أمهات المؤمنين
خديجة بنت خويلد
سيدة قريش
الملقبة بالطاهرة
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشية، الطاهرة، سيدة قريش، وسيدة نساء العالمين في زمانها، ضحت بنفسها ومالها لأجل إقامة هذا الدين العظيم، ووقفت جنباً إلى جنب مع رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.
وصبرت مع رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- ومع المسلمين عندما أعلنت قريش حصارها ومقاطعتها للمسلمين في صحيفة علقت في جوف الكعبة، وبعد الحصار مات أبو طالب، وماتت خديجة رضي الله عنها.
قال عنها رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-: "ما أبدلني الله خيراً منها - آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بماله-ا إذ حرمني الناس، ورزقني أولادها إذ حرمني أولاد النساء".
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ماغِرْتُ على نساء النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- إلا على خديجة وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- إذا ذبح الشاة فيقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة"، قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة، فقال: "إني قد رُزِقْتُ حُبَّها".
وفي رواية عنها أيضاً، قالت: "ما غرت على امرأةٍ للنبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- ما غرتُ على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني لما كنتُ أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيتٍ من قصبٍ، وإن كان ليذبح الشاة منها ما يسعهن".
وكانت عائشة تقول للنبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- إذا أكثر من ذكر خديجة: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد".
قوله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-: "إنها كانت وكانت"، أي: كانت فاضلة وكانت عاقلة ونحو ذلك.
كان أول موقف يُوَضّحْ نُبْلَ خديجة ووفائها وحكمتها وحلمها وحصافة عقلها يوم نزل الوحي على رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان أول ما بدئ به رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه - (وهو التعبد الليالي ذوات العدد) - قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، فجاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: "ما أنا بقارئ" قال: فأخذني: فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ" فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) حتى بلغ (مَا لَمْ يَعْلَمْ).
فرجع رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- حتى دخل على خديجة رضي الله عنها فقال: "زملوني، زملوني " حتى ذهب عنه الروع، فقال: "يا خديجة مالي " فأخبرها الخبر، فقال: "قد خشيت على نفسي " فقالت له: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصِل الرحِم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل ابن عم لها وقد كان شيخا كبيراً وقد تنصر في الجاهلية فقالت له أي ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال: يا ابن أخي ماذا ترى؟ وأخبره رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً وأكون حياً حين يخرجك قومك وأنصرك نصراً مؤزراً.
غطّني:
الغط أي العصر الشديد.
الجَهد:
المشقة.
زملوني:
لفوني.
يخزيك:
يوقعك في أمر يُستحيي منه أو يقهرك.
تُكسب المعدوم:
تعين الفقير.
نوائب الحق:
الحوادث التي هي حق.
جذعاً:
شاباً.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى جبريلُ النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبَشّرْهَا ببيتٍ في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب".
عن علي -رضي الله عنه-، عن النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- قال: "خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة بنت خويلد".
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطَّ رسول الله في الأرض أربعة خطوط فقال: "تدرون ما هذا؟" فقالوا: الله ورسوله أعلم فقال رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-: "أفضل نساء أهل الجنَّة خديجةُ بنتُ خويلد وفاطمة بنتُ محمدٍ وآسية بنتُ مزاحم امرأة فرعون ومريمُ ابنة عمران رضي الله عنهن أجمعين".
عن أنس -رضي الله عنه- قال: جاء جبريلُ إلى النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- وعنده خديجة فقال: "إن الله يقرىء خديجة السلام " فقالت: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام وعليك السلامُ ورحمةُ الله وبركاته.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أختُ خديجة على رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- فَعَرفَ استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: "اللهم هالة بنت خويلد" فَغرت فقلتُ: وما تذكر من عجوزٍ من عجائز قُريش حمراء الشَّدقين هلكتْ في الدهر فأبدلك الله خيراً منها.
عن عائشة قالت: لم يتزوج النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- على خديجة حتى ماتت.
وبعد أن انقطع الوحي عن النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- واشتد برسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- القلقُ والحُزن، وقفت خديجة رضي الله عنها بجانبه، تُشجّعه وتقوي فؤاده، وكأنها تقول له: لا تحزن يا رسول الله، فما شدة إلا وتزول، وما ضيق إلا وبعده فرج، ولله فيما يصنع إرادة.
عن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- أنه قال: "أمرت أن أبَشّرَ خديجة ببيتٍ في الجنة من قصبٍ لا صخب فيها ولا نصب".
قال المناوي:
"أمِرْتُ أن":
بضم الهمزة مبنياً للمفعول أي أمرني اللّه بأن.
"أبشر خديجة":
بنت خويلد زوجته.
"ببيت في الجنة":
أعِدَّ لها.
وقوله:
"من قصب" بفتح القاف والصاد يعني قصب اللؤلؤ، هكذا جاء مفسراً في رواية الطبراني في الأوسط وله فيه أيضاً من القصب المنظومة الدر واللؤلؤ والياقوت انتهى وقال هنا أيضاً من قصب ولم يقل من لؤلؤ لمناسبة القصب لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان.
قال ابن حجر:
وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ولم يصدر منها ما يُغضبه كما وقع لغيرها. انتهى.
"لا صخب فيه":
أي لا اضطراب ولا ضجة ولا صياح إذ ما من بيت يجتمع فيه أهله إلا فيه صياح وجلبة وقال بعضهم يجوز كون قوله لا صخب أي هو مخصوص فيها بلا مشارك إذ لا يكاد المشترك يسلم من التنازع المؤدي للصخب.
"ولا نصب":
أي لا تعب أي لا يكون لها ثم تشاغل يشغلها عن لذائذ الجنة ولا تعب ينغصها، ذكره القاضي أو المُراد أن ذلك ليس ثواب أعمالها بل زيادة بعد الجزاء على أعمالها.
فإن قيل:
كيف لم يبشرها إلا ببيت وأدنى أهل الجنة له فيها مسيرة ألف عام؟.
فالجواب:
أن البيت عبارة عن القصر وتسمية الكل باسم الجزء معلوم في لسانهم فلمَّا كانت خديجة رضي اللّه عنها أول مَنْ بنى بيتاً في الإسلام ولم يكن على ظهر الأرض بيت إسلام إلا بيتها عبر بلفظ البيت للمناسبة أو أنها بُشِّرَتْ ببيت زائد على ما أعد لها، وُخَّص القصب لحيازتها قصب السَّبق فجاء على معنى المقابلة اهـ.
وعن عبد الله ابن أبي أوفى، وعن عائشة، عن رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-: "بَشِّرُوا خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وعن أنس -رضي الله عنه-: "حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون".
"حسبك":
أي أحسبك والاستفهام مقدر.
"من نساء العالمين":
أي يكفيك في معرفتك فضلهن بقوله حسبك مبتدأ ومن نساء العالمين متعلق به.
"خير نساء العالمين أربع:
"مريم بنت عمران" الصديقة بنص القرآن.
عن علي-رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- أنه قال: "خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد".
قال المناوي قوله:
"خير نسائها" أي خير نساء الدنيا في زمنها فالضمير عائد على غير مذكور يفسره الحال والمشاهدة (مريم بنت عمران) وليس المراد أن مريم خير نسائها إذ يصير كقولهم يوسف أحسن أخوته، وقد صرحوا بمنعه لأن أفضل التفضيل إذا أضيف وقصد به الزيادة على مَنْ أضيف له يشترط أن يكون منهم، كزيد أفضل الناس، فإن لم يكن منهم لم يجز كما في يوسف أحسن أخوته لخروجه عنهم بإضافتهم إليه. ذكر النووي: وخير نسائها: أي هذه الأمة خديجة بنت خويلد، وقال القاضي البيضاوي: قيل الكناية: الأولى: راجعة إلى الأمّة التي فيها مريم.
والثانية:
إلى هذه الأمّة وروى وكيع الذي هو أحد رواة الحديث أنه أشار إلى السماء والأرض يعني هما خير العالم الذي فوق الأرض وتحت السماء كل منهما في زمانه ووحد الضمير لأنه أراد جملة طبقات السماء وأقطار الأرض وأن مريم خير من صعد بروحه إلى السماء وخديجة خير نسائهن على وجه الأرض والحديث وارد في أيام حياتها اه-.
وفي المطامح الضمير حيث ذكر مريم عائد على السماء ومع خديجة على الأرض دليله ما رواه وكيع، وابن النمير، وأبو أسامة، وأشار وكيع من بينهم بإصبعه إلى السماء عند ذكر مريم وإلى الأرض عند ذكر خديجة وزيادة العدل مقبولة والمعنى فيه أنهما خير نساء بين السماء والأرض اهـ.
وزاد في خبر فقالت له عائشة: ما ترى من عجوز حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك اللّه خيراً منها فغضب وقال: ما أبدلني خيراً منها آمنت بي حين كذبني الناس ورزقت الولد منها وحرمته من غيرها، كذا في المطامح.
وعن عائشة: "سيدات نساء أهل الجنة أربع: مريم وفاطمة وخديجة وآسية".
قوله: "سيدات نساء أهل الجنة أربع مريم وفاطمة وخديجة وآسية" امرأة فرعون، قال جمع: هذا نص صريح في تفضيل خديجة على عائشة وغيرها من زوجاته لا يحتمل التأويل، وقد أورده ابن عبد البر من وجه آخر أن ابن عباس رفعه "سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية".
قال: وهذا حديث حسن يرفع الإشكال، قال ابن حجر: لا يلزم من التسوية في الخيرية التسوية في جميع الصفات.
توفيت رضي الله عنها بعد مبعث النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- بعشر سنين في شهر رمضان، وقبل الهجرة بثلاث سنين، عن خمس وستين سنة، فأقامت مع النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- خمساً وعشرين سنة.
وبعد وفاتها رضي الله عنها تتابعت على رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- المصائب، وطمع المشركون برسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، وخاصة بعد وفاة أبو طالب، أخذت قريش تنال من رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- وتؤذيه، فحزن النبي -صلّى اللهُ عليه وسلّم- حزناً شديداً حتى سُمِّيَ هذا العام بعام الحُزْن.
رضي الله عن أم المؤمنين خديجة وأرضاها وعوضها عن صبرها وكفاحها خيراً في جناته جنات النعيم.
الفوائد:
1- نزول رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- تحت الشجرة، وشهادة الراهب له، وإظلال الملكين دليلاً على نبوته -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.
2- ما يتحلّى به رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- من أمانة وصدق وطهارة وكرم، وما يتميَّز به من أخلاق عالية مما دفع خديجة رضي الله عنها لإبداء رغبتها في الزواج منه -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.
3- فضل خديجة، وشرفها، وعلو مكانتها عند الله تعالى، وعند رسوله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، وعند الناس.
4- لاجناح على المرأة ولا غضاضة في رغبتها في الزواج من الرجل الصالح، كما فعلت خديجة رضي الله عنها عندما خطبت رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- لنفسها، رغبة فيه لصلاحه.
5- زواج الرجل من المرأة التي تكبره في السِّنِّ، عندما تزوَّج رسولُ الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- خديجة وهي تكبره بكثير، لِمَا كان مهتماً بن-زاهتها، وفضلها، وعِفَّتِهَا ونُبلها، حتى كانت تُلقَّب بالعفيفة الطاهرة، دلنا هذا على عدم اهتمام رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- بأسباب المتعة الجسدية كبقية أقرانه، ويتجلى لنا رغبة رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- لشرفها، ونبلها، ورزانة عقلها.
6- زواج رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم- من امرأة عفيفة طاهرة وإنجاب ذرية صالحة الذي أكرم الله عز وجل نبيه ليظل له مكانة اجتماعية مرموقة لا مطعن فيها.
7- مكانة خديجة عند رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، حتى بعد وفاتها رضي الله عنها، ولن تستطع أي واحدة من زوجاته أن تزحزح مكانة خديجة من قلب رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، حتى عائشة رضي الله عنها، والتي هي أحب النساء إليه.
8- لم يكمل من النساء إلا أربع، كما بَيَّنَ ذلك رسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.
9- إكرام صديقات الزوجة وأقربائها، كما فعل رسول الله بهالة أخت خديجة، وكذلك صديقاتها.
10- مَنْ آمن بنبيه وآمن بمحمد -صلّى اللهُ عليه وسلّم- يكون له أجران، كما حصل لورقة بن نوفل، عندما آمن برسول الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-، وهو من أهل الكتاب، فكانت له جنتان، كما بَيَّنَ ذلك رسولُ الله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-.