المطلب الثاني: رأي ابن الجزري ودليله
--------------------------------
لقد مر معنا رأي ابن الجزري في هذه المسألة في المبحث السابق واتضح أنه لا يعتد بركنية التواتر وإنما يكتفي بصحة السند مع الشهرة والاستفاضة فقال: "..وقولنا: وصح سندها فإنا نعني به أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله، كذا حتى تنتهي وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن".
ويظهر من خلال عرضنا لرأي ابن الجزري وأراء الأئمة قبله في هذه المسألة أن رأي ابن الجزري هو رأي توسط فيه آراء سابقيه، فلم يشترط التواتر كما اشترط الجمهور، ولم يكتف بمجرد اشتراط الصحة كما اكتفى بذلك الإمام مكي بن أبي طالب وإنما اشترط صحة السند المقرون بالشهرة والاستفاضة والتلقي بالقبول من طرف الأئمة، وهو قول في غاية الوجاهة حيث المراد من اشتراط التواتر هو حصول اليقين والعلم القطعي وذلك حاصل بالآحاد المشهور المستفيض لأن ناقله ثقة عدل ضابط.
وبهذا يكون ابن الجزري سابقا إلى هذا القول، فهو لم يوافق مكي ابن طالب كما وهم البعض وإنما نحى منحنى وسطي بين قول الجمهور وقول مكي، ويتجلى ذلك فيما كان صحيحا غير مشهور فإنه ترك قبوله وهو ما خالفه فيه.
واحتج ابن الجزري بأن ثبوت التواتر مغن عن اشتراط الركنين الآخرين من الموافقة للمصحف العثماني والموافقة للعربية، فقال: "إن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الآخرين من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواتراً عن النبي (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ) وجب قبوله وقطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أم خالفه".
ويمكننا القول أنه ما احتجَّ به ابن الجزري هو استنتاج ذكي استلهم من واقع ماض كان على عهد الصحابة -رضي الله عنهم- حيث كان التواتر عندهم شرطاً لإثبات الحرف في المصحف العثماني، وما رسم عثمان إلا بناءً على ما تواتر عند الصحابة، وبالتالي فإنه إذا ما افترضنا -جدلاً- وجود أحرف متواترة في هذا الزمان فهي من القرآن حتى وإن لم توجد في المُصحف، وأنَّى يوجد هذا، فلم يبق الصحابة شيئاً ممَّا تواتر إلا ودون في المُصحف، فالخلاف -إذاً- ليس في تواتر الحروف وثبوتها فهي ثابتة، وإنما الخلاف في إثبات كيفية الأداء التي يحتملها رسم المصحف، وهذا ما لم يشترط له ابن الجزري التواتر واكتفى فيه بالصحة مع الشُّهرة إذا كانت ممَّا وافق الرَّسم الثابت بالتواتر ووافق العربية.
ومما استند إليه ابن الجزري في تقرير هذه المسألة أقوال سابقيه فقد نقل عن الإمام الجعبري قوله: "الشرط واحد وهو صحة النقل ويلزم الآخران، فهذا ضابط يعرف به ما هو من الأحرف السبعة وغيرها"، وهذا يوضحه قوله السابق الذي صرح فيه باشتراط التواتر وبالتالي فهو لا يخدم ابن الجزري هنا،إلا إذا أراد ابن الجزري أن يستند إلى هذا القول في اعتبار أن الشرط الأساس في قبول القراءة هو الصحة وأما الشرطان الآخران فهما تابعان له.
ثم عرض أيضاً قول الإمام مكي في ذلك فقال: "قال الإمام أبو محمد مكي في مصنفه: "..قسم يقرأ به اليوم، وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال وهن: أن ينقل عن الثقات عن النبي (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ) ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن سائغاً، ويكون موافقاً لخط المُصحف، فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث قُرئ به، وقطع على مغيبه وصحته وصدقه؛ لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقة خط المُصحف، وكفر من جحده..".
ثم ذكر ابن الجزري بعد ذلك أن اشتراط التواتر كان مذهبه في أول الأمر ثم عدل عنه لمـا تبين له فساد ذلك بعد إسقاط هذا الشرط على واقع القراءات المقبولة فقال: "ولقد كنـت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده".
المطلب الثالث: رأي ابن الجزري يحل إشكالاً
يطرح ابن الجزري قضية مشكلة، ولا يجد لها جواباً يستقيم إلا على الرأي الذي اختاره، وتتمثل هذه القضية في اشتمال بعض الكتب المشهورة، المتلقاة بالقبول، المعتمدة لدى أئمة القراءات على انفرادات في أصول القراءات وفي فرشها، ومن ذلك ما انفردت به الشاطبية في قراءة ابن ذكوان "تتبعان" في قوله -تعالى-: "ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون" بتخفيف النون مخالفاً بذلك بقية القراء والرواة.
وأيضـاً ما انفرد به في قراءة قُنبل "سوقه" الواقعة فـي قـولـه -تعالى -: "فاستوى على سوقه" بهمزة بعدها واو مخالفاً بذلك بقية الرواة، وغير ذلك مما انفردت به كتب أخرى ولم يوجد إلا في كتاب أو كتابين وهو لا يثبت به التواتر.
وإذا ما احتكمنا إلى رأي الجمهور من الأئمة فإن هذا الانفراد يجب إسقاطه وعدم قبوله حيث جاء بطريق غير متواتر، ولكن إذا ما حكمنا رأي ابن الجزري صح ذلك وقبل طالما صحت الطريق التي جاءت بها القراءة وتلقاها الأئمة بالقبول.
وهذا ما عناه بقوله:
"وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم".
ويصرح ابن الجزري بقبوله لتلك الانفرادات التي ما خالف في قبولها أحد من أئمة القراءات فقال: "هذا وشبهه وإن لم يبلغ مبلغ التواتر صحيح مقطوع به نعتقد أنه من القرآن، وأنه من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن بها".
ويقرر ذلك في قاعدة كلية -أصلها حديثية- ولكنه أسقطها على واقع القراءات فقال: "والعدل الضابط إذا انفرد بشيء تحتمله العربية والرسم واستفاض وتلقى بالقبول قطع به، وحصل به العلم".
وهذا ما قرره الإمام ابن الصلاح قبل ذلك في مجال الحديث وأيضا الإمام الشيرازي ونقله الإمام ابن تيمية عن جماعة من الأئمة.
وبناء على هذا الذي قرره راح يرمي القائلين بوجوب التواتر في ذلك بالجهل وعدم المعرفة فقال: "ونحن ما ندعي التواتر في كل فرد مما انفرد به بعض الرواة، واختص ببعض الطرق، ولا يدعي ذلك إلا جاهل لا يعرف ما التواتر، وإنما المقروء به عن القراء العشرة على قسمين: متواتر وصحيح مستفاض متلقى بالقبول والقطع بهما حاصل".
ومن خلال هذا يتأكد لنا مرةً أخرى أن ابن الجزري متأثراً تأثراً بليغاً بعلم الحديث ومنهجه حيث نجده يقيس أحوال القراءة على أحوال الحديث ويجعل ما يحكم الحديث من قواعد يحكم القراءة أيضاً.
المبحث الثالث: المتواتر من القراءات
لقد أجمع جمهور الأئمة على تواتر القراءات الصحيحة المقبولة من حيث الجملة، واختلفوا في تفصيل ذلك، فمنهم مَنْ رأى أن المتواتر لا يشمل إلا أجزاء من القراءات على خلاف بينهم في تحديد تلك الأجزاء والأبعاض، ومنهم مَنْ رأى أن القراءات متواترة جملةً وتفصيلاً في كل أبعاضها وأجزائها، وما حاولنا بيانه خلال هذا المبحث مذهب الإمام ابن الجزري في هذه المسألة، وموقفه من مخالفيه.
وذلك من خلال النقاط التالية:
المطلب الأول:
أقوال من سبق ابن الجزري في المسألة
لقد تباينت أقوال سابقي ابن الجزري في مسألة: المتواتر من القراءات بين مثبت للتواتر في كل جزء منها وبين مقصر ذلك على بعضها فقط.
وجملة تلك الآراء ما يلي:
القول الأول:
مذهب أبي شامة
يرى الإمام أبو شامة أن القراءات متواترة فيما اتفقت فيه الطرق وأجمع عليه الرواة.
وأما ما وقع فيه اختلاف الرواة والطرق فليس بمتواتر، ومفاد هذا القول أن ما أجمع عليه القراء متواتر وما اختلفوا فيه ليس بمتواتر، سواء كان الاختلاف في أداء الكلمة أم في لفظها؛ ذلك لأنه يرى أن ما اختلف فيه منسوب إلى ناقليه فقط ولا يبلغ عددهم حد المتواتر فهو آحاد.
وصرح بذلك في قوله:
"..وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة، والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب، ونحن بهذا نقول، ولكن فيما اجتمعت على نقله الطرق، واتفقت عليه الفرق من غير نكير له مع أنه شاع واشتهر واستفاض... فالحاصل أنا لسنا مِمَّنْ يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء، بل القراءات كلها منقسمة إلى متواتر وغير متواتر".
القول الثاني: مذهب ابن الحاجب
يرى الإمام ابن الحاجب أن القراءات متواترة فرشاً لا أصولاً، وعبر عن الأصول بما كان من قبيل الأداء، وما عرف مراده بذلك إلا حين مثل لذلك بأمثلة تقطع بمراده من قوله: "ما كان من قبيل الأداء".
وذهب ابن الحاجب إلى هذا الرأي بناء على تصوره أن الفرش ألفاظ لا اختلاف في ضبطها، أما الأصول فهي كيفيات للأداء، وهي ما لا تضبط إلا بالسماع عادة حيث يقبل فيها الزيادة والنقصان، ومن ذلك المد وتخفيف الهمز وغيرها.
وجاء هذا الرأي صريحاً في قول ابن الحاجب: "القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمز ونحوه".
وتبع ابن الحاجب من المتأخرين ابن خلدون واعتبره الصحيح من الأقوال فقال: "وهذه القراءات السبع.. قالوا بتواترها، وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد والتسهيل لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع، وهو الصحيح".
القول الثالث: مذهب الزركشي
ذهب الإمام الزركشي إلى أن تواتر القراءات ثابت عن الأئمة القُرَّاء لا عن النبي (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ) وحجته في ذلك أن أسانيد الأئمة القُرَّاء التي وردت بها القراءات عن النبي (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ) كانت آحاداً وهي المدونة في مصنفات القراءات.
وأفصح عن هذا في قوله: "..والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواترها عن النبي (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ) ففيه نظر، فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد، لم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة".
وواضح أن نظرة الإمام الزركشي في هذه المسألة مبنية على الاعتماد على مجرد إسناد القراءة المدون في كتب القراء، واعتبر القراءة كالحديث من حيث النقل.
يتبع إن شاء الله...