: 48].
وصمم فرعون وملؤه - على التكذيب بذلك كله .. حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وأغرقهم في صبيحة واحدة: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين .
*- لقد تعمد فرعون قتل أبناء بني إسرائيل، لأنه بلغه أن غلاماً منهم سيولد ويكون هلاك ملك مصر على يديه، فانزعج لذلك وأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل حذراً من وجود هذا الغلام - ولا يغني الحذر عن القدر -.
ومع حرص فرعون وطغيانه وجبروته فقد قدر الله أن يولد موسى عليه السلام في السنة التى يقتل فيها كل مولود لبنى إسرائيل، وأن ينجو من بأسه وقتله وقد حزنت أمه حين حملت به خوفاُ عليه، وحين وضعته، واستمر الخوف يلاحقها حتى أوحى إليها أن ترضعه، فإذا خافت عليه فلتضعه في صندوق ثم تلق به في البحر وسيحفظه الله ويرده إليها: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (7) سورة القصص.
وأمواج البحر قد بدأت تقذف بتابوت الرضيع موسى عليه السلام ذات اليمين وذات الشمال حتى أوصلته إلى بيت فرعون.
وكأن الله تعالى أراد - فيما أراد - أن يظهر عجز فرعون وضعفه أمام قوة الله الجبار وقدرته.
فإذا كان فرعون يقتل الغلمان من أجل هذا الغلام. فها هو الغلام يولد. ويسلم من القتل رغم المتابعة الدقيقة، فإذا سلم ووصل إلى بيت فرعون دون عناء أو بحث، فهل يستطيع الملك الطاغية أن يقتل غلاماً مازال في المهد؟
كلا وعناية الله تحيط بالغلام ورعايته سبحانه تتولاه، وصدق الله {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (8) سورة القصص ، وتحقق وعد الله :{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (13) سورة القصص.
ويبدأ موسى عليه السلام في دعوة فرعون وملئه .. ويصر أولئك على الكفر والمعاندة، ويستمر بلين الدعاة بالقول تارة،وبالحجة الباهرة تارة، ويؤكد موسى وهارون عليهما السلام نبوتهما بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة، ويظل الحوار مع فرعون صريحاً جاداً تظهر فيه الربوبية الحقة لله رب العالمين، وتسلخها من فرعون الدعي العنيد وتنسف الدعوة الكاذبة،ويظهر الحق رغم المكابرة والاستهزاء والتهديد: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) [الشعراء/23-28].
وحين شعر فرعون أن موسى عليه السلام قد غلبه بالحجة والبرهان لجأ إلى القوة والسلطان وهدد بسجن موسى إن هو عبد الله وحده ورفض ما عليه الناس من عبودية فرعون: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)} [الشعراء/29].
*-لقد عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفا عصيبة ملؤها الخوف والأذى، ووصل بهم الأمر أن يسروا بصلاتهم ويتخذوا المساجد في بيوتهم قال الله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (87) سورة يونس.
و المعنى: كما قال العوفي عن ابن عباس في تفسير الآية: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، وأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم.
وقال مجاهد: لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة.. أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سراً وكذا قال قتادة والضحاك .