الفصل الخامس: الأزهر في عهد الدولة الأيوبيّة
---------------------------------------------
التاريخ السياسي للدولة:
قامت الدولة الأيوبية في مصر من عام 567 ه‍ على يدي مؤسسها: السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد دعم كيان دولته، ومحا من مصر المذهب الفاطمي، وأحل محله المذهب السني، وعني بنشر العلم وتشجيع العلماء، ووقف في وجه الصليبيين وقفات خالدات في تاريخ الشرق الاسلامي..

وكان عادلاً محبباً من قلوب الناس، وكانت مملكته من المغرب إلى تخوم العراق ومعها اليمن والحجاز 1، ونشر العدل في الرعية وحكم بالقسط بين البرية وبنى المدارس والخوانق وأجرى الأرزاق على العلماء والصلحاء، مع الدين والورع والزهد والعلم، وهو الذي ابتنى قلعة القاهرة على جبل المقطم 2 وأصبحت عاصمة البلاد في عهده، ويذكر السيوطي أنه رحل بولديه الأفضل والعزيز لسماع الحديث من السلفى 3.

وتوفي عام 859 ه‍ عن سبعة وخمسين عاما.

مات السلطان فخلفه على عرش مصر ابنه عماد الدين عثمان فسار
__________
1) 26 ج 2 حسن المحاضرة ط 1327 ه‍.

2) 26 ج 2 حسن المحاضرة ط 1327 ه‍.
3) 26 ج 2 حسن المحاضرة.

سيرة حسنة ومات سنة 595 ه‍ ودفن في قبة الامام الشافعي، فأقيم ولده المنصور مكانه، ولكن عم أبيه الملك العادل نزعه عام 996 ه‍ وتولى مكانه.

والملك العادل أبو بكر بن أيوب هو أخو السلطان صلاح الدين، وكان شديد الحب للعلماء، وأبلى بلاء حسنا في مقاومة الغزو الصليبي للبلاد ومات عام 616 ه‍.

وخلفه ابنه الملك الكامل محمد، (616 ه‍-635 ه‍) وقد حكم مصر حوالي أربعين عاما، كان في العشرين عاما الأولى نائبا عن أبيه، وكان في العشرين عاما الأخيرة يحكم بنفسه بعد موت أبيه، وكان الكامل معظما للسنة النبوية وأهلها راغبا في نشرها والتمسك بها، مؤثرا الاجتماع مع العلماء، والكلام معهم حضرا وسفرا 1، وقد أنشأ دار الحديث بالقاهرة، وعمر القبة على ضريح الشافعي وكان معظما للسنة وأهلها 2، وتوفي يوم الأربعاء حادي عشر من رجب عام 635 ه‍، وأقيم بعده ابنه الملك العادل أبو بكر، ولكن الملك الصالح أيوب نزع الملك منه وتولى حكم مصر عام 637 ه‍.

كان الملك الصالح مهيبا جدا، دبر المملكة على أحسن وجه، وبنى المدارس الأربعة بين القصرين، وعمر قلعة بالروضة، وهو الذي أكثر من شراء الترك وعتقهم وتأميرهم، ولم يكن ذلك قبله فقام الشيخ عر الدين بن عبد السلام القومة الكبرى في بيع أولئك الأمراء وصرف ثمنهم في مصالح المسلمين 3، ومات في ليلة النصف من شعبان عام 647 ه‍، وهو مستعد لقتال الصليبيين في المنصورة، فأخفت زوجته
__________
1) 230 ج 6 النجوم الزاهرة.

2) 33 ج 2 حسن المحاضرة.
3) 34 ج 2 حسن المحاضرة.


شجرة الدر موته، حتى حضر ابنه الملك المعظم توران شاه فتولى الملك في ذي القعدة عام 647 ه‍، وقاتل الإفرنج وكسرهم، وكان في عسكر المسلمين الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأسر الملك لويس السادس ملك فرنسا، وحبس في دار ابن لقمان بالمنصورة ثم نفرت قلوب الجيش من توارن شاه فقتلوه في 17 محرم عام 648 ه‍، وولوا شجرة الدر مكانه وكان يخطب لها على المنابر بعد الدعاء للخليفة العباسي، ولم يل مصر امرأة في الإسلام قبلها، ولما وليت تكلم الشيخ عز الدين بن عبد السلام في بعض تصانيفه على ما إذا ابتلي المسلمون بولاية امرأة، وأرسل الخليفة العباسي المستعصم يعاتب أهل مصر في ذلك، وأقامت شجرة الدر في المملكة ثلاثة أشهر ثم عزلت نفسها، واتفق القواد على أن يملكوا الملك الأشرف موسى بن صلاح الدين يوسف بن المسعود بن الملك الكامل فملكوه في جمادى الأولى عام 648 ه‍، وجعلوا عز الدين أيبك التركماني مملوك الملك الصالح قيما عليه، وعظم شأن المماليك الأتراك من يومئذ، وفي عام 652 ه‍ خلع عز الدين الملك الأشرف واستقل بالملك، وهو أول من ملك مصر من المماليك الأتراك، وتزوج شجرة الدر، ثم خطب عليها ابنة صاحب الموصل، فقتلته شجرة الدر عام 655، وخلفه ابنه المنصور، حتى قضى على ملك الدولة الأيوبية الأمير يوسف الدين قطز، الذي لقب نفسه بالملك المظفر، وذلك عام 657 ه‍.

ومن الجدير بالذكر أن ملوك الدولة الأيوبية كانوا يتلقون مراسيم ولايتهم من خلفاء بغداد العباسيين، مع استقلالهم السياسي والإداري على خلافة بغداد.

الأزهر في عهد الدولة الأيوبية:
بزوال الدولة الفاطمية من مصر وقيام الدولة الأيوبية مقامها، انمحت معالم الفقه الإسماعيلي الشيعي، فقد غالى الأيوبيون في القضاء على كل أثر للشيعة، وأفتوا بإبطال إقامة الجمعة في الأزهر 1 ولبثت إقامة الجمعة معطلة، فيه نحو مائة عام، وذلك من عام 567 - 665 ه‍.

وفي عهد الدولة الأيوبية أنشئت عدة مدارس تنافس الأزهر في رسالته العلمية، فبنى صلاح الدين مدرسة للشافعية بجوار مسجد عمرو، ومدرسة أخرى للمالكية وعرفت باسم «دار الغزل» ثم عرفت بالمدرسة القمحية، ثم بنى مدرسة ثالثة للفقهاء الحنفية أطلق عليها اسم «المدرسة السيوفية»، كما بنى مدرستين أخريين لفقهاء المذهب الشافعي خاصة، وهو المذهب الذي كان عليه أكثر أفراد البيت الأيوبي نفسه، وكانت مدرسة منها بجوار الإمام الشافعي والأخرى بجوار المشهد الحسيني.

ويحصى المقريزي المدارس التي بنيت في القاهرة وحدها بثماني عشرة مدرسة 2.

وقد بنيت في القاهرة والفسطاط معا نحو خمسة وعشرين مدرسة:
منها المدرسة الكاملية وتسمى دار الحديث، وقد أنشأها الملك الكامل عام 621 ه‍ وكملت عمارتها سنة 622 ه‍، وتولى مشيختها أبو الخطاب عمر بن دحية ثم أخوه أبو عمرو عثمان بن دحية 3، ومن مشايخها أيضا القسطلاني الشافعي وابن دقيق العيد.

ومن هذه المدارس المدرسة الصالحية وقد بناها الملك الصالح عام 639 ه‍ وهي أربع مدارس للمذاهب الأربعة، وكانت من أجل مدارس القاهرة 4.
__________
1) أصدر قاضي القضاة الشافعي صدر الدين عبد الملك بن درباس فتوى بأنه لا يجوز إقامة الجمعة في بلد واحد في مكانين فأبطل إقامتها بالأزهر وأقرها بالجامع الحاكمي.

2) 193 - 216 ج 4 خطط المقريزي.
3) 142 ج 2 حسن المحاضرة.
4) 142 ج 2 حسن المحاضرة.

ومنها المدرسة الفاضلية بناها القاضي الفاضل عام 580 ه‍ وكان في مكتبتها مائة ألف كتاب مجلد 1.

وكانت كل مدرسة من هذه المدارس تتخصص في دراسة بعينها، وكان الغرض من إنشاء هذه المدارس هو منافسة الأزهر وصرف الطلاب عنه، وقد كان لقيام هذه المدارس وكثرتها خلال القرنين السابع والثامن، أي حتى بعد عصر الأيوبيين أثر كبير في سير الدراسة في الأزهر، إذ نافسته هذه المدارس منافسة شديدة وجذبت إليها أعلام الأساتذة، وقضى الأزهر في هذه المدة عصرا من الركود الطويل.

وقد كان الأيوبيون من الغلاة في المذهب الشافعي، وكانوا من أتباع الأشعري، وكان الحنابلة بمفردهم يكونون معسكرا مستقلا يناهض معسكر الأشاعرة، وكان من نتائج تصادم الأفكار بين أصحاب المذاهب المتعددة أن اشتدت روح التعصب والمغالاة، فكان كل فريق يدفع صاحبه بما يملك من أسلحة الهجوم، فكان أهل السنة يطعنون الشيعة بأنهم كفار زنادقة وفساق ملاحدة، وقد أصدر بلاط بغداد في سنة 402 ه‍ في عهد الخليفة القادر باللّه فتوى رسمية موقعا عليها من كبار الفقهاء والقضاة بهذا المعنى، طعنا في الفاطميين خلفاء مصر.

ومن ناحية أخرى لم يتوان الأشاعرة عن استعمال سلاح التكفير والتفسيق في شتى المناسبات، حتى بلغ الأمر فصل الحنابلة كفرقة تلز في قرن مع النصارى واليهود والباطنية.

ومن طريف ما يروى أن منشىء المدرسة الرواحية في دمشق نص في حجة وقفيته على هذه المدرسة نصاً يمنع دخول اليهود والمسيحيين والحنابلة لهذه المدرسة.

ومن هنا ورث الأزهر التعصب المذهبي الشديد إلى حد الإفتاء بالكفر وعدم صحة الاقتداء بالمخالف في المذهب، فقد أفتى ابن حجر الهيثمي بأن ابن تيمية العالم الفقيه كافر لا تصح الصلاة وراءه، وأمر
__________
1) 255 ج 2 الخطط للمقريزي.


القاضي عياض بإحراق كتب الغزالي لما يوجد بها من أشياء لا يرتضيها أهل السنة.

ونقل الكمال بن الهمام عن أحد علماء الحنفية أنه لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال.

وظل هذا التعصب يشتد ويشغل أمره العلماء، فاتهم كل مجتهد يخرج على التقاليد العلمية في عصره بالزندقة والضلال.

والضلال يومذاك كانت كلمة ترادف التفكير الحر الذي لا يرضى بالتقليد، ولا يرضى أن يكون في آرائه من العبيد.

وكان الضلال عنوان نضوج العقل، أو كما يقول الغزالي: وأستحقر من لا يحسد ولا يقذف، وأستصغر من بالكفر أو الضلال لا يعرف.

ولما كثرت المدارس في عهد الأيوبيين وأرادوا جذب أساتذة الأزهر إليها، أغدقوا لهم في العطاء، وأجزلوا في المرتبات، وبعد أن كان العلماء يعتمدون في العصور الأولى على أنفسهم في سد حاجات عيشهم عن طريق السعي وراء الرزق أو استجلاب الربح من صنعة أو حرفة، فكان منهم في العصر الأول البزاز والزجاج والصائغ والصباغ والفراء، إلى ما لهم من شهرة في العلم، أصبحوا في هذا العهد وما تلاه من عهود المماليك يعتمدون على الدولة وما تعطيهم من إعانات، وما تدره عليهم من غلات أوقاف، أو نظارات في حياتهم، مما مكن للدولة من ضمان بقائهم في صفها، ولم يدع للعلماء حرية كاملة في إبداء ما يرون من آراء على الوجه الذي يرضي اللّه والضمير والحق والعدل. بل كثيرا ما كان هذا النوع سببا في تحاسد العلماء وسعى بعضهم ببعض عند الأمراء، لتوجبه وظيفة أو إعطاء وقف.

أشهر العلماء في عصر الدولة الأيوبيّة
نبغ في العصر الأيوبي كثير من العلماء والأدباء والشعراء، منهم:
الحسن الفارسي الفقيه الحنفي العالم باللغة والأدب والطب والهيئة المتوفى عام 598 ه‍ 1.
ومنهم: ابن الحاجب النحوي (566 - 646 ه‍) المشهور 2، والشاطبي (538 - 590 ه‍) 3، وابن الفارض (576 - 632 ه‍) الصوفي الزاهد الشاعر المعروف 4، وعز الدين بن عبد السلام شيخ الاسلام (577 - 660 ه‍) 5 واشتهر فيه من الصوفية سيدى أحمد البدوي (596 - 675 ه‍) 6، وعبد الرحيم القنائي المتوفي عام 592 ه‍ 7، وسواهم.

ومن العلماء أيضاً الحافظ المنذري شيخ الإسلام (581 - 660 ه‍)، والسخاوي المصري (558 - 643 ه‍) صاحب التفسير المشهور وشرح الشاطبية، وابن سرايا (570 - 651 ه‍) المفسر العالم بالقراءات، وابن المنير (620 - 683 ه‍) وكان إماما في النحو والأدب والأصول والتفسير..
__________
1) 126 ج 1 حسن المحاضرة

2) 194 ج 1 حسن المحاضرة
3) 212 ج 1 حسن المحاضرة
4) 221 ج 1 حسن المحاضرة
5) 127 ج 1 حسن المحاضرة
6) 223 ج 1 حسن المحاضرة
7) 220 ج 1 حسن المحاضرة


ومنهم ابن بري المتوفى عام 582 ه‍، وابن معطى المتوفى عام 628 ه‍، وكانا إمامين في العربية، وابن مالك الأندلسي المتوفي عام 672 ه‍ وقد أقام بمصر حينا كما أقام بدمشق وحلب، وكذلك ابن الصلاح وتوفي عام 643 ه‍.

ومن الأدباء ابن شيث من أدباء القرن السادس، وابن أبي الأصبع المتوفي عام 654 ه‍، وابن الساعاتي المتوفى عام 604 ه‍، وأبو الحسين الجزار الشاعر، وأبو شامة المتوفي عام 695ه‍.

والتلعفري (593 - 675 ه‍)، وابن واصل المتوفى عام 697 ه‍، والقاضي الفاضل المتوفى عام 596 ه‍، والعماد الأصبهاني المتوفى عام 597 ه‍.

ومن الحكماء الوزير القفطي (568 - 646 ه‍).

ومن المؤرخين ابن شداد (539 - 615 ه‍)، وابن عبد الظاهر (620 - 692 ه‍).

ولا شك أنه كان لكثير من هؤلاء العلماء تلمذة على أساتذة الأزهر وحلقاته العلمية في العصر الفاطمي، فإذا كان الأزهر قد أوقف نشاطه العلمي في هذا العصر فأثره الروحي كان باقيا مستمرا.

وقد اشتهر في هذا العصر الكثير من الشعراء، منهم:
البهاء زهير (581 - 656 ه‍)، وابن مطروح (592 - 649 ه‍)، وابن النبيه المتوفى عام 619 ه‍، وابن الساعاتي المتوفى عام 604 ه‍، وابن سناء الملك المتوفى عام 608 ه‍.

وابن التعاويذي (519 - 584 ه‍)، وسراج الدين الوارق المتوفى عام 655 ه‍. ولا شك أن نشأتهم الأدبية كانت أثرا لثقافة الأزهر اللغوية والأدبية التي ظلت متوارثة في عهد الأيوبيين.

على أن قطع صلاة الجمعة من الجامع الأزهر في تلك الحقبة لم يبطل صفته الجامعية، فقد لبت محتفظا بصفته كمعهد للدرس والقراءة.

ومع أنه لم يكن يحظى في ذلك العصر بكثير من الرعاية الرسمية، فإنه لبث مع ذلك محتفظاً بكثير من هيبته العلمية القديمة، فنراه مقصد علماء بارزين مثل عبد اللطيف البغدادي الذي وفد على مصر في سنة 589 ه‍ أيام الملك العزيز ولد السلطان صلاح الدين، وتولى التدريس بالأزهر بضعة أعوام حتى وفاة الملك العزيز في سنة 595 ه‍ 1.
__________
1) كتاب الإفادة والاعتبار لعبد اللطيف (مصر) في المقدمة.