وللشيخ محمد أحمد لوح - حفظه الله - كلاماً مهماً حول رواية «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة» في كتابه «تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي» (2 /39 –52).
أنقله فيما يلي:
قال حفظه الله: ( أما رواية: « من رآني في المنام فسيراني في اليقظة » لابد من إلقاء ضوء كاشف على الحديث رواية ودراية حتى نعرف قدر هذا اللفظ الذي استدل به أولئك على إمكانية رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة:
1- أما الحديث فقد رواه اثنا عشر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو يزيد، مما يدل على شيوعه واستفاضته.
2- أن ثمانية من أئمة الحديث المصنفين اهتموا بهذا الحديث فأخرجوه في كتبهم مما يؤكد اهتمامهم به وفهمهم لمدلوله. ومع ذلك لم يبوب له أحد منهم بقوله مثلاً: باب في إمكان رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة، ولو فهموا منه ذلك لبوبوا به أو بعضهم على الأقل؛ لأنه أعظم من كل ما ترجموا به تلك الأبواب.
3- أن المواضع التي أخرجوا فيها هذا الحديث بلغ (44) موضعاً، ومع كثرة هذه المواضع لم يرد في أي موضع لفظ « فسيراني في اليقظة » بالجزم إلا في إحدى روايات البخاري عن أبي هريرة.
أما بقية الروايات فألفاظها: « فقد رآني » أو « فقد رأى الحق » أو « فكأنما رآني في اليقظة » أو « فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة » بالشك.
وبالنظر في ألفاظ الحديث ورواياته نجد ملاحظات على لفظ « فسيراني في اليقظة» لا ريب أنها تقلل من قيمة الاستدلال بها.
وهذه الملاحظات هي:
أولاً:
أن البخاري أخرج الحديث في ستة مواضع من صحيحه: ثلاثة منها من حديث أبي هريرة، وليس فيها لفظ « فسيراني في اليقظة » إلا في موضع واحد.
ثانياً:
أن كلا من مسلم (حديث رقم 2266)، وأبي داود (حديث رقم 5023)، و أحمد (5/306)، أخرجوا الحديث بإسناد البخاري الذي فيه اللفظ المذكور بلفظ « فسيراني في اليقظة. أو لكأنما رآني في اليقظة » وهذا الشك من الراوي يدل على أن المحفوظ إنما هو لفظ « فكأنما رآني » أو « فقد رآني » لأن كلا منهما ورد في روايات كثيرة بالجزم وليس فيها شيء شك فيه الراوي.
وعند الترجيح ينبغي تقديم رواية الجزم على رواية الشك.
ثالثاً:
إذا علمنا أنه لم يرد عند مسلم ولا عند أبي داود غير رواية الشك أدركنا مدى تدليس السيوطي حين قال في «تنوير الحلك»: ( وتمسكت بالحديث الصحيح الوارد في ذلك: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي ») فأوهم أن مسلماً وأبا داود أخرجا الحديث برواية الجزم، وأغفل جميع روايات البخاري الأخرى التي خلت من هذا اللفظ.
رابعاً:
ذكر الحافظ ابن حجر في «الفتح» (12/ 400) أنه وقع عند الإسماعيلي في الطريق المذكورة « فقد رآني في اليقظة » بدل قوله: « فسيراني ».
وهذه الأمور مجتمعة تفيد شذوذ هذا اللفظ، ولعل الحافظ ابن حجر أشار إلى ذلك ضمناً حين قال: ( وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع - يعني الرؤية- بعيني الرأس حقيقة ).
ونقل عن المازري قوله: ( إن كان المحفوظ « فكأنما رآني في اليقظة » فمعناه ظاهر).
هذا ما يتعلق بالحديث رواية، وإن تعجب فعجب استدلال هؤلاء بهذا اللفظ الشاذ على تقرير إمكان رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة ووقوعها مع اتفاقهم على: أن حديث الآحاد لا يحتج به في العقيدة.
أما ما يتعلق به دراية فنقول: لو فرضنا أن هذا اللفظ « فسيراني » هو المحفوظ فإن العلماء المحققين لم يحملوه على المعنى الذي حمله عليه الصوفية.
قال النووي في شرحه (15 /26):
فيه أقوال: أحدها:
أن يراد به أهل عصره، ومعناه: أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة عياناً.
وثانيها:
أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته.
وثالثها:
أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته ونحو ذلك ).
ونقل الحافظ ابن حجر هذه الأقوال بعدما ذكر القول بحمله على الرؤية بالعين المجردة وحكم على القائلين به بالشذوذ.
وجملة القول أن إدعاء إمكان رؤيته -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة ووقوعها مذهب ضعيف مرجوح.
وذلك من وجوه:
الوجه الأول:
اختلاف القائلين به في المقصود بالرؤية، وهل هي رؤية لذاته -صلى الله عليه وسلم- على الحقيقة، أورؤية لمثال لها، نقله السيوطي في «تنوير الحلك» ضمن «الحاوي للفتاوى» (2/ 263) ثم قال: ( الذين رأيتهم من أرباب الأحوال يقولون بالثاني، وبه صرح الغزالي فقال: ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل يرى مثالاً له ).
ثم نقل عن ابن العربي واستحسن قوله: ( رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال ) ثم قال السيوطي:( ولا يمتنع رؤية ذاته الشريفة بجسده وروحه؛ وذلك لأنه -صلى الله عليه وسلم- وسائر الأنبياء أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم بالخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي )!!.
أقول:
إذا كان أرباب الأحوال الذين رآهم السيوطي - على كثرتهم - يقولون إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يرى بروحه وجسمه بل يرى مثال له فقط، فكيف يدافع السيوطي عنهم ويخالفهم في الوقت نفسه؟
الوجه الثاني:
أنهم اختلفوا أيضاً هل هذه الرؤية تكون بالقلب أو بالبصر؟
أشار السيوطي إلى ذلك ثم اضطرب اضطراياً شديداً حين قال في نفس المصدر: ( أكثر ما تقع رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة بالقلب ثم يترقى إلى أن يرى بالبصر ) فإلى هنا يبدو أنه قصد الجمع بين القولين، ثم قال: ( لكن ليست الرؤية البصرية كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض، وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني …).
الوجه الثالث:
أن بعض كبار الصوفية ينفي وقوع رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة.
فيقول أبو القاسم القشيري في «الرسالة القشيرية» (باب رؤيا القوم) (ص: 368): ( وقال بعضهم: في النوم معان ليست في اليقظة، منها: أنه يرى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والسلف الماضين في النوم ولا يراهم في اليقظة ) اهـ.
وقد يقول قائل:
إن هذا نقله القشيري عن بعضهم ولا ندري هل هم من الصوفية أو من غيرهم؟
والجواب:
أ- أن القشيري نفسه من كبار الصوفية وقد نقل العبارة وأقرها.
ب- أنه لا ينقل في رسالته مثل هذا الكلام إلا عن الصوفية، حيث ذكر في مقدمة كتابه أنه إنما يذكر سير شيوخ التصوف وآدابهم .. وما أشاروا إليه من مواجيدهم، وأكده في الخاتمة.
الوجه الرابع:
أن هذه العقيدة مخالفة لإجماع أهل السنة والجماعة وهي خاصة بأهل البدعة، قال ابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص176): ( واتفقوا أن محمداً عليه السلام وجميع أصحابه لا يرجعون إلى الدنيا إلا حين يبعثون مع جميع الناس ).
الوجه الخامس:
أنه يلزم من القول بإمكان رؤيته في اليقظة ووقوعها لوازم باطلة قد ذكرتها أثناء نقل أقوال أهل العلم في هذا الموضوع.
وأخيراً:
نقل السيوطي عن بعض أهل العلم احتجاجه على حياة الأنبياء بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس.
ومقصده أن ما دام هذا ممكناً في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم فيمكن أن يكون جائزاً في حق أولياء أمته معه، فيرونه في اليقظة.
والجواب على هذه الشبهة أن يقال:
أولاً:
ليس النزاع في حياة الأنبياء في قبورهم ولا في اجتماع النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم ليلة الإسراء ولا صلاته بهم إماماً، فإن ذلك كله ثابت رواية، فيجب على جميع المؤمنين التصديق به.
ثانياً:
أن مما يجب أن يعلم أن حياة الأنبياء في قبورهم حياة برزخية لا نعلم كيف هي، وحكمها كحكم غيرها من المغيبات، نؤمن بها ولا نشتغل بكيفيتها، ولكننا نجزم بأنها مخالفة لحياتنا الدنيا.
ثالثاً:
أن الذي أخبرنا بأنه اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء هو الصادق المصدوق الذي يجب على كل مؤمن أن يصدقه في كل ما أخبر به من المغيبات دقيقها وجليلها، ولذا آمنا بما أخبرنا به واعتقدناه عقيدة لا يتطرق إليها شك إن شاء الله تعالى.
أما من جاءنا بخبر وقوع رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة فمجموعة من الدراويش خالفت الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فلم يجز - ولا أقول فلم يجب - أن نصدقهم في دعواهم تلك.
بل وجب على كل موحد ذاب عن حمى التوحيد أن يردها بما استطاع لأنه باب يؤدي فتحه إلى ضلال عظيم وخراب للأديان والعقول ويفتح باب التشريع من جديد، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والله أعلم) انتهى كلام الشيخ محمد أحمد لوح جزاه الله خيراً بتصرف.
ولمزيد من الفائدة انظر كتاب:
«المصادر العامة للتلقي عند الصوفية عرضاً ونقداً» للشيخ صادق سليم صادق (ص405-430) وكتاب «تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي» للشيخ محمد أحمد لوح (2/36-52)، وكتاب «خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء» تأليف الصادق بن محمد بن إبراهيم، وكتاب «رؤيا الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقظة ومناماً ضوابطها وشروطها» للشيخ الأمين الحاج محمد أحمد.
وقد وفقني الله وله الحمد والمنة بجمع بعض الفوائد من هذه الكتب في رسالة بعنوان «الفوائد الملتقطة في الرد على من زعم رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة».
وأما دعوى أن الذي يحضر مجلس المولد هو روحانية النبي -صلى الله عليه وسلم- فالرد عليها يستفاد من الجواب السابق وهو أن ابنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم أجمعين- هم أولى الناس بهذه المزية العظيمة لو حصلت ولم يدعي أحد منهم هذه الدعوى.
وأما قول الإمام مالك: ( بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت ).
فالجواب عنه بما يلي:
أولاً:
ما صحة نسبة هذا القول إلى الإمام مالك؟
ثانياً:
هل قول الإمام مالك حجة، وخصوصاً أن قوله هذا في مسألة متعلقة بالغيب فهي من مسائل العقيدة؟
وكثير ممن يستدل بقول الإمام مالك هذا ومنهم محمد علوي المالكي يقولون بعدم حجية حديث الآحاد في العقيدة وان كان في «صحيح البخاري» أو «صحيح مسلم»!!
ثالثاً:
( أن قول الإمام مالك هذا ليس المراد به ما ادعاه محمد بن علوي المالكي من أن الأرواح جوالة يمكن أن تحضر مجالس الخير ومشاهد النور بل المراد به بيان سرعة انتقال أرواح المؤمنين الموتى من العرش إلى الثرى ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها كما بينه ابن القيم في نفس كتاب «الروح» !!.
وأما ما روي عن سلمان الفارسي أنه قال: ( أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت ) فقد فسره ابن القيم في كتابه «الروح» بما نصه: (وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت فهذا مروي عن سلمان الفارسي والبرزخ هو الحاجز بين شيئين وكأن سلمان أراد بها في أرض بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث شاءت ) قال (وهذا قول قوي فإنها قد فارقت الدنيا ولم تلج الآخرة بل هي في برزخ بينهما فأرواح المؤمنين في برزخ واسع فيه الروح والريحان والنعيم وأرواح الكفار في برزخ ضيق فيه الغم والعذاب قال تعالى: "وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" ]المؤمنون: 100[ فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة و أصله الحاجز بين الشيئين) اهـ) (34).
وقد جاء في سنن ابن ماجة والترمذي عن جابر ابن عبدالله قال: لما قتل عبدالله بن عمرو بن حرام يوم أحد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « ياجابر أَلا أخبرك ما قال الله لإبيك » قلت: بلَى. قال: « ما كلم الله أَحداً إلا من وراء حجابٍ، وكلم أَباك كفَاحاً، فَقَال: يا عبد الله تَمَنَّ عليَّ أعطكَ. قال: يا رب تحيينِي فأقتل فيك ثانية. قال: إنه سبق مني أنهم إلَيها لا يرجِعون. قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله هذه الآية: "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ" ]آل عمران: 169[ الآية كلها »؛ وحسنه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجة» (2/ 392-393).
وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن مستقر أرواح الشهداء كما في «صحيح مسلم» عن مسروق قال: ( سألنا عبد الله هو ابن مسعود عن هذه الآية: "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" ]آل عمران :169]