الفصل الثاني
مصر في ظلال الدولة الفاطميّة
----------------------------
تمهيد:
إن شيعة علي كرم اللّه وجهه بعد قتل علي ظلت تتوارث الدعوة إلى خلافة آل البيت، لإعادة المُلك والخلافة للعلويين، وزعم الكثير منهم أن الخلافة لم تصح ولن تصح لغير أهل البيت من أولاد علي.. ولما عجز العلويون عن الاستحواذ على السلطة من طريق السياسة والقوة، لقتل مَنْ خرج من أئمتهم، التمسوها من طريق الدين، فقالوا: إن اللّه لا يترك خلقه بدون إمام حق، واعتقدوا أن ذلك الإمام هو المهدي المنتظر، الذي يبيد المغتصبين، ويحيي مجد بيت رسول اللّه.
بدء الدعوة للفاطمية:
في عام 280 ه- 893 م ذهب أحد دعاة الشيعة، واسمه «أبو عبد اللّه الشيعي» إلى بلاد البربر بشمالي إفريقية، داعياً لعبيد اللّه بن محمد من نسل جعفر الصادق، فنجح في دعوته «وطرد الأمير الأغلبي الحاكم لتلك البلاد التابع للدولة العباسية، وذلك عام 296 ه- 908 م، وأعلن أن الخليفة الحقيقي للمسلمين ورئيس دينهم المنتظر هو إمامه «عبيد اللّه» الملقب بالمهدي، من نسل فاطمة بنت رسول اللّه، ولذلك سميت سلالته بالفاطميين.
قيام الدولة الفاطمية:
حضر عبيد اللّه إلى بلاد المغرب، وظل ملكاً عليها مدة كبيرة (297 - 322 ه: 910 - 934 م)، كان الأمر فيها كله بيده، وأخضع قبائل العرب، والبربر، ودان له الحاكم المسلم الوالي على جزيرة صقلية، وجاهد في سبيل نشر الدين ومحاربة البدع في تلك البلاد، وكان من أكبر أمانيه فتح مصر، فأرسل لغزوها ثلاثة جيوش: اثنين منها بقيادة ابنه «أبي القاسم» فحال دون نجاحه عدة أمور، منها مجاعة في المغرب حدثت عام 316 ه، ووباء فشا في أحد هذه الجيوش، وفتكت عدواه بأهل المغرب.. وشغل عبد اللّه بالأمور الداخلية باقي حياته.
وفي عام 322 ه-934 م خلفه ابنه الأكبر «القائم بأمر اللّه أبو القاسم محمد»، فبذل غاية همته في توسيع نطاق ملكه، وأرسل أسطولا أغار على شواطىء إيطاليا وفرنسا والأندلس، وأرسل جيشا إلى مصر هزمه الإخشيد، ووطد ملكه في شمال إفريقية.
وخلفه «المنصور إسماعيل» سنة 333 ه- 945 م، فسار في الملك سيرة أبيه نحو سبع سنوات.
ولما مات خلفه ابنه «المعز لدين اللّه أبو تميم معد» سنة 341 ه- 953 م، فكانت أيامه مبدأ عصر جديد في تاريخ الفاطميين، وكان مثقفا ثقافة عالية، سياسيا داهية، وطد ملكه في بلاد المغرب، فدانت له جميع رؤساء القبائل المغربية، وخضعت له مراكش بأكملها حتى شواطىء المحيط الأطلسي..
ثم صرف همه لفتح مصر، فحفر الآبار، وبنى أماكن للاستراحة في الطريق الموصل إليها، وكانت مصر وقتئذ في اضطراب لحقها عقب وفاة كافور، ولم يكن في وسع خلافة بغداد مساعدتها لاشتغالها بصد غارات القرامطة، وكان دعاة المعز ينشرون دعوتهم في أنحاء كثيرة من القطر المصري..
ووكل المعز قيادة الجيش الفاتح إلى أكبر قواده، وهو جوهر الصقلي الرومي الأصل، وكان تحت إمرته مائة ألف مقاتل مزودين بالآلات الحربية، وبالمال الكثير.
جوهر الصقلي فاتح مصر:
ولد جوهر بجزيرة صقلية نحو عام 300 ه، ومع أنه رومي الأصل إلا أنه نشأ في صقلية نشأة إسلامية خالصة، فقد دخل الإسلام جزيرة صقلية سنة 212 ه، ويرجح المؤرخون ان أباه كان مسلما 1.
واتصل جوهر ببلاط المعز، ويبدو أنه كان في حاشيته العسكرية، وقد قربه الخليفة الفاطمي، لما توسمه فيه من الإخلاص للدين، ولمواهبه الفذة وثقافته الواسعة، وظل يتدرج في سلك المناصب في دولة المعز، حتى اتخذه المعز كاتبا له عام 341 ه- 953 م، وهي السنة التي ولى المعز فيها الخلافة، ثم رقاه إلى منصب الوزارة سنة 347 ه، وولاه قيادة جيش كثيف لتوسيع ملك المعز في شمالي إفريقية، وقد انتصر جوهر، وتوغل في فتوحه حتى وصل إلى شاطىء المحيط الأطلسي.
ولما فكر المعز في فتح مصر أسند لجوهر قيادة الجيش الفاتح، ولما رحل جوهر من القيروان إلى مصر في يوم السبت 14 ربيع الثاني عام 358هـ - فبراير 969 م، خرج الخليفة لتوديعه بنفسه، وقال: واللّه لو خرج جوهر وحده لفتح مصر وليدخلن إلى مصر بالأردية من غير حرب، ولينزلن في خرابات ابن طولون، ويبني مدينة تقهر الدنيا.
وانشد ابن هاني الأندلسي المعزّ قصيدته:
رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع وقد راعني يوم من الحشر أروع
غداة كأن الأفق سد بمثله فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ ودعت كيف أودع ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع
ألا إن هذا حشد من لم يذق له غرار الكرى جفن ولا بات يهجع
إذا حل في أرض بناها مدائنا وإن سار من أرض غدت وهي بلقع
__________
1) تاريخ جوهر الصقلي لعلي إبراهيم حسن ط 1933.
----------------------------------------------------
تحل بيوت المال حيث محله وجم العطايا والرواق المرفع
وكبرت الفرسان للّه إذ بدا وظل السلاح المنتصى يتقعقع
وعب عباب الموكب الفخم حوله ورق كما رق الصباح الملمع
رحلت إلى الفسطاط أول رحلة بأيمن فأل بالذي أنت تجمع
فإن يك في مصر ظماء لمورد فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع.
ووصل جوهر إلى برقة، ومنها سار حتى الإسكندرية في رجب 358 ه، ثم استمر في سيره فدخل مصر وقت الزوال من يوم الثلاثاء 17 شعبان عام 358 ه بناء على صلح عقد بين المصريين والفاطميين، وجاء في وثيقة الصلح الرسمية 1: إنه يتعهد ب «نشر العدل، وبسط الحق، وحسم الظلم، وقطع العدوان، ونفي الأذى ورفع الحزن، والقيام في الحق، وإعانة المظلوم، مع الشفقة والإحسان، وجميل النظر وكرم الصحبة، ولطف العشرة وافتقاد الأحوال، وحياطة أهل البلد في ليلهم ونهارهم الخ».
واتصل نبأ الفتح بالمعز فسر سرورا عظيما، ونظم ابن هانىء أمامه قصيدته:
تقول بنو العباس: هل فتحت مصر؟ فقل لبني العباس: قد قضي الأمر
وأخذ جوهر يعمل على بث الدعوة للمعز الفاطمي في مصر خاصة ولأهل بيته من العلويين عامة، واختط مدينة القاهرة المعزية، وبنى الأزهر الشريف، وصار جامع عمرو وجامع ابن طولون والجامع الأرهر مراكز للدعاية لعقائد العلويين الفاطميين ودعوتهم، كما كانت الدعوة لهذا المذهب تذاع على يدي داعي الدعاة ومن كان يعاونه من الدعاة.
خطب للمعز في جامع عمرو في التاسع عشر من شعبان سنة 358 ه- 969 م، وكان ذكر المعز في خطبة الجمعة بدل اسم الخليفة العباسي حادثا خطيرا في تاريخ مصر، وفي يوم الجمعة 18 من ذي القعدة سنة 358 ه دعا الخطيب لآل البيت وزاد في الخطبة: «اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، اللهم صل على الأئمة الراشدين آباء أمير المؤمنين الهادين المهديين»...
__________
1) 67 - 80 اتعاظ الحنفا
-------------------------------
وفي يوم الجمعة 8 جمادي الأولى 359 ه صلى جوهر بجامع ابن طولون وأذن المؤذنون: «حي على خير العمل».. أما الجامع الأزهر فقد كان أهم مركز للدعوة الفاطمية.
ولا ننسى أن نذكر أن جوهراً قد وضع أساس المدينة الجديدة «القاهرة المعزية» في الليلة التي دخل فيها مدينة الفسطاط، أي في 17 شعبان 358 ه - 17 يوليو 969 م وأقام فيها قصر الخليفة المعز، ووضع أساسه في اليوم التالي..
وتشمل القاهرة المعزية على ما رواه المقريزي أحياء:
الجامع الأزهر والجمالية والحسينية وباب الشعرية والموسكى والغورية وباب الخلق، وقد أحيطت القاهرة بسور كبير من اللبن، وكانت بولاق هي ميناء القاهرة، وقد أصبحت بولاق بعد ذلك بمدة كبيرة مدينة تجارية منذ سنة 713 ه، عندما أمر الملك الناصر بعمارتها وبنى بها الدور على شاطىء النيل فسكنها الناس وعمروها.
وقد جعل جوهر للقاهرة أربعة أبواب هي بابا زويلة وباب النصر وباب الفتوح.
وبعد ذلك رحل المعز من مدينته المنصورية 1، ودخل القاهرة في 7 رمضان سنة 362 ه نصف يونيو 973 م، وظل ملكاً على مصر حتى توفي عام 365 ه، وتوفي بعده جوهر بمدة كبيرة، وذلك عام 381 ه (20/ 1 ابن خلكان).
__________
1) راجع الحديث عنها في كتاب «الموعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» للمقريزي 1366 ج 1.
وهذا الاسم أطلقه إسماعيل بن المنصور ثالث الخلفاء الفاطميين على مدينة «صبرة» وتتصل بالقيروان وقد بناها المنصور الفاطمي في سنة 337 ه واستوطنها وسماها المنصورية (ص 25 البكري).
-------------------------------------
المعز الملك الفاطمي:
هو الخليفة الفاطمي الرابع، ينتسب إلى رسول اللّه عن طريق ابنته فاطمة الزهراء وإلى علي بن أبي طالب ابن عم الرسول.
ولد بمدينة المهدية قرب القيروان، وهي عاصمة الفاطميين، وذلك في 11 رمضان سنة 317 ه، وأمه أم ولد.
وربي تربية عالية، وكان ولي عهد أبيه المنصور، وولي الخلافة عام 341 ه.. وفي عام 348 فتحت جيوشه بقيادة جوهر مصر.
خرج المعز من المنصورية دار ملكه يوم الاثنين 21 شوال عام 361 ه: 5 أغسطس عام 972.. ودخل الاسكندرية يوم السبت 23 شعبان 362 ه: 29 مايو 973 م.
وقد دخل القاهرة عام 362 ه- 973 م، وتوفي في 14 ربيع الثاني 365 ه- 20 ديسمبر 975 م، بعد أن وسع دولته، وصبغها بصبغة عالية من الحضارة والرقي والنهضة، وكانت القاهرة بعد إنشائها عاصمة ملكه الضخم.
كان نقش خاتم المعز يحمل شعار دولته وهو «لتوحيد الإله الصمد دعا الإمام معد، لتوحيد الإله العظيم دعا الامام أبو تميم».
وقد وضع على كل مصلحة من مصالح الحكومة موظفين: أحدهما مصري والآخر مغربي.. وكان عهده على قِصَره من أزهى عصور مصر وأزهرها، وزادت فيه ثروة البلاد زيادة كبيرة.
وكانت القاهرة إذ ذاك تسمى «المدينة»، وكانت في الحقيقة عبارة عن قصرين عظيمين ولواحقهما.
بهما من السكان 30000 نسمة، وكان بين القصرين ميدان عظيم يكفي لاستعراض 10000 جندي، وكان ثروة الأسرة المالكة زمن المعز وبعده فوق ما يتصور، فإن إحدى بناته ماتت وتركت وراءها ما يعادل 000 , 000 , 2 ديناراً، وأخرى تركت خمسة أكياس من الزمرد ومقادير كثيرة من الأحجار الكريمة الأخرى علاوة على 3000 إناء فضي مطعم.
وقد بذل «المعز» غاية وسعه في استجلاب محبة الناس واحترامهم له، بعدله، وحسن إدارته والتفاته إلى جميع دقائق شؤونهم.
فكان يرأس بنفسه حفلة قطع الخليج، وزاد من محبتهم له إرساله كسوة فاخرة للكعبة كل عام.
ومنع جنده من البقاء في المدينة بعد الغروب، اجتناباً لما عساه أن يحدث من الهياج، وألغى نظام جباية الخراج بواسطة الملتزمين، للخسارة التي كانت تلحق البلاد من وراء أرباحهم الباهظة، وبذلك زاد الخراج بدون أن يضر بمصلحة المزارعين.
وكان للمعز عدة أبناء، ومن بناته رشيدة بنت المعز، وعبدة بنت المعز 1.
وقد خلف المعز ابنه العزيز باللّه أبو منصور نزار 2 365 - 386 ه: 975 - 966 م، وكان يعقوب بن كلس أكبر وزرائه.
وبعده تولى حكم مصر الحاكم بأمر اللّه أبو علي منصور 386 - 411 ه: 996 - 1021 م، وقد مات مقتولاً.
وخلفه ابنه الظاهر لإعزاز دين اللّه أبو الحسن علي 411 - 427 ه: 1021 - 1036 م.
وتولى بعده ابنه المستنصر باللّه أبو تميم معد 427 - 487 ه: 1036 - 1094 م.. وظل الفاطميون يتوارثون حكم مصر 3، حتى انتهى ملكهم منها عام 567 ه.
__________
1) 114 ج 5 التمدن الاسلامي لجورجي زيدان.
2) ولد في المهدية عام 344 ه.
3) وهم: المستعلى باللّه (487 - 495 ه)، والآمر بأحكام اللّه المنصور (495 - 524 ه)، ثم الآمر بأحكام اللّه عبد المجيد (524 - 544 ه)، ثم الظافر (544 - 549 ه)، ثم الفائز (549 - 555 ه)، ثم العاضد (555 - 566 ه)