"رمز الزَّوْجَةُ الصَّالِحَة"
(خديجة بنت خويلد)
"يا خديجة هذا جبريلُ يُقْرئُكِ السَّلام مِنْ رَبِّك"
(رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-).
اغرورقت عينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالدُّموع وهو يقلّب بيديه تلك القِلَادَةَ التي جاء بها رجلٌ من قريش ليفتدي بها أخَاهُ الذي أسَرَهُ المسلمون في معركة بدرٍ "الكبرى".
فلقد أيقظت تلك القِلَادَةَ في فؤاد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكريات تلك الإنسانة التي مَلَكَتْ عليه قلبه ووجدانه قبل أن ترحل من الدنيا.
لقد كانت هذه القِلَادَةُ هي قِلَادَةُ أعَزّ مخلوقة على قلبه، لقد كانت هذه القِلَادَةُ قِلَادَةُ الإنسانة التي أحبته وواسته وسهرت على راحته.
لقد كانت قِلَادَةُ الإنسانة التي كانت تصعد جبال مكة الشَّاهقة لتضع الطعام والشراب له في غار حراء ثم تتركه هانئًا بِخَلْوَتِه.
لقد كانت قِلَادَةُ الإنسانة التي واسته بمالها وصحتها وروحها.
تَذَكَّرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك المرأة التي زمَّلته بالرّداء لِتُهَدِّئَ مِنْ رَوْعِهِ بعد أن جَاءَهُ جبريلُ بالوحي لأول مرة.
تَذَكَّرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يُقَلِّبُ تلك القِلَادَةَ تلك الإنسانة التي كانت تُواسيه بحنانها بعد كل مرة يستهزئ به فيها كُفَّارُ مَكَّةَ في طُرُقَاتِهَا, ليجد في عيون تلك الإنسانة كل معاني الحنان والطمأنينة.
تَذَكَّرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك الإنسانة التي صَدَّقَتْهُ يوم أن كَذّبَهُ النَّاس، وواسته يوم أن هجره النَّاس، وساندته يوم أن تخلَّى عنه النَّاس.
تَذَكَّرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك الإنسانة الرقيقة التي ما سمع لها صوتًا مُرتفعًا طِيلَةَ رُبع قَرْنٍ من الحياة الزوجية الهانئة.
تَذَكَّرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك الإنسانة التي عَانَتْ معه من الجوع والعطش بعد حصار الكفار للمسلمين في شِعْبِ مَكَّةَ.
تَذَكَّرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يُقَلِّبُ تلك القِلَادَةَ بين يديه ذلك اليوم الذي خلعت به تلك الإنسانة هذه القِلَادَةَ من عُنِقِهَا لكي تُلْبِسَهَا لابنتها زينب يوم زواجها وابتسامتها الرَّقيقة ترتسم على مُحيَّاهَا لتملأ البيت إشراقًا وبهجة، لتنعكس تلك الابتسامة في عيني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتحيي في قلبه اليتيم تلك السعادة التي حُرمها منذ طفولته.
لقد تَذَكَّرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الإنسانة التي عَوَّضَتْهُ عن سنين اليُتْمِ والحِرْمَانِ التي عاشها طفلًا صغيرًا.
فسَالَتْ دُمُوعُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بحرارة على وجنتيه الطاهرتين.
فلقد كانت هذه القِلَادَةُ هي قِلَادَةُ زوجته الحبيبة المُحِبَّةِ الوفيَّة النقيَّة الطاهرة الصادقة المُخلصة البطلة خديجة بنت خويلد عليها السلام.
كنت أظن أن الكتابة عن عظيمات الإِسلام ستُريحُني قليلًا من العَنَاءِ الذي تكبَّدتُهُ في البحث والتحقيق خلال أشهرٍ من الكتابة المتواصلة عن أولئك العظماء الذين كتبت عنهم إلى حد الآن.
وإذ بي أفَاجَأُ بأن الكتابة عن عظيمات هذه الأمة أصعب بألف مرة من الكتابة عن عظيميها!
فنحن أمام شخصيَّاتٍ من النّساء العظيمات اللائي يعجز القلم قبل صاحبه عن وصفهنَّ، وأتذكر هنا مَقُولَةً نسمعها كثيرًا "بأن وراء كل رجلٍ عظيم امرأة"، إلا أنني أؤكد بعد دراستي لسير عظيمات الإِسلام أن تلك المَقُولَةَ ما هي إلا مقولة خاطئة.
بل إن هذه المَقُولَةَ التي ورثناها من الغَرْبِ الذي يتشدَّق بالفضيلة وحقوق المرأة ما هي إلّا مَقُولَةٌ مهينةٌ للمرأة، فالمرأة ليست جاريةً للرجل يستعبدها لتصنع منه عظيمًا في الوقت الذي تذهب هي فيه إلى عتمات التاريخ المُظلم.
فالمَقُولَةُ التي أراها صحيحة من الناحية التاريخية هي "وراء كل أمَّةٍ عظيمةٍ امرأة!".
وأنا هنا لا أجامل النّساء على حساب الرجال، وإنما أؤكد على استنتاجٍ توصَّلتُ إليه من خلال دراسةٍ لا بأس بها لأحداث التاريخ, فلولا وجود امرأة عظيمة مثل خديجة لَمَا قامت أمَّةُ الإِسلام!
فالمرأة في الإِسلام هي كل المجتمع وليس نصفه كما يزعم البعض، ومكانة المرأة في الإِسلام تفوق بكثير مكانة مثيلاتها في دول العالم المتقدم.
وقد عرفت شخصيًا مدى النعمة التي تنعم بها المرأة المسلمة بعد أن رأيت بأمِّ عينيَّ ما تُعانيه المرأة الأوروبية من ظلمٍ واستعباد!
فالمرأة في بعض الدول الأوروبية تضطر لنزع ملابسها قطعة قطعة لكي تحصل على بعض "اليوروات" لطعامها مقابل أن تظهر في إعلانٍ تبدو فيه شبه عارية بجانب سيارةٍ يشتريها الرجال!
هناك تضطَّر الفتاة لخلع ملابسها لكي تظهر عارية في مجلة يستمتع بها الرجال لكي تأخذ هي من صاحب المجلة ما تدفع به إيجار شقتها وما تسد به رمقها!
وكم أحسست بالاشمئزاز عندما رأيت نساءً يعرضن أنفسهن شبه عرايا من وراء زجاج المحلات في إحدى المدن الأوروبية "الكبرى" وكأننا ما زلنا نعيش في سوق نِخَاسَةٍ من أسواق القرون الوسطى!
فإذا كُنْتِ طفلةً مسلمةً، وإذا كنت فتاةً مسلمةً، وإذا كنت سيدةً مسلمةً، فارفعي رأسكِ عاليًا وناطحي بها شمس الأصيل وأفق السَّماء.
فأنتِ ابنةُ خديجة التي أرسل اللَّهُ لها السلام من فوق سبع سماوات برسالة أوصلها إليها كبير الملائكة جبريلُ عليه السلام!
واعلمي أن دَوْرُكِ في هذه الأمَّةِ يفُوق دَوْرَ الرّجال فيها، فأنتِ البطلة وأم البطل وزوجة البطل وأخت البطل ومعلّمة البطل.
واعلمي أن زوجكِ من دونكِ لا يساوي شيئًا حتى وإن كان لا يظهر لكِ ذلك!
واعلمي أن أولادكِ سيضيعون من دونكِ، واعلمي أن دَوْرُكِ قد حان لكي تصنعي بيديكِ قائدًا يحمل على عاتقه همَّ قيام هذه الأمَّة من جديد.
وكُونِي بطلةً يذكرها التاريخ بعد موتها كما كانت أمُّكِ خديجة من قبل.
فاللَّه.. اللَّه.. يا نساء الإِسلام، إن هذا الدِّينَ يستصرخكُنَّ في هذه اللحظة الحرجة في تاريخ أمَّةِ مُحَمَّدٍ، فواللَّه إن هذه الأمَّةَ لن تقوم على أيدي نساءٍ تافهاتٍ مشغولاتٍ بالطَّبَائخ والمُعجَنَاتِ.
وواللَّه إن هذه الأمَّةَ لن تقوم إلا على أيدي نساءٍ يحملن هذا الدين في قلوبهن كما حملته خديجةُ في كل ذرةٍ من كيانها.
واعلمن أن صلاح الدين لن يخرج من رَحِمِ امرأةٍ تافهةٍ تقضي وقتها بمشاهدة المُسلسلات.
ومعاوية بن أبي سفيان أعظم ملك في تاريخ المسلمين لم يكن ليفتح شِبْرًا من الأرض للمسلمين لو أنَّ أمَّهُ هند بنت عتبة لم تزرع فيه روح العظمة منذ نُعُومَةِ أظفاره.
ومُحَمَّدٌ بن عبد اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ما كان ليستطيع إكمال دَرْبِهِ لولا أن سَخَّرَ اللَّهُ له امرأةً مثل خديجةَ عليها السلام.
فلتكن خديجة بنت خويلد قُدْوَتِكُنَّ القَادمة، لا لكي تتعلمن منها فن الطبخ، بل لتتعلمن منها فَنَّ بناء الأمم!
ومِنْ أمِّ المُؤمنين خديجةَ، إلى أمّ أخرى للمؤمنين...
إلى أمُّكَ التي تُشَنُّ عليها الآن أقذر عمليةَ طَعْنٍ وتَشْويه تتعرَّض لها إنسانة في التاريخ.
وما الذي سوف تصنعه إذا ما عَلِمْتَ أن هُنَاكَ مَنْ يَتَّهِمُ أمَّكَ بأنها زَانِيَةً؟!
يتبع...
يتبع إن شاء الله...