ثالثاً: تأثره بمنهج الذهبي في طبقاته
إن المتأمل في كتاب معرفة القراء الكبار يجد أن الإمام الذهبي اعتمد في تراجمه على عرض وبيان العناصر التالية:
- اسم المترجم له واسم أبيه وجده وكنيته ونسبته
- ذكر ألقاب المترجم له العملية
- مولد المترجم له
- شيوخه الذين أخذ عنهم
- تلاميذه الذين أخذوا عنه
- حال المقرئ وأقوال أصحاب الجرح والتعديل فيه واعتماد أحدها حال الاختلاف
- ذكر سنة وفاة المترجم له
وإذا ما تصفحنا طبقات ابن الجزري، وتفحصنا منهجه في عرض تراجمه وجدنا المنهج نفسه الذي سلكه الذهبي، وإن كان هناك بعض التصحيحات والإضافات على أقوال الذهبي فهي لا تخرجه عن المنهج الذي اعتمد الذهبي، كما نجد ابن الجزري –أيضاً- يهمل بيان حالة المترجم له الاجتماعية والسياسية والإشارة إلى حوادث عصره وهو ما دأب عليه الذهبي من قبل.
ثالثاً: الإفادة الكثيرة من طبقات الذهبـي
لم يكتف ابن الجزري بأن يسلك منهج الذهبي في طبقاته بل أفاد منه أيضاً في مواضع كثيرة جداًّ، لاسيما في تلك المواقف التي يكون فيها الذهبي شاهداً أوحاضراً أو معاصراً، ومن أهم تلك الأمثلة التي أفاد فيها ابن الجزري من طبقات الذهبي ما ذكره في ترجمة قنبل شيخ القراء بالحجاز من قيامه بشؤون الشرطة بمكة حيث قال: "قال الذهبي: إن ذلك كان في وسط عمره، فحمدت سيرته، ثم إنه طعن في السن وشاخ وقطع الإقراء قبل موته بسـبع سنين".
وأفاد منه أيضاً في ترجمة ابن مقسم البغدادي عند تعرضه لحفظه فقال: "وقال الذهبي: كان أحفظ أهل زمانه لنحو الكوفيين، وأعرفهم بالقراءات مشهورها وغريبها وشاذها"، وأفاد منه كذلك في ترجمة أبي عبد الله التاذفي لدى ذكر مكانته العلمية فقال: "قال الذهبي: حضرت عنده وكتبت عنه، ولم أنشط للجمع عليه، وكان حاذقاً بالفن مليح الحل لرموز الأماني والعقلية وأقام برهة ثم انتقل إلى حماه يقرئ بها ويدرس إلى أن توفي في رمضان...".
رابعاً: اعتماده على ترجيحات الذهبي
كان ابن الجزري في أحيان كثيرة إذا ما عرض لمسائل الخلاف في بعض تراجمه فإنه يميل إلى ترجيحات الذهبي لاسيما في أحوال الرجال وضبط أسمائهم وتحديد تواريخ ميلادهم ووفياتهم، ومن الأمثلة لذلك ما ذكره ابن الجزري في ابن شنبوذ لدى عرضه الاختلاف في عدالته، إذ كان يقرئ بالشاذ الذي يخالف رسم المصحف العثماني، وعقد له مجلس تأديب بسبب ذلك فقال ابن الجزري: "قال الذهبي الحافظ: ...مع أن الخلاف في الجواز ذلك معروف بين العلماء قديماً وحديثاً، فقال: وما رأينا أحداً أنكر القراء بمثل قراءة يعقوب وأبي جعفر، وإنما أنكر القراءة بما ليس بين الدفتين، والرجال كان ثقة في نفسه صالحا ديناً متبحراً في هذا الشأن لكنه كان يحط على ابن مجاهد".
وذهب الذهبي إلى توثيق ابن شنبوذ بناء على أن الإقراء بالشاذ ليس قادحاً لذاته إذا كان المقرئ يعتقد جوازه، على خلاف من أقرأ به وهو يعتقد حرمة ذلك، وهذا الذي رجحه الذهبي مال إليه ابن الجزري فقال: "أبو الحسن البغدادي شيخ القراء بالعراق، أستاذ كبير أحد من رجال في طلب القراءات مع الثقة والخير والصلاح والعلم".
خامساً: اختصاره لكتاب الذهبي تاريخ الإسلام
نلحظ أيضاً أن من ملامح تأثير ابن الجزري بشخصية الذهبي العلمية وبما حوته مؤلفاته من فوائد ودرر أنه قام باختصار كتابه تاريخ الإسلام خدمة للكتاب وتسهيلاً على مبتغيه وطالبيه، إذ بلغ الكتاب نحو اثني عشر مجلداً.
سادساً: ثناؤه على كتاب طبقات القراء
لقد أشار ابن الجزري في ترجمة الذهبي إلى عموم مؤلفاته وخص بالذكر كتاب معرفة القراء الكبار ووصفه بالحسن والجودة فقال: "... وكتب كثيراً وألف وجمع وأحسن في تأليف طبقات القراء"، وليس لهذا الوصف بالحسن إلا دلالة على إعجابه بهذا الكتاب وتأثره به، وفي ختام الحديث عن هؤلاء الذين تأثر بهم ابن الجزري نسجل أن تأثره بهم لم يكن له مانعاً من تعقب أقوالهم والاستدراك عليهم وبيان الصواب في مواطن كثيرة، فقد خالف الشاطبي في عدد مخارج الحروف حيث ذهب الشاطبي إلى أنها ستة عشر مخرجا، بينما ذهب ابن الجزري إلى إنها سبعة عشر.
واستدرك على الداني في تسمية أبي بكر السلمي حيث سماه محمد بن عبد الوهاب، فقال: "... وقال فيه الداني محمد بن عبد الوهاب فأسقط اسم أبيه"، وأستدرك أيضاُ على الذهبي في شأن إسماعيل بن مسلم المكي: "فقال: وقال الحائط الذهبي: هذا المكي لا يعرف" فقال: الجزري: "قلت: بل هو معروف قرأ على ابن كثير ولكنه ضعيف"، ومن خلال هذا برزت شخصية ابن الجزري وظهر استقلاله العلمي.
المبحث الثاني: أثـر ابـن الجـزري فيمـن جـاء بعـده
لا شك أن ابن الجزري بشخصيته العلمية الفذة قد ترك أثراً كبيراً لدى تلاميذه ولدى من جاء بعدهم من خلال جهوده التي بذلها في مجالسه إقراء وتحديثاً، ومن خلال آثاره ومؤلفاته الجياد في علم القراءات والحديث والتراجم وبيان مدى ذلك التأثير في المطلبين التاليين:
المطلب الأول:
أثره في تلاميذه وأصحاب الشروح والمختصرات والترجمات
أولاً: أثره في تلاميذه
لقد تبين مما تقدم من تلاميذ ابن الجزري أنه قد تتلمذ عليه عدد كثير من طلبة العلم لاسيما في علم القراءات، وكان الكثير منهم قد تأثر به فسلك مسلكه واقتفى أثره في الإقراء والتأليف، فمنهم من حفظ بعضاً من كتبه. فهذا ابنه أبو بكر أحمد قد حفظ النشر في القراءات العشر وتقريبه وطيبته وشرح عدد منها، وذلك ابنه الآخر أبو الخير محمد قد حفظ المقدمة الجزرية وذلك محمد بن محمد ميمون البلوي قد حفظ اللامية.
ومنهم من ألف وصنف في القراءات والتجويد تأثراً به، ومن هؤلاء إبراهيم بن عمر البقاعي الذي صنف كتابه القول المفيد في أصول التجويد، وألف كتابه: كفاية القارئ في رواية أبي عمرو، ومنهم الإمام محمد بن محمد أبو القاسم النويري الذي ألف في القراءات الثلاث وشروحها ومنهم من قام بشرح بعض مؤلفات شيخه كما فعل عثمان بن عمر الزبيدي الناشري الذي قام بشرح منظومة الدرة، والإمام أبو القاسم النويري الذي شرح طيبة النشر في مجلدين.
ومنهم من تصدر للإقراء ببلدة اقتفاء أثر شيخه كطاهر بن محمد بن علي بن مكين النويري الذي ولي الإقراء بالجامع الطولوني، وخطاب بن عمر بن مهنا بن يوسف بن يحي الغزاوي العلجوني الدمشقي الذي تصدر للإقراء بدمشق وصار المشار إليه بها، وأحمد بن أسد بن عبد الواحد الأسيوطي الذي ظل زمانا يقرئ الناس إلى أن مات، وعلي بن حسن الخرمابادي الذي ولاه ابن الجزري مدرسته القرآنية التي أنشأها بدمشق فظل على مشيختها حتى أدركته منيته، والشيخ محمد بن أبي بكر الحمصاني الذي تصدى للإقراء وولي مشيخة القراءات بالمدرسة الشيخونية.
وهذا ابنه أبو الفتح تولى جميع وظائف أبيه من إقراء وتدريس وخطابة... بعد ما هاجر نحو بلاد الروم، وظل أبو الفتح على تلك الوظائف إلى أن مات فخلفه فيها أخوه، ومن هذا يتضح مدى تأثر هؤلاء التلاميذ والأبناء بشيخهم ومدى اقتفائهم أثره ومدى سيرهم على نهجه.
ثانياً: أثره في أصحاب الشروح والمختصرات والترجمات
لم يكن أثر ابن الجزري حبيس تلاميذه في حياته بل أمتد ذلك بعد موته من خلال مؤلفاته النافعة الغزيرة حيث حفل بعضها بشروح وبعضها بمختصرات وبعضها بترجمة إلى لغات أخرى.
وإليك بيان بعض أولئك المتأثرين:
1- أصحاب الشروح
لقد كانت قصائد ابن الجزري موجزة مختصرة معتمدة على الأسلوب الرمزي وملغزة أحياناً ، فكانت بذا تقتضي شرحاً ميسراً لتكون في متناول الطلبة والباحثين، ومن عكف على شرح قصائده من يلي:
أ – شراح متن الدّرة المضية
لقد قام بشرح هذه المنظومة المشتملة على القراءات الثلاث جماعة من المشتغلين بفن القراءات والمهتمين بإيضاح مسائله ومن أولئك:
-عثمان بن عمر الناشري الزبيدي وأسمى شرحه الإيضاح على متن الدرة.
- جمال الدين حسن بن علي الحصني المتوفي سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وسمى شرحه الغرة في شرح الدّرة.
- على بن حسين الصعيدي الرملي المتوفي بعد سنة ثلاثين ومائة وألف والذي سمى شرحه المنح الإلهية في شرح الدرة المضية وهو بصدد التحقيق من طرف صاحبنا الأستاذ المقرئ زياد أحمد الحج الطرابلسي اللبناني.
- وعبد الفتاح القاضي الذي سمى شرحه الإيضاح لمتن الدرة.
ب – شراح متن الطيبة
قام بشرح هذه المنظومة المشتملة على القراءات العشر من طرقها الثمانين كل من:
- أحمد ابن المؤلف.
- أبو القاسم النويري.
جـ - شارح العقد الثمين
قال في كشف الظنون: "العقد الثمين… شرحه سراج الدين أبو حفص عمر بن قاسم الأنصاري وسماه العقد الجوهري في حل ألغاز الجزري".
د – شرح المقدمة
أول الشارحين لهذه المقدمة المشتملة على أحكام التجويد أبو بكر أحمد ابن المؤلف وسمى شرحه الحواشي المفهمة لشرح المقدمة.
- الشيخ زكريا الأنصاري المتوفى سنة ست وعشرين وتسعمائة والذي وضع حاشيته على شرح أبي بكر وسماها الحواشي المفهمة في شرح المقدمة، وله أيضا شرح غير هذا وهو المشهور بشرح شيخ الإسلام.
- أبو العباس أحمد بن محمد القسطلاني المتوفى سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة وسمى شرحه العقود السنية في شرح المقدمة الجزرية.
- الشيخ رضي الدين محمد بن إبراهيم الحلبي المعروف بابن الحنبلي المتوفى سنة ستين وتسعمائة وسمى شرحه الفوائد السرية في شرح المقدمة الجزرية.
- المولى عصام الدين أحمد بن مصطفى الشهير بطاش كبرى زاده المتوفى سنة ثماني وستين وتسعمائة.
- الشيخ خالد بن عبد الله الأزهري المتوفى سنة خمس وتسعمائة والذي سمي شرحه بالحواشي الأزهرية في حل ألفاظ المقدمة الجزرية.
2 – أصحاب المختصرات
نظر لأهمية كتاب النشر في القراءات العشر وكبر حجمه وتشعب مسائله قام باختصاره وتهذيبه من بعد اختصار المؤلف له كل من:
- القاضي أبو الفضل محمد بن محمد بن محمد بن الشحنة الحلبي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة.
- الشيخ مصطفى بن عبد الرحمان الإزميري الرومي الحنفي المتوفى سنة خمس وخمسين ومائة وألف، في نحو النصف.
3 – المترجمين إلى اللغات الأجنبية
لقد حظيت بعض مؤلفات ابن الجزري شهرة عالية لما تضمنه من نوادر ودرر ونفائس في مسائل علم القراءات وتمكينا للطلاب غير العرب قام بعضهم بترجمة ما رآه هاما وكان قد تأثر به إلى لغته.
ومن بين هؤلاء:
- الشيخ محمد بن عمر المعروف بقرود المتوفى سنة ستة وتسعين وتسعمائة الذي قام بشرح المقدمة في التجويد باللغة التركية.
- والشيخ أصيل الدين عبد الله بن عبد الرحمان الحسيني الواعظ الذي ترجم عدة الحصن الحصين إلى اللغة الفارسية وذلك سنة سبع وثلاثين وثمانمائة.
- والشيخ يحيى بن عبد الكريم الذي ترجم الحصن الحصين إلى التركية وسماه مصباح الجنان.
المطلب الثاني: أثره في أصحاب الإفادات
لقد ظلت مؤلفات ابن الجزري في علم القراءات مصدراً أساساً ومورداً هاماً للمهتمين بالدراسات القرآنية من بعده ولا أكون مبالغاً إذا قلت: إنه لا يسع الباحث في فن القراءات أن يستغني عن مؤلفاته لما حوته من صحيح القراءات والروايات والطرق ولما تضمنه من مسائل كانت غاية في الدقة وأراء كانت غاية في السداد.
وممن استفاد من آثار ابن الجزري وأرائه من العلماء الأئمة الثلاثة:
- الشيخ أحمد بن محمد الدمياطي الشهير بالبناء.
- الشيخ متولي.
- الشيخ عبد الفتاح القاضي.
واختياري لهؤلاء الثلاثة بقصد التمثيل فقط لا بقصد الحصر وإلا فكل من جاء بعده كان عالة على أراءه وتحقيقاته، وبيان مدى تأثر هؤلاء الثلاثة به فيما يلي:
أولاً: الشيخ البنـاء
الشيخ البناء هو أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الغني الدمياطي الشافعي الشهير بالبناء، إمام مقرئ حفظ القرآن مبكراً ثم رحل إلى القاهرة وأخذ القراءات على شيوخها، وبلغ من الدقة والتحقيق غاية قلّ من يدركها، وألف جملة من المصنفات منها كتاب إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربع عشرة أظهر فيه سعة إطلاعه وزيادة اقتداره، حيث ذكر فيه جملة من العلوم القرآنية: القراءات والرسم القرآني وعد الآي وكانت له عناية فائقة بتوجيهات القراءات كما تضمن كتابه فوائد أخرى توفي سنة سبع عشرة ومائة وألف.
وكان الشيخ البناء في كتابه الإتحاف ظاهر التأثر بالإمام ابن الجزري ونلمح ذلك من خلال النقاط التالية:
1- اعتماده على مؤلفات ابن الجزري:
لقد كان اعتماد البناء في كتابه الإتحاف على كتاب النشر وتقريبه وطبية وشروحها، وهو ما صرح به البناء نفسه في قوله لدى في مقدمته فقال: "...فخطر لي... أن ألخص ما صح وتواتر من القراءات العشر حسبماً تضمنته الكتب المعتمدة المعول عليها ككتاب النشر في القراءات العشر وطبيته وتقريبه للشيخ الذي ترجموه بأنه لم تسمح الأعصار بمثله، ووصف كتابه النشر بأنه لم يسبق بمثله، وكشرح طيبته للإمام أبي القاسم العقيلي الشهير بالنويري".
2 – الإفادة الكثيرة من مؤلفات ابن الجزري
لقد استفاد البناء كثيراً من مؤلفات ابن الجزري وربما كان ينقل عنه بعض المسائل كاملة ويوردها في كتابه على أنها مسلمة لا خلاف فيها، ومن ذلك ما ذكره في تعريف القراءات والمقرئ والقارئ... فقال في المقرئ: "والمقرئ من علم بها أداءً ورواها مشافهة، فلو حفظ كتاباً امتنع عليه إقراؤه بما فيه إن لم يشافهه من شيوخه مسلسلاً، لأن في القراءة شيئاً لا يحكم إلا بالسماع..."، وهذا التعريف هو نفسه الذي ذكره ابن الجزري في منجد المقرئين ولم يذكر البناء غيره من التعاريف مما يدل أنه يتبنى هذا التعريف ولا يرى غيره.
3 – سلوكه منهج النشر في إيراد الطرق
لقد عمد البناء في كتابه الإتحاف إلى إيراد كل قراءة من روايتين وكل رواية من طريقتين، وهذا هو الذي سلكه ابن الجزري في النشر خلافاً للشاطبي والداني الذين أوردا كل رواية من طريق واحدة فقط، وما خالف ابن الجزري إلا في عدد القراءات حيث جعل إتحافه في القراءات الأربع عشرة، وأيضاً مما أخذه البناء عن ابن الجزري طريقة التأليف حيث جعل الإتحاف على مقدمة وقسمين، أما المقدمة فقد ضمنها مقدمات في علم القراءة وأما القسم الأول فقد تناول فيه أصول القراء وأما القسم الثاني فقد تناول فرش الحروف وخلاف الأئمة القراء، وهذه الطريقة نفسها التي اتبعها ابن الجزري في النشر.
4- اعتماده أراء ابن الجزري
إن الإمام البناء يركن ويجنح إلى أراء ابن الجزري في المسائل الخلافية في علم القراءات ولا يلتفت إلى غيرها إلا نادراً، وهو ما يظهر مدى تأثره به، ومن ذلك مثلاً ما ذهب إليه في تواتر القراءات الثلاث حيث قال: " القراءات بالنسبة إلى التواتر وعدمه ثلاثة أقسام: قسم أتفق على تواتره، وهم السبعة المشهورة وقسم اختلف فيه والأصح بل الصحيح المختار المشهور تواتره كما تقدم، وهم الثلاثة بعدها، وقسم اتفق على شذوذه وهم الأربعة الباقية.
وهذا القول يظهر رأيه في القراءات الثلاث ويظهر ميله إلى رأي ابن الجزري الذي قام بتحقيق المسألة وأبدع في عرض أدلتها والرد على المخالفين، ومن ذلك أيضا ما ذهب إليه في مسألة تعيين حد التواتر حيث رأى رأي ابن الجزري بألا تعيين، وعبر عن رأيه بسوقه عبارة ابن الجزري نفسها فقال: "والمراد بالتوتر ما رواه جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب من البداية إلى النهاية من غير تعيين عدد على الصحيح، وقيل بالتعيين سنة أو اثنا عشر أو عشرون أو أربعون أو ستون وهذا هو رأي ابن الجزري بل قوله ولفظه.
ثانياً: الإمام متولي
الإمام متولي هو أحمد بن عبد الله الضرير الشهير بمتولي مقرئ مشارك في كثير من العلوم الشرعية والعربية، ولد بالقاهرة وتخرج بالأزهر الشريف وصار ينعت بشيخ القراء، وأسندت إليه مشيخة الإقراء بالديار المصرية في سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف، توفي سنة ثلاث عشر وثلاثمائة وألف.
وخلف متولي تسعة وأربعين مؤلفاً من المؤلفات المفيدة في القراءات وغيرها من العلوم القرآنية وأهمها ما يلي:
- تحقيق البيان في المختلف فبه من آي القران.
- تهذيب النشر وخزانة القراءات العشر.
- الروض النضير في أوجه الكتاب المبين.
- الضوابط الكبرى في تحرير القراءات العشر.
- فتح الكريم في تحرير أوجه القرآن الحكيم.
- الفائدة السنية والدرر البهية في تحرير وجه التقليل في الألفات التي قبل راء للسوسي من طريق الشاطبية.
- الوجوه المسفرة في القراءات الثلاث.
وكان الإمام متولي قد تأثر بالإمام ابن الجزري أيما تأثر.
ونلمح ذلك من خلال الآتي:
1- الإفادة الكثيرة من كتب ابن الجزري
لقد أفاد الإمام متولي كثيرا من مؤلفات ابن الجزري في علم القراءات وربما كان ينظم ما هو منثور عند ابن الجزري أو ينثر منظوماً أو يلخص مسألة أو يحرر أوجهها من كتاب النشر، ومن أشهر كتبه التي ظهر فيها ذلك فتح الكريم في تحرير أوجه القرآن الحكيم الذي جاء في مقدمته:
وينبـئ عمـا أضمرتـه مفصــلاً
ودونك تذييـلا يحل رمـوزهـا
ووافيـت مـن فيض البدائـع منهلاً
ومن أصلها السامي نظمت قلائـد
وقال في شرح هذه الأبيات: "أصول هذه النظم ثلاثة: أحدها أصل الطيبـة وهو كتاب النشر، وقد أعانني الله على تلخيصه في ثلاث مجلدات"، وأما كتابه الوجوه المسفرة فما هو إلا نثر لدرة ابن الجزري، وأما منظومته في التكبير فهي ليست إلا تلخيصاً لباب التكبير في النشر.
2 – إعجابه الشديد بابن الجزري
لقد كان الإمام متولي معجباً أيما إعجاب بشخصية ابن الجزري فراح يفصح عن ذلك في تبجيله والثناء عليه والاستنارة بنوره حين يضيق صدره.
فقال في حاشية الروض المنير:
وعـم به نفـع الوجـود بأســره
إمام على كل البرية فضلــه
بطيبـة من نظمــه وبنشـــره
هو الجزري الحبر حسبك يا فتى
إذا ضاق صدري استنرت بنـوره
لقد كان في الإسلام عدلاً وإننـي
ثالثاً: الشيخ عبد الفتاح القاضي
الشيخ القاضي هو عبد الفتاح بن عبد الغني بن محمد القاضي، ولد في الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة، حفظ القرآن الكريم وجوده ثم أخذ القراءات العشر على غير واحد من الثقات الأثبات، وقام بتحصيل علوم القرآن والتفسير والنحو والفقه على شيوخ الاسكندرية وكانت دراسته النظامية بمعاهد الأزهر الشريف الأولية والثانوية، وحصل على الشهادة العالية النظامية سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف.
تولى رئاسة قسم القراءات التابع لكلية اللغة العربية بالأزهر، ثم عين مفتشاً عاماً بالمعاهد الأزهرية ثم شيخاً لمعهد القراءات بالقاهرة ثم رحل إلى المدينة المنورة وعين رئيساً لقسم القراءات بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، وكان له دور هام في وضع مناهج هذا القسم وتطويرها والإشراف على تنفيذها.
وأهم إنجازاته تتمثل فيما يلي:
أ – الإقراء والتعليم
كان له دور هام في تنشيط حركة الإقراء ودفع عجلته، فقد مكث يقرئ من سنة خمس وخمسين حتى سنة ثلاث وأربعمائة وألف السنة التي توفي فيها، وكان قد قرأ عليه جماعات لا تحصى عدداً ومن أولئك الدكتور عبد العزير القارئ والشيخ عبد الرحمان الحذيفي إمام المسجد النبوي اليوم والشيخ إبراهيم الأخضر إمام أيضاً بالمسجد النبوي حالياً الذي قرأ عليه القراءات الثلاث بمضمن الدرة وأكمل عليه ختمته.
ب – الإسهام في تصحيح المصاحف بمصر
كان الشيخ القاضي رئيساً للجنة تصحيح المصاحف وكان يمتاز بدقة الملاحظة عند التصحيح.
ج – التأليف في علم القراءات: وأهم مؤلفاته ما يلي:
- الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع.
- الإيضاح لمتن الدرة في القراءات الثلاث.
- البدور الزاهرة في القراءات العشر.
- النظم الجامع لقراءة نافع، وشرحه.
- القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب.
- شرح المقدمة الجزرية.
- القراءات في نظر المستشرقين، وغير ذلك.
ويظهر تأثير الشيخ القاضي بالإمام ابن الجزري من خلال الملامح التالية:
1 – الاعتماد على مؤلفات ابن الجزري
وذلك ما نجده في كتابه البدور الزاهرة حيث أن كل ما أورده فيه من طرق فهو ما ثبت في نظم الدرة وفي نظم الشاطبية ولم يورد القاضي طرقاً أخرى من غير هذين الطريقين.
2 – خدمته لبعض مؤلفات ابن الجزري
وظهر ذلك من خلال شرحه لمنظومة ابن الجزري الدرة المضية في القراءات الثلاث المرضية في كتاب أسماه الإيضاح لمتن الدرة، وأيضاً قام بشرح منظومة المقدمة الجزرية لما اشتملت عليه من المسائل المجملة في علم التجويد، كما قام بتحقيق كتاب ابن الجزري تحبير التسيير في قراءات الأئمة العشر وعلق عليه.
3 – اعتماده كتب ابن الجزري في مناهج قسم القراءات
لقد شرف الشيخ القاضي بتكليفه بوضع مناهج قسم القراءات بكلية القرآن الكريم فكان مما اعتمده في تدريس القراءات الثلاث منظومة ابن الجزري الدرة وشروحها، كما اعتمد مذهب ابن الجزري في جمع القراءات كمنهج لتلقي القراءات جمعاً -فبذلك كان شيوخ الكلية يقرئون الطلاب- وهذا المنهج لا يزال معمولاً به معولاً عليه إلى يومنا هذا.