وكان بجوار الأزهر كذلك مدارس مشهورة منها:
المدرسة الظاهرية القديمة التي بناها بيبرس عام 661ه، ورتب بها لتدريس الشافعية تقي الدين بن رزين، ولتدريس الحنفية محيي الدين بن عبد الرحمن بن الكحال بن العديم، ولتدريس الحديث الحافظ شرف الدين الدمياطي، ولتدريس القراءات كمال الدين القرشي.
ومنها المدرسة المنصورية التي بناها الملك المنصور قلاوون عام 679 ه ورتب فيها دروساً للفقه على المذاهب الأربعة والحديث والتفسير ودورساً كذلك للطب.
ومنها المدرسة الناصرية التي بناها الناصر محمد بن قلاوون عام 703 وعين بها المدرسين للمذاهب الأربعة.
ومدرسة السلطان حسن التي بناها السلطان حسن بن الناصر محمد ابن قلاوون عام 758 ه.
والمدرسة الظاهرية الجديدة التي فرغ من بنائها عام 788 ه وعين السلطان فيها مدرسين للفقه على المذاهب الأربعة وللحديث والقراءات، وكان الشيخ سراج الدين البلقيني مدرساً فيها للتفسير.
ولكن هذه المدارس كلها كانت عالة على الأزهر، تأخذ منه، وتستمد علماءها من خريجيه وأساتذته، ويوجهها الأزهر توجيهاً علمياً.
ومن أشهر من نبغوا في هذا العهد من العلماء والأدباء والشعراء:
الفيروزبادي صاحب القاموس المحيط المتوفى عام 817 ه، والقلقشندي صاحب صبح الأعشي المتوفى عام 821 ه، والنويري صاحب نهاية الأرب المتوفى عام 732 ه، وابن فضل اللّه العمري المتوفي عام 748 ه صاحب ممالك الأبصار، وتقي الدين ابن حجة الحموي (767 - 837 ه) صاحب خزانة الأدب، وصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (696 - 824)، وصفي الدين الحلى عبد العزيز بن علي (677 - 750 ه)، والشاب الظريف (621 - 688 ه) وجمال الدين محمد بن نباتة المصري (686 - 768 ه)، وابن الوردي (689 - 749 ه)، والبوصيري (608 - 695 ه)، وابن دقماق المتوفى عام 809 ه مؤرخ الديار المصرية، والمقريزي (766 - 845 ه) ومحمد جمال الدين الوطواط المتوفى عام 718 ه والدميري صاحب حياة الحيوان المتوفى عام 808 ه، وهم كلهم إوجلهم أثر من آثار الأزهر العلمية.
__________
1) 225 ج 1 حسن المحاضرة.
وقد حضر ابن خلدون إلى مصر واشترك في الحياة العلمية فيها، وزار حلقات الأزهر العلمية، وتصدر للتدريس فيه.
كما هاجر إلى مصر في هذا العهد كثير من العلماء الذين جددوا شباب النهضة العلمية في العالم الإسلامي.
وقد كان من العلماء من يعرف كثيراً من العلوم العقلية والطبية وغيرها زيادة على العلوم الدينية والعربية، وهؤلاء لا يحصون، نذكر منهم على سبيل المثال: الشيخ أحمد عبد المنعم الدمنهوري المتوفى سنة 1192 هجرية.
فقد جاء في سند إجازته ما ملخصه:
أنه تلقى في الأزهر العلوم الآتية، وله تآليف في كثير منها، وهي: الحساب والميقات، والجبر والمقابلة، والمنحرفات وأسباب الأمراض وعلاماتها، وعلم الأسطرلاب، والزيج والهندسة، والهيئة، وعلم الأرتماطيقي، وعلم المزاول، وعلم الأعمال الرصيدية، وعلم المواليد الثلاثة وهى الحيوان والنبات والمعادن، وعلم استنباط المياه، وعلاج البواسير، وعلم التشريح، وعلاج لسع العقرب، وتاريخ العرب والعجم.
وممن تولى التدريس فيه الفخر البلبيسي الضرير أستاذ القراءات وإمام الأزهر، وتولى ابن حجر خطابة الأزهر حينا آخر.
على أنه يوجد مع ذلك في أنباء العصر ما يدل على أن الأزهر كان خلال هذه الحقبة يحتفظ بمكانته الخاصة؛ يعاونه في ذلك اتساع حلقاته وأروقته، وتنوع دراساته، وهيبته القديمة، وما يلاقيه الطلاب فيه من أسباب التيسير في الدراسة وأحيانا في الإقامة.
وقد غدا الأزهر منذ أواخر القرن السابع أي مذ عفت معاهد بغداد وقرطبة، كعبة الأساتذة والطلاب من سائر انحاء العالم الاسلامي، وغدا أعظم مركز للدراسات الإسلامية العامة.
ومنذ القرن الثامن الهجري أخذ يتبوأ الأزهر في مصر وفي العالم الإسلامي نوعا من الزعامة الفكرية والثقافية.
وفي أنباء هذا القرن ما يدل على أن الأزهر كان يتمتع في ظل دولة السلاطين برعاية خاصة، وكان الأكابر من علمائه يتمتعون بالجاه والنفوذ، ويشغلون وظائف القضاء العليا، ويستأثرون بمراكز التوجيه والإرشاد.
وكان هذا النفوذ يصل أحيانا إلى التأثير في سياسة الدولة العليا، وأحيانا في مصاير العرش والسلطان.
وربما كانت هذه الفترة في الواقع هي عصر الأزهر الذهبي من حيث الإنتاج العلمي الممتاز، ومن حيث تبوؤه لمركز الزعامة والنفوذ.
وفي أواخر القرن التاسع أخذت الحركة الأدبية في مصر الإسلامية في الاضمحلال وذلك تبعاً لاضمحلال الدولة المصرية والمجتمع المصري.
وكانت دولة السلاطين قد شاخت وأخذت تسير نحو الانهيار بخطى سريعة، وتصدع بناء المجتمع المصري وأخذ في الانحلال والتفكك؛ واضطربت أحوال المعاهد والمدارس المصرية وتضاءلت مواردها، وفقدت كثيرا مما كانت تتمتع به من رعاية السلاطين والأمراء؛ وأصاب الأزهر ما أصاب المعاهد الأخرى من الذبول والركود.
ولم يمض قليل على ذلك حتى وقعت المأساة المروعة فانهارت الدولة المصرية، وفقدت مصر استقلالها التالد وسقطت صريعة الغزو العثماني سنة 922 ه (1517 م).
جلال الدين السيوطي
ترجم الشيخ لنفسه ترجمة وجيزة في كتابه (حسن المحاضرة) قال عن والده: هو الشيخ كمال الدين أبو المناقب السيوطي، الذي توفي وسن ولده جلال الدين ستة أعوام.
وقد تأثر الولد بسيرة أبيه ميتاً أكثر مما كان يتأثر بها حياً.
اشتغل ببلده أسيوط وتولى القضاء قبل قدومه إلى القاهرة، وهذا يدلنا على أن مدرسة العلم في هذه الحقبة لم تكن قاصرة على الأزهر وإنما كانت في كثير من عواصم البلاد، كما هو الحال الآن، ثم ذكر لنا كيف كانت أحوال أبيه بعد قدومه إلى القاهرة، حيث درس على كبار الشيوخ علوم الفقه والأصول والكلام والنحو والإعراب والمعاني والمنطق والحديث، ثم يقول (و أتقن علوما جمة)، وبرع في كل فنونه.
وأقر له كل من رآه في صناعة الإنشاء وأذعن له فيه أهل عصره كافة.
بل كان شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المناوى في أوقات الحوادث يسأله في إنشاء خطبة تليق بذلك ليخطب بها في القلعة..
ثم يقول عن والده من الناحية الخلقية:
وكان على جانب عظيم من الدين والتحري في الأحكام وعزة النفس والصيانة، يغلب عليه حب الانفراد وعدم الاجتماع بالناس.
ثم عدد تآليفه فقال:
«و له من التصانيف حاشية على شرح الألفية لابن المصنف.
وحاشية على شرح العضد كتب منها يسيراً، ورسالة في الإعراب وأجوبة على اعتراضات ابن المقري علي الحاوي وله كتاب في التصريف، وآخر في التوقيع».
هذه خلاصة وافية لما كتبه الشيخ جلال في ترجمة والده، وقد أسلفت أنه تركه بالموت وهو في سن السادسة.
فكيف -وهذه هي الحال- كتب ترجمة أبيه المتوفى، وكيف تأثر بحياته؟
إنه لم يشاهد من حالات والده إلا حالة واحدة ساعده على مشاهدتها أنه كان يقوم بها في منزله، أما غيرها فلم يشاهده فيها.
هذه الحالة هي التي حدثنا عنها بقوله:
«... مواظباً على قراءة القرآن، يختم كل جمعة ختمة، ولم أعرف من أحواله شيئاً بالمشاهدة إلا هذا».
وقد وجد عند والده كل آثاره العلمية والأدبية فحببه ذلك في الانقطاع لطلب العلم والأدب.
بيئة جلال الدين العلمية هي بيئة الأزهر الشريف بكل خصائصها الحقبة التي انتسب فيها جلال الدين إلى الأزهر هي منتصف القرن التاسع الهجري.
وكان في الأزهر في ذلك الوقت قد قطع في بعثه الجديد أشواطا فإنه بعد أن عطله عن الحياة حساً ومعنىً - السلطان صلاح الدين الأيوبي، ليزيل بذلك كل أثر للفاطميين.
واستبدل به مدارس تدرس فيها المذاهب الأربعة - بعد هذا جاء عهد السلطان الظاهر بيبرس من ملوك الجراكسة، فقد ولي هذا السلطان ملك مصر عام 658 هجرية وكان -أول ما عني به من الشؤون- بعث الأزهر بعثا جديدا بترميمه بعد التهدمة، وبإعداده ليكون معهدا علميا تدرس فيه العلوم الدينية، كما تدرس فيه العلوم العقلية مثل (المنطق - آداب البحث والمناظرة) أما علوم التاريخ والجبر والمقابلة والإنشاء والأدب، فلم يكن لها نظام معين تدرس به، فقد تدرس وقد لا تدرس، وإذا رغبها طالب لم يرغب فيها طلبة.
لم يكن هناك مناهج ولا أوقات تضبط الدروس وتحدد أوقاتها.
كما أن الطلبة كانوا أحراراً في كل شيء:
في العلم الذي يختارونه، وفي الشيخ الذي يحضرون عليه، هذه الحرية في التحصيل هي التي مكنت الرعيل الذي كان فيه السيوطي من الإجادة والإتقان والتبحر في مختلف أنواع العلوم والفنون فكانوا أعلاماً نابهين.
أمثال السيوطي، والعز بن عبد السلام، والقرافي، وابن هشام والسبكي وأبناؤه، وزكريا الأنصاري وغيرهم.
كما كان الزهد في المال، طابعاً للطلبة يقول العلامة ابن دقيق العيد:
لعمري لقد قاسيت بالفقر شدة
وقعت بها في حيرة وشتات
فإن بحت بالشكوى هتكت مروءتي
وإن لم أبح بالصبر خفت مماتي
وأعظم به من نازل بملمة
يزيل حيائي أو يزيل حياتي
وتحدث السيوطي عن قوة حافظته فقال:
فحفظت القرآن ولى دون ثمان سنين، ثم حفظت العمدة ومنهاج الفقه والأصول وألفية ابن مالك» حفظ كل هذه المحفوظات قبل أن ينقطع إلى طلب العلم بالأزهر كما حدثنا.
وتحدث عن تبحره في العلوم وتعمقه في فهمها.
ورزقت التبحر في سبعة علوم:
التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع... والذي اعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة -سوى الفقه- والنقول التي اطلعت عليها فيها لم يصل إليه، ولا وقف عليه أحد من أشياخي، فضلا عمن هو دونهم... ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفا بأقوالها وأدلتها العقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل اللّه..
ويقول أيضاً:
«و قد كملت عندي آلات الاجتهاد بحمد اللّه تعالى».
ثم يقول في مقدمة كتابه (المزهر في علوم اللغة):
«هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه، واخترعت تنويعه وتبويبه، وذلك في علوم اللغة وشروط أدائها وسماعها، حاكيت به علوم الأحاديث في التقاسيم والأنواع، وأثبت فيه بعجائب وغرائب حسنة الإبداع، وقد كان كثير ممن تقدم يلم بأشياء من ذلك، ويعتني في تمهيدها ببيان المسالك، غير أن المجموع لم يسبقني إليه سابق، ولا طرق سبيله قبلي طارق».
هذا ما كتبه الشيخ متفرقاً في ترجمته لنفسه، وفي مقدمات بعض كتبه.
ويقول السيوطي:
«و قد بلغت مؤلفاتي للآن ثلثمائة كتاب سوى ما غسلته ورجعت عنه».
ومن هذا العدد الكبير نعرف أنه كان سريع الكتابة إلى حد كبير، وهو في ذلك يشبه إمامنا الجاحظ في السرعة لا في إشراق الأسلوب، ولا في متانة التعبير، ولا في إجادة الإنشاء.
إن الثلثمائة كتاب التي ألفها السيوطي تدور في مدار العلوم الآتية كما ذكرها هو بتعبيراته:
1 - فن التفسير وتعلقاته والقراءات.
2 - فن الحديث وتعلقاته.
3 - فن الفقه وتعلقاته.
4 - الأجزاء المفردة (وهي المؤلفات التي يتناول كل منها مسألة واحدة).
5 - فن العربية وتعلقاته.
6 - فن الأصول والبيان والتصوف.
7 - فن التاريخ والأدب.
هل درس السيوطي كل هذه العلوم في الأزهر؟
اذا صح أنه درس التفسير والحديث والأصول واللغة العربية وبقية ما عرف من العلوم الأزهرية في وقته، فهل درس أيضاً التاريخ والأدب على الصورة التي رسمها لنا في تعداد الكتب التي ألفها، أنه لم يترك طبقة من الطبقات إلا ألف فيها كتاباً: (الصحابة - الحفاظ - النحاة كبرى ووسطى وصغرى – المفسرين - الأصوليين – الكتاب - الشعراء - الخلفاء).
كما أنه الف في التاريخ العام والخاص والرحلات كتباً كثيرة مثل (حسن المحاضرة - رفع الباس عن بني العباس - ياقوت الشماريخ في علم التاريخ - رفع شأن الحبشان - الرحلة الدمياطية).
فهل درس الطبقات والتاريخ وكتب اللغة والأدب في الأزهر فأهلته المدارسة ليؤلف فيها بهذه الغزارة كما ألف في العلوم الأزهرية؟
إن السيوطي كانت له صوفية علمية تجعله يدرس التاريخ والسير والمغازي على نفسه، ولم يكن في الأزهر حلقات لمثل هذه العلوم.
لقد شبهت جلال الدين السيوطي بالجاحظ في سرعة الأداء والكتابة، ولكنني فرقت بينهما من حيث طلاوة الأسلوب، وإشراق الديباجة.
والآن أشبه مرة أخرى السيوطي بالجاحظ في كثرة الاطلاع ومتنوع الدراسات، فلقد كان الجاحظ يستأجر دكاكين الوراقين ليطلع على ما فيها من كتب وربما كان يقضي فيها الليالي بأكملها لنهمه في القراءة والاطلاع.
وكذلك الشيخ السيوطي فإنه لم يترك كتاباً في زمانه إلا قرأه واستفاد به.
وقد كانت له رحلات، ولكنه لم يكشف لنا عن الدافع إليها، فقد قال في ترجمته: «و سافرت بحمد اللّه تعالى إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب والتكرور» وهي رحلات بعضها شاق طويل، وأي رحلة أبعد من الهند؟ وأي متاعب أقسى في زمنه من الجمع بين الرحيل إلى الشام والحجاز واليمن والهند والغرب والتكرور؟ إنه طوَّف في ذلك بأكثر اجزاء نصف الكرة الشرقي.
وقد ولد السيوطي عام 849 وانتقل الى رحمة اللّه عام 911 هجرية.