أوراق في السيرة والأخلاق
أقرىء خديجة السَّلام 1265
أقرىء خديجة السلام
كلما دنا الاحتفال باليوم العالمي للمرأة؛ إلا وسارعت الهيئات الحكومية والمنظمات الحقوقية إلى الإشادة بالاجتهاد القضائي، وبترسانة القوانين والتشريعات التي صودق عليها لحماية المرأة من كل أشكال العسف والقهر والتمييز.

بل ونشهد سِباقًا محمومًا بين الدول للإشادة بواحات التكريم التي تحيا فيها نساؤها وسط صحراء الذكورة والأعراف البالية. لكن ما إن تغرُب شمس هذا اليوم حتى تثار الأسئلة مجددًا حول صدى هذه القوانين والتشريعات في واقعنا اليومي، وأثرها على النسق القيمي الذي يحكم العلاقة بين الجنسين.

إن الأصل في القوانين الوضعية أن تصون الحد الأدنى من الأخلاق الذي يضمن بقاء المجتمع الإنساني، بينما تتحمل الأسرة والمدرسة عبء التنشئة الاجتماعية التي بمقتضاها يُعزِّز الأفراد رباطهم الإنساني ويتمثلون، ومن ثم يندمجون في، نظام قيمي يضفي على الوجود معناه ومبناه وإيقاعه المتوازن.

وفي القرآن الكريم ما يؤكد على تلازم التشريع والأخلاق لتقويم الانحراف وتمتين النسيج الاجتماعي؛ ففي سورة الطلاق نلمس حرص الإسلام على مزج التشريعات بالتربية الأخلاقية، والأحكام العملية بالآداب النفسية مثل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق من الآية: 7]، و{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق من الآية: 4]، و{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق من الآية: 5]، والويل للبيوت، يقول الشيخ محمد الغزالي، إذا تركت منطق الدين والأخلاق واتجهت إلى القانون والقضاء!

وبما أن بلوغ الرؤية الإسلامية المثلى للعلاقة الإنسانية يستلزم كيانًا حيًا متحرِّكًا يترجم مبادئها على أرض الواقع؛ فقد حضَّنا النص القرآني على التأسي والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين.

وجعل من التربية بالقدوة أسلوبًا فعالًا لترجمة الحقيقة الإسلامية وشحذ العقول والأرواح بذوات تُمكنهم من التشرب الصحيح لأحكامه وتوجيهاته.

فالمنهج -برأي الأستاذ محمد قطب- مهما اتسم بالإحاطة والبراعة والشمول يظل حِبرًا على ورق، يظل معلقًا في الفضاء ما لم يتحوَّل إلى حقيقة واقعة تتحرَّك في واقع الأرض؛ ما لم يتحوَّل إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره مباديء المنهج ومعانيه، عندئذ فقط يتحوَّل المنهج إلى حقيقة، يتحوَّل إلى حركة، يتحوَّل إلى تاريخ (محمد قطب: منهج التربية الإسلامية ج1. دار الشروق. القاهرة 1993. ص: [180]).

لذا؛ تُوفِّر السيرة النبوية اليوم بشخوصها وأحداثها فضاءً خصبًا لاستلهام الدروس وتجديد الصلة بجوهر الدين ومنابعه الثرة.

وما دام الحديث هنا متصلًا باليوم العالمي للمرأة، وباستعراض المنجزات الحقوقية التي تُسهِم في تحسين ولوجها للحياة العامة وإشراكها في مسلسل النهضة والتنمية، فلا بأس من إطلالة سريعة على نموذج مُشرِق وسم بدايات الدعوة المحمدية بميسم خاص، وأثبت أن دور المرأة في صنع الأحداث الكبرى والتحوُّلات الإنسانية العميقة لا يقل في شيء عن دور الرجل.

إنها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين.

لماذا خديجة بنت خويلد؟
لأن الإطار الذي يتم من خلاله استعراض أحداث السيرة، سواء تعلَّق الأمر بالمناهج التعليمية أوالمنابر الإعلامية المختلفة، يُخلف في الأذهان صورة مشوشة ومفككة قوامها: سيدة ثرية في الأربعين تُعجَب بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته، فتتزوج به وتُنجِب منه بنين وبنات، ثم تؤازره في بداية دعوته حتى تلقى بارئها!

إن صورة بهذا الاختزال لا يمكن أن تحفز الرغبة بالاقتداء، فغاية ما تبلغه أن تستقر في الوجدان كحقيقة صوفية منعزلة عن واقع الحياة!

ثانيًا:
لأن المرويات والأخبار التي تمدنا بها كتب السيرة والمصادر التاريخية عن حياة خديجة رضي الله عنها لا تشفع للكتابة الإسلامية المعاصرة كسلها عن السبر الجاد لأغوار هذه الشخصية، والقراءة المتجددة للأحداث والوقائع بشكل يثري الزاد الدعوي، ويعيد النظر في الدور الخطير الذي لعبته السيدة خديجة رضي الله عنها من زوايا متعددة.

أول ما يسترعي الانتباه في سيرة القرشية الطاهرة أن وضع المرأة في شبه الجزيرة العربية لم يكن بالسوء الذي انزلقت إلى وصفه بعض الأقلام، ففي أخبار العرب وقصصهم ما يحيل على مقام كريم للمرأة أهلها لإبداء الرأي في الشؤون العامة، والتدخل لنزع فتيل الأزمات.

وحسبك في هذا الباب موقف زوجة الحارث بن عوف المري لما همَّ بالدخول بها فقالت: "أتتفرَّغ للنساء والعرب يقتل بعضهم بعضًا؟ -تقصد حرب بني عبس وبني ذبيان- قال: وبماذا تشيرين؟ قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم ثم ارجع إليَّ"؛ فعَرض الأمر على خارجة بن سنان فاستحسن ذلك، ونهض كلاهما بهذا الأمر حتى تم الصلح ودُفعت الديات.

لا نُنكِر طبعًا وجود بعض الحمقى ممن أهانوا النساء ووأدوا البنات خشية الفقر أو العار لكنها حوادث فردية لا تجيز التعميم المُخلِّ.

الأمر الثاني:
موقفها حين أنبأها الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر الوحي وأردف قائلًا: «لقد خشيتُ على نفسي»، فقالت: "كَلا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ، أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ" (رواه البخاري)، وفي رواية: "وَتُؤَدِّي الْأَمَانَة".

هل هو مشهد يحيل فحسب على زوجة تهديء من روع زوجها، أو تخفف من وقع روائع الجلال التي هزَّت كيانه في غار حراء؟

لا! إننا أمام سيدة حباها الله من صفات الفطنة وبعد النظر وسلامة الفكر ما هيأها لاستقبال نبأ عظيم. فلم تُظهِر الهلع أو الاستنكار، ولم تُبادِر بإثارة الشكوك أو صوغ الاحتمالات، وإنما أعلنت أن الخط الفاصل بين أخلاق محمد التي تُشكِّل "المثال" وأخلاق المجتمع القرشي لن يأتِ إلا بخير.

إن هذه الشهادة في حق زوج كمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم دليل على البون الشاسع بين سيرته الشريفة، وحياة غيره من العظماء الذين احتفت بهم الإنسانية. فكثير منهم عجِزوا عن انتزاع ثقة زوجاتهم أو الحظوة بشهادة كشهادة خديجة رضي الله عنها، بل إن منهم من لم تتورَّع زوجته عن فضح طوِّيته وسوء أخلاقه في مذكرات شخصية أو على صفحات الجرائد!

الملفت للنظر كذلك في هذه الكلمات الوجيزة المنتقاة؛ أنها تؤلف استدلالًا عقليًا وقياسًا من أبدع الأقيسة وأجملها.

يقول السيد عبد الحميد الزهراوي في مؤلفه القيم (خديجة أم المؤمنين):
"يخرج المتأمِّل في حديث هذه السيدة بأن النوع الإنساني محل لعظيم تجليات رب الأنواع كلها، ولذلك يحب كل ما يؤدي إلى تسامي هذا النوع ويخلق الأسباب لذلك ويأخذ بيدها لتتغلب على ما أظهره بحكمته التي لا نعلمها من أضدادها".

"ويخرج من كلامها بأن الله عز وجل مطلع على أعمالنا ومجازٍ عليها، وأنه يحب مِنَّا أعمالًا ويكره أخرى، وأن الذي يحبه منا على حسب تفكيرها هو الاستقامة ومساعدة بعضنا لبعض ولا سيما مساعدة الضعفاء".

"ويخرج منه أن من يفعل الخير لا يأتيه إلا الخير. والخير الذي نُعبِّر عنه بهذا اللفظ قد جاء في عبارة السيدة بتفصيل أعمال كلها من باب مساعدة الإنسان للإنسان، فهذه المساعدة في نظرها كل خير أو هي الخير، فهل يكافيء الله فاعل الخير بغير الخير؟ إن هذا على حسب تفكيرها لا يمكن أن يحدث".

"ونتيجة قياسها أن هذه رسالة ربانية فيها الخير لا الضير، وأن الله عز وجل سيتفضل بتأييد هذا المأمور في حمل هذه الأمانة على ثقلها وصعوبة تأديتها لقوم ينكرونها ولا يعرفونها" (السيد عبد الحميد الزهراوي: خديجة أم المؤمنين. دار الهلال - القاهرة 1962م، ص: [187-188]).

الأمر الثالث:
أنها كانت سيدة مجتمع تتحدد فيه مكانة الفرد بالنظر إلى حجم نشاطه التجاري، وتحتكم شبكة علاقاته الاجتماعية للعامل الاقتصادي، لكن لم يُؤثر عنها ما يدل على إيلائها أي اعتبار لهذه المكانة أو لذاك الثراء وهي تواجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعات الدعوة في أخطر مراحلها.

فقد كفته هم المعيشة حين انصرف للتحنث في غار حراء، وآثرت حصار الشِعب معه تاركة ثروتها بين يدي المشركين. إنه موقف لم تحكمه التبعية الزوجية بقدر ما يحكمه الاقتناع بأنها رسالة تستحق البذل وصبر الأكرمين!

وفي شِعب بني هاشم يبلغ الحصار حدًا رثاه الخصوم، لكن خديجة رضي الله عنها أبت إلا أن تشارك زوجها مغرم الجهاد المُر، وتبرهِن لمن حولها ومن بعدها أن المرأة يومها كالرجل؛ جزء من النواة الصلبة التي حملت عبء الرسالة في أخطر مراحلها.

إن الدعوة إلى بحثٍ متجدِّد في ثنايا السيرة النبوية عن الحضور الفاعل للمرأة يُسهِم ولا شك في تخليق صيغ التدافع التي يُتوخى منها اليوم تثبيت حقوق هُمِّشَت، والتخلص من عوائد وأعراف تنحاز لذكورة جائرة، وبغير هذا التخليق فإننا سنضل الطريق.

يقول عباس محمود العقاد:
"فيركب كل من الجنسين رأسه في اللجاجة والشحناء: حقي وحقك، وكفايتي وكفايتك، وسلاحي وسلاحك، وانتصاري وهزيمتك، على النحو الذي سبقنا إليه الغرب القديم والحديث غير محسود على سبقه!" (عباس محمود العقاد: المرأة في القرآن. المكتبة العصرية. بيروت د. ت. ص: [137]).