المذهب الثاني: القول بأن الأحرف السبعة هي أوجه
ذهب جماعة من أهل العلم إلى القول بأن الأحرف السبعة هي أوجه سبعة يقع بها التغاير والاختلاف بين الكلمات القرآنية، واختلف أصحاب هذا المذهب في تعين ما يقع به التغاير والاختلاف بين هذه الأوجه.
وجملة ما قيل في ذلك ما يلي:
أولاً: قول أبي حاتم السجستاني
رأى الإمام أبو حاتم أن أوجه التغاير والاختلاف بين الأحرف السبعة تتمثل في الآتــــي:
1- إبدال لفظ بلفظ آخر وذلك نحو: "فاسعوا" قرئت: "فاقضوا" في قوله تعالى: "فاسعوا إلى ذكر الله" و "كالعهن المنفوش" قرئت كالصوف.
2- إبدال حرف بحرف آخر وذلك نحو: "الصراط" حيث وقع في القرآن يقرأ بالصاد وبالسين وبإشمام الصاد زايا.
3- تقديم كلمة أو حرف أو تأخيرهما نحو: "فيَقتلون ويُقتلون" قرئت: "فيُقتلون ويَقتلون"، ونحو: بئيس في قوله تعالى: "بيئس" قرئت: "بيئس".
4- زيادة حرف أو نقصانه نحو: وصّى، وأوصى في قوله تعالى: "وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب".
5- اختلاف حركات البناء نحو: "ميسُرة" بضم السين، و "ميسرة" بفتح السين في قوله تعالى: "فَنَظِرَةٌ إلى ميسَرة".
6- اختلاف حركات الإعراب نحو: "المجيد" بضم الدال، و "المجيد" بكسر الدال في قوله تعالى: "ذو العرش المجيد".
7- إشباع الصوت بالتفخيم والترقيق والإمالة والإظهار والإدغام نحو: "من يرتدد منكم" (من يرتد) و "الكبرى" قرئت بالفتح والإمالة والتقليل حيث وقعت.
ثانيـاً: قول ابن قتيبة
ذهـب الإمام ابـن قتيبـة إلـى أن أوجه الاختلاف بين الأحرف السبعة تكمن فيما يلي:
1- الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركة بنائها بما لا يغير معناها ولا رسمها ومثال ذلك: "يجازي" و"نجازي" في قوله تعال: "وهل يجازى إلا الكفور".
2- الاختلاف في إعراب الكلمة وحركة بنائها بما يغير معناه ولا يغير رسمها وذلك نحـو: "باعد" و "بـعّـد" بتشـديد العـين فـي قوله تعالى: "قالوا ربنا باعد بين أسفارنا".
3- الاختلاف في الكلمـة بما غير رسمها لا معناها وذلك نحو: "العهن" في قوله تعالى: "كالعهن المنفوش" قرئت: (كالصوف).
4- الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها لا رسمها نحو: "ننشرها" قرئت في المتواتر "ننشزها" لدى قوله تعالى: "فانظر إلى العظام كيف ننشرها".
5- الاختلاف في الكلمة بما يزيل رسمها ومعناها نحو: "طلح" و"طلع" في قوله تعالى: "وطلع منضود".
6- الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو قوله تعالى: "وجاءت سكرة الموت بالحق" قرئت: "وجاء سكرة الحق بالموت".
7- الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو قوله تعالى: "وما عملت أيديهم" قرئت: "وما عملته أيديهم".
ثالثاً: قول أبي طاهر بن أبي هشام
ذهب الإمام أبو طاهر إلى أن الأحرف السبعة هي الأوجه الخلافية الواقعة في قراءات القرآن وهي:
1- الاختلاف من حيث الجمع والتوحيد نحو: "كتب" و"كتاب" في قوله تعالى: "وكتابه وكانت من القانتين".
2- الاختلاف من حيث التذكير والتأنيث نحو: "ولا تقبل" و "لا يقبل" في قوله تعالى: "ولا يقبل منها شفاعة".
3- الاختلاف في إعراب الكلمة نحو: "المجيدُ" برفع الدال وكسرها في قوله تعالى: "ذو العرش المجيد".
4- الاختلاف في تصريف الكلمة نحو: "يعرُشون" بضم الراء وكسرها في قوله تعالى: "وما كانوا يعرشون".
5- الاختلاف في الأدوات التي يتغير بتغيرها الإعراب نحو: "لكن" في قوله تعالى: "ولكن الشياطين كفروا"، قرئت: "لكن" بالتخفيف.
6- الاختلاف في اللغات واللهجات نحو: تحقيق الهمز وتسهيله، والفتح والإمالة وما بينهما، والإدغام والإظهار... وهو ما يسمى بأصول القراءات.
7- الاختلاف في اللفظ باتفاق الرسم وذلك نحو: "نشرها" و"ننشرها" في قوله تعالى: "فانظروا إلى العظام كيف ننشرها".
رابعاً: قول أبو الفضل الرازي
ذهب الإمام الرازي إلى حصر أوجه الخلاف بين الأحرف السبعة في الآتي:
1- اختلاف الأسماء في الإفراد والتثنية والجمع كالاختلاف في جنتهم وجنتيهم في قوله تعالى: "وبدلناهم بجنتيهم جنتين"، ونحو: "كتابه" و"كتبه" في قوله تعالى: "وكتابه وكانت من القانتين".
2- الاختلاف في تصريف الأفعال من حيث زمانها وما تسند إليه نحو: "واتخـذوا" بكسـر الخـاء وفتحهـا فـي قـوله تعالى: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى".
3- الاختلاف في وجوه الإعراب نحو: "لا يُضَارَ" بفتح الراء وضمها في قوله تعالى: "لا يضار كاتب ولا شهيد".
4- الاختـلاف مـن حيث الزيـادة والنقـص نحو: قوله تعالى: "هو الغني الحميد"، قرئت: (الغني الحميد).
5- الاختلاف من حيث التقديم والتأخير نحو قوله تعالى: "وجاءت سكرة الموت بالحق" قرئت: (وجاءت سكرة الحق بالموت).
6- الاختلاف بإبدال حرف بآخر أو كلمة بكلمة وذلك نحو: "فتبينوا"، و"فتثبتوا" في قوله تعالى: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا".
7- الاختلاف في اللغات واللهجات كالإدغام والإظهار والفتح والإمالة.
خامساً: قول أبي الحسن السخاوي
قال الإمام السخاوي: "....وجملة ذلك سبعة أوجه:
1- كلمات تقرأ بكل واحدة في موضع أخرى نحو ما ذكرته.
2- أن تزيد كلمة في أحد الوجهين وتترك في الوجه الآخر نحو: "تحتها"، و "من تحتها"، "تجري من تحتها"، ونحو: "فإن الله هو غني حميد"، قرئت: "فإن الله الغني الحميد".
3- زيادة حرف ونقصانه نحو: "بما كسبت" قرئت "فبما كسبت".
4- مجيء حرف في موضع حرف نحو: "نقول"، و "يقول"، "وتتلوا"، و"تبلوا".
5- تغير حركات إما بحركات أخرى أو بسكون نحو: "فتلقى آدم من ربه كلمـات"، قرأت بضم الميم وفتحها وبضم التاء وفتحها ونحو: "وليحكم أهل الإنجيل"، قرئت بكسر اللام وسكونها.
6- التشديد والتخفيف نحو: "تساقط عليك" قرئت بتخفيف السين وتشديدها، و "بلد ميت"، قرئت بتشديد الياء مكسورة وبإسكانها ونحو ذلك.
7- التقديم والتأخير كقوله عز وجل: "قاتلوا وقتلوا"، و "قتلوا وقاتلوا".
ومن أهم ما استند إليه أصحاب هذا المذهب ما يلي:
1- تأويلهم للحرف بالوجه استنادا لقوله تعالى: "ومن الناس من يعبد الله على حرف"، أي على وجه واحد كما ذكره المفسرون.
2- مما يجعل هذا القول سائغا قولهم: حرف أبي وحرف بن مسعود... ويقصدون بذلك الوجه الذي قرأ به.
3- ما دل عليه حديث عمر السابق من أن خلافه مع هشام كان في أوجه القراءات التي صوبها وأمضاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسمى ذلك أحرفا فقال: "إنما أنزل القرآن على سبعة أحرف".
ومن المآخذ التي أخذت على هذا المذهب الآتي:
1) - تأويل الأحرف بالأوجه فيه تكلف كبير وتعسف في فهم الأحرف.
2) - إن الأوجه الخلافية التي ذكرت على أنها أوجه الاختلاف بين الأحرف السبعة يمكن أن يزاد فيها كما يمكن الإنقاص منها، فهي ليست ثابتة على الحد الذي ذكروه، ولذا نجدهم اختلفوا في تعين هذه الأوجه.
المطلب الثاني: مذهب ابن الجزري
ذهب الإمام ابن الجزري إلى مناصرة أصحاب المذهب الثاني القائلين بأن الأحرف السبعة هي الأوجه التي يقع بها الاختلاف والتغاير بين القراءات غير أنه خالفهم في تحديد وتعيين بعض الأوجه وتتجلى تفصيلات رأيه من خلال قوله: "ولازلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله علي بنا يمكن أن يكون صواباً -إن شاء الله- وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها.
فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها وذلك:
1- إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو: "البخل" بأربعة "ويحسب" بوجهين.
2- أو بتغير في المعنى فقط نحو: "فتلقى آدم من ربه كلمات". "وادَّكر بعد أمة" وأمه.
3-وإمـا فـي الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو: "تبلـوا" و"تتـلو" و"ننجيك ببدنك لتكون لمَنْ خلفك" و"ننجيك ببدنك".
4- أو عكس ذلك نحو: "بصطة وبسطة، والصراط والسراط".
5- أو بتغيرهما نحو: "أشد منكم" ومنهم، ويأتل، ويتأل، و"فامضوا إلى ذكر الله".
6- وإما في التقديم والتأخير نحو: "فيقتلون ويقتلون"، "وجاءت سكرة الحق بالموت".
7- أو في الزيادة والنقصان نحو: "وأوصَى" و"وصَّى"، "والذَّكر والأنثى".
فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها".
ويجمل ابن الجزري صور الاختلاف بين الأحرف السبعة في نوعين فقط هما:
- ما اختلف لفظه واتفق معناه .
- ما اختلف لفظه ومعناه معا.
ولا يعتبر اختلاف اللهجات أحد صور الاختلاف بين الأحرف حيث يجعله مما تتنوع به صفة اللفظ فقال: "وبقي ما اتحد لفظه ومعناه مما تتنوع صفة النطق به كالمدات وتخفيف الهمز... فهذا عندنا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ أو المعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا".
وخلص ابن الجزرى إلى هذا الرأي بعد استبعاده لجملة من الأمور هي:
أ- استبعد أن يكون المقصود بالأحرف أن يقرأ كل منها على سبعة أوجه لقلة وقوع ذلك في أحرف القرآن فقال: "أما المقصود بهذه السبعة فقد اختلف العلماء في ذلك مع إجماعهم على أنه ليس المقصود أن يكون الحرف الواحد يقرأ على سبعة أوجه إذ لا يوجد ذلك إلا في كلمات يسيرة نحو: أف، وجبريل، وأرجه، وهيهات وهيت".
ب - واستبعد أيضاً أن تكون الأحرف السبعة هي القراءات السبع، ذلك لأن زمن الأحرف السبعة ليس هو زمن ظهور القراء السبعة.
قال ابن الجزري:
"مع إجماعهم على... وعلى أنه لا يجوز أن يكون المراد هؤلاء السبعة القراء المشهورين، وإن كان يظنه بعض العوام، لأن هؤلاء السبعة لم يكونوا خلقوا ولا وجدوا، وأول من جمع قراءتهم أبو بكر بن مجاهد في أثناء المائة الرابعة".
ج- واستبعد كذلك أن يكون لفظ "السبعة" في الحديث يراد به الكثرة في العشرات لتعارض ذلك مع ما جاء في حديث أبي بكرة: "فنظرت إلى ميكائيل فسكت ، فعلمت أنه قد انتهت العدة".
قال ابن الجزري:
"وقيل ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص بل المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص بل المراد السعة والتيسير، والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعين والسبعمائة ولا يريدون حقيقة العدد لا يزيد ولا ينقص، بل يريدون الكثرة والمبالغة من غير حصر قال: "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل" و: "إن تستغفر لهم سبعين مرة" وقال: "في الحسنة: "…إلى سبعمائة ضعف إلـى أضعاف كثيرة"… وهذا جيد لولا أن الحديث يأباه فإنه ثبت في الحديث من غير وجه أنه لما أتاه جبريل بحرف واحد، قال له ميكائيل: استزده، وأنه سأل الله التهوين على أمته فأتاه على حرفين فأمره ميكائيل بالاستزادة وسأل أمته التخفيـف فأتاه بثلاث ولم يزل كذلك حتى بلغ سبعة أحرف، وفي حديث أبي بكرة: "فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة" فدل ذلك على إرادة حقيقة العدد وانحصاره".
د- واستبعد أن يكون المراد بالأحرف السبعة لغات سبع، ذلك لأن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم اختلفت حروفهما وهما قريشيان يتكلمان لغة واحدة.
قال ابن الجزري في معرض رده على القائلين بأن الأحرف هي لغات القبائل:
"وهذه الأقوال مدخولة لأن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم اختلفا في قراءة سورة الفرقان كما ثبت في الصحيح وكلاهما قرشيان من لغة واحدة، وقبيلة واحدة".
هـ واعتبر أن يكون المراد بالأحرف السبعة معاني الأحكام كالحلال والحرام والمحكم والمتشابه والأمثال والإنشاء والخبر أو كالناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمجمل والمبين، والمفسر وغير ذلك من هذه المعاني وسبهها غير صحيح لأن خلاف الصحابة لم يقع في أحكام أو تفسير ما في القرآن وإنما خلافهم كان في كيفية القراءة.
قال ابن الجزري:
"وقال بعضهم المراد بها معاني الأحكام… وهذه الأقوال غير صحيحة فإن الصحابة الذين اختلفوا وترافعوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) كما ثبت في حديث عمر وهشام وأبي ابن مسعود وعمرو بن العاص وغيرهم لم يختلفوا في تفسيره ولا أحكامه وإنما اختلفوا في قراءة الحروف".
وفي هذا الصدد يوجه ابن الجزري ما جاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- بأن ما ذكر في الحديث من المعاني السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي ذكرت في الأحاديث الأخرى، وليس يجمع ببن الأمرين إلا العدد "سبعة.
قال ابن الحزري:
"أن يكون قوله: حلال وحرام إلى آخره لا تعلق له بالسبعة الأحرف ولا بالسبعة الأبواب بل إخبار عن القرآن، أي هو كذا وكذا، واتفق كونه بصفات كونه بصفات سبع كذلك".
وما نلاحظ في مذهب ابن الجزري أنه لم يكن وليد الصدفة ولا محض تقليد ومحاكاة لأراء السابقين وإنما هو ناتج عن إمعان نظر وكثرة تفكير واستشكال دام أزيد من ثلاثين سنة.
ونلاحظ أيضاً أن مذهب ابن الجـزري كان نتيجة لاستقراء جميع القراءات: الصحيحة والشادة والضعيفة والمنكرة ولم يجد بينها وجه اختلاف لم يندرج تحت أحد أنواع الاختلاف السبعة التي ذكرها.
يتبع إن شاء الله...