منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 زاد الطالب في أصول الفقة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقة Empty
مُساهمةموضوع: زاد الطالب في أصول الفقة   زاد الطالب في أصول الفقة Emptyالأربعاء 12 مارس 2014, 10:34 pm

زاد الطالب في أصول الفقة Z

زاد الطالب في أصول الفقة

الجزء الأول

ابو البراء المصري

مقدمة

إن الحمد لله... نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 102) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء: 1). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) الأحزاب 70-71.

أما بعد...

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأن خير الهدى هدى نبيه محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأن شر الأمور محدثاتها، وأن كل محدثة بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار.

ثم أما بعد...

فإن شرف العلم لا يخفى، وهو درجات ومنازل تعرف بما تتصل به، فسموها من سموه، وقدرها من قدره، فلذا كان أعلاها علوم الدين التي تدرك بها معانيه وأسراره، وإنما شرفت وعظم قدرها لصلتها بالله رب العالمين، فهي العلوم الموصلة في الحقيقة إليه، وهذا معنى أكبر من علوم الشريعة المقننة بالاصطلاح، بل هو شامل لما يحقق من العلوم أسباب الوصول إلى الله عز وجل. فيندرج تحته كل علم أدى إلى هذه الحقيقة, وإن ألصق بالدنيا في عرف الناس، لكن من العلم ما يصير إلى هذه الحقيقة بالمقاصد والنيات، وما من إنسان يسعى لتحصيلها فيجد لذتها عند الطلب إلا وجرته بنفسها إلى الإخلاص كما قال مجاهد -رحمه الله-: "طلبنا هذا العلم، وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله بعد فيه النية". وأعظم العلوم التي يدرك بها مراد الله تعالى ومراد ورسوله -صلى الله عليه وسلم- "علم أصول الفقه"، فإن الله تعالى أمر بتدبر كتابه فقال:(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) ص: 29، كما قال:( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) محمد: 24، وقال:( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) النساء: 82.


وأعظم ما يؤتاه الإنسان من المعرفة:

فقه في دينه, يعرفه بمعبوده تبارك وتعالى ويوصله به، وذلك له من المغاليق التي لا تفتح إلا بالإخلاص, وسؤال الله تعالى التوفيق مع بذل الجهد في استعمال الآلة التي هي مفاتيح ذلك, والفتح فيها علامة على أن الله تعالى أراد الخير بصاحبها، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين", وتلك الآلة هي "علم أصول الفقه". ولما كان أصول الفقه من علوم الآلة, لا من العلوم التي تقصد لذاتها وإنما للتوصل إلى الفقه في الدين ومعرفة الحلال من الحرام بطريق يطمئن إليها العالم ويقتنع بها طالب العلم، أحببت أن أدلى بدلوي وأخط بقلمي فأكتب في هذا العلم, مع مراعاة حسن العرض وسهولة البيان وتيسير الألفاظ، حتى يستطيع القارئ أن يستوعب هذا العلم ويهضمه بدون تعقيد أو غموض، وهذا هو الهدف من تصنيف هذا الكتاب وهو أن يفهم القارئ الغير متخصص وطالب العلم المبتدئ بعض جوانب هذا العلم. وفي هذا الكتاب سوف نحاول بإذن الله أن نعطي للقارئ الكريم, ولطالب العلم المبتدئ تصوراً عاماً عن علم أصول الفقه ما هو؟ وما خصائصه؟ وما مصادره؟ نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل متقبلاً، ولوجهه تعالى خالصاً، وأن ينفع به المسلمين والمسلمات إنه ولى ذلك والقادر عليه.


الباب الأول: التعريف بعلم أصول الفقه

إن الحياة البشرية على الأرض بثقلها ومسؤولية الحفاظ على توازنها ليس هينة العبء ولا سهلة القياد، وذلك لما تتضمنه من عمق وتشعّب ودقة، وما تزدحم به من رغبات تتفق وتختلف، ومصالح تتعارض وتصطلح، ومطامح تلتقي وتفترق، وأمزجة تصفو وتتكدر، وأصناف من السلوك، وأنواع من الظروف، وبما فيها من شعوب تتباين استعداداتها وأهدافها، وقبائل تتنوع مساعيها، وبما يعتريها من أحداث الزمن وتقلبات الأيام وصروف الدهر، وبما يلابسها من لمسات الخير ووخزات الشر، وما ينتظمها من حركة لا تتوقف، وبما تتطلبه من علاقة بمبدع الوجود وعلائق بالمخلوقات عموما وبين البشر على وجه الخصوص. هذه الحياة لا بد لها من ميزان تنضبط به أمورها وترجع إليه مبهماتها وتوزن به اختلافاتها، وتقاس به جميع حالاتها. ولقد وهب الخالق سبحانه وتعالى للإنسان العقل ليميز به ويزن به الأمور، ولكنه لم يترك هذا العقل يتخبط وحده في متاهات الحياة، والعقل عرضة للتأثر باضطرابات النفوس واعتلال الأجسام ومؤثرات البيئة... الخ، فجاء عونه تعالى للعقل البشري ببيان مرتكزات مصالح البشر التي تشمل مصالحهم في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة، فبيّن للناس أصول النظم التي يسيرون بها الحياة ويبصرون بها الطريق حتى يحقق الإنسان معنى خلافته في الأرض. يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة: وحتى يستطيع الاهتداء والسير بلا عثرات، وحتى يطمئن للغايات الصالحة كان هذا العون الإلهي للعقل البشري عن طريق وحيه تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام وعصمته له، فتجلت في القرآن الكريم والسنة الشريفة أصول الأحكام الفقهية ومرتكزاتها، فقد فصل لنا هذان المصدران ما فصّلا من الأحكام وتضمّنا من المبادئ والقواعد والتوجيهات العامة ما يقود العقول إلى سواء السبيل. وبمجهودات الصحابة -رضي الله عنهم- وما نقلوه عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من شرح وتوضيح وتوجيه، وبمجهودات أئمة الأجيال التي أعقبت الصحابة -رضي الله عنهم- جاء البيان لهذه المصادر واتضحت المناهج التي يمكن اتباعها لاستمداد الأحكام التي يعتمد عليها الناس في مسارهم، وبذلك تكون علم ذو شأن خطير وأهمية بالغة هو علم أصول الفقه الإسلامي. ومن المعلوم أن الفقه الإسلامي الذي يقوم على هذه الأصول هو ميدان فسيح يشتمل على إجابات لجميع شؤون الناس وحاجتهم، ومن هنا يمكن للناظر إدراك أهمية علم الأصول وخطورته والمكانة الرفيعة التي يحتلها بين العلوم، لأنه الأساس للأحكام التي تحدد مسار الخلق وترسم طريقهم الموصل لبلوغ مصالحهم قبل الممات وبعد الممات. وكما يتوصل بعلم الأصول لمدارك الأحكام ومسالكها كذلك يتوصل به لمقاصد الأحكام وأهداف الشريعة وروحها مما يطمئن القلوب والعقول.

قال القاضي العضد:

"فإن من عناية الله تعالى بالعباد أن شرع الأحكام، وبين الحلال والحرام سبباً يصلحهم في المعاش، وينجيهم في المعاد، ولما علم كونها متكثرة، وأن قوتهم قاصرة عن ضبطها منتشرة، ناطها بدلائل، وربطها بأمارات ومخايل ورشح طائفة ممن اصطفاهم لاستنباطها، ووفقهم لتدوينها بعد أخذها من مأخذها ومناطها. وكان لذلك قواعد كلية بها يتوصل، ومقدمات جامعة منها يتوسل، أفردوا لذلك علما أسموه أصول الفقه، فجاء علماً عظيم الخطر، محمود الأثر، يجمع إلى المعقول مشروعاً، ويتضمن من علوم شتى أصولاً وفروعاً". ويظهر فضل علم أصول الفقه وشرفه من جهة عموم موضوعه، إذ أن أصول الفقه يحتاج إليه المفسر والمحدث والفقيه، ولا شك أن ما كانت الحاجة إليه ماسة في علوم عديدة، يزداد شرفه وفضله على غيره مما ليست الحاجة إليه كذلك, وكذلك يظهر فضله من جهة اشتراك العقل والنقل فيه.

قال الإمام الغزالي:

"وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول, ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد. ولأجل شرف علم الفقه وسببه وفر الله دواعي الخلق على طلبه, وكان العلماء به أرفع العلماء مكاناً, وأجلهم شأناً, وأكثرهم أتباعاً وأعواناً". كما أن أصول الفقه يظهر فضله من جهة أن الفقه محتاج إليه ومستند عليه، والفقه له فضل وشرف، فالأصول التي هي مستمدة ومستندة أفضل وأشرف.

ولذلك يقول ابن برهان:

"فاعلم وفقك الله وأعانك أن أجل العلوم قدراً, وأسماها شرفاً وذكراً علم أصول الفقه، وذلك لأن الفقه أجل العلوم قدراً، وأسماها شرفاً وذكراً، لما يتعلق به من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وإنما يعرف شرف الشئ وقدره بتقدير فقده وتصوير ضده. ولو قدرنا فقد هذه المراسم المرعية، والأحكام الشرعية، الموضوعة لأفعال الإنسانية، لصار الناس فوضى هملاً مضاعين، لا يأتمرون لأمر آمر  ولا ينزجرون لزجر زاجر، وذلك من الفساد في العباد والبلاد ما لا خفاء به. وإذا عرفت هذا، وعرفت أن الفقه ومرتبته، فما ظنك بأصوله التي منها استمداده، وإليها استناده؟ فمن الواجب على كل من اشتغل بالفقه أن يصرف صدراً من زمانه إلى معرفة أصول الفقه ليكون على ثقة مما دخل فيه قادراً على فهم معانيه".

يقول الإمام الشوكاني:

"فإن علم أصول الفقه هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يلجأ إليه عند تحرير المسائل وتقرير الدلائل في غالب الأحكام".

         

تعريف علم أصول الفقه:

قسم علماؤنا -رحمه الله عليهم- تعريف علم أصول الفقه إلى قسمين وهما:

-تعريف أصول الفقه باعتباره علماً ولقباً على الفن المعروف يمكن تعريفه بأنه: "أدلة الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد". وقد اشتمل هذا التعريف على ثلاثة من مباحث علم الأصول الأربعة وهي:

الأدلة، وطرق الاستنباط، والاجتهاد، وذلك كما يلي:

1ـ: "أدلة الفقه الإجمالية"، وهي: الأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها.

2ـ: "كيفية الاستفادة منها", أي: كيفية استفادة الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية، والمقصود بذلك طرق الاستنباط، مثل: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والمنطوق والمفهوم.

3ـ: "حال المستفيد", أي: المجتهد, ويدخل في ذلك مباحث التعارض والترجيح، والفتوى لأنها من خصائص المجتهد، وتدخل مباحث التقليد أيضاً لكون المقلد تابعاً له.

بقي من مباحث علم الأصول رابعها وهو: مبحث الأحكام، وهذا المبحث لا يدخل في هذا التعريف باعتبار أن موضوع أصول الفقه هو الأدلة، فتكون الأحكام بهذا الاعتبار مقدمة من مقدمات علم أصول الفقه غير داخلة في موضوعه.

وعلى كل فإن مباحث هذا العلم أربعة:

الأدلة، وطرق الاستنباط، والاجتهاد، والأحكام, وعند التأمل نجد مبحث الأحكام من المباحث الثابتة في هذا العلم، سواء ذكر في التعريف أم لم يذكر، وسواء اعتبر موضوعاً لعلم الأصول أم لم يُعتبر.

-أما تعريف أصول الفقه باعتباره مركباً من كلمتين "أصول" و "الفقه" فإن هذا يحتاج إلى تعريف هاتين الكلمتين.

 تعريف الأصل لغة.

فالأصول: جمع أصل، وهو في اللغة يطلق على معان متعددة, منها:

أن الأصل هو: ما يستند وجود الشئ إليه، فالأب أصل الولد، والنهر أصل الجدول.

والأصل هو: منشأ الشئ، مثل القطن فإنه أصل للمنسوجات، لأنها تنشأ عنه.

والأصل: ما يبتنى عليه غيره, سواء كان البناء حسياً أم معنوياً.

 تعريف الأصل اصطلاحاً:

وأما الأصل في الاصطلاح فإنه أطلق على عدة معان، وقد ذكر ابن النجار الفتوحي أن إطلاق الأصل في الاصطلاح على ما يسمى بـ "الدليل" غالباً, كقولهم "أصل هذه المسألة الكتاب والسنة", أي: دليلها، ويُطلق على غير ذلك، إلا أن هذا الإطلاق هو المراد في علم الأصول.

 تعريف الفقه لغة:

اختلف العلماء في معنى الفقه في اللغة على أقوال متعددة أرجحها:

الفقه: مطلق الفهم, سواء أكان فهماً للأشياء الدقيقة، أم فهماً للأشياء الواضحة، وسواء أكان فهماً لغرض المتكلم أم لغيره. وعلى هذا يُقالُ: فقهتُ أن السماء فوقنا، كما يقال: فقهت النحو، أو أصول الفقه. وقد قال بهذا المعنى للفقه أكثر العلماء.

 تعريف الفقه اصطلاحاً.

تعددت عبارات الأصوليين في معناه اصطلاحاً، وفي كثير ما ذكروه تكرار  ولا يسلم من المناقشة التي ترد عليه. وسنكتفي هنا بذكر المعنى الشائع المتداول بين الأصوليين، وهو أن الفقه هو: "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية".

شرح التعريف:

قوله "العلم": جنس في التعريف يشمل كل علم سواء أكان بالذات كزيد  أم بالصفات كسواده، أم بالأفعال كقيامه، أم بالأحكام كالإيجاب. والمراد بالعلم: مطلق الإدراك الشامل للظن واليقين، وليس المراد به التصديق اليقيني, لأن أكثر مسائل الفقه ظنية.

وقوله: "بالأحكام": جمع حكم, وهو قيد أخرج العلم بما لا حكم فيه, كالذوات والصفات والأفعال, والحكم يراد به هنا: إثبات أمر لآخر, أو نفيه عنه.

وقوله "الشرعية": نسبة إلى الشرع، وهي الأحكام المأخوذة من الشرع  أي: من أدلته مباشرة، أو بواسطة الاجتهاد، كقولنا: الصلاة واجبة، والربا حرام. وكلمة "الشرعية" قيد ثان في التعريف، يخرج به الأحكام العقلية، مثل: الواحد نصف الاثنين، والكل أكبر من الجزء, والأحكام الحسية, مثل: النار محرقة، والشمس طالعة.

وقوله "العملية": نسبة إلى العمل، أي: المتعلقة بما يصدر عن الناس من أعمال كالصلاة والزكاة والصوم والبيع، وهذا قيد ثالث يخرج به الأحكام الشرعية غير العملية مثل الأحكام الاعتقادية، فإن العلم بها لا يسمى فقهاً في الاصطلاح, لاختصاص الفقه بالعلم بالأحكام العملية.

وقوله "المكتسب": الحاصل بعد أن لم يكن، وهو قيد رابع في التعريف يخرج به علم الله تعالى، لأن علمه جل وعلا لا يوصف بكونه مكتسباً، إذ علمه سبحانه أزلي قديم.

وقوله "من أدلتها": أي: من أدلة الأحكام الشرعية العملية، وهو جار ومجرور متعلق بالمكتسب, يخرج به علم الله جل وعلا فإنه أزلي، وعلم جبريل عليه السلام فإنه حصل بإعلام الله له ولا كسب له فيه، وعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما أوحي إليه فإنه علم لدُني فلا يسمى فقهاً في الاصطلاح.

وقوله "التفصيلية": أي: الأدلة الجزئية التي تتعلق بالمسائل الجزئية، فيدل كل واحد منها على حكم جزئي، لأن بحث الفقيه في الجزئيات لأن غرضه الوصول إلى الأحكام الجزئية، والأحكام الجزئية تؤخذ من الأدلة التفصيلية.

كقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) البقرة: 43, الذي يدل على حكم بعينه، وهو وجوب الإقامة لفعل من أفعال المكلفين وهو الصلاة، ووجوب الإيتاء لفعل من أفعال المكلفين وهو الزكاة.

وكقوله: (ولا تقربوا الزنى) الإسراء: 32, الذي يدل على حكم بعينه وهو التحريم لهذا الفعل.


نشأة علم أصول الفقه:

أصول الفقه ككثير من العلوم الإسلامية لم يأخذ شكله النهائي الذي يميزه عن سائر علوم الشريعة إلا في آخر القرن الثاني، أما في العهد النبوي وعهد الصحابة وأوائل عهد التابعين فلم يكن أصول الفقه علماً مستقلاً متميزاً عن غيره من علوم الشريعة، ولكن قواعده العامة كانت موجودة منذ عهد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالأدلة الشرعية التي هي موضوع هذا العلم الرئيس كانت معروفة، والاستدلال بالكتاب والسنة والقياس كان حاصلاً في عهد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ودلالة الكتاب والسنة كانت معروفة للصحابة -رضي الله عنهم- بحكم معرفتهم بلغة العرب التي نزل بها القرآن وتكلم بها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهم أمراء الفصاحة والبيان، وأعرف الناس بمعاني اللغة من حقيقة ومجاز، وإطلاق وتقييد، وعموم وخصوص، ومنطوق ومفهوم، ولم يكونوا بحاجة إلى أن توضع لهم قواعد تبين طرق الدلالات. وهم بالإضافة إلى ما سبق قد عرفوا أسباب النزول، والظروف التي قيلت فيها الأحاديث القولية، وشهدوا الحوادث التي قضى فيها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقضاء أو سنَّ فيها سنة، فأغناهم ذلك عن كثير مما احتاج إليه المتأخرون، وكانوا يجمعون إلى ذلك سلامة النية وحسن القصد في طلب الحق من غير هوى ولا تعصب. وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يفزعون إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما يعرض لهم من الحوادث، فإن كان الحكم قد أوحي إليه به أفتاهم وأرشدهم، سواء أكان الوحي متلواً أم غير متلو، وإن لم ينزل عليه في ذلك وحي صريح نظر فيما أوحي إليه، فإن ظهر له حكم المسألة أخبرهم به, وإلا انتظر الوحي الذي لا يلبث أن يأتيه عن قرب بحكم ما أشكل عليه.

وقد سئل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الصدقة بالحمر الأهلية، فقال: "ما أُنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: (فمَن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره * ومَن يعمل مثقال ذرة شرًا يره)". فهذا استدلال من الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعموم الكتاب على مسألة جزئية، ومثله إنكاره على أبي بن كعب -رضي الله عنه- تأخره عن إجابة ندائه لاشتغاله بالصلاة، واستدلاله عليه بعموم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) الأنفال: 24. ومن اجتهاداته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما لم يرد فيه نص بخصوصه ولا بعمومه اجتهاده في أخذ الفداء من أسرى بدر، وعقد الصلح مع أهل مكة عام الحديبية، وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى. وأما الصحابة -رضي الله عنه- بعد وفاة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانوا يجتهدون في فهم النصوص من الكتاب والسنة، ويسأل بعضهم بعضا فيما خفي عليهم، ويقيسون المسائل بما يشبهها، ولم يكونوا بحاجة إلى وضع قواعد تضبط استدلالهم مع حضور تلك القواعد في أذهان المجتهدين منهم، وكذلك كان الحال في عهد كبار التابعين مع ظهور التفاضل بينهم في العلم والفتوى. وفي أواخر عهد التابعين بدأت المدارس الفقهية تظهر قدراً أكبر من التمايز والاختلاف، فبرز في العراق ما سمي أخيراً بمدرسة أهل الرأي، وبرز في المدينة ما عرف بمدرسة أهل الحديث. وكان طلاب الفتوى يترددون بين علماء هذا الاتجاه أو ذاك، وربما سأل بعضهم في النازلة أكثر من عالم من غير أن ينكر هؤلاء أو أولئك على عوام الناس سؤالهم لمن يثقون به. وكان في كل بلد من حواضر الإسلام علماء يرجع إليهم الناس في الفتيا والقضاء، ولهؤلاء العلماء طلاب تأثروا بمنهجهم واقتفوا آثارهم وربما التقى العلماء فتناظروا وأدلى كل منهم بحجته، فإما أن يرجع أحدهم إلى قول صاحبه أو يبقى على رأيه لقناعته بصحته لا حبا في الخلاف، وربما التقى الطلاب فتفاخر كل منهم بأستاذه ومعلمه. وفي هذه الأثناء بدأ التعصب لرأي الشيخ والإعجاب به يطغى على الإنصاف عند بعض الطلاب، ولم تكن هناك قواعد يُرجع إليها لوزن الآراء ومعرفة الراجح منها والمرجوح. وفي هذا الوقت كثر اختلاط العجم بالعرب، وضعف اللسان العربي، ودخل الوضع في الحديث لنصرة مذهب سياسي أو لتأييد رأي، وتصدر للرواية من لم يكن أهلاً، واحتاج القرآن إلى تفسير وإيضاح، واحتاجت السنة إلى تمييز الصحيح منها عن الضعيف. ولذلك كله شرع الإمام الشافعي -رحمه الله- في وضع قواعد تضبط الاستدلال، وتبين ما يصلح دليلاً وما لا يصلح، وتبين عمل الفقيه عند تعارض الأدلة عنده، وتؤسس قواعد الفهم لنصوص الكتاب والسنة، فكان أول من دون في هذا العلم فكتب كتابه: "الرسالة"، وجعلها بمثابة مقدمة لكتاب " الأم "، فتلقاها أكثر الناس بالقبول وأعجبوا بها حتى قال الإمام أحمد "ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه مِنة"، فقلنا: يا أبا محمد كيف ذلك؟ قال: "إن أصحاب الرأي كانوا يهزأون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام عليهم الحجة". ولم يكن كتاب الرسالة هو كل ما كتبه الشافعي في أصول الفقه، بل كتب كتباً أخرى لكنها لم تكن في شمول الرسالة ولا في تمحضها لمسائل هذا العلم، ومن تلك الكتب اختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وجماع العلم، وكتاب أحكام القرآن. وبعد الإمام الشافعي تتابع التأليف في هذا العلم فكتب الإمام أحمد بن حنبل كتاب: طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-, وكتب داود الظاهري: الإجماع، وإبطال التقليد، وخبر الواحد، والخصوص والعموم، وكتب عيسى بن أبان كتاباً في خبر الواحد، وكتب الكرخي رسالة في أصول الفقه طبعت مع كتاب تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي, وهي تقع في ورقات قليلة أشبه بقواعد فقهية لعلماء الحنفية، ومن أقدم كتب الحنفية الموجودة: الفصول، لأبي بكر الجصاص، وهو مطبوع محقق. وكان القرنان الخامس والسادس هما عصر ازدهار التأليف في أصول الفقه  حيث ظهرت فيهما أهم كتب أصول الفقه مثل العمدة, للقاضي عبد الجبار، والمعتمد لأبي الحسين البصري، واللمع، والتبصرة كلاهما لأبي إسحاق الشيرازي، والعدة للقاضي أبي يعلى، والمستصفى والمنخول، وشفاء الغليل للغزالي، والواضح لابن عقيل، والتمهيد لأبي الخطاب الكلوذاني، وأصول السرخسي، وأصول البزدوي، وإحكام الفصول، والإشارة لأبي الوليد الباجي. وفي أواخر القرن السادس وما بعده انتشرت المختصرات والشروح، فأما المختصرات فكان القصد منها الحفظ وجمع أكبر قدر من المسائل الأصولية في كتاب صغير يمكن حفظه, وأما الشروح فكان القصد منها حل ما في المختصرات من إشكال، وتفصيل ما فيها من إجمال، وتقريب المسائل بضرب الأمثلة وبيان الراجح من الأقوال بذكر الأدلة.

            

موضوع علم أصول الفقه

من المعروف أن تميز العلوم عن بعضها، ووضع الحدود الفاصلة فيما بينها لا يكون إلا ببيان موضوع كل علم منها، وتمييزه عما سواه. غير أنه ينبغي لنا لتحديد الموضوع الذي يبحثه علم أصول الفقه، أن نفهم ما يريدونه بالموضوع، لنكون على بينة مما سنتحدث عنه.

وموضوع كل علم هو: ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية، كبدن الإنسان لعلم الطب، فإنه يبحث فيه عن أحواله من حيث الصحة والمرض وكالكلمة لعلم النحو، فإنه يبحث فيه عن أحوالها، من حيث الإعراب والبناء... ألخ. ومعنى البحث عن العوارض الذاتية للموضوع، حملها عليه، وإثباتها له, كقولنا: الكتاب يثبت به الحكم، أو حملها على أنواعه كقولنا: الأمر يفيد الوجوب، أو على أعراضه الذاتية، كقولنا: العام يفيد القطع، أو على أنواع أعراضه الذاتية، كقولنا: العام الذي خص منه البعض يفيد الظن. وإذ قد تحدد لنا معنى الموضوع، وما يراد به عند العلماء، فإننا نذكر أن العلماء كانت لهم وجهات نظر متعددة في تعيين موضوع هذا العلم.

-فذهب بعضهم إلى أن موضوعه: هو الدليل الشرعي الكلي، من حيث ما يثبت به الأحكام الكلية. فالأصولي يبحث -مثلاً- في القياس وحجيته والعام وما يفيده، والأمر وما يدل عليه، وهكذا. فالقرآن الذي هو دليل شرعي، لم ترد نصوصه على حال واحدة، بل منها ما هو بصيغة الأمر، ومنها ما ورد بصيغة النهى، ومنها ما ورد عاماً أو مطلقاً. فهذه الأمور، أي: الأمر والنهى والعموم والإطلاق وسواها، تعتبر من أنواع الدليل الشرعي العام، الذي هو القرآن الكريم والأصولي يبحث في هذه الأنواع وما يفيده. فهو باستقرائه لنصوص -مثلاً- يتوصل إلى أن الأمر يفيد الوجوب، والنهى يفيد التحريم، والعام يتناول جميع ما يصلح له قطعاً، وأن المطلق يدل على ثبوت الحكم على إطلاقه، وهكذا. فالأدلة، أو أنواعها، أو الأعراض الذاتية لها، أو ما تركب منها هي موضوع هذا العلم. وذهب بعض العلماء إلى أن موضوع الأصول هو الأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة. فعلى رأيهم يكون موضوعه: الأحكام التكليفية: من وجوب وندب وحرمة وكراهة وإباحة، والأحكام الوضعية من سببية وشرطية ومانعية وصحة وبطلان وسواها. ولا يبدو لهذه الوجهة من حجة مقبولة في قصر الموضوع على الأحكام، واستبعاد الأدلة والقواعد منه، وقد قل من نصره وذهب إليه. وذهب بعض العلماء إلى أن موضوعه: الأدلة والأحكام معاً. ووجهه نظر هؤلاء: أنه لما كانت بعض مباحث الأصول ناشئة عن الأدلة، كالعموم والخصوص والاشتراك، وبعضها ناشئاً عن الأحكام، ككون الحكم متعلقاً بفعل هو عبادة أو معاملة، ولا رجحان لأحدهما على الآخر، فالحكم على أحدهما بأنه موضوع وعلى الآخر بأنه تابع تحكم, وهو باطل. وذهب آخرون إلى أن موضوع هذا العلم: الأدلة والمرجحات وصفات المجتهد. ولعل مستند هذا الرأي: أن موضوعات أصول الفقه إنما هي ما يستفاد منها الفقه، واستفادته تتوقف على أمور ثلاثة هي: الأدلة الإجمالية والمرجحات، وصفات المجتهد. على أنه مهما يكن من أمر، فإن أصول الفقه في حقيقته يبحث في أكثر من موضوع، سواء كانت تلك الموضوعات مقصوداً أصالة أو تبعاً.

فائدة علم أصول الفقه:

لا شك أن العلم يشرف بشرف الغاية من تعلمه، وأصول الفقه له غايات عظيمة وفوائد كبيرة في الدنيا والآخرة.

وأهم غاياته وأهدافه ما يلي:

-منها: التفقه في الدين، ومعرفة ما للمكلف وما عليه من الحقوق والواجبات، وهذا يحصل بمعرفة أصول الفقه وتطبيق قواعده على الأدلة التفصيلية وعلى الحوادث الجزئية.

وقد يقول قائل:

إن الفقه قد جمع من قبل العلماء السابقين، ودونت فيه الدواوين الكبيرة فلا حاجة إلى البدء من حيث بدأوا، فلم تبق حاجة لدراسة علم أصول الفقه.

والجواب:

أن كثرة ما كتب في علم الفقه يدعو طالب العلم إلى تعلم أصول الفقه, ليعرض هذه الثروة الفقهية الضخمة التي اختلفت فيها أقوال الفقهاء وتعددت أدلتهم على الميزان العادل، والمحك المظهر للخطأ من الصواب، وهو أصول الفقه، فمن عرف أصول الفقه نظراً وتطبيقاً يمكنه أن يعرف من تلك الأقوال والمذاهب ما هو أقرب إلى الحق وأجرى على قواعد الشريعة.

والخلاصة:

أن كثرة المؤلفات الفقهية تدعو إلى تعلم هذا العلم والتعمق فيه لنقد الأقوال وبيان الراجح من المرجوح.

-ومنها: معرفة الحكم الشرعي لكل ما يجدّ من الحوادث والوقائع التي لم يرد فيها بخصوصها نص صريح ولا ظاهر بيّن، ولم يتكلم عنها الفقهاء السابقون لعدم وجودها في عصرهم, ونحن نرى في هذه الأيام حجم المسائل التي تعرض على المجامع الفقهية من حيث عددها ومن حيث خطورتها وأهميتها وتعقيدها، حتى إن بعضها يتوقف فيه علماء المجمع الفقهي ولا يصدرون فيه فتوى لعدم اكتمال صورته في أذهانهم، أو للحاجة إلى مزيد بحث في الأدلة، أو للاختلاف في تكييفه.

ومن القضايا التي جدت في هذا العصر على غير مثال سابق: التلقيح الصناعي، وأطفال الأنابيب، والرحم المستعار، وتجميد الأجنة والبويضات والاستنساخ، وقضايا الحاسوب وبرامجه، وقضايا الانترنت، وإجراء العقود عن طريقه، والقضايا السياسية وكيفية حلها كالقضايا الحدودية بين الدول وما أشبه ذلك.

-ومنها: معرفة حِكَم الشريعة وأسرارها بالتأمل في علل الأحكام ومقاصدها ومعرفة المقاصد الشرعية الضرورية والحاجية والتحسينية، وتنزيل كل مقصد في منزلته عند التزاحم، ومعرفة ترتيب الواجبات والمستحبات لتقديم الأقوى دليلاً والأكثر نفعا على ما سواه، ومعرفة المصالح والمفاسد ومعرفة المعتبر منها في الشرع والملغى، ومعرفة درجات المعتبر لتقديم ما يستحق التقديم.

-ومنها: مواجهة خصوم الشريعة الإسلامية الذين يزعمون أن الشريعة لم تعد صالحة للتطبيق في هذا الزمن، وذلك ببيان قدرة الشريعة على استيعاب حاجات الناس في الحاضر والمستقبل، وقدرتها على حل مشاكل الناس بما يتفق مع نصوص الوحي وعمل الصحابة والتابعين، وهذا لا يتم إلا بمعرفة أصول الفقه والقدرة على القياس والتخريج، والإحاطة بطرق الاستنباط من منطوق ومفهوم، وخصوص وعموم، وإطلاق وتقييد ونحو ذلك مما يدرس في أصول الفقه، ولو انصرف الناس عن دراسة هذا العلم لانسد باب الاجتهاد، ووقف الناس عندما اشتملت عليه كتب الفقه القديمة التي كتبت لتستوعب مشاكل العصر الذي هي فيه.

-ومنها: حماية الفقيه من التناقض، فالفقيه الذي لم يتعمق في دراسة هذا العلم تأتي فتاواه متناقضة فيفرق بين المتماثلات، ويسوى بين المختلفات، وهذا يضعف الثقة فيما يقول، ويسيء إلى الشريعة ويقلل من قيمتها في نفوس الجاهلين بها من المسلمين أو غيرهم, وأما من أحاط بأصول الفقه تأصيلا وتطبيقاً فإنه يبرز الوجه المشرق للشريعة الربانية، ويكون بفتاواه وآرائه داعياً للإسلام مرغباً فيه ذاباً عنه شبه الأعداء.

-ومنها: أنه ربما يظن كثير من الناس أن أصول الفقه تقتصر فائدته على الفقه في المسائل العملية، والحق خلاف ذلك, فإن فائدة هذا العلم لا يستغني عنها المفسر والمحدث والمتكلم والباحث في العقائد، وكل من يحتاج إلى فهم نصوص الوحي والاستدلال بها، فإن هذا العلم عبارة عن قواعد للفهم الصحيح والاستدلال الصحيح، والجمع بين ما ظاهره التعارض، ولهذا نستطيع القول إن تسميته بأصول الفقه لا يعني اقتصار فائدته على استنباط الأحكام الفقهية، ولعل الذين سموا مؤلفاتهم بالأصول من غير تقييد بالفقه لحظوا هذا الملحظ فعمموا، ومن هؤلاء الغزالي الذي سمي كتابه: " المستصفى من علم الأصول " والرازي سمي كتابه: " المحصول من علم الأصول " والبيضاوي سماه: " منهاج الأصول في علم الأصول " والشوكاني سماه: " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ".

والناظر في مسائل هذا العلم يجد كلامهم عن أصول التفسير وأصول الحديث إلى جانب طرق الاستنباط من الأدلة النقلية التي يستوي في الحاجة إليها المفسر والمحدث وغيرهما.

-ومنها: قدرة العالم بهذه القواعد على معرفة أن الدين الإسلامي الذي ضم هذه القواعد صالح لكل زمان ومكان وحقيق بأن يكون خاتم الأديان حيث إن قواعده قادرة على إيجاد الأحكام لكل ما يجد من حوادث في أي زمان ومكان.

            

أما المصادر التي استمد منها علم الأصول مادته فهي -بحسب استقراء المباحث الأصولية- ثلاثة:

علم التوحيد (ويسمى بعلم الكلام)، واللغة العربية، والأحكام الشرعية.

-أما علم التوحيد أو علم الكلام:

فإن الاستمداد منه كان بسبب توقف الأدلة الشرعية على معرفة الباري سبحانه، وصدق رسوله -صلى الله عليه وسلم- المبلغ عنه فيما قال، لتعلم حجيتها وإفادتها للأحكام شرعاً. وقد استمد الأصول من هذا العلم مسالة الحاكم، وما يتعلق بها من مسألة الحسن والقبح، وهل هما عقليان أم شرعيان، وما يتعلق بحكم الأشياء قبل البعثة، ومسألة المجتهد يخطئ ويصيب، ومسألة خلو الزمان عن المجتهد وغيرها.

-أمَّا علم اللغة العربية:

فإن اللغة هي وعاء الكتاب والسنة، والكتاب نزل بلغة العرب، والسنة القولية جاءت بلسان الرسول العربي، والاستدلال بهما مبني على معرفة طرق العرب في الإفهام والفهم، ومن جملة أصول الفقه طرق دلالة الألفاظ على المعاني من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، واشتراك وإجمال، ومنطوق ومفهوم، وحقيقة ومجاز، وهذه كلها إنما يتبع فيها ما جرى عليه عرف أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم وتكلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بها، إلا أن يكون للشرع عرف حادث فيقدم عند الاحتمال.

وفي هذا يقول إمام الحرمين: "ومن مواد أصول الفقه العربية ؛ فإنه يتعلق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ، ولن يكون المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققاً مستقلاً باللغة العربية".

-وأمَّا الأحكام الشرعية:

فلأن المقصود من هذا العلم هو القصد إلى إثباتها أو نفيها بالأدلة، ولهذا كان لا بد من العلم بحقائقها، ليتصور هذا القصد وليتمكن من إيضاح المسائل بضرب الأمثلة والشواهد عليها.

            

الباب الثاني: الأدلة الشرعية (أو مصادر التشريع)

الأدلة:

جمع دليل، والدليل في اللغة: المرشد إلى الشيء والهادي إليه.

وفي الاصطلاح:

"ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري".

والمُراد بالنظر:

الفكر الموصل إلى علم أو ظن, ووصف بكونه صحيحاً ليخرج النظر الفاسد المخالف لمقتضى العقل السليم أو للفطرة المستقيمة أو للغة أو للشرع، والمراد بقولنا مطلوب خبري أي حكم من الأحكام.

وقولنا: "بصحيح النظر فيه"، يخرج النظر الفاسد فإنه لا يوصل إلى الحكم الصحيح، وإن توهم الناظر أنه يوصل إليه, وهذا القيد لا يمنع من دخول الدليل الذي لم ينظر فيه نظراً صحيحاً ولم يتوصل به إلى المطلوب, لأن عدم الاستدلال به جاء من جهة فساد النظر لا من جهة عدم دلالته.

وقد اتفق أهل السنة على أن الأدلة المعتبرة شرعاً أربعة وهي:

الكتاب، والسنة, والإجماع، والقياس، وذلك من حيث الجملة.

قال الشافعي:

"وجهة العلم الخبر في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس".

واتفقوا أيضاً على أن هذه الأدلة الأربعة ترجع إلى أصل واحد، هو الكتاب والسنة، إذ هما ملاك الدين وقوام الإسلام.

قال الشافعي:

"وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله، أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن ما سواهما تبع لهما".

وهذه الأدلة الأربعة متفقة لا تختلف، إذ يوافق بعضها بعضاً ويصدق بعضها بعضاً, لأن الجميع حق والحق لا يتناقض. وهي كذلك متلازمة لا تفترق، فجميع هذه الأدلة يرجع إلى الكتاب. والكتاب قد دل على حجية السنة، والكتاب والسنة دلا على حجية الإجماع، وهذه الأدلة الثلاثة دلت على حجية القياس. لذلك صح أن يقال: مصدر هذه الأدلة هو القرآن، باعتبار أنه الأصل، وأن ما عداه بيان له وفرع عنه، ومستند إليه. ويصح أيضاً أن يقال: مصدر هذه الأدلة هو الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن الكتاب إنما سمع منه تبليغاً، والسنة تصدر عنه تبييناً، والإجماع والقياس مستندان في إثباتهما إلى الكتاب والسنة.

قال ابن تيمية: "وكذلك إذا قلنا: الكتاب والسنة والإجماع، فمدلول الثلاثة واحد, فإن كل ما في الكتاب فالرسول موافق له، والأمَّة مُجمعة عليه من حيث الجملة، فليس في المؤمنين إلا من يوجب إتباع الكتاب، وكذلك كل ما سنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالقرآن يأمر باتباعه فيه، والمؤمنون مجمعون على ذلك. وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه لا يكون إلا حقًا موافقًا لما في الكتاب والسنة".

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 5:48 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقة Empty
مُساهمةموضوع: أقســام الأدلــة الشرعيــة   زاد الطالب في أصول الفقة Emptyالخميس 13 مارس 2014, 12:15 am

أقســام الأدلــة الشرعيــة

 تنقسم الأدلة الشرعية إلى أقسام عديدة , وهذه الأقسام هي :

1 ـ من حيث دلالتها إلى : " قطعية " و " ظنية " .

والدليل القطعي : 

هو ما دل على الحكم من غير احتمال ضده , وقيل : ما دل على الحكم ولم يحتمل غيره احتمالاً ناشئاً عن دليل .

فعلى الأول يكون الاحتمال الممكن ـ وإن كان بعيداً لا دليل عليه ـ ناقلاً للدليل من القطع إلى الظن ، وعلى الثاني لا ينتقل الدليل إلى الظن بمجرد الاحتمال بل لا بد أن يكون الاحتمال مستندا لدليل .

{ مثاله } : قوله تعالى : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } البقرة : 196 , فدلالة العدد هنا على الأيام الواجب صيامها دلالة قطعية .

والظني : 

ما دل على الحكم مع احتمال ضده احتمالاً مرجوحاً .

{ مثاله } : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } البقرة : 264، فالآية تدل بظاهرها على أن كلا من المن والأذى يبطل الصدقة ويذهب أجرها ، ولا يلتفت إلى الاحتمال المرجوح الذي تحتمله الآية وهو أن الصدقة لا تبطل إلا بمجموع الأمرين .

2ـ وتنقسم من حيث طريق معرفتها إلى قسمين :

أ ـ أدلة نقلية :  

وهي الكتاب والسنة والإجماع وقول الصحابي وشرع من قبلنا والعرف .

ب ـ أدلة عقلية

وهي القياس والمصلحة المرسلة وسد الذرائع والاستحسان والاستصحاب , وليس مرادهم أنها عقلية محضة , بل هي عقلية مستندة إلى نقل .

3 ـ وتنقسم الأدلة الشرعية من حيث الاتفاق على العمل بها إلى قسمين :

أ ـ أدلة متفق عليها .                 ب ـ أدلة فيها خلاف .

ولتحرير هذه المسألة نقول : لا خلاف بين العلماء في أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام مصدران للتشريع ، فالقرآن الكريم هو المصدر الأول , والسنة النبوية هي المصدر الثاني.

واتفق جمهور الفقهاء على أن الإجماع والقياس مصدران للتشريع .

وهذه المصادر الأربعة لا خلاف عليها ، وأما المصادر الأخرى فهي التي جرى الخلاف عليها مثل : الاستصحاب ، والمصالح المرسلة ، والعرف ، والاستحسان ، وقول الصحابي ، وشرع من قبلنا , والحق أنها راجعة إلى المصادر الأولى . وفي هذا الباب نوضح بإذن الله تعالى المصادر المتفق عليها والمصادر المختلف عليها مع بعض البيان لهذه المصادر فنقول وبالله التوفيق :

            

الأدلــة المتفــق عليهــا

ــ 1 ــ

الكتــــــاب

 تعريف الكتاب .

الكتاب هو القرآن   ، لقوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } الأحقاف : 29 , إلى قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } الأحقاف : 30 .

ويمكن تعريف الكتاب بأنه : " كلام الله المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، المعجز بنفسه , المتعبد بتلاوته " .  

 وقد جمع هذا التعريف أربعة قيود :

القيد الأول :

أن القرآن كلام الله حقيقة ، وهو اللفظ والمعنى جميعًا ، قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ } التوبة : 6.

قال ابن تيمية :

" والقرآن هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن حروفه ومعانيه ، والأمر والنهي هو اللفظ والمعنى جميعاً ، ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف ـ الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنبلية - إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء إذا تكلموا في الأمر والنهي ذكروا ذلك وخالفوا من قال : إن الأمر هو المعنى المجرد " .  

القيد الثاني :

أنه منزل من عند الله ، نزل به جبريل  على محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليكون من المنذرين ، قال تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } الشعراء : 193، 194، وتقييد الكلام بكونه منزلاً ليس المقصود منه إثبات الكلام النفسي والاحتراز عنه , كما ذهب الأشاعرة إلى ذلك .  

القيد الثالث : 

كونه معجزاً ، ويخرج بذلك الأحاديث القدسية , إذ القرآن معجز في لفظه ونظمه ومعناه .  

القيد الرابع : 

كونه متعبداً بتلاوته ، ويخرج بذلك الآيات المنسوخة اللفظ ، سواء بقي حكمها أم لاً ، لأنها صارت بعد النسخ غير قرآن , لسقوط التعبد بتلاوتها فلا تعطي حكم القرآن .   

وقد جمع هذه القيود قول الشيخ حافظ الحكمي في منظومته الأصولية :

أما الكتاب فهو القــــــــــرآن    بين الضلال والهدى فرقـــــــــــان

المعجز المفحم للأضـــــــداد     برهان حق أبد الآبــــــــــــــــــــاد

كلام ربي منزل تنزيـــــــــلاً     لا يقبل الخلف ولا التبديـــــــــــــل

به الإله خلقه تعبــــــــــــــدًا     تلاوة تدبرًا ثم اهتـــــــــــــــــــــــدى   

 حجية القرآن .

إن حجية القرآن واضحة للعيان ، وضوح الشمس في رائعة السماء ، وكيف لا وهو كلام رب العاملين ، الذي ثبت بطريق قطعي { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } البقرة : 2 .

فهو كلام الله سبحانه ، وهو حجة الرسالة القائمة الذي ثبت إعجازه للجميع ، أعجز الإنس والجن والشعراء والفصحاء والبلغاء ، فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله ، كما قال تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } الإسراء : 88 .

كما تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا ، قال سبحانه : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } هود : 13, بل تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله ، فعجزوا قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } البقرة :23 .

كل هذا التحدي والإعجاز ، يحمل الدليل القاطع والبرهان الساطع على أنه من عند الله ، فقد نزل القرآن الكريم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو نبي أمي لم يجلس إلى معلم وجاء بما أعجز الفصحاء والإنس والجن ، فهذا دليل على أن القرآن الكريم ليس من صنع بشر وإما هو كلام خالق القوى والقدر ، سبحانه وتعالى .

وكانت الإرادة الإلهية قد قضت أن يكون الرسول أمياً حتى لا يتقول أحد بأنه من عنده أو أخذه عن غيره .

قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُون } العنكبوت : 48 .

والقرآن الكريم تكفل رب العزة سبحانه وتعالى بحفظه ، فلا يمكن أن يصله تحريف ، ولا تغيير ولا تصحيف ، قال سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } الحجر : 9 .

ولا تحوم حوله شبهة ، ولا يلتبس به الباطل ، قال تعالى : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد } فصلت : 42 .

ويتجلى إعجازه في جمال ألفاظه وبلاغتها ، وقوة معانيه وعظمتها ، وعظمة الترتيب ، وبلاغة التركيب ، وإخباره عن الماضي والمستقبل ، فتحقق ما أخبر به ، ولا حشو في معانيه ، ولا اختلاف فيه ، وصدق الله تعالى إذ يقول : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } النساء : 82 .

وتتجلى مظاهر الإعجاز في إخباره عن أمم انتهت ، وبادت معالمها ، وضاعت من التاريخ ، فلا وجود لها ولا أثر ، فذكرها منبهاً على جانب الاعتبار والتذكير بمن سلف من الأمم ، فجاء يخبر بها على يد نبي أمي وفي أمة أمية لم تدرس التاريخ ولا السير , قال تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِين } هود : 49 .

وقد اشتمل القرآن الكريم على كل خصائص الإعجاز في اللفظ والمعنى والتركيب والإخبار بذلك ، كما اشتمل على الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله وكملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر .

كما نظم علاقة الخلق بخالقهم عن طريق العقيدة والعبادات ، وعلاقة الخلق بعضهم مع بعض عن طريق المعاملات ، وعلاقة المسلمين بغيرهم .

وتتلخص وجوه إعجاز القرآن الكريم في بلاغته التى أعجزت الجميع إنساً وجناً ، وفي إخباره عن أحوال الأمم السابقة مع كون الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي أنزل عليه أمياً ، وفي إخباره عن أمور المستقبل فوقع ما أخبر به ، وفي إخباره عن حقائق علميه تتصل بالسماء والأرض ولا يتأتى لأمي أن يعرفها .

لهذا كله نرى أن حجية القرآن الكريم ثابتة لا ريب فيها ، فهو حجة واضحة وثابت بالطريق القطعة لا شك فيه ، ويحمل أكبر الدلائل على ذلك بإعجازه وبما اشتمل عليه ، وبما يدعو إليه ، وبما يرشد به الناس إلى أقوم السبل .

قال تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } الإسراء : 9 .  

 دلالة القرآن الكريم .

إن مما لاشك فيه أن القرآن الكريم قطعي الثبوت ، فهو ثابت عن الله سبحانه وتعالى ، وقد أنزله رب العزة جل شأنه على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وحفظه الصحابة وأخذوه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وتناقله المسلون جيلاً بعد جيل ، وخلفاً عن سلف كما جاء به الوحي عن الله إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وتواتر نقله بلفظه ومعناه ، وضبطه ، ومبناه ، دون تغيير أو تبديل ، فقد حفظته الصدور ، وسجل في السطور ، مما يجعلنا نوقن يقينا قاطعاً بصحه ثبوته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

هذا من ناحية الثبوت ، فهو قطعي ، وأما من ناحية الدلالة فمنه ما هو قطعي الدلالة ومنه ما هو ظني الدلالة , فنصوص القرآن الكريم من ناحية الدلالة على المعاني :

 منها القطعي في دلالته على المعنى :

وهو النص الذي يدل على معنى واحد , ولا يحتمل غيره من المعاني الأخرى ، كقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون } المائدة :90 , فهذه الآية الكريمة تحمل نصاً قطعياً على تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام .

 ومنها الظني في دلالته على المعنى :

وهو النص الذي حمل أكثر من معنى , ويظهر فيه مجال لترجيح بعض المعاني على بعض كما في قوله الله تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } البقرة : 228 , والقروء : جمع قرء ، والقرء لغة : يطلق على الحيض ، ويطلق على الطهر فهل المراد أن المطلقة تعتد ثلاثة أطهار ، أو ثلاث حيضات ؟ , ولكل أصحاب رأي ترجيحهم لرأيهم بوجوه الترجيح .

ومثال ذلك أيضاً : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } المائدة : 6 , فنرى أن ثبوت مسح الرأس قطعي ، أما تحديد المقدار الممسوح فهو ظني ، ولذلك حدث تعدد للآراء واختلاف في مقدار المسح , وهكذا . . .

وبهذا يتضح : أن القرآن الكريم جميعه قطعي الثبوت لا ريب فيه هدى للمتقين . 

 المحكم والمتشابه في القرآن  .

قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب } أل عمران : 7 .

والآيات المحكمات : 

هي التي ظهرت معانيها بوضوح وجلاء ، بحيث لا يكون هناك أي إشكال أو احتمال ، فهي محكمة البيان ، ثابتة الحجة والدليل على ما نزلت بشأنه من حلال أو حرام أو وعد أو وعيد .

وقيل : المحكمات المعمول بهم في الآية السابقة , أي : التي فيها الحدود والفرائض مثل : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أل عمران : 7 , أي هن أصل الكتاب وأساسه .

والآيات المتشبهات : 

هي المقابلة للمحكمات ، وهي التي يشبه بعضها بعضا ، وإن اختلف ألفاظها ومعانيها ، وقيل : المتشابهات هي المنسوخات .

وذهب بعض السلف إلى أن المحكم : هو ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد ، والمتشابه : ما احتمل من التأويل أكثر من وجه.

وذهب بعضهم إلى أن المحكم : ما يُعمل به ، والمتشابه : ما يُؤمن به ولا يعمل به .

وقال بعضهم : إن المحكم هو ما اتضح معناه ، والمتشابه : هو ما لم يتضح معناه، إما لاشتراك أو إجمال .

وكل هذه الأقوال تدل على معنى واحد ، وهو أن التشابه أمر إضافي ، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على هذا .  

( فائدة ) : طريقة السلف في التعامل مع المحكم والمتشابه :

الواجب على كل أحد أن يعمل بما استبان له ، وأن يؤمن بما اشتبه عليه، وأن يرد المتشابه إلى المحكم ، ويأخذ من المحكم ما يفسر له المتشابه ويبينه ، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم ، وتوافق النصوص بعضها بعضاً ، ويصدق بعضها بعضاً ، فإنها كلها من عند الله ، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض ، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره .

هذه طريقة الصحابة والتابعين في التعامل مع المحكم والمتشابه .  

قال ابن تيمية :

" والمقصود هنا أن الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل ، ويتدبر معناه ويعقل , ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا .

وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة ، فيقال لأصحاب هذه الألفاظ : يَحتمل كذا وكذا، ويَحتمل كذا وكذا ؛ فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل ، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد". 

 وفي هذا المقام تنبيهات مهمة :

1- اتفق العلماء على أن ليس في القرآن ما لا معنى له .  

2- اتفق السلف على أن جميع ما في القرآن مما يفهم معناه ، ويمكن إدراكه بتدبر وتأمل ، وأنه ليس في القرآن ما لا يمكن أن يعلم معناه أحد .

قال ابن تيمية :

" ولا يجوز أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجميع الأمة لا يعلمون معناه ، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين ، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ " .   

وقال أيضاً : " والدليل على ما قلناه إجماع السلف ؛ فإنهم فسروا جميع القرآن , وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن ، إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه ، لا لأن أحداً من الناس لا يعلمه ، لكن لأنه هو لا يعلمه .

أيضاً فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقاً ، ولم يستثن منه شيئاً لا يتدبر ، ولا قال : لا تدبروا المتشابه....

ولأن من العظيم أن يقال : إن الله أنزل على نبيه كلاماً لم يكن يفهم معناه ، لا هو ولا جبريل -عليه السلام-... وأيضاً فالكلام إنما المقصود به الإفهام ؛ فإذا لم يقصد به ذلك كان عبثا وباطلا ، والله تعالى قد نزه نفسه عن فعل الباطل والعبث...

وبالجملة : فالدلائل الكثيرة توجب القطع ببطلان قول من يقول : إن في القرآن آيات لا يعلم معناها الرسول ولا غيره .

نعم قد يكون في القرآن آيات لا يعلم معناها كثير من العلماء فضلاً عن غيرهم ، وليس ذلك في آية معينة ، بل قد يشكل على هذا ما يعرفه هذا ، وذلك تارة يكون لغرابة اللفظ ، وتارة لاشتباه المعنى بغيره ، وتارة لشبهة في نفس الإنسان تمنعه من معرفة الحق ، وتارة لعدم التدبر التام ، وتارة لغير ذلك من الأسباب " .  

3- اتفق السلف على أن في القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله ، كالروح ، ووقت الساعة ، والآجال ، وهذا قد يسمى بالمتشابه .  

والمراد بالتأويل الذي لا يعلمه إلا الله : معرفة الشيء على حقيقته وما يؤول إليه .

أما التأويل بالمعنى الآخر : وهو تفسير الشيء ومعرفة معناه ، فهذا مما يعلمه أهل العلم ، فإنهم يعلمون معنى الكلام الذي أخبر به عن الساعة .  

قال ابن تيمية :

" وعلى هذا فالراسخون في العلم يعلمون تأويل هذا المتشابه الذي هو تفسيره ، وأما التأويل الذي هو الحقيقة الموجودة في الخارج فتلك لا يعلمها إلا الله " .  

4- ولذلك فإن أسماء الله تعالى وصفاته تكون من المتشابه باعتبار كيفيتها ، وليست من المتشابه باعتبار معناها .  

5- وكذلك فإن الوقف على لفظ الجلالة في قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ } ، يصح بناءً على أن التأويل بمعنى معرفة الشيء على حقيقته ويجوز الوصل وترك الوقف بناءً على أن التأويل بمعنى التفسير والبيان .  

            

ــ 2 ــ

السنــــــة النبويـــــــة

السنة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام ، فقد أجمع فقهاء المسلمين قديماً وحديثاً من لدن الصحابة -رضي الله عنهم- إلى يومنا هذا ـ إلا من شذ من بعض الطوائف ـ على الاحتجاج بها ، واعتبارها المصدر الثاني للدين بعد القرآن ، فيجب إتباعها وتحرم مخالفتها ، وقد تضافرت الأدلة القطعية على ذلك ، فأوجب الله سبحانه وتعالى الناس طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وبين أنه -صلى الله عليه وسلم- هو المبين لما أنزل من القرآن ، وذلك بعد أن عصمه الله من الخطأ والهوى في كل الأمور, { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى وما ينطق عن الهوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } النجم 3ـ5 .

كما عصمه من الناس حين أمره بتبليغ ما أنزل إليه ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } المائدة : 67 .

من هذا يتضح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يُبَيِّنُ للناس كتاب ربهم سبحانه وتعالى ، وهذان الأمران متلازمان في إثبات حجية السنة ، لأن الله تعالى أوجب طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، لأنه مبين للناس ما أنزل إليهم ، يقول تعالى : { قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } آل عمران : 32، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } النساء : 59 .

 تعريف السنة .

السنة في اللغة : تطلق بعده إطلاقات ، فتطلق ويراد به الوجه لصقالته وملاسته ، وقيل : دائرته ، وقيل الصورة ، وقيل الجبهة والجبينان ، وكله من الصقالة .

والسنة : الصورة ، وما أقل عليك من الوجه ، وقيل سنة الخد : صفحته .  

السنة في الشرع : ظهرت للسنة تعريفات مختلفة في لسان أهل الشرع ، وكان هذا حسب اختلاف الأغراض التي اتجه إليها العلماء من أبحاثهم .

فعلماء الأصول عرفوا السنة بأنها : كل ما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مما ليس قرآناً , من أقوال وأفعال أو تقريرات مما يصلح أن يكون دليلاً لحكم شرعي .

وأما علماء الفقه فعرفوا السنة بأنها: هي ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير افتراض ولا وجوب ، فهي عندهم صفة شرعية للفعل المطلوب طلباً غير جازم ، ولا يعاقب على تركه ، وتطلق على ما يقابل البدعة كقولهم : فلان من أهل السنة .  

وفى لسان علماء الوعظ : هي المقابلة للبدعة ، فيقال عندهم : فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- .  

 أنواع السنة  .

وتنقسم السنة بحسب حقيقتها على ما ذكره المحدثون إلى ثلاثة أقسام :

الأول : السنة القولية ، وهى أكثر أنواع السنة ، ومثالها : قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : " أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم " .  

الثاني : السنة الفعلية ، وهى أفعاله -صلى الله عليه وسلم- التي رواها عنه الصحابة ، مثل أدائه الصلوات الخمس بأركانها وسننها وهيئاتها ، وأدائه مناسك الحج والصوم والزكاة ، وغير ذلك من أعماله الشريفة  .

الثالث : السنة التقريرية ، وهى ما أقره الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما رآه من بعض أصحابه ، فعلاً كان أو قولاً ، بأن يقع في حضرته فلا ينكره ، بأن يسكت عنه  أو يوافق عليه مظهراً استحسانه وتأييده ، فيعد ذلك إقرارا ، من ذلك ما رواة أبو سعيد الخدرى -رضي الله عنه- : " أنه خرج رجلان في سفر وليس معهما ماء ، فحضرت الصلاة فتيمما صعيداً طيباً ، فصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر ثم آتيا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له فقال للذي لم يعد : " أصبت السنة " ، وقال للآخر : " لك الأجر مرتين " .  

 منزله السنة من القرآن:

تبين مما سبق أن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واجبة على المسلمين, وأنهم تقبلوا منه السنة كما تقبلوا منه القرآن مستجيبين لله الذي أمرهم بإتباع النبي وطاعته ، وذلك لأن للرسول -صلى الله عليه وسلم- مهمة , هي التبليغ وبيان ما في القرآن من أحكام وقواعد وغير ذلك ، فرسالته ليست قاصرة على التبليغ ، وإنما لا بد من التبليغ من البيان ، وهو الأمر الثاني في إثبات حجية السنة .

فالقرآن الكريم جاء بالأصول العامة ، ولم يتعرض للتفاصيل والجزئيات ، ولم يفرع عليها إلا بالقدر الذي يتفق مع تلك الأصول ، ويكون ثابتاً بثبوتها ، لا يعتريه تغير أو تطور , باختلاف الأعراف والبيئات ومرور الزمان، لأنه الكتاب الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، اشتمل على العقائد والشرائع وعلى الآداب والأخلاق فكان تبياناً لكل شئ ، وجاءت السنة توافق الكتاب الكريم وتتعرض للتفصيلات والجزئيات، ففسرت مبهمه، وفصلت مجمله، وقيدت مطلقه، وخصصت عامه ، وشرحت أحكامه ، كما أتمت السنة كذلك بأحكام لم يرد في القرآن نص عليها .

 وينقسم بيان السنة إلى أقسام :

الأول : بيان التقرير ، وهو أن تكون السنة موافقة لما جاء به القرآن ومؤكدة له , ومن ذلك : ما روى عن ابن عمر قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " بُني الإسلام على  خمس : شهادة أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة  وإتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان " .  

فإنه يوافق قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة } البقرة : 83 ، وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } البقرة : 183، وقوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } آل عمران : 97 .

الثاني : بيان التفسير لما جاء في القرآن ، وهذا القسم أغلب الأقسام وأكثرها وروداً ، فمنه المجمل : كالأحاديث التى بينت العبادات وكيفياتها ، كفريضة الصلاة مثلاً ، فقد فرضها الله تعالى في القرآن من غير أن يبين أوقاتها ، وعدد ركعاتها وأركانها وكيفيتها ، فبين ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- كله بصلاته وتعليمه للناس وقال -صلى الله عليه وسلم- : " صلوا كما رأيتموني أصلى " .  

الثالث : أن تكون السنة ناسخة لحكم ثبت بالقرآن على رأى من يجوز نسخ الكتاب بالسنة ، وهذا مثل حديث : " لا وصية لوارث " فهذا الحديث نسخ حكم الوصية للوالدين والأقربين الوارثين الثابت بقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } البقرة :180، والنسخ من قبيل البيان ، لأنه انتهاء أمد الحكم ، ولذلك يطلق عليه بعض علماء الأصول : بيان التبديل .  

الرابع : أن تكون السنة دالة على حكم لم يرد في القرآن ، وهذا القسم اختلف العلماء فيه : فذهب الجمهور إلى أن السنة أثبتت أحكاماً جديدة على طريق الاستقلال ، وذهب صاحب الموافقات وآخرون إلى أنها أثبتت أحكاماً داخلة تحت نصوص القرآن ولو بتأويل .

وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ في القسمين الأول والثاني :

والوجهان يجتمعان ويتفرعان , فأحدهما : ما أنزل الله فيه نص كتاب فبين رسول الله مثل ما نص الكتاب .

والآخر : مما أنزل الله فيه جملة كتاب فبين عن الله معنى ما أراد ، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما .  

 حجية السنة:

أجمع المسلمون على وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ولزوم سنته .  

قال ابن تيمية :

" وهذه السنة إذا ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب إتباعها " .  

 والأدلة على وجوب اتباع السنة كثيرة جداً :  

 فمن القرآن الكريم :

* الأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، قال تعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } آل عمران : 32.  

* ترتيب الوعيد على من يخالف أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ، قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } النور : 63.  

* نفي الخيار عن المؤمنين إذا صدر حكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } الأحزاب : 36 .  

* الأمر بالرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند النزاع ، قال تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ } النساء : 59 .  

* جعل الرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند النزاع من موجبات الإيمان ولوازمه ، قال تعالى: { فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ } النساء : 59 .  

 ومن السنة قوله -صلى الله عليه وسلم- :

" فعليكم بسنتي , وسنة الخلفاء المهديين الراشدين , تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ " .  

وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " دعوني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " .  

وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه " .  

وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله " .  

هذه بعض النصوص الدالة على حجية السنة ، وبذلك يعلم أن الاحتجاج بالسنة أصل ثابت من أصول هذا الدين وقاعدة ضرورية من قواعده .

قال الإمام الشافعي :

" لم أسمع أحدا ـ نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم ـ يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، والتسليم لحكمه ؛ بأن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، وأن ما سواهما تبع لهما ، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر , عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  واحد , لا يختلف  في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " .  

 خبر الآحاد :

من الحديث ما هو متواتر ومنا ما هو آحاد , والحديث المتواتر : هو ما نقله جمع عن جمع ممن يحصل العلم بصدقهم ولا يمكن تواطؤهم على الكذب من أول الإسناد إلى آخره .  

ولذا كان مفيداً للعلم الضروري ، وهو الذي يضطر إليه الإنسان بحيث لا يمكنه دفعه ، ويجب العمل به من غير بحث عن رجاله ولا يشترط فيه عدد معين في الأصح .

وأما خبر الآحاد : 

فهو الخبر الذي لم تبلغ نقلته في الكثرة مبلغ الخبر المتواتر سواء كان المخبر واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة إلى غير ذلك من الأعداد التي لا يشعر بأن الخبر دخل بها في حيز المتواتر .  

وقد اتفق جمهور المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم على وجوب العمل بخير الواحد وأنه حجة ، ويفيد الظن ، ومنع من وجوب العمل به بعض الطوائف : كالروافض والقدرية ، وبعض من المتفلسفين المتأخرين .

قال الشافعي :

" ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة : أجمع المسلمون

قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي .

ولكن أقول : لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد  بما وصفتُ من أن ذلك موجود على كلهم " .  

وقال الخطيب البغدادي :

" وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ، ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا ، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ، ولا اعتراض عليه .

فثبت أن من دين جميعهم وجوبه ، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه . والله أعلم " .  

 والأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد :

1- ما تواتر عنه -صلى الله عليه وسلم- من إنفاذه أمراءَه ورسله وقضاته وسعاته إلى الأطراف لتبليغ الأحكام وأخذ الصدقات ودعوة الناس .  

قال الشافعي :

" ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليبعث إلا واحداً , الحجة قائمة بخبره على من

بعثه إن شاء الله " .  

2- إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على قبول خبر الواحد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واشتهار ذلك عنهم في وقائع كثيرة ، إن لم يتواتر آحادها حصل العلم بمجموعها .  

ومن ذلك : تحول أهل قباء إلى القبلة بخبر واحد .  

قال الشافعي :

" ولو كان ما قبلوا من خبر الواحد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تحويل القبلة -وهو فرض- مما يجوز لهم , لقال لهم -إن شاء الله- رسول الله: قد كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة ، من سماعكم مني ، أو خبر عامة ، أو أكثر من خبر واحد عني " .  

3- قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } التوبة : 122.

وذلك من وجهين :  

الأول : أن الله أمر الطائفة -وهي تقع على القليل والكثير- إنذار قومهم ، وهذا دليل على أن على قومهم المنذرين قبوله .

الثاني : أن قوله : { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } معناه إيجاب الحذر ، ولولا قيام الحجة عليهم ما استوجبوا الحذر .

4- قوله -صلى الله عليه وسلم- : " نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها ، وحفظها ، وبلغها ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " .  

قال الشافعي :

" فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرءاً يؤديها -والإمرؤ واحد - دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه , لأنه إنما يؤدي عنه حلال ، وحرام يجتنب ، وحد يقام ، ومال يؤخذ ويعطي ، ونصيحة في دين ودنيا " .  

5 - أن خبر الواحد حجة في الأحكام والعقائد ، دون تفريق بينهما :

وهذا أمر مجمع عليه عند السلف .  

قال ابن عبد البر :

" ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصاً في كتاب الله ، أو صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أجمعت عليه الأمة .

وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه " .  

والدليل على وجوب قبول خبر الواحد في أبواب الاعتقاد الأدلة الموجبة للعمل بخبر الواحد , فإنها عامة مطلقة ، لم تفرق بين باب وباب ومسألة وأخرى .  

ثم إنه يترتب على القول برد خبر الواحد في العقائد رد كثير من العقائد الإسلامية الصحيحة .  

قال ابن القيم :

" وأما المقام الثامن وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث وإثبات صفات الرب تعالى بها ، فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول .

فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول , ولم ينكرها أحد منهم على من رواها .

ثم تلقاها عنهم جميع التابعين من أولهم إلى آخرهم ، ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول والتصديق لهم ، ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك .

وكذلك تابعوا التابعين مع التابعين .

وهذا أمر يعلمه ضرورة أهل الحديث كما يعلمون عدالة الصحابة وصدقهم وأمانتهم ونقلهم ذلك عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- ، كنقلهم الوضوء ، والغسل من الجنابة ، وأعداد الصلوات وأوقاتها ، ونقل الأذان والتشهد ، والجمعة والعيدين .

فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا أحاديث الصفات , فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها جاز عليهم ذلك في نقل غيرها مما ذكرناه ، وحينئذٍ فلا وثوق لنا بشيء نقل لنا عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- البتة . وهذا انسلاخ من الدين والعلم والعقل " .  

والتفريق بين أحاديث الأحكام والعقائد أمر حادث فهو بدعة في دين الله , لأن هذا الفرق لا يعرف عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- ولا عن أحد من التابعين ولا عن تابعيهم ، ولا عن أحد من أئمة الإسلام ، وإنما يعرف عن رؤوس أهل البدع ومن تبعهم .

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 5:48 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقة Empty
مُساهمةموضوع: الإجمــــــــــــاع   زاد الطالب في أصول الفقة Emptyالأحد 23 مارس 2014, 11:26 pm

ــ 3 ــ

الإجمــــــــــــاع

 تعريف الإجماع  .

الإجماع لغة : يطلق على العزم ، ومنه قوله تعالى : { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ } يونس : 71.

ويطلق على الاتفاق ومنه قولهم : أجمع القوم على كذا أي : اتفقوا عليه .  

وعند الأصوليين : اتفاق مجتهدي عصر من العصور من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته على أمر ديني .  

 وقد اشتمل هذا التعريف على خمسة قيود :

الأول : أن يصدر الاتفاق عن كل العلماء المجتهدين ، فلا يصح اتفاق بعض المجتهدين ، وكذلك اتفاق غير المجتهدين كالعامة ومن لم تكتمل فيه شروط الاجتهاد ، كما سيأتي .

الثاني : المراد بالمجتهدين من كان موجوداً منهم دون من مات أو لم يولد بعد ، وهذا هو المقصود بقيد : " عصر من العصور " كما سيأتي الكلام على ذلك وعلى شرط انقراض العصر أيضاً .

الثالث : لا بد أن يكون المجمعون من المسلمين ، ولا عبرة بإجماع الأمم الأخرى غير المسلمة .  

الرابع : الإجماع إنما يكون حجة بعد وفاته ، ولا يقع في حياته .  

الخامس : أن تكون المسألة المجمع عليها من الأمور الدينية ، ويخرج بذلك الأمور الدنيوية والعقلية وغيرها .  

 أقسام الإجماع .

 ينقسم الإجماع إلى عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة :

1ـ فباعتبار ذاته ينقسم الإجماع إلى " إجماع قولي " ، وإلى " إجماع سكوتي " .

فالإجماع القولي وهو الصريح : " أن يتفق قول الجميع على الحكم بأن يقولوا كلهم : هذا حلال ، أو حرام " ، ومثله أن يفعل الجميع الشيء ، فهذا إن وجد حجة قاطعة بلا نزاع .  

والإجماع السكوتي أو الإقراري هو : " أن يشتهر القول أو الفعل من البعض فيسكت الباقون عن إنكاره " .  

ومثله الإجماع الاستقرائي وهو : " أن تستقرأ أقوال العلماء في مسألة فلا يُعلم خلاف فيها " .  

وقد اختلف العلماء في حجية الإجماع السكوتي ، فبعضهم اعتبره حجة قاطعة ، وبعضهم لم يعتبره حجة أصلاً ، وبعضهم جعله حجة ظنية .

 وسبب الخلاف هو : أن السكوت محتمل للرضا وعدمه .

فمن رجح جانب الرضا وجزم به قال : إنه حجة قاطعة .

ومن رجح جانب المخالفة وجزم به قال : إنه لا يكون حجة .

ومن رجح جانب الرضا ولم يجزم به قال : إنه حجة ظنية .

لذلك فإن الإجماع السكوتي لا يمكن إطلاق الحكم عليه ، بل لا بد من النظر في القرائن وأحوال الساكتين ، وملابسات المقام .

فإن غلب على الظن اتفاق الكل ورضا الجميع فهو حجة ظنية ، وإن حصل القطع باتفاق الكل فهو حجة قطعية ، وإن ترجحت المخالفة وعدم الرضا فلا يعتد به .  

2- وينقسم الإجماع باعتبار أهله إلى : " إجماع عامة  , " وخاصة " .  

فإجماع العامة هو : إجماع عامة المسلمين على ما عُلم من هذا الدين بالضرورة ، كالإجماع على وجوب الصلاة والصوم والحج ، وهذا قطعي لا يجوز فيه التنازع .

وإجماع الخاصة : دون العامة هو ما يُجمع عليه العلماء ، كإجماعهم على أن الوطء مفسد للصوم ، وهذا النوع من الإجماع قد يكون قطعيا ، وقد يكون غير قطعي ، فلا بد من الوقوف على صفته للحكم عليه .

3- وينقسم الإجماع باعتبار عصره إلى : " إجماع الصحابة " , " وإجماع غيرهم " .  

فإجماع الصحابة يمكن معرفته والقطع بوقوعه ، ولا نزاع في حجيته عند القائلين بحجية الإجماع .

وأما إجماع غير الصحابة ممن بعدهم فإن أهل العلم اختلفوا فيه من حيث إمكان وقوعه ، وإمكان معرفته والعلم به ، أما القول بحجيته فهو مذهب جمهور الأمة كما سيأتي .

4- وباعتبار نقله إلينا ينقسم الإجماع إلى : " إجماع ينقله أهل التواتر " ، و " إجماع ينقله الآحاد "  ، وكلا القسمين يحتاج إلى نظر من جهتين :

من جهة صحة النقل وثبوته ، ومن جهة نوع الإجماع ومرتبته .

5- وينقسم الإجماع باعتبار قوته إلى " إجماع قطعي " و" إجماع ظني " . 

فالإجماع القطعي : مثل إجماع الصحابة المنقول بالتواتر خاصة ، والإجماع على ما عُلم من الدين بالضرورة .

والإجماع الظني : كالإجماع السكوتي الذي غلب على الظن فيه اتفاق الكل .

وعلى كل فتقدير قطعي الإجماع وظنيه أمر نسبي ، يتفاوت من شخص إلى آخر ، إلا أن الأمر المقطوع به في قضية الإجماع شيئان :

أولهما : أن الإجماع من حيث الجملة أصل مقطوع به وحجة قاطعة ، وإن اختلف في بعض أنواعه وبعض شروطه .

وثانيهما : أن بعض أنواع الإجماع لا يقبل فيها نزاع , بل هي إجماعات قطعية كما تقدم التمثيل لذلك آنفاُ .

 حجية الإجماع .

اتفق أهل العلم على أن الإجماع حجة شرعية يجب اتباعها والمصير إليها والدليل على ثبوت الإجماع إنما هو دليل الشرع لا العقل .  

 فمن الأدلة على كون الإجماع حجة :

أولاً : من الكتاب .

أ- قوله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } النساء : 115.

وجه الاستدلال بهذه الآية أن الله توعد من اتبع غير سبيل المؤمنين فدل على أنه حرام , فيكون اتباع سبيل المؤمنين واجباً ، إذ ليس هناك قسم ثالث بين اتباع سبيل المؤمنين واتباع غير سبيل المؤمنين .  

ولا يصح في هذه الآية أن يكون الذم لاحقاً لمشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقط ، أو لإتباع غير سبيل المؤمنين فقط ، فإن ذلك باطل قطعاً , لئلا يكون ذكر الآخر لا فائدة فيه .

وكذلك لا يصح أن يكون الذم لاحقاً للأمرين إذا اجتمعا فقط , لأن مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- موجبة للوعيد قطعاً كما ثبت في غير موضع ، كقوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } الأنفال : 13.

فلم يبق إلا قسمان : أحدهما : أن الذم لاحق لكل من الأمرين وإن انفرد عن الآخر .

الثاني : أن الذم لاحق لكل من الأمرين لكونه مستلزماً للآخر .  

قال ابن تيمية :

" ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية , فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع .

بقي القسم الآخر وهو أن كلاً من الوصفين يقتضي الوعيد لأنه مستلزم للآخر ، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومخالفة القرآن والإسلام .

فيقال : من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار ، ومثله قوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا } النساء : 136، فإن الكفر بكل من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره , فمن كفر بالله كفر بالجميع ، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافراً بالله , إذ كذب رسله وكتبه ، وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافراً .

فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ، ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر .

ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضاً , فإنه قد جعل له مدخلاً في الوعيد ، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم ، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا , والآية توجب ذم ذلك .

وإذا قيل : هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول ؟

قلنا : لأنهما متلازمان ، وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإن يكون منصوصاً عن الرسول ، فالمخالف لهم مخالف للرسول ، كما أن المخالف للرسول مخالف لله ، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول وهذا هو الصواب .  

ب - قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله } آل عمران : 110، فقد وصف الله تعالى هذه الأمة بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ولم تنه عن المنكر فيه ، فثبت أن إجماع هذه الأمة حق وأنها لا تجتمع على ضلالة .  

جـ - قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } البقرة : 143، والوسط : العدل الخيار ، وقد جعل الله هذه الأمة شهداء على الناس ، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض ، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول .  

ثانياً : من السنة .

أ- قوله -صلى الله عليه وسلم-: " فمن أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة " .  

قال الشافعي مستدلاً بهذا الحديث :

" إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين ، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجار ، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى , لأنه لا يمكن ، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئًا فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما ، ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم ، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها .

وإنما تكون الغفلة في الفُرقة ، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافة غفلة عن معنى كتابٍ ولا سنةٍ ولا قياس إن شاء الله .  

ب- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن أمتي لا تجتمع على ضلالة " .  

والملاحظ أن هذه النصوص المتقدمة تدل على أصلين عظيمين :

الأصل الأول : وجوب اتباع الجماعة ولزومها ، وتحريم مفارقتها ومخالفتها

والأصل الثاني : عصمة هذه الأمة عن الخطأ والضلالة .

وهذان الأصلان متلازمان , فإن قول الأمة مجتمعة لا يكون إلا حقاً ، وكذلك فإن العصمة إنما تكون لقول الكل دون البعض .

 وههنا مسألتان :

المسألة الأولى : أن هذه النصوص أفادت أن العصمة ثابتة للأمة دون اشتراط عدد معين ، بل إن أهل الإجماع متى ثبت اتفاقهم وجب اتباع قولهم وثبتت العصمة لهم ، وبناءً على ذلك فلا يشترط لصحة الإجماع أن يبلغ المجمعون عدد التواتر , لأن الدليل الشرعي لم يشترط ذلك ، بل إنه علق العصمة على الإجماع والاتفاق فقط .  

والمسألة الثانية : أن هذه النصوص تدل على أن الإجماع حجة ماضية في جميع العصور ، سواء في ذلك عصر الصحابة وعصر من بعدهم .

ولا يصح حصر حجية الإجماع في عصر الصحابة دون غيرهم , لأن أدلة حجية الإجماع عامة مطلقة ، ولا يجوز تخصيص هذه الأدلة أو تقييدها دون دليل شرعي معتبر ، فإنه قد ثبت وجوب اتباع سبيل المؤمنين وعصمة الأمة وهذا عام في كل عصر .

كما أنه لا يصح الاحتجاج لإبطال إجماع غير الصحابة بصعوبة أو تعذر وقوع الإجماع بعد عصر الصحابة لتفرق المجتهدين في الآفاق وانتشارهم في الأقطار , إذ غاية ذلك هو القول بعدم صحة وقوع الإجماع بعد عصر الصحابة وتعذر إمكانه .

أما حجية الإجماع فأمر آخر ، فلا بد إذن من التفريق بين حصول الإجماع وإمكان وقوعه وبين حجيته في كل عصر ، وليس بين الأمرين تلازم .

فالأمر الأول : محل نظر بين العلماء , إذ منع بعضهم وقوع إجماع بعد عصر الصحابة ، ونقل البعض الآخر الإجماع في عصر الصحابة وفي عصر من بعدهم أيضًا .  

أما الأمر الثاني : وهو حجية الإجماع فلا شك أن الدليل الشرعي قاطع في ثبوت حجية الإجماع مطلقاً في كل عصر.

والمقصود المحافظة على حجية الإجماع على مدى العصور عملاً بالدليل الشرعي ، فتبقى الأمور القطعية قطعية كما هي ، وتبقى قضية وقوع الإجماع وعدم وقوعه قضية أخرى بحاجة إلى تحقيق المناط فيها ، وذلك يختلف من عصر لآخر ومن مسألة لأخرى .  

 مستند الإجماع .

 والكلام على هذه المسألة في نقاط ثلاث:

أ- اتفق جمهور الأمة على أن هذه الأمة لا تجتمع إلا بدليل شرعي ، ولا يمكن أن يكون إجماعها عن هوى ، أو قولاً على الله بغير علم ، أو دون دليل .

ذلك لأن الأمة معصومة عن الخطأ ، إذ القول على الله بدون دليل خطأ .  

ب- الأكثر على جواز أن يستند المجمعون في إجماعهم إلى الكتاب والسنة ، بل إن هذا هو الصواب كما قرر ذلك ابن تيمية بقوله : " ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص " ، فلا يجوز عنده أن يوجد إجماع لا يستند إلى نص .

وقد بنى ابن تيمية هذا الحكم على مقدمات عامة وقواعد كلية :  

أولاها : أن الرسول قد بين أتم البيان فما من مسألة إلا وللرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها بيان .

ثانيها : شمول النصوص الشرعية وعموم دلالتها على المسائل والوقائع، فإنه ما من مسألة إلا ويمكن الاستدلال عليها بنص خفي أو جلي .

ثالثها : أن بعض العلماء قد يخفي عليه النص فيستدل بالاجتهاد والقياس، وبعضهم يعلم النص فيستدل به .

رابعها : ثبت باستقراء موارد الإجماع أن جميع الإجماعات منصوصة .

جـ - اختلف العلماء في جواز استناد الإجماع إلى الاجتهاد أو القياس ، فمنعه البعض وأجازه البعض .  

وبناءً على ما قرره ابن تيمية فإن هذا الخلاف يمكن إرجاعه إلى اللفظ , إذ كل مستدل يتكلم بحسب ما عنده من العلم ، فمن رأى دلالة النص ذكرها ومن رأى دلالة القياس ذكرها ، والأدلة الصحيحة لا تتناقض ، إلا أنه قد يخفي وجه اتفاقها أو ضعف أحدها على البعض ، ومن ادعى أن من المسائل ما لا يمكن الاستدلال عليها إلا بالرأي والقياس فقد غلط ، وهو على كل حال مخبر عن نفسه .  

وقد استدل من قال بالجواز بوقوع ذلك وذكر أمثلة على استناد الإجماع إلى الاجتهاد .

إلا أن جميع هذه المسائل يمكن إرجاعها إلى دلالة النصوص العامة فتكون من قبيل المنصوص عليه ، وهذا مما يعزز القول بأن الخلاف لفظي إذ الجميع متفق على ضرورة استناد الإجماع إلى دليل ، وهذا الدليل - في مسألة ما - قد يعتبره البعض اجتهاداً ، ولكن البعض يعتبره نصاً .  



زاد الطالب في أصول الفقة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 5:49 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقة Empty
مُساهمةموضوع: القيــــــــــاس   زاد الطالب في أصول الفقة Emptyالأحد 23 مارس 2014, 11:54 pm

ــ 4 ــ

القيــــــــــاس

 تعريف القياس .

القياس لغة : التقدير ، ومنه قولهم : قست الثوب بالذراع ، إذا قدرته به .

والقياس : المساواة ، يقال : فلان لا يقاس بفلان , أي : لا يساويه .  

وفي اصطلاح الأصوليين يمكن تعريفه بأنه : " حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما " .  

 وبهذا التعريف يتضح أن للقياس أربعة أركان :   

الركن الأول : الأصل ، وهو المقيس عليه .

الركن الثاني : الفرع، وهو المراد إلحاقه بالأصل المقيس عليه وحمله عليه.

الركن الثالث : حكم الأصل ، وهو الوصف المقصود حمل الفرع عليه .

الركن الرابع : الوصف الجامع ، وهو العلة الجامعة بين الأصل والفرع المقتضية للحمل .

 أقسام القياس .

ينقسم القياس إلى أقسام متعددة بعدة اعتبارات :

أولاً : باعتبار قوته وضعفه ينقسم القياس إلى " جلي " و " خفي " .  

فالقياس الجلي : ما قطع فيه بنفي الفارق المؤثر ، أو كانت العلة فيه منصوصاً أو مجمعاً عليها ، فهذه ثلاث صور .

وهذا النوع من القياس لا يحتاج فيه إلى التعرض لبيان العلة الجامعة ، لذلك سُمي بالجلي ، وذلك مثل قياس إحراق مال اليتيم وإغراقه على أكله في الحرمة الثابتة في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } النساء : 10 .

وهذا النوع من القياس متفق عليه ، وهو أقوى أنواع القياس لكونه مقطوعاً به ، وقد اختلف في تسميته قياساً كما سيأتي بيان ذلك في الكلام على مفهوم الموافقة .

والقياس الخفي : ما لم يُقطع فيه بنفي الفارق , ولم تكن علته منصوصاً أو مجمعاً عليها ، وذلك مثل قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في وجوب القصاص .

فهذا النوع لا بد فيه من التعرض لبيان العلة وبيان وجودها في الفرع ، فيحتاج إلى مقدمتين :

المقدمة الأولى : أن السكر مثلاً علة التحريم في الخمر ، فهذه المقدمة إنما تثبت بأدلة الشرع ، وهي مسالك العلة الآتي بيانها .

المقدمة الثانية : أن السكر موجود في النبيذ ، فهذه المقدمة يجوز أن تثبت بالحس والعقل والعرف وأدلة الشرع .

وهذا النوع متفق على تسميته قياساً .

 ثانيًا : باعتبار علته ينقسم القياس إلى ثلاثة أقسام  :  

القسم الأول : قياس العلة ، وهو : ما صرح فيه بالعلة فيكون الجامع هو العلة ، وذلك كقوله تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } آل عمران : 137.

يعني : هم الأصل وأنتم الفرع ، والعلة الجامعة التكذيب ، والحكم الهلاك.

والقسم الثاني : قياس الدلالة ، وهو : ما لم تذكر فيه العلة ، وإنما ذُكر فيه لازم من لوازمها , كأثرها أو حكمها فيكون الجامع هو دليل العلة ، وذلك كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فصلت : 39.

فالأصل القدرة على إحياء الأرض ، والفرع القدرة على إحياء الموتى ، والعلة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته ، وإحياء الأرض دليل العلة .

والقسم الثالث : القياس في معنى الأصل ، وهو : ما كان بإلغاء الفارق فلا يحتاج إلى التعرض إلى الجامع ، وذلك كإلحاق الضرب بالتأفيف ، وهذا القسم هو القياس الجلي , ويسمى : بمفهوم الموافقة .

 ثالثا : وينقسم القياس إلى " قياس طرد " ," قياس عكس " .  

فقياس الطرد : ما اقتضى إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه .

وقياس العكس: ما اقتضى نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه .

ومثال هذين القسمين يوضحه ابن تيمية بقوله :

" وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس , فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم ، كان من الاعتبار أن يُعلم أن من فعل مثل ما فعلوا ، أصابه مثل ما أصابهم ، فيتقي تكذيب الرسل حذراً من العقوبة  وهذا قياس الطرد ، ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك ، وهذا قياس العكس " .  

 رابعاً : ينقسم القياس باعتبار محله إلى الأقسام التالية :

أ- القياس في التوحيد والعقائد :  

اتفق أهل السنة على أن القياس لا يجري في التوحيد إن أدى إلى البدعة والإلحاد ، وتشبيه الخالق بالمخلوق ، وتعطيل أسماء الله وصفاته وأفعاله .

وإنما يصح القياس في باب التوحيد إذا استدل به على معرفة الصانع وتوحيده ، ويستخدم في ذلك قياس الأولى ، لئلا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى } النحل : 60، ولئلا يتماثلان أيضاً في شيء من الأشياء { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } الشورى : 11.

بل الواجب أن يُعلم أن كل كمال ـ لا نقص فيه بوجه ـ ثبت للمخلوق فالخالق أولى به ، وكل نقص وجب نفيه عن المخلوق فالخالق أولى بنفيه عنه .

ب - القياس في الأحكام الشرعية :  

منع البعض إجراء القياس في جميع الأحكام الشرعية ، لأن في الأحكام ما لا يعقل معناه فيتعذر إجراء القياس في مثله .

وهذا غير صحيح , بل كل ما جاز إثباته بالنص جاز إثباته بالقياس ، لأنه ليس في هذه الشريعة شيء يخالف القياس .

قال ابن تيمية :

" ومن كان متبحراً في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة " . 

وقال ابن القيم :

" فهذه نبذة يسيرة تطلعك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس ، ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم فيه مخالف ، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجوداً وعدماً " .  

 خامساً : باعتبار الصحة والبطلان ينقسم القياس إلى صحيح وفاسد ومتردد بينهما :

فالصحيح : هو ما جاءت به الشريعة في الكتاب والسنة ، وهو الجمع بين المتماثلين ، مثل أن تكون العلة موجودة في الفرع من غير معارض يمنع حكمها ، ومثل القياس بإلغاء الفارق , والفاسد ما يضاده .  

قال ابن تيمية :

" وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد ، وكل من ألحق منصوصاً بمنصوص يخالف حكمه فقياسه فاسد ، وكل من سوى بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد " .  

والقسم الثالث : هو القياس المتردد بين الصحة والفساد فلا يقطع بصحته ولا بفساده ، فهذا يتوقف فيه حتى يتبين الحال فيقوم الدليل على الصحة أو الفساد , فلفظ القياس إذن لفظ مجمل يدخل فيه الصحيح والفاسد .  

لذلك لا يصح إطلاق القول بصحته أو ببطلانه .  

ولهذا أيضاً تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين ، وتجد في كلامهم أيضاً استعماله والاستدلال به ، وهذا حق وهذا حق .

فمراد من ذمه : القياس الباطل ، ومراد من استعمله واستدل به : القياس الصحيح .  

ولهذا أيضاً لم يجئ في القرآن الكريم مدحه ولا ذمه ، ولا الأمر به ولا النهي عنه ، فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد .  

 حجية القياس .

اتفق جمهور العلماء على إثبات القياس والاحتجاج به من حيث الجملة    , بل ذكره كثير من علماء أهل السنة ضمن الأدلة المتفق عليها .  

والناس في القياس طرفان ووسط .  

فطرف أنكر القياس أصلاً ، وطرف أسرف في استعماله حتى رد به النصوص الصحيحة ، والحق هو التوسط بين الطرفين ، وهو مذهب السلف ، فإنهم لم ينكروا أصل القياس ولم يثبتوه مطلقاً ، بل أخذوا بالقياس واحتجوا به.

ولكن وفق الضوابط الآتية :

الضابط الأول : ألا يوجد في المسألة نص , لأن وجود النص يسقط القياس ، فلا بد أولاً من البحث عن النص قبل استعمال القياس حتى لا يُصار إلى القياس إلا عند عدم النص .  

قال الشافعي :

" ونحكم بالإجماع ثم القياس ، وهو أضعف من هذا ، ولكنها منزلة ضرورة  لأنه لا يحل القياس والخبر موجود ، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء ، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء ، إنما يكون طهارة في الإعواز " .  

الضابط الثاني : أن يصدر هذا القياس من عالمٍ مؤهل ، قد استجمع شروط الاجتهاد .

الضابط الثالث : أن يكون القياس في نفسه صحيحاً ، قد استكمل شروط القياس الصحيح الآتي بيانها في المسألة اللاحقة .

بهذه الضوابط الثلاثة يكون القياس صحيحا ومعتبرا في الشريعة ، وهذا هو القياس الذي أشار إليه السلف واستعملوه ، وعملوا به وأفتوا به ، وسوغوا القول به .   

وهو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه ، قال تعالى : { اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } الشورى : 17، وقال سبحانه : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } الحديد : 25.

قال ابن تيمية :

"وكذلك القياس الصحيح حق، فإن الله بعث رسله بالعدل، وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما يُعرف به العدل".  

وقال ابن القيم :

" فالصحيح ـ يعني من القياس ـ هو الميزان الذي أنزله مع كتابه " .  

وهذا القياس من العدل الذي جاءت به الشريعة ، ولا يمكن أن يقع بينهما شيء من التعارض أو التناقض .

أما القياس الذي خلا من هذه الضوابط ، أو من واحد منها فهو القياس الباطل والرأي الفاسد ، وهذا هو الذي ذمه السلف ومنعوا من العمل والفتيا به ، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله .  

قال ابن عبد البر :

" وأما القياس على الأصل والحكم للشيء بنظيره فهذا مما لا يختلف فيه أحد من السلف ، بل كل من رُوي عنه ذم القياس قد وُجد له القياس الصحيح منصوصاً ، لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل مخالف للسلف في الأحكام " .  

وقبل ذكر الأدلة على حجية القياس ، تحسن الإشارة إلى أن العمل بالقياس الصحيح والاحتجاج به لدي أهل السنة ، أمر مبني على أصول شرعية ثابتة .

الأصل الأول : إثبات الحكمة والتعليل في أحكام الله وشرعه وأمره سبحانه وتعالى ، وتنزيهه جل شأنه عن العبث .

الأصل الثاني : شمول النصوص لجميع الأحكام وإحاطتها بأفعال المكلفين، فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بكلامه وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- جميع ما أمر به ، وجميع ما نَهَى عنه ، وجميع ما أحله ، وجميع ما حرمه ، وجميع ما عفا عنه ، وبهذا يكون الدين كاملاً ، كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } المائدة : 3، ولكن الناس يتفاوتون في معرفة النصوص والإطلاع عليها ، ويتفاوتون أيضا في فهمها .

فمنهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين ، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر ، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه ، ومنهم من يضم إلى النص نصاً آخر متعلقاً به فيفهم من اقترانه به قدراً زائداً على ذلك النص بمفرده ، وهذا مشروط بفهم يؤتيه الله عبده .

والمقصود : أن دلالة القياس الصحيح لا تخرج عن دلالة النصوص , فقد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان ، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان , فإن ما ثبت بالقياس لا بد وأن يستند إلى الكتاب أو السنة أو الإجماع في ثبوت حكم الأصل المقيس عليه من جهة ، وفي ثبوت علته من جهة أخرى ، والقياس على كل حال مستند في ثبوت حجيته إلى نصوص الكتاب والسنة .  

فإذا علم ذلك , وهو شمول النصوص للأحكام وتفاوت الناس في فهم النصوص : علم أولاً بطلان قول من قال : " إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة " .

وعُلم ثانياً أن النصوص كافية ويُستغنى بها عن القياس والرأي في كثير من المسائل . 

فمن ذلك :  

الاكتفاء بقوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } المائدة : 38  عن إثبات قطع النباش بالقياس ، إذ السارق يعم في لغة العرب وعرف الشارع سارق ثياب الأحياء والأموات .

والاكتفاء بقوله -صلى الله عليه وسلم-: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " , في إبطال كل عقد نهى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- عنه وحرمه ، وأنه لغو لا يعتد به .

وعلم ثالثاً مقدار هذه الشريعة ، وجلال مكانتها ، وسعتها ، وهيمنتها ، وشرفها على جميع الشرائع .

وعُلم رابعاً أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بين لأمته كل شيء من الدين .

الأصل الثالث : موافقة القياس الصحيح لنصوص الشريعة , إذ ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس . 

ومما يدل على ذلك :

1- أن القياس الصحيح من العدل ، والنص الشرعي من العدل ، فكلاهما عدل .

قال ابن تيمية :

" وهو ـ أي القياس الصحيح ـ من العدل الذي بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم-" .  

2- أن الشريعة لا تناقض فيها ولا تعارض بين شيء من أحكامها ، والقياس الصحيح مما جاءت به الشريعة .

أن الشريعة جاءت بالجمع بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، والقياس من قبيل الجمع بين المتماثلين فيكون موافقًا للشريعة .

ولابن تيمية رسالة نفيسة في بيان أنه ليس في الشريعة ما يخالف قياسًا صحيحًا ، كما عقد ابن القيم في ذلك فصلاً في كتابه القيم " إعلام الموقعين " ، فقال : " فصل في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس ".

وبذلك يتضح :

* خطأ من عنون لتلك المسألة بقوله : " ما حكم العمل بخبر الواحد إذا خالف القياس ؟ " .

لأن هذا العنوان مبني على تصور وقوع الاختلاف بين الخبر والقياس ، وهذا غير صحيح .

* وأن من ادعى وقوع اختلاف بين الخبر والقياس فالجواب عليه أن يقال  لا يخلو الحال من أمرين :

الأمر الأول : عدم ثبوت هذا الخبر المخالف للقياس .

والأمر الثاني : فساد هذا القياس .

قال ابن تيمية :

" وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد .

فمن رأى شيئاً من الشريعة مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ، ليس مخالفاً للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر ، وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس : علمنا قطعاً أنه قياس فاسد , فليس في الشريعة ما يخالف قياساً صحيحاً ، لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد ، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده " .

* وأن الخبر يقدم على القياس دائماً إذا ظهر للمجتهد بينهما تعارض ، يوضحه :

* أن القياس المخالف للنص قياس فاسد ، لا يجوز المصير إليه ولا الأخذ به  وهذا هو القياس الذي ثبت عن السلف ذمه والمنعُ منه .

 أما الأدلة على حجية القياس فمنها :

أولاً : إجماع الصحابة  على الحكم بالقياس في وقائع كثيرة تصل بمجموعها إلى حد التواتر .  

فمن ذلك قياس الزكاة على الصلاة في قتال الممتنع منها بجامع كونهما عبادتين من أركان الإسلام .  

ولم يزل التابعون أيضًا ومن بعدهم من علماء الأمة على إجازة القياس وإثبات الأحكام به .

ثانيًا : حديث معاذ –رضي الله عنه- المشهور أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن قال : " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ " قال : أقضي بكتاب الله ، قال : " فإن لم تجد في كتاب الله ؟ " قال : فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال : " فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله ؟ " قال : اجتهد رأي ولا آلو ، فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسولَ رسوِل الله لما يرضي رسول الله " .  

قال ابن عبد البر عن هذا الحديث :

" وهو الحجة في إثبات القياس عند جميع الفقهاء القائلين به " .  

وقد وردت عن الصحابة -رضي الله عنهم- آثار تدل على هذا المعنى .  

ثالثا : ما ثبتَ في الكتاب والسنة من الأمر بالاعتبار والاتعاظ والاستفادة من الأمثال المضروبة وأخذ الأحكام منها ، وأن للنظير حكم نظيره ، وهذا معلوم أيضاً في فطر الناس ومستقر في عوائدهم وأحوالهم .

فمن ذلك قوله تعالى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } الحشر : 2، وقوله تعالى : { ضَرَبَ اللهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } الزمر : 29، وقوله تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } الصافات : 22.

وكذلك لو قال الطبيب للعليل وعنده لحم ضأن : لا تأكل الضأن فإنه يزيد في مادة المرض ، لفهم كل عاقل منه أن لحم الإبل والبقر كذلك ، ولو أكل منهما لعد مخالفاً .

وكذلك لو من عليه غيره بإحسانه ، فقال : والله لا أكلت له لقمةً ولا شربت له ماء , يريد خلاصه من منته عليه ، ثم قبل منه الدراهم َ، والذهبَ ، والثيابَ  والشاة ، ونحوها ، لعده العقلاء واقعاً فيما هو أعظم مما حلف عليه .

 شروط القياس

لا بد في صحة القياس واعتباره شرعاً من توفر الشروط الآتية فيه :  

الشرط الأول : أن يكون حكم الأصل المقيس عليه ثابتاً ، إما بنص ، أو إجماع ، أو باتفاق الخصمين عليه ، أو بدليل يغلب على الظن صحته ، وألا يكون منسوخاً.

الشرط الثاني : أن يكون حكم الأصل المقيس عليه معقول المعنى لتمكن تعدية الحكم ، أما ما لا يعقل معناه كعدد الركعات فلا سبيل إلى تعدية الحكم فيه.

الشرط الثالث : أن توجد العلة في الفرع بتمامها ، وذلك بأن يقطع بوجودها - وهذا هو قياس الأولى أو المساواة - أو يغلب على الظن وجودها في الفرع.

الشرط الرابع : ألا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه بنص مخالف لحكم الأصل ، إذ القياس يكون حينئذ على خلاف النص وهو باطل ، وأما إن كان النص موافقاً لحكم الأصل ، فإن هذا يجوز من باب تكثير الأدلة , فيقال في حكم الفرع : دل عليه النص والقياس .

الشرط الخامس : أن يكون حكم الفرع مساوياً لحكم الأصل ، فلا يصح قياس واجب على مندوب،  ولا مندوب على واجب مثلاً , لعدم مساواتهما في الحكم .

الشرط السادس : أن تكون العلة متعدية ، فإن كانت قاصرة صح التعليل بها ولم يصح تعدية الحكم بها ، مثال العلة القاصرة : الثمنية في الذهب والفضة ، ومثال العلة المتعدية : الطعم في البر .

الشرط السابع : أن تكون العلة ثابتة بمسلك من مسالك العلة وهي النص أو الإجماع أو الاستنباط .

الشرط الثامن : ألا تخالف العلة نصاً ولا إجماعاً ، وذلك إن كانت مستنبطة

الشرط التاسع : أن تكون العلة - وذلك إن كانت مستنبطة - وصفاً مناسباً وصالحاً لترتيب الحكم عليه ، فلا يصح التعليل بالوصف الطردي كالطول والسواد .

الشرط العاشر : أن يكون القياس في الأحكام الشرعية العملية , إذ لا يصح إجراء القياس في العقائد والتوحيد إن أدى إلى البدعة والتعطيل .

العلـــــــــة

العلة لغة : بمعنى المرض .

وفي اصطلاح الأصوليين : هي أحد أركان القياس وهو الوصف الجامع بين الفرع والأصل المناسب لتشريع الحكم .

وتسمى العلة : بالمناط ، والمؤثر ، والمظنة ، والسبب ، والمقتضي ، والمستدعي ، والجامع .  

 والأوصاف ثلاثة أقسام :  

الأول : وصف يُعلم مناسبته لبناء الحكم الشرعي عليه ، كمناسبة الإسكار لتحريم الخمر ، فهذا يسمى : بالوصف المناسب ، وهو صحيح يجوز فيه القياس .

الثاني : وصف لا يُتوهم أنه مناسب لبناء الحكم عليه , لعدم التفات الشارع إليه في حكم ما ، كالطول والقصر ، والسواد والبياض ، فهذا يسمى : بالوصف الطردي ، والقياس به باطل .

الثالث : وصف بين القسمين السابقين ، متردد بين المناسبة وعدمها ، وهذا يسمى : بقياس الشبه فهو من حيث إنه لم تتحقق فيه المناسبة أشبه الطردي ومن حيث إنه لم يتحقق فيه انتفاؤها أشبه المناسب ، ولهذا سمي شبهاً .

وهو من أصعب مسالك العلة وأدقها فهماً .

{ مثاله } : العبد إذا قتل هل تلزم فيه القيمة أو الدية ؟

فمن حيث إنه يباع ويوهب ويورث أشبه المال ومن حيث إنه يثاب ويعاقب وينكح أشبه الحر ، فيلحق بأكثرهما شبها .  

وقد تكون العلة وصفاً عارضاً كالشدة في الخمر ، وقد تكون وصفاً لازماً كالأنوثة في ولاية النكاح .

وقد تكون حكماً شرعياً ، كأن يقال: يحرم بيع الخمر فلا يصح بيعه كالميتة .

وقد تكون فعلاً من أفعال المكلفين كالقتل والسرقة .

وقد تكون وصفاً مجرداً كالكيل عند من يعلل به تحريم الربا ، وقد تكون أوصافاً مركبة كالقتل العمد العدوان .

وقد تكون إثباتاً ، وقد تكون نفياً ، نحو : لم ينفذ تصرفه لعدم رشده .

وقد تكون العلة قاصرة كالثمنية في الذهب والفضة ، وقد تكون متعدية كالطعم في البر .

وقد تكون العلة وصفاً مناسباً ، وقد تكون وصفاً غير مناسب ، وقد تكون وصفًا متردداً بين المناسبة وعدمها, وقد تقدم قريباً التمثيل لهذه الأقسام الثلاثة .

وقد تكون العلة مطردة بمعنى أن يوجد الحكم كلما وجدت العلة ، وقد تكون غير مطردة فتوجد العلة ويتخلف عنها الحكم .

 شروط العلة .

أكثر الأصوليين يعبرون عن الوصف الجامع بالعلة ، ثم يذكرون من شروط العلة أن تكون وصفاً مناسباً ، وهذا لا يستقيم على قول من يرى جواز الاستدلال بقياس الشبه وقياس الدلالة , لأن الوصف الجامع في هذين القياسين هو الشبه في الأول ودليل العلة في الثاني ، ولا يشترط لهما ظهور المناسبة ، فالوصف الجامع الذي هو ركن من أركان القياس قد يكون علة ، وقد يكون دليل العلة ، وقد يكون وصفا شبهيا .

 والشروط التي تشترك فيها هذه الثلاثة هي :

1ـ أن يكون وصفا ظاهراً لا خفياً ، مثل الإسكار علة لتحريم الخمر ، وكون العبد لا يجبر على ابتداء النكاح يعلل به عدم إجباره على فسخه ، وكون العبد يصح نكاحه يستدل به على صحة طلاقه وظهاره ، وكون الوضوء قربة فيستدل به على اشتراط النية فيه .

2ـ أن يكون الوصف منضبطاً ، أي : لا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة اختلافاً كبيراً .

فإن كان غير منضبط ، فلا يصح التعليل به كالمشقة في الفطر في السفر ، فإن الناس يختلفون في قدرة تحملهم ، فمنهم من يشق عليه السفر وإن كان قصيراً ، ومنهم من لا يشق عليه السفر ، والشرع من مقاصده التساوي بين الناس في الحكم الشرعي ، فلهذا جعل السفر مناط الحكم لأنه مظنة المشقة .

هكذا قال كثير من العلماء ، والصواب أن المشقة علة للتخفيف ، ولكن ليس كل ما فيه مشقة يكون علة للتخفيف ، بل المشقة الخارجة عن المعتاد هي التي تصلح علة للتخفيف .

وأما التعليل لجواز الفطر للمسافر بالسفر فهو تعليل بعلة قاصرة على المحل لا تتعداه إلى غيره وهي قليلة الفائدة , إذ لا يبنى عليها قياس وإنما هي قصر للنص على محله .

ومع أن كثيراً من العلماء قالوا بقاعدة : " المشقة تجلب التيسير " ، إلا أنهم لم يجعلوا الفطر في السفر مقصورا على من لحقته مشقة ، بل عملوا بعموم النص الوارد في جواز الفطر للمسافر وإن كان منهم من حدد السفر المبيح للفطر بيوم وليلة أو بفراسخ محددة , لظنه أن ما دون ذلك لا توجد فيه مشقة .

ولم يقولوا : إن من لم يشق عليه السفر لا يجوز له الفطر والجمع والقصر ، وذلك لعدم التجرؤ على مخالفة النص ، فإن النص عام في كل مسافر فلم يقيدوه بالمشقة , ولا يختلفون في أن من شق عليه الصيام مشقة تفضي به إلى الهلاك أو الضرر الذي لا يتحمل ، جاز له الفطر وإن كان مقيماً في بيته ، وهذه المشقة تختلف من شخص لآخر فما يشق على فلان من الناس ويلجئه إلى الفطر ربما لا يشق على غيره .

3 ـ أن يكون الوصف متعدياً ، أي : يوجد في غير الأصل كوجوده في الأصل ، فإن كان الوصف المعلل به قاصراً ، أي : لا يتعدى محل الأصل الذي ثبت حكمه بالنص فتسمى العلة القاصرة ، وقد أنكر التعليل بها الحنفية وأثبتها الشافعية ، والجميع متفقون على أن العلة القاصرة لا يبنى عليها قياس ، فلا تكون ركناً من أركانه .

{ مثال } التعليل بالعلة القاصرة : تعليل جواز الفطر في السفر بالسفر ، فإن هذه علة قاصرة لا تتعدى إلى غير المنصوص عليه .

4ـ ثبوت العلية قطعاً أو ظناً ، والوصف الجامع يثبت كونه علة بطرق بعضها محل وفاق وبعضها محل خلاف .

5 ـ الاطراد ، والمراد به : وجود الحكم كلما وجد الوصف المدعى كونه علة .

وعكسه : الانتقاض ، وهو وجود الوصف مع تخلف الحكم .

والنقض هو : إبداء صورة أو أكثر وجد فيها الوصف المدعى علته ، مع تخلف الحكم .

{ مثاله } لو علل القصاص بالقتل ، فإن هذه العلة منتقضة , لأن القتل خطأ لا قصاص فيه باتفاق ، ولأن القاتل يقتل ولا قصاص في قتله ، الخ .

وأما إذا علل القصاص بالقتل عمداً وعدواناً , فإن هذه العلة مطردة غير منقوضة ، فكل من قتل مسلماً معصوماً يستحق القتل .

واختلف في هذا الشرط ، فذهب أكثر الأصوليين إلى أنه شرط لصحة العلة مطلقاً ، سواء أكانت منصوصة أم مستنبطة .

وذهب بعضهم إلى أنه شرط للعلة المستنبطة فقط .

والصحيح : أنه ليس بشرط لصحة العلة مطلقاً , لأن العلة يكتفي فيها بالظن الغالب ، وتخلف الحكم عن العلة في موضع لا يلغي الظن الغالب إذا شهد لهذا الظن شواهد أخرى ، فإن تخلف الحكم في هذا الموضع قد يكون لفوات شرط من شروط العلة أو لوجود مانع ، ولكن إذا اعترض على العلة بالنقض فلا بد للمستدل أن يبين سبب تخلف الحكم في هذا الموضع ، فإن عجز عن بيان الفرق بين الصورة التي اعترض بها المعترض ومحل النزاع سقط استدلاله .

وهناك شروط أخرى مختلف فيها ، وهي تذكر في كتب الأصول في مسائل خاصة ، مثل مسألة التعليل بالحكم ، أو التعليل بالاسم المجرد ، أو عدم التركيب من أكثر من وصف ، أو التعليل بالعدم ، ونحو ذلك .

فهذه المسائل تشير إلى شروط مختلف فيها ، اشترطها بعض العلماء في العلة فقال : يشترط أن تكون العلة وصفاً وألا تكون اسماً مجرداً أو مركبة من أوصاف متعددة ، أو عدمية ( منفية ) .

 طرق معرفة العلة .

يتعرف المجتهد على العلة بعدة طرق ، بعضها محل وفاق وبعضها محل خلاف ، أهمها ما يلي :

 النص : ومنه ما هو صريح في العلية ، كقوله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } المائدة : 32، وغير ذلك من الألفاظ الدالة على التعليل صراحة .

ومنه ما ليس صريحاً في التعليل ، وهذا يسمى " بالإيماء " والتنبيه على العلة .

وهو: أن يقترن الحكم بوصف على وجه لو لم يكن علة لكان هذا الاقتران بعيدا عن الفصاحة ومعيبا عند العقلاء ، وكلام الشارع ينزه عن ذلك .

والإيماء والتنبيه أنواع :

منها : أن يذكر الحكم عقب وصف بالفاء فيدل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، كقوله تعالى : { قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } البقرة : 222.

ومنها : ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } الطلاق : 2 , أي : لتقواه .

ومنها : أن يذكر الحكم مقروناً بوصف مناسب ، كقوله تعالى : { إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } الانفطار : 13، أي : لبرهم .

 الإجماع :  والمراد بهذا المسلك : أن تجمع الأمة على أن هذا الحكم علته كذا ، كالإجماع على أن الصغر علة الولاية في المال ، أو في الإجبار على النكاح .

 الاستنباط ، وهو ثلاثة أنواع :

 النوع الأول : " السبر والتقسيم " ، وقد يسمى بالسبر فقط ، وبالتقسيم فقط ، وبهما معاً وهو الأكثر.

والسبر والتقسيم مبني على أمرين :

أحدهما : حصر الأوصاف ، وهو المعبر عنه بالتقسيم ، وذلك كقوله تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } الطور : 35، فيقال : لا يخلوا الحال من ثلاثة أمور :

الأول : أن يكونوا قد خُلقوا من غير شيء , أي : بدون خالق .

والثاني : أن يكونوا خلقوا أنفسهم .

والثالث : أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم .

والأمر الثاني : إبطال ما هو باطل من الأوصاف المحصورة ، وإبقاء ما هو صحيح منها ، وهذا ما يعبر عنه بالسبر ، فيقال في المثال السابق : لا شك أن القسمين الأولين باطلان ضرورة ، والقسم الثالث هو الحق الذي لا شك فيه ، فإن الله عز وجل هو خالقهم المستحق وحده للعبادة .

وهذا الحصر وما يتبعه من الإبطال متى كان قطعياً كان التعليل به قطعياً .

ومتى كان ذلك ظنياً كان التعليل كذلك ، وهكذا....

 النوع الثاني : " الدوران الوجودي والعدمي " ، ويسمى بالدوران فقط  وبالطرد والعكس .

والمراد بهذا المسلك : أن اقتران الحكم بوصف ما وجوداً وعدماً دليل على أنه علته ، فلا يكفي اقترانه به في الوجود فقط أو في العدم فقط .

وذلك مثل الشدة في الخمر فإنها علة تحرميه .

 النوع الثالث : " المناسبة والإخالة " ، والمراد بهذا المسلك عند الأصوليين :

أن يكون الحكم مقترنا بوصف مناسب لبناء الحكم عليه ، فيجعل هذا الوصف علة لهذا الحكم , لاشتمال هذا الوصف على مصلحة معتبرة .

وذلك كالإسكار فإنه مناسب للتحريم , لأن المنع من الإسكار فيه مصلحة حفظ العقل , وقد تقدم بيان أن الأوصاف منها ما هو مناسب لبناء الحكم عليه، وهو المقصود في هذا المقام , إذ الوصف المناسب هو " ما كان في إثبات الحكم عقبه مصلحة " , فيدل ذلك على التعليل به .

والوصف المناسب للعلية ينقسم من حيث اعتبار الشرع له في ربط الأحكام به وعدم اعتباره إلى أربعة أقسام :

مؤثر ـ وملائم  ـ وغريب ـ ومرسل

لأن الوصف المناسب إما أن يدل الدليل على اعتباره في الحكم ، وإما أن يدل على عدم اعتباره فيه ، وإما ألا يدل على اعتباره فيه ولا على عدمه ، فهذه ثلاثة أقسام لا رابع لها ، وواحد منها ينقسم إلى قسمين ، وهو ما دل الدليل على اعتبار الوصف في الحكم ، لأنه مؤثر أو ملائم .

فالمؤثر : ما دل الدليل فيه على اعتبار عين الوصف في عين الحكم ، كتعليل ولاية المال بالصغر , فإنه اعتبر عين الصغر في عين الولاية في المال إجماعا ، وسُمي هذا القسم مؤثراً لحصول التأثير فيه عيناً وجنساً فظهر تأثيره في الحكم .

والملائم : ما دل الدليل على اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم ، كتأثير القتل بالمثقل في القصاص , فإنه اعتبر جنس الجناية في جنس القصاص .

وكذلك ما دل الدليل على اعتبار عين الوصف في جنس الحكم ، كتقديم الأخ الشقيق على الأخ لأب في الميراث ، فاعتبر ذلك في جنس الولاية ، ومنها ولاية النكاح .

وكذلك ما دل الدليل على اعتبار جنس الوصف في عين الحكم ، كتأثير جنس المشقة في إسقاط الصلاة عن الحائض ، وفي التخفيف عن المسافر ، فاعتبرت هذه المشقة المشتركة في عين إسقاط القضاء عن الحائض .

والغريب : هو ما دل الدليل على عدم اعتبار هذا الوصف في الحكم ، وهو المعروف بالمصلحة الملغاة التي أهدرها الشارع .

والمرسل : هو ما لم يقم دليل خاص على اعتبار مناسبته أو إهدارها ، وهذا ما يعرف " بالمصلحة المرسلة " .

وحاصل القول في الوصف المناسب :

أنه مبني على أن أحكام الله سبحانه مشتملة على مصالح ومنافع .

وأن أحكامه معللة بهذه المصالح .

وأن هذه المصالح ترجع إلى : حفظ الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال .



زاد الطالب في أصول الفقة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 5:50 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقة Empty
مُساهمةموضوع: الأدلة المختلف عليها   زاد الطالب في أصول الفقة Emptyالإثنين 24 مارس 2014, 12:29 am

الأدلة المختلف عليها

ــ 1 ــ

المصالــــح المرسلــــة

 تعريف المصالح المرسلة .

اعلم أخي القارئ : أن هذه الشريعة مبنية على تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة ، فالشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة ، ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة , وهذا الأصل شامل لجميع الشريعة لا يشذ عنه شيء من أحكامه .

وأن هذه الشريعة لم تهمل مصلحة قط ، فما من خير إلا وقد حثنا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وما من شر إلا وحذرنا منه .

وإذا عُلم ذلك فلا يمكن أن يقع تعارض بين الشرع والمصلحة ، إذ لا يتصور أن ينهى الشارع عما مصلحته راجحة أو خالصة ، ولا أن يأمر بما مفسدته راجحة أو خالصة .

وإذا عُلم ذلك فمن ادعى وجود مصلحة لم يرد بها الشرع فأحد الأمرين لازم له :

إما أن الشرع دل على هذه المصلحة من حيث لا يعلم هذا المدعي .

وإما أن ما اعتقده مصلحة ليس بمصلحة ، فإن بعض ما يراه الناس من الأعمال مقرباً إلى الله ولم يشرعه الله فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه ، وإلا فلو كان نفعه أعظم لم يهمله الشارع .

 وتنقسم المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع إلى ثلاثة أقسام :

مصلحة معتبرة شرعاً ـ ومصلحة ملغاة شرعا ـ ومصلحة مسكوت عنها

أ- أما المصلحة المعتبرة شرعا : فهي المصلحة الشرعية التي جاءت الأدلة الشرعية بطلبها من الكتاب ، أو السنة ، أو الإجماع ، أو القياس .

{ مثالها } : 

مصلحة حفظ العقل التي تضمنها تحريم الخمر ، فيقاس على الخمر كل ما يذهب العقل من المخدرات والحشيش ونحو ذلك .

ب - وأما المصلحة الملغاة شرعاً : فهي المصلحة التي يراها العبد - بنظره القاصر - مصلحة ولكن الشرع ألغاها وأهدرها ولم يلتفت إليها ، بل جاءت الأدلة الشرعية بمنعها والنهي عنها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس  وذلك كالمصلحة الموجودة في الخمر .

فهذا النوع من المصالح في نظر الشارع يعتبر مفسدة ، وتسميته مصلحة باعتبار الجانب المرجوح أو باعتبار نظر العبد القاصر ، ثم هي موصوفة بكونها ملغاة من جهة الشرع .

جـ - وأما المصلحة المسكوت عنها : فهي التي لم يرد في اعتبارها أو إبطالها دليل خاص من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس ، لكنها لم تخل عن دليل عام كلي يدل عليها ، فهي إذن لا تستند إلى دليل خاص معين ، بل تستند إلى مقاصد الشريعة وعموماتها ، وهذه تسمى بالمصلحة المرسلة .

{ ومثال هذا النوع } : 

المصلحة الناشئة من جمع القرآن في مصحف واحد ، فهذا العمل فيه مصلحة حفظ الدين ، ولكن لم نجد نصاً يدل على حفظ الدين بهذه الطريقة بخصوصها ، ولا بشيء يشبهها شبهاً يمكن معه قياسها عليه.

ومن ذلك المصلحة الناشئة عن وضع إشارات المرور في الشوارع العامة ، ومعاقبة من لا يراعيها ، فإن هذا العمل فيه مصلحة ظاهرة للناس , حيث إن الالتزام بهذه الإشارات يحفظ أرواح الناس وأموالهم ، وعدمه يؤدي إلى التصادم وتعطيل الحركة وهلاك الأنفس والأموال ، فهذه المصلحة من حيث جنسها قد جاء بها الشرع ، ولا يشك مسلم في أن الإسلام يدعو إلى حفظ الأنفس والأموال ، ولكن لا نجد نصاً خاصاً يدل على حفظها بهذه الطريقة ـ أي : بوضع إشارات المرور ـ ولا بطريقة تشبههاً شبهاً بيناً يمكن قياسها عليها.

وإنما قيل لها مرسلة لإرسالها , أي: إطلاقها عن دليل خاص يقيد ذلك الوصف بالاعتبار أو بالإهدار .

مما مضى يمكن تعريف المصلحة المرسلة بأنها :

" ما لم يشهد الشرع لاعتباره ولا لإلغائه بدليل خاص " ، وتسمى بالاستصلاح وبالمناسب المرسل .

 أقسام المصلحة المرسلة .

أولاً : تنقسم المصلحة المرسلة باعتبار الأصل الذي تعود عليه بالحفظ إلى خمسة أقسام .

1ـ مصلحة تعود إلى حفظ الدين .

2- مصلحة تعود إلى حفظ النفس .

3- مصلحة تعود إلى حفظ العقل .

4- مصلحة تعود إلى حفظ النسب .

5- مصلحة تعود إلى حفظ المال .

وهذه الأمور الخمسة تسمى :

 " بالضروريات الخمس وبمقاصد الشريعة "، وهي الأمور التي عُرف من الشارع الالتفات إليها في جميع أحكامه ، ويستحيل أن يفوتها في شيء من أحكامه .

بل جميع التكاليف الشرعية تدور حولها بالحفظ والصيانة .

والدليل على ذلك : هو الاستقراء التام الحاصل بتتبع نصوص الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات .  

ثانياً : تنقسم المصلحة المرسلة أيضا إلى ثلاثة أقسام وذلك باعتبار قوتها :  

القسم الأول : المصلحة الضرورية ، وتسمى درء المفاسد ، وهي : ما كانت المصلحة فيها في محل الضرورة بحيث يترتب على تفويت هذه المصلحة تفويت شيء من الضروريات أو كلها ، وهذه أعلى المصالح ، وذلك كتحريم القتل ، ووجوب القصاص .

القسم الثاني : المصلحة الحاجية ، وتسمى جلب المصالح ، وهي : ما كانت المصلحة فيها في محل الحاجة لا الضرورة فيحصل بتحقيق هذه المصلحة التسهيل وتحصيل المنافع ، ولا يترتب على فواتها فوات شيء من الضروريات ، وذلك كالإجارة والمساقاة .

القسم الثالث: المصلحة التحسينية ، وتسمى التتميمات ، وهي : ما ليس ضرورياً ولا حاجياً ولكنها من باب الجري على مكارم الأخلاق واتباع أحسن

المناهج ، وذلك كتحريم النجاسات .

 حكم الاحتجاج بالمصلحة المرسلة .

جلب المصالح ودرء المفاسد أصل متفق عليه بين العلماء ، لكنهم اختلفوا في المصلحة المرسلة , فمن رأى أنها من باب جلب المصالح ودرء المفاسد اعتبرها دليلاً واحتج بها ، ومن رأى أنها ليست من هذا الباب ، بل رأى أن المصلحة المرسلة من باب وضع الشرع بالرأي وإثبات الأحكام بالعقل والهوى قال : إنها ليست من الأدلة الشرعية وأنه لا يجوز الاحتجاج بها ولا الالتفات إليها .  

قال الشيخ الشنقيطي :

" فالحاصل أن الصحابة  كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها ، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية .

وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة ، وإن زعموا التباعد منها , ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك .

ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها ، أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها ، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال " . 

وبذلك يتبين أن الخلاف في الاحتجاج بالمصلحة المرسلة خلاف لفظي , لأن الجميع متفق على أن تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها أصل شرعي ثابت إلا أن الخلاف وقع في تسمية العمل بهذا الأصل والالتفات إلى تحقيقه - فيما لم يرد باعتباره أو إلغائه دليل خاص - مصلحة مرسلة .  

فبعضهم يسمي ذلك مصلحة مرسلة ، وبعضهم يسمي ذلك قياسا   ، أو عموماً ، أو اجتهاداً ، أو عملاً بمقاصد الشريعة .

ومما يقرر كون الخلاف لفظياً أن المثبتين للمصلحة المرسلة إنما يقولون بها وفق الضوابط الآتية :

الأول : ألا تكون المصلحة مصادمة لنص أو إجماع .  

الثاني : أن تعود على مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة .  

الثالث : ألا تكون المصلحة في الأحكام التي لا تتغير ، كوجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ، والحدود ، والمقدرات الشرعية ، ويدخل في ذلك الأحكام المنصوص عليها ، والمجمع عليها ، وما لا يجوز فيه الاجتهاد .  

الرابع : ألا تعارضها مصلحة أرجح منها أو مساوية لها ، وألا يستلزم من العمل بها مفسدة أرجح منها أو مساوية لها .  

قال ابن القيم :

" فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحة خالصة أو راجحة ، وإما أن تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة ، وإما أن تستوي مصلحتها ومفسدتها .

فهذه أقسام خمسة : منها أربعة تأتي بها الشرائع .

فتأتي بما مصلحته خالصة أو راجحة آمرة به أو مقتضية له .

وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي عنه وطلب إعدامه .

فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة أو تكميلها بحسب الإمكان ، وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلها بحسب الإمكان .

فمدار الشرائع والديانات على هذه الأقسام الأربعة " .   

 أمثلة تطبيقية للعمل بالمصالح المرسلة .

1ـ ضرب العملة السائرة في كل بلد ، فهذا العمل لو طبقنا عليه دليلا من النص لم نجده , إذ ليس في القرآن أمر بذلك ، ولم يفعله الرسول  ولم يأمر به ، ولكن الحاجة ماسة إليه ليتعامل الناس بعملة مقبولة عند جميعهم ، تمكنهم من مبادلتها بما يحتاجونه من مأكول ومشروب وملبوس ومركوب وخدمات ينتفعون بها ، ولذا وجب على الدولة أن تقوم بضرب عملة وتحميها من التزوير حتى تحتفظ بقيمتها .

2ـ وضع الإشارات التي تنظم السير في الطرقات ، ووجوب الوقوف عندها  فوضعها في المدن الكبيرة من الضروريات التي يؤدي الإخلال بها إلى تلف الأنفس والأموال ، فيجب على ولي الأمر وضعها ، ويجب على الناس الالتزام بها .

3ـ تسجيل الأنكحة والمواليد في سجلات خاصة ، فهذا من الحاجيات التي يؤدي الإخلال بها إلى فقدان كثير من المصالح ، وقد يقال : إنها مما يحفظ الأنساب فتلحق بالضروريات .

4ـ الإلزام باستخراج بطاقات الجنسية ، ورخص القيادة ، ومعاقبة المخالف لذلك .

فهذه كلها مما تدعو الحاجة إليه لضبط الأمن ، ومعرفة الأنساب ، والمحافظة على الأرواح والأموال .

 سد الذرائع وإبطال الحيل

مما يدخل تحت الضابط الرابع من ضوابط الأخذ بالمصلحة المرسلة -السابق ذكرها- ألا يؤدي العمل بها إلى مفسدة أرجح منها أو مساوية لها في المآل وثاني الحال .

والمقصود بهذا القيد: التنبيه على أصلين من أصول الشريعة وقواعدها الكلية، هذان الأصلان هما "سد الذرائع" و "إبطال الحيل":

والذرائع : جمع ذريعة ، والذريعة هي : الوسيلة المؤدية إلى الشيء ، سواء أكان مصلحة أم مفسدة .

وسد الذرائع : منع الوسائل المفضية إلى المفاسد .

ولقد جاءت هذه الشريعة بسد الذرائع وهو تحريم ما يتذرع ويتوصل بواسطته إلى الحرام ، كما جاءت بإبطال الحيل التي تفتح باب الحرام .

قال ابن القيم :

" وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات ، وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها .

فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات ، وسد الذرائع عكس ذلك ، فبين البابين أعظم التناقض .

والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه ، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه"   , يعني : بذلك الحيل .

{ مثال } سد الذرائع : نهي الله عن سب آلهة المشركين مع كون ذلك أمراً واجباً من مقتضيات الإيمان بألوهيته سبحانه ، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة .

وأيضاً : منع الشارع القاضي من أخذ الهدية لئلا يكون ذريعة إلى أخذ الرشوة ، وفي ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هدايا العمال غلول " .  

قال تعالى : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } الأنعام : 108.

{ ومثال } : الحيل المحرمة التي يتوصل بها إلى فعل الحرام : فعل بني إسرائيل لما حرم عليهم صيد الحيتان يوم السبت ، إذ نصبوا البرك والحبائل للحيتان قبل يوم السبت ، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل ، فلما انقضى السبت أخذوها ، فمسخهم إلى صورة القردة .  

وعلاقة سد الذرائع وإبطال الحيل بالمصلحة يجليه ابن القيم بقوله :

 " وبالجملة فالمحرمات قسمان : مفاسد ، وذرائع موصلة إليها مطلوبة الإعدام ، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام .

والقربات نوعان : 

مصالح للعباد ، وذرائع موصلة إليها .

ففتح باب الذرائع في النوع الأول كسد باب الذرائع في النوع الثاني ، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة ، فبين باب الحيل وباب سد الذرائع أعظم التناقض .

وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التي جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها أن تجوز فتح باب الحيل وطرق المكر على إسقاط واجباتها واستباحة محرماتها ، والتذرع إلى حصول المفاسد التي قصدت دفعها " . 



زاد الطالب في أصول الفقة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 5:50 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقة Empty
مُساهمةموضوع: الاستصحــــــــــــاب   زاد الطالب في أصول الفقة Emptyالإثنين 24 مارس 2014, 12:41 am

ــ2ــ

الاستصحــــــــــــاب

 تعريف الاستصحاب .

الاستصحاب لغة : طلب الصحبة ، وهي الملازمة .  

وفي اصطلاح الأصوليين : " استدامة إثبات ما كان ثابتاً ، أو نفي ما كان منفياً " .  

أو هو : الحكم ببقاء أمر في الزمن الحاضر بناء على ثبوته في الزمن الماضي حتى يقوم الدليل على تغييره .

ووجه تسميته استصحابا : أن المجتهد يستصحب الحكم الأول حتى يرد ما يدل على ارتفاعه .

والملاحظ من خلال التعريف السابق أن الاستصحاب :

إما أن يكون استدامة إثبات أمر ، أو استدامة نفي أمر ، فهو استدامة على كلا الحالين .

فلو اشترى شخص شئ بشرط خلو هذا الشئ من العيب فجاء ليرده ، واختلف مع البائع في وجود العيب عند البائع ، وعدم وجوده فالقول قول البائع لتمسكه بالصفة الأصلية ، وهى السلامة ، وعلى المشترى الإثبات بالبينة

{ مثال آخر } : إذا توضأ ثم شك في وجود ما ينقض الوضوء فإنه يستصحب الحكم السابق ، وهو كونه طاهراً حتى يثبت خلافه .

 أنواع الاستصحاب .

 يتنوع الاستصحاب باعتبار الحكم السابق إلى أنواع أهمها :

1ـ استصحاب الحكم الأصلي للأشياء وهو الإباحة عند عدم الدليل على خلافه .

وبيان هذا : أن المقرر عند جمهور العلماء : أن الحكم الثابت للأشياء النافعة للإنسان التى لم يرد عن الشارع فيها حكم معين هو الإباحة والإذن ، لقيام الأدلة العديدة على ذلك منها قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } فإن الله تعالى أخبر بأن جميع المخلوقات قد خلقت لنا على جهة الانتفاع بها ، فكانت مباحة ، إذ لو لم تكن مباحة لما كانت مخلوقة لنا .

فإذا عرضت واقعة على المجتهد ولم يجد حكماً لها في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس أو المصلحة فإنه يحكم فيها بالحكم الأصلي للأشياء وهو الإباحة .

2ـ ومن أنواع الاستصحاب : استصحاب حكم العقل بالبراءة الأصلية أو العدم الأصلي : كالحكم ببراءة الذمة من الحقوق والتكاليف الشرعية حتى يوجد الدليل الذي يدل على شغلها بشئ من ذلك فالصلاة السادسة لا تجب على المكلف عملاً بالبراءة الأصلية لأنه قبل مشروعية الصلوات الخمس وكانت الصلاة غير واجبة ، فبقيت الصلاة السادسة بعد التكليف على هذا الأصل .

3ـ ومن أنواع الاستصحاب : استصحاب ما دل الشرع على ثبوته لوجود سببه حتى يقوم الدليل على زواله كثبوت الحل بين الزوجين عند جريان العقد الذي يفيده ، وعليه يحكم ببقاء الزوجية حتى يقوم الدليل على حصول الفرقة.

4ـ و من أنواعه: استصحاب العموم حتى يرد ما يخصصه، واستصحاب النص حتى يرد ما ينسخه.  

 شروط العمل بالاستصحاب .

يشترط لصحة العمل بالاستصحاب البحث الجاد عن الدليل المغير والناقل ، ثم القطع أو الظن بعدمه وانتفائه .  

وبناء على ذلك : فالعمل بالاستصحاب قد يكون قطعياً وقد يكون ظنياً ، وذلك على النحو الآتي :

1- يكون العمل بالاستصحاب قطعياً : إذا قطع بانتفاء الدليل الناقل والمغير  كنفي وجوب صلاة سادسة.

2- يكون العمل بالاستصحاب ظنياً : إذا ظن انتفاء الدليل الناقل .

وفي المقابل فإن الدليل الناقل إذا علم أو ظن ثبوته ترجح العمل به على العمل بالاستصحاب ، وهذا ظاهر حالة الصحابة -رضي الله عليهم-.

وبناء على ذلك : 

فترك العمل بالاستصحاب قد يكون قطعياً ، وقد يكون ظنياً , 

وذلك على النحو الآتي :

3- يكون ترك العمل بالاستصحاب قطعياً إذا قطع بثبوت الدليل الناقل والمغير ، كوجوب صيام رمضان .

4- يكون ترك العمل بالاستصحاب ظنياً إذا ظن ثبوت الدليل الناقل .

فهذه أربع حالات للعمل بالاستصحاب أو تركه .

إلا أنه لا بد من ملاحظة الأمور الآتية :

أ- أن الاستصحاب آخر مدار الفتوى ، إذ لا يُلجأ إليه إلا عند انتفاء جميع الأدلة من الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، وغير ذلك مما يصح الاستدلال به .

فإذا انتفت هذه الأدلة ولم توجد صح عند ذلك الأخذ بالاستصحاب ، 

ولذلك قال ابن تيمية:

 " فالاستصحاب في كثير من المواضع من أضعف الأدلة ".  

ب- أن الاستصحاب قد يوافقه دليل خاص آخر فيقويه ، وقد لا يوافقه دليل آخر فيكون مستند الاستصحاب حينئذ انتفاء الدليل الناقل ، وهذا الانتفاء قد يكون قطعياً وقد يكون ظنياً ، فيكون الاستصحاب كذلك .

جـ - عند العمل بالاستصحاب بناء على انتفاء الدليل الناقل لا بد من الحذر من تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه .

وذلك بتوسعة العمل بالاستصحاب مع وجود النص ، فإن كثيراً ممن توسعوا في الاستصحاب فهموا من النص حكما أثبتوه ، ولم يبالوا بما وراءه من إشارة وإيماء وإلحاق .

وحيث لم يفهموا منه نفوه وحملوا الاستصحاب وجزموا بموجبه لعدم علمهم بالناقل ، وعدم العلم ليس علماً بالعدم ، وهذا يتأتى غالباً من نفاة القياس .



زاد الطالب في أصول الفقة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 5:51 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقة Empty
مُساهمةموضوع: قـــــول الصحابـــــي   زاد الطالب في أصول الفقة Emptyالأحد 06 أبريل 2014, 3:30 am

ــ3ــ

قـــــول الصحابـــــي

**تعريف الصحابي.

الصحابي لغة: الصحابة مصدر, بمعني "الصحبة" ومنه "الصحابي" و "الصاحب".

ويجمع علي: أصحاب وصَحْب، وكثر استعمال "الصحابة" بمعني "الأصحاب".

الصحابي اصطلاحاً:

اختلف أهل الاصطلاح على تعريف الصحابي, والرأي الراجح في تعريفه هو: مَن لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلماً ومات علي الإسلام، ولو تخللت ذلك ردة علي الأصح. والسر في اختلافهم في المراد بالصحابي أن المحدثين يعنون الصحابي الراوي لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكل من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مؤمن به ومات على إسلامه وجب قبول روايته والحكم بصحة سماعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد وجدوا بالاستقراء والتتبع أن الذين ثبت لهم ذلك كلهم عدول، فقرروا أنه لا حاجة للبحث في عدالتهم، وأن روايتهم مقبولة، سواء أكانوا ممن لازموا النبي -صلى الله عليه وسلم- أو من الأعراب الذين رأوه مرة واحدة بعد إسلامهم. وأما الأصوليون فإنهم يتكلمون عن الصحابي الذي له اجتهاد في الأحكام الشرعية وله فقه بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويمكن تقليده واتباع رأيه، وهذا لا يحصل إلا لمن لازم النبي -صلى الله عليه وسلم- فترة طويلة وأخذ عنه وأفاد من علمه وخلقه وسيرته، وأما من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة فإنه لا يكتسب بهذه الرؤية فقهاً وعلماً يجعله من أهل الاجتهاد في الشريعة، ولذلك لا يمكن أن يقال إن رأيه حجة، وهم إنما عرفوا الصحابي الذي وقع الخلاف في حجية قوله. والمراد بقول الصحابي: مذهبه الذي قاله أو فعله ولم يروه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 أقسام قول الصحابي.

1- قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه:

قول الصحابي فيما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد, له حكم الرفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-, في الاستدلال به والاحتجاج، أو يكون ذلك في حكم المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن من باب الرواية بالمعنى, فإن الصحابة يروون السنة تارة بلفظها وتارة بمعناها. ولا يصح بناءً على ذلك أن يقال فيه: هذا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

2- قول الصحابي إذا خالفه غيره من الصحابة:

إذا اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- فيما بينهم لم يكن قول بعضهم حجة على بعض، ولم يجز للمجتهد بعدهم أن يقلد بعضهم، بل الواجب في هذه الحالة التخير من أقوالهم بحسب الدليل -عند الأكثر- ولا يجوز الخروج عنها.

قال ابن تيمية:

"وإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء".  

3- قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف:

قول الصحابي إذا اشتهر ولم يخالفه أحد من الصحابة صار إجماعاً وحجة عند جماهير العلماء.  

قال ابن تيمية:

"وأما أقوال الصحابة فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء".  

4- قول الصحابي فيما عدا ذلك, وهذا هو المقصود بحثه في هذا المقام:

قول الصحابي إذا لم يخالفه أحد من الصحابة ولم يشتهر بينهم، أو لم يعلم هل اشتهر أو لا؟ وكان للرأي فيه مجال، فقول الأئمة الأربعة وجمهور الأمة  أنه حجة خلافًا للمتكلمين.  

قال ابن تيمية:

"وإن قال بعضهم قولاً ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر فهذا فيه نزاع، وجمهور العلماء يحتجون به كأبي حنيفة ومالك وأحمد - في المشهور عنه - والشافعي في أحد قوليه، وفي كتبه الجديدة الاحتجاج بمثل ذلك في غير موضع، ولكن من الناس من يقول: هذا هو القول القديم".  

5- تحرير محل النزاع:

يمكن تحرير محل النزاع في قول الصحابي من خلال النقاط الماضية فيما يأتي:

أ- أن يكون في المسائل الاجتهادية، أما قول الصحابي فيما لا مجال للاجتهاد فيه فله حكم الرفع.

ب- ألا يخالفه غيره من الصحابة، فإن خالفه غيره اجتهد في أرجح القولين بالدليل.

جـ - ألا يشتهر هذا القول، فإن اشتهر -ولم يخالفه أحد من الصحابة- كان إجماعاً عند جماهير العلماء.

 يضاف إلى ذلك شرطان:

أولهما: ألا يخالف نصاً.

ثانيهماً: ألا يكون معارضاً بالقياس.

بتلك الضوابط وبهذين الشرطين ذهب الأئمة إلى الاحتجاج بقول الصحابي.

 حجية قول الصحابي.

 من الأدلة على ذلك:

الأول: ما ورد من النصوص الدالة على عدالتهم وتزكية الله تعالى لهم وبيان علو منزلتهم، كقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) التوبة: 100.

الثاني: أن الصحابة -رضي الله عنهم- انفردوا بما جعلهم أبر الأمة قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً  فقد خصهم الله بتوقد الأذهان وفصاحة اللسان، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا عن ذلك كله.

فليس في حقهم إلا أمران:

أحدهما: قال الله تعالى كذا، وقال رسول الله  -صلى الله عليه وسلم كذا.

والثاني: معناه كذا وكذا.

وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما، فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما, لذلك كان قولهم أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ, فإنهم حضروا التنزيل، وسمعوا كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه، وهم أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد، وأقرب عهداً بنور النبوة وأكثر تلقياً من المشكاة النبوية.  

الثالث: أن فتوى الصحابي لا تخرج عن ستة أوجه:  

الأول: أن يكون سمعها من النبي -صلى الله عليه وسلم-.

الثاني: أن يكون سمعها ممن سمعها منه -صلى الله عليه وسلم-، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يهابون الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويعظمونها، ويقللونها خوف الزيادة والنقصان.

الثالث: أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فهماً خفي علينا.

الرابع: أن يكون قد اتفق عليها ملؤهم، ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده.

الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أمور فهمها على طول الزمان من رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومشاهدة أفعاله، وأحواله، وسيرته، وسماع كلامه، والعلم بمقاصده، وشهود تنزيل الوحي، ومشاهدة تأويله بالفعل، فيكون فهم ما لا نفهمه نحن. وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة يجب اتباعها.

السادس: أن يكون فهم ما لم يرده الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأخطأ في فهمه، والمراد غير ما فهمه، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة. ومعلوم قطعاً أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين.

            

ــ 4 ــ

شـــــرع مــَـــنْ قبلنـــــا

إن الله تعالى قد بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بدين الحق، وجعله خاتم النبيين، وجعل شريعته خاتمة الشرائع، والأحكام في كل شريعة قسمان: أصول، وفروع.

فالأصول هي الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، والإيمان بالبعث والجزاء وبالجنة والنار، والاستسلام لله وحده وإفراده بالعبادة.

وهذا القسم قد اتفقت عليه شرائع الأنبياء جميعاً، كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) آل عمران: 19. وأما الفروع فقد اختلفت فيها الشرائع، وهي المقصودة في هذا الباب.

والمراد بشرع من قبلنا:

ما نقل إلينا بطريق صحيح من الشرائع السماوية السابقة. والطريق الصحيح لمعرفة شرع من قبلنا هو نقل القرآن والسنة النبوية الثابتة، ولا عبرة بما في الكتب التي في أيدي اليهود والنصارى اليوم, لأنها قد طرأ عليها التحريف والتبديل. وما حكي في القرآن والسنة من شرائع الأنبياء السابقين، يمكن تقسيمه إلى الأقسام التالية:

1ـ ما حكاه الله عنهم أو حكاه رسوله -صلى الله عليه وسلم- وورد في شريعتنا ما يبطله, وهو أحد أمرين:

الأول: ما لم يثبت بطريق صحيح أصلاً، كالمأخوذ من الإسرائيليات.

والثاني: ما ثبت بطريق صحيح أنه شرع لمن قبلنا وصرح في شرعنا بنسخه كالأصرار والأغلال التي كانت عليهم، كما في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الأعراف: 157.

وهذا لا خلاف في أنه ليس بحجة.

(مثاله): قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) الأنعام: 146.

2ـ ما حكاه الله عنهم ووجد في شريعتنا ما يؤيده:

وهذا لا خلاف في أنه شرع لنا، ولكن الدليل على ثبوته هو ما ورد في شريعتنا لا ما ورد في شرائع الأنبياء السابقين.

(مثاله): قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) البقرة:183, فهذه الآية تدل على أن الصيام كان مشروعاً على من قبلنا من الأمم ثم فرض علينا.

3 ـ ما نقل إلينا ولم يقترن بما يدل على نسخه أو مشروعيته في حقنا:

فهذا هو محل الخلاف بين العلماء، أهو شرع لنا يلزمنا العمل به أم لا ومن المعلوم أن ذلك لا يكون في أصول الدين وأمور العقيدة, لأنها مما اتفق عليه بين الأنبياء جميعاً.

(مثاله): ما جاء في قوله تعالى: (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) يوسف: 72، فهذه الآية تدل على مشروعية الجعالة, في شريعة يوسف عليه السلام.

وقوله تعالى في قصة ناقة صالح: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَر) القمر: 28,  فهذه الآية تدل على مشروعية قسمة الماء مهايأة.  

فهل يجوز الاستدلال بالآية على جواز ذلك في شرعنا؟

ذهب أكثر العلماء إلى الاحتجاج بشرع مَن قبلنا ما لم يرد في شرعنا نسخه، وهذا المذهب هو المشهور عند الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو أحد القولين عند الشافعية, والقول الثاني للشافعية أنه لا يحتج به.  

والدليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا ما يلي:

1ـ قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) الأنعام: 90.

وجه الاستدلال:

أن الله أمر نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالإقتداء بالأنبياء الذين سبقوه، وأمر الرسول أمر لأمته.

2ـ قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) النحل: 123.

وجه الاستدلال:

 أن الله أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإتباع ملة إبراهيم -عليه السلام-، وملته دينه وشرعه.

3ـ قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيب) الشورى: 13.

وجه الاستدلال:

أن الله بين أنه قد شرع لنا ما شرعه لنوح -عليه السلام-، فثبت أن شرعه شرع لنا ما لم ينسخ.

            

ــ 5 ــ

الاستحســـــــــــــان

تعريفه.

الاستحسان لغة:

عد الشئ حسناً، وهو مشتق من الحسن، والحسن ما يميل عليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن كان مستقبحاً عند غيره.  

الاستحسان اصطلاحاً:

يطلق على عدة معانٍ، بعضها صحيح اتفاقاً، وبعضها باطل اتفاقاً. فالمعنى الصحيح باتفاق هو أن الاستحسان: ترجيح دليل على دليل، أو هو العمل بالدليل الأقوى أو الأحسن. وهذا ما يعبر عنه بـ "العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص".  

أما المعنى الباطل للاستحسان فهو: "ما يستحسنه المجتهد بعقله".  

يعني: بهواه وعقله المجرد دون استناد إلى شيء من أدلة الشريعة المعتبرة

وإذا تبين أن للاستحسان معنيين متقابلين أحدهما صحيح اتفاقاً والآخر باطل اتفاقا فلا بد من التنبيه على ما يأتي:

أولاً: أن لفظ الاستحسان من الألفاظ المجملة، فلا يصح لذلك إطلاق الحكم عليه بالصحة أو البطلان.

ثانياً: أن من أثبت الاستحسان من أهل العلم وأخذ به فإنما أراد المعنى الصحيح قطعاً.

ثالثًا: أن من أنكر الاستحسان من أهل العلم وشنع على من قال به فإنما أراد المعنى الباطل قطعا.

رابعاً: أن العمل بالاستحسان بالمعنى الصحيح أمر متفق على صحته، إذ لا نزاع في وجوب العمل بالدليل الراجح، وإنما اختلف في تسمية ذلك استحساناً.

خامساً: أن العمل بالاستحسان بالمعنى الباطل أمر متفق على تحريمه، إذ الأمة مجمعة على تحريم القول على الله بدون دليل، ولا شك أن ما يستحسنه المجتهد بعقله وهواه من قبيل القول على الله بدون دليل فيكون محرماً.

 موقف الإمام الشافعي من الاستحسان.

أنكر الإمام الشافعي القول بالاستحسان وبالغ في رده.

فمن ذلك قوله: "من استحسن فقد شرع".  

ووجهة نظر الشافعي تتضح في قوله الآتي:

"ولا أن يفتي إلا من جهة خبر لازم، وذلك الكتاب، ثم السنة، أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه، أو قياس على بعض هذا.

ولا يجوز أن يحكم ولا يفتي بالاستحسان, إذ لم يكن الاستحسان واجباً ولا في واحد من هذه المعاني".  

ومن هذا النص يتبين لنا أن الشافعي إنما ينكر الاستحسان الذي لا يعتمد على شيء من الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. وهذا حق بلا ريب إذ العلماء قاطبة مجمعون على تحريم القول في دين الله بلا علم، لا فرق في ذلك بين العالم والجاهل, إذ الجميع لم يرجع فيما قال إلا إلى هواه ونفسه، وهذا عين المحظور.  

وفي ذلك يقول الشافعي:

"لا أعلم أحداً من أهل العلم رخص لأحد من أهل العقول والآداب في أن يفتي ولا يحكم برأي نفسه إذا لم يكن عالماً بالذي تدور عليه أمور القياس من الكتاب والسنة والإجماع والعقل".  

ويجلي ابن القيم موقف الإمام الشافعي، فيقول: "الشافعي يبالغ في رد الاستحسان، وقد قال به في مسائل: أحدها: أنه استحسن في المتعة في حق الغني أن يكون خادماً، وفي حق الفقير مقنعة، وفي حق المتوسط ثلاثين درهماً". وبذلك يتبين أن الشافعي إنما أنكر الاستحسان بمعنى القول بدون علم بالهوى والتشهي، أما إن كان الاستحسان بمعنى يوافق الكتاب والسنة، فإن الشافعي نفسه يقول به على النحو الذي يذكره ابن القيم.

 موقف الإمام أبي حنيفة من الاستحسان:

نسب إلى الإمام أبي حنيفة القول بالاستحسان الذي بمعنى القول بدون علم، وهذه النسبة باطلة لا تصح، إذ العلماء كافة مجمعون على تحريم القول بدون علم، بل إن أبا يوسف ـ تلميذ أبي حنيفة ـ  يقول عن أبي حنيفة لما رحل بعد موته إلى الحجاز واستفاد سنناً لم تكن معلومة عندهم في الكوفة: "لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت". وذلك لعلم أبي يوسف بأن صاحبه ما كان يقصد إلا اتباع الشريعة، لكن قد يكون عند غيره من علم السنن ما لم يبلغه. فالمقصود أن أبا حنيفة يقول بالاستحسان الذي بمعنى تقديم النص على القياس، وهذا حق، وهو ينكر الأخذ بالاستحسان الذي بمعنى العمل بالرأي في مقابلة النص.

ــ 6ــ

العُـــــــــــــرف

 تعريفه.

هو: ما ألفه الناس واعتادوه من الأقوال والأفعال.

وهو "العادة" عند الفقهاء.

(مثاله):

تعارف الناس على إطلاق لفظ "الولد" على الذكر دون الأنثى، وتقسيمهم الصداق إلى مقدم ومؤخر. ويكون العرف عاماً شائعاً، كما في المثالين المذكورين، وكما تقول العامة للطبيب "دكتور"، وكما يصطلحون على أزياء معينة يلبسونها. ويكون خاصاً بفريق من المجتمع، كأصحاب الحرف من الصناع والفلاحين وغيرهم، أو أصحاب العلوم المتخصصة كالمحدثين والمفسرين والأصوليين والفقهاء والأطباء والمهندسين والصيادلة، وعرفهم هو اصطلاحاتهم الخاصة بعلومهم أو مهنهم التي تعارفوا عليها مما يستعملونه بينهم من الأقوال والأفعال.

 أقسامه:

"العرف": لا يخفى مجيئه على وفاق الشرع أو خلافه، فهو باعتبار هذا المعنى قسمان:

1ـ عرف صحيح:

وهو العادة التي لا تخالف نصاً من نصوص الكتاب والسنة، ولا تفوت مصلحة معتبرة، ولا تجلب مفسدة راجحة.

(مثاله): تعارف الناس على دفع أثمان المبيعات باستخدام بطاقات الدفع، وتعارفهم على بيع العملات، وتعارفهم على التجارة بالأسهم، وعلى ألفاظ عرفية في التحية مع لفظ السلام.

2ـ عرف فاسد:

وهو العادة تكون على خلاف النص، أو فيها تفويت مصلحة معتبرة أو جلب مفسدة راجحة.

(مثاله): تعارف الناس على الاقتراض من المصارف الربوية، وتعارفهم على إقامة مجالس العزاء، وتعارفهم على استعمال ألفاظ البذاء عند التلاقي. وجميع الأعراف التي تتصل بإثبات تعبد لا نص عليه فهي أعراف فاسدة، لأن العبادات توقيفية، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

 حجيته:

العرف ليس دليلاً من أدلة الأحكام في طريقة عامة العلماء، ولكنه عندهم أصل من أصول الاستنباط تجب مراعاته في تطبيق الأحكام، وإن سماه بعضهم "دليلا" فإنما أراد هذا المعنى. والعرف الذي يراعى إنما هو "العرف الصحيح" لا "الفاسد". ومن قواعد الفقهاء في ذلك قولهم: "العادة محكمة"، فلو شتم إنسان إنساناً بلفظ، فادعى المشتوم أن الشاتم قذفه، روعي في ذلك ما جرى به العرف في استخدام ذلك اللفظ. وكذا فيه قولهم: "المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً"، فلو اختلف المستأجر مع صاحب المنزل في إصلاح تلف في المنزل من يقوم به أو يدفع أجرته، كان الحكم فيه بينهما بالعرف.

 تنبيه:

العرف متغير بتغير الزمان والمكان، وما يتم تطبيقه على وفقه من الأحكام يختلف باختلافه، وكثير من فتاوى الفقهاء بنيت على مراعاة الزمان الذي كانوا فيه، والبلد الذي عاشوا فيه. فلا تصلح تعدية ما أثر فيه العرف من الفتاوى والأحكام إلى غير أهل العرف الذي أثر فيها، إنما تعتبر خاصة بذلك الزمان أو المكان، ويراعى العرف المستجد في تطبيق الأحكام على ما يناسبه. وربما أطلق في هذا بعض أهل العلم عبارة: "الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان"، وإنما هذا مرادهم. وفي هذا إبطال لمسالك كثير من أهل زماننا ممن يلجأ إلى فتاوى ناسبت ظرفاً وحالاً ليس بظرفنا وحالنا يريد أن يجعل تلك الفتاوى كأحكام الله الثابتة!

            

الباب الثالث

مباحث تتعلق بالأدلة الشرعية

(التعارض وطرق دفعه)

هذا الباب من أهم الأبواب وأنفعها للفقيه، وبه يتبين جانب من جوانب فوائد علم أصول الفقه في العصور المتأخرة, وذلك لأن المسائل الخلافية الكبرى نالت حظها من البحث والاستدلال والمناقشة، وحظ الفقيه المعاصر من بحثها هو الموازنة بين أدلة المختلفين، وترجيح ما يراه راجحاً. وقد عنون بعض الأصوليين لهذا الباب بعنوان التعادل والترجيح، وبعضهم بعنوان التعارض والترجيح، وبعضهم سكت عن التعارض واكتفى بالترجيحات.

 وفي هذا الباب سنتناول أربعة مباحث وهى:

  التعارض.

  الترجيح.

  النسخ.

  ترتيب الأدلة.

التعـــــــــارض

 تعريفه.

التعارض في اللغة بمعنى:

التقابل، وهو تفاعل من العُرْض بالضم، وهو الناحية.

وفي الاصطلاح: تقابل الدليلين على سبيل الممانعة وذلك إذا كان أحد الدليلين يدل على خلاف ما يدل عليه الآخر، كأن يدل أحد الدليلين على الجواز والآخر على المنع. فدليل الجواز يمنع التحريم ودليل التحريم يمنع الجواز. فكل منهما مقابل للآخر ومعارض له وممانع له. والمناسبة بين المعنيين "اللغوي، والاصطلاحي": أن الدليل المعارض لدليل آخر كأنه يقف في الناحية المقابلة للناحية التي يقف فيها الدليل الآخر. أو أن كلا منهما يقف في عرض الآخر. وهذا المعنى لا وجود له حقيقة في الأدلة الشرعية، لأن الله تعالى نصبها علامات يهتدي بها المكلفون في الطريق إليه، والتعارض مناقض لهذه الحقيقة  وقد نفى الله عز وجل ذلك عن كلامه، فقال: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) النساء: 82، فسلم من الاختلاف وعصم من الباطل كما قال: (وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) فصلت: 41ـ 42، وكلام نبيه -صلى الله عليه وسلم- سالم من التعارض كسلامة القرآن، فكله وحي الله تعالى وتشريعه، كما قال سبحانه: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) النجم: 3ـ 4.

قال ابن تيمية:

"وكذلك إذا قلنا: الكتاب، والسنة، والإجماع، فمدلول الثلاثة واحد، فإن كل ما في الكتاب فالرسول موافق له، والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة, فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب. وكذلك كل ما سنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالقرآن يأمر باتباعه فيه، والمؤمنون مجمعون على ذلك. وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه لا يكون إلا حقاً موافقاً لما في الكتاب والسنة. لكن المسلمون يتلقون دينهم كله عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وأما الرسول فينزل عليه وحي القرآن، ووحي آخر هو الحكمة، كما قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه".  

وقال أيضاً: ".., كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع  وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها, فإن ما دل عليه الإجماع قد دل عليه الكتاب والسنة، وما دل عليه القرآن فعن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص". وقال أيضاً: "وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة". وذلك لأن أدلة الشرع حق، والحق لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضاً. ولا تعارض بين الأدلة الشرعية والعقل، بل إن العقل الصريح موافق للنقل الصحيح، إذ إن خالق هذا العقل هو الذي أنزل الشرع, (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك: 14.  

فإذا علم ذلك فما وجد من تعارض في أدلة الشرع فإنما هو بحسب ما يظهر للمجتهد. أما في حقيقة الأمر فلا تعارض البتة بين الأدلة الشرعية، كما تقدم تقريره قريباً. أما إذا ظهر تعارض بين الأدلة الشرعية، فإن كان هذا التعارض بين خبرين فأحد المتعارضين باطل، إما لعدم ثبوته أو لكونه منسوخاً. وإن كان التعارض بين الخبر والقياس فلا يخلو من أمرين:

إما أن يكون هذا الخبر غير صحيح.

وإما أن يكون القياس فاسداً.

 طرق دفع التعارض .

إذا ظهر التعارض - وذلك إنما يكون بين دليلين ظنيين - فالواجب على الترتيب:  

أولاً: محاولة الجمع بينهما إن أمكن، ومن أوجه الجمع:

أ- حمل أحد الدليلين على حالة، وحمل الآخر على حالة أخرى، وهذا ما يُعرف بحمل العام على الخاص، أو حمل المطلق على المقيد.

ب - حمل أحد الدليلين على زمن، وحمل الآخر على زمن آخر، بحيث يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم.

ثانياً: إذا لم يمكن الجمع فيصار إلى الترجيح بينهما، بوجه من وجوه الترجيح الآتي بيانها في المبحث التالي.

ثالثاً: إذا تعذر الترجيح ولم يمكن، فقيل: يتخير بينهما، وهذا القول يُضعفه أن التخيير جمع بين النقيضين، واطراح لكلا الدليلين، وكلا الأمرين باطل. ولعل الصواب هو التوقف في هذين الدليلين، والبحث عن دليل جديد. وهذا يوافق منهج السلف فإنهم كانوا يطلبون الدليل في القرآن، فإن لم يجدوه في القرآن طلبوه في السنة، فإن لم يجدوه في السنة طلبوه في الإجماع  وهكذا. ومعلوم أنه لا تخلو مسألة عن دليل وبيان من الشرع، علمه من علمه وجهله من جهله، والواجب على كل تقوى الله بقدر المستطاع، والاجتهاد في طلب الحق ومعرفة الدليل. ومن الواجب درء التعارض بين أدلة الشرع ما أمكن. ومن الطرق المعينة على ذلك:  

أ- التثبت في صحة الدليل وثبوته، فالواجب الحذر من الأحاديث التي لا تقوم بها الحجة، والتنبه مما يدعي أنه إجماع وهو ليس كذلك، والتثبت من صحة الأقيسة.

ب - الإطلاع على مصادر الشريعة وتتبع الأدلة واستقراؤها، والنظر إليها مجتمعة, فلا بد من جمع العام مع الخاص، والمطلق مع المقيد، والناسخ مع المنسوخ، وهذا لا يتم إلا بتتبع نصوص الكتاب والسنة، ولو اقتصر على بعض ذلك لحصل التعارض، ولا بد من معرفة روايات الحديث وألفاظه فإن بعضها يفسر بعضاً، وكذلك القراءات الثابتة.

جـ - العلم بلغة العرب وما فيها من دلالات ومعانٍ، فإن فهم النص وسياقه، وعمومه وخصوصه، وحقيقته ومجازه مما يزيل كثيراً من الإشكالات، ويدرأ كثيراً من التعارضات.

 أمثلة على التعارض والجمع:

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان, يعنى عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها, فنثرهم بين يديه كالذر, ثم كلمهم قبلاً قال: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون).  

 التعارض:

أليس هذا الحديث خلاف قول الله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى), لأن الحديث يخبر أنه أخذ من ظهر آدم, والكتاب يخبر أنه أخذ من ظهور بني آدم.

والجواب:

قال أبو محمد ابن قتيبة -رحمه الله-: ونحن نقول إن ذلك ليس كما توهم من قال ذلك, بل المعنيان متفقان بحمد الله ومنه صحيحان, لأن الكتاب يأتي بجمل يكشفها الحديث, واختصار تدل عليه السنة, ألا ترى أن الله تعالى حين مسح ظهر آدم على ما جاء في الحديث, فأخرج منه ذريته أمثال الذر إلى يوم القيامة, أن في تلك الذرية الأبناء, وأبناء الأبناء, وأبناءهم إلى يوم القيامة, فإذا أخذ من جميع أولئك العهد, وأشهدهم على أنفسهم, فقد أخذ من بني آدم جميعاً من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم. ونحو هذا قول الله تعالى في كتابه: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم), فجعل قوله للملائكة اسجدوا لآدم بعد خلقناكم وصورناكم, وإنما أراد بقوله تعالى: (خلقناكم وصورناكم): خلقنا آدم وصورناه, ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم, وجاز ذلك لأنه حين خلق آدم خلقنا في صلبه وهيأنا كيف شاء, فجعل خلقه لآدم خلقه لنا إذ كنا منه, ومثل هذا مثل رجل أعطيته من الشاة ذكراً وأنثى, وقلت له: قد وهبت لك شاة كثيراً تريد: أني وهبت لك بهبتي هذين الاثنين من النتاج شاة كثيراً, وكان عمر بن عبد العزيز وَهَب "دكين الراجز" ألف درهم, فاشترى به دكين عدة من الإبل, فرمى الله تعالى في أذنابها بالبركة, فنمت وكثرت فكان دكين يقول هذه منائح عمر بن عبد العزيز, ولم تكن كلها عطاءه, وإنما أعطاه الآباء والأمهات فنسبها إليه إذ كانت نتائج ما وهب له.  

(مثال آخر):

عن أبي بردة عن أبيه قال: لما أصيب عمر -رضي الله عنه- جعل صهيب يقول: وا أخاه, فقال عمر: أما علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الميت ليُعذَّبُ ببكاء الحي"., وفي رواية: "أن الميت يُعَذَّبُ بما نِيحَ عليه".

 التعارض:

أليس هذا الحديث يخالف قول الله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى), أليس هناك تناقض بين الحديث والآية, وما الذي جناه الميت حتى يعذب ببكاء أهله، أو بنياحهم عليه؟

الجمع:

أجاب عن هذا التعارض الإمام الكبير العَلم ابن حجر العسقلاني ـرحمة الله عليه-، حيث قال في شرح هذا الحديث: "المعنى: أن الذي يعذب ببعض بكاء أهله مَن كان راضياً بذلك, بأن تكون تلك طريقته. ولذلك قال المصنف -البخاري-: فإذا لم يكن من سنته, أي: كمن كان لا شعور عنده بأنهم يفعلون شيئا من ذلك, أو أدى ما عليه بأن نهاهم, فهذا لا مؤاخذه عليه بفعل غيره, ومن ثم قال ابن المبارك: إذا كان ينهاهم في حياته ففعلوا شيئا من ذلك بعد وفاته لم يكن عليه شيء. ولقد أنكرت هذا السيدة عائشة -رضي الله عنها- بقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى), أي: ولا تحمل حاملة ذنبا ذنب أخرى عنها. وقيل: عنى التعذيب: توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به, كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: "الميت يعذب ببكاء الحي", إذا قالت النائحة وا عضداه, وا ناصراه, وا كاسياه, جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها, أنت ناصرها, أنت كاسيها, ورواه ابن ماجة بلفظ: يتعتع به, ويقال: أنت كذلك ورواه الترمذي بلفظ: ما من ميت يموت فتقوم نادبته فتقول وا جبلاه, وا سنداه, أو شبه ذلك من القول إلا وكل به ملكان يلهزانه: أهكذا كنت, وشاهده: ما روى المصنف -البخاري- في "المغازي", من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: أغمي على عبد الله بن رواحة, فجعلت أخته تبكي وتقول واجبلاه, واكذا, واكذا, فقال حين أفاق: ما قلت شيئاً إلا قيل لي: أنت كذلك. وقيل: معنى التعذيب: تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها, وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين, ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه, ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين, واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة وهي بفتح القاف وسكون التحتانية. وقيل: يحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلاً: من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته, أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه. ومن كان ظالماً فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به. ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها, فإن كان راضياً بذلك التحق بالأول, وأن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي. ومن سلم من ذلك كله, واحتاط فنهى أهله عن المعصية, ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره, وإقدامهم على معصية ربهم والله أعلم. أ هـ.  

            

الترجيـــــــح

 تعريفه.

الترجيح في اللغة: مصدر رجح، مأخوذ من رجحان الميزان، وهو ميلان إحدى كفتيه.

وفي الاصطلاح: تقوية إحدى الدليلين على الأخر. وهو إنما يصح بين الدليلين الثابتين من جهة النقل في نظر الفقيه، يكونان متضادين لا سبيل لإعمالهما جميعاً، ولا سبيل للقول بالنسخ، فالفقيه مضطر لاختيار القول بأحدهما وترك الآخر.

 شروط الترجيح.

 يشترط في الترجيح ما يلي:

1ـ أن يكون بين الأدلة لا بين البينات أو الدعاوى، فلا ترجيح بين بينة المدعي وبينة المدعى عليه, لأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر. هكذا قالوا، وفيه نظر أشار إليه ابن القيم في إعلام الموقعين.

2ـ تحقق التعارض في الظاهر بين الدليلين المرجح أحدهما، فلا ترجيح بين دليلين متفقين في المدلول.

3ـ تعذر الجمع بين الدليلين، فإن أمكن الجمع بينهما والعمل بهما معا لم ينتقل المجتهد إلى الترجيح, لأن الترجيح يفضي إلى ترك الدليل المرجوح، والجمع فيه عمل بكلا الدليلين في الجملة، والعمل بالدليلين -ولو من وجه- أولى من إهمالهما أو إهمال أحدهما.

4ـ عدم معرفة تاريخ كل من الدليلين، فإن عرف التاريخ فالمتأخر ناسخ للمتقدم.

واشترط بعضهم أن يكون الترجيح بصيغة في الدليل، لا بدليل مستقل.



زاد الطالب في أصول الفقة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 6:23 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقة Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقة   زاد الطالب في أصول الفقة Emptyالأربعاء 09 أبريل 2014, 2:38 am

والصواب:

عدم اشتراط ذلك, لأنه يمكن أن يتساوى الدليلان ويترجح أحدهما بموافقة دليل آخر.

 حكم الترجيح:

يجب على المجتهد إذا تعارض عنده دليلان في الظاهر، ولم يتمكن من الجمع بينهما، ولا القول بالنسخ أن يبحث عما يرجح أحدهما, ليعمل بالراجح. وقد حكى الإجماع على العمل بالراجح من الدليلين عند تعارضهما غير واحد. ونقل الخلاف في ذلك عن أبي عبد الله البصري، وكذلك نقل عن القاضي الباقلاني، ولم يلتفت الفقهاء إلى خلافهما.

والدليل على وجوب العمل بالراجح من وجوه، أهمها:

1 ـ قوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُون) الزمر: 55، وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَاب) الزمر: 18. والآيتان دليل على اتباع الدليل الراجح, لأنه أحسن من المرجوح.

2ـ  أن الدليلين إذا تعذر الجمع بينهما، فإما أن يتركا معا، أو يترك الراجح منهما، أو يترك المرجوح. فالأول باطل, لما فيه من الإعراض عن الدليلين، والتسوية بين الراجح والمرجوح، وهما لا يستويان عند العقلاء. والثاني باطل, لما فيه من تقديم الضعيف على القوي، وهو خلاف مقتضى الشرع والعقل. فلم يبق إلا الثالث، وهو المطلوب إثباته.

3ـ إجماع الصحابة والتابعين على العمل بالراجح من الدليلين عند تعارضهما، قال الطوفي في المختصر بعد أن نقل قول الباقلاني: "وليس بشيء, إذ العمل بالأرجح متعين، وقد عمل الصحابة بالترجيح". وأوضح في الشرح أن العمل بالترجيح متعين عقلاً وشرعاً، ونقل إجماع الصحابة عليه.  

 وجوه الترجيح:

الترجيح له طرق متعددة، لا يمكن حصرها وقد قال الزركشي: "واعلم أن التراجيح كثيرة، ومناطها: ما كان إفادته للظن أكثر فهو الأرجح، وقد تتعارض هذه المرجحات -كما في كثرة الرواة، وقوة العدالة، وغيره- فيعتمد المجتهد في ذلك على ما غلب على ظنه". وقد جرت عادة الأصوليين أن يفصلوا الترجيح بين الأدلة النقلية عن الترجيح بين الأدلة العقلية.

ونكتفي بذكر الترجيح بين الأدلة النقلية فنقول:

  طرق الترجيح بين الأدلة النقلية له ثلاثة أوجه:

أولاً: الترجيح من جهة السند, وله طرق أهمها:

1ـ كثرة الرواة: فيرجح الخبر الذي رواته أكثر على الخبر الذي رواته أقل.

2ـ فقه الراوي: فتقدم رواية الفقيه على غيره مطلقاً، أي: سواء أكانت الرواية باللفظ أو المعنى.

3ـ كون أحد الراويين صاحب الواقعة أو له صلة قوية بما رواه.

4ـ قوة الحفظ والضبط: فيقدم الأقوى في الحفظ والضبط على من دونه، وهذا يعرف بالتجربة والتتبع لمروياته وسيرته.

ثانياً: الترجيح من جهة المتن وله طرق، أهمها:

1- ترجيح الخاص على العام، والأخص من العامين على الأعم منهما.

2ـ ترجيح العام المحفوظ على العام المخصوص.

لأن التخصيص يضعف دلالة العام، عند المحققين من الأصوليين، كإمام الحرمين، وسليم الرازي، والفخر الرازي، وابن تيمية، وغيرهم.

(مثاله): تقديم حديث: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين", على حديث النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة, فالثاني مخصوص بحديث: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها ", والأول لا يعرف له مخصص، فيقدم.

3 ـ ترجيح ما قلت مخصصاته على ما كثرت مخصصاته.

4ـ ترجيح ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة: لأنه أحوط، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

ثالثا: الترجيح لأمر خارجي وله طرق، منها:

1ـ ترجيح القول على الفعل المجرد: لأن الفعل إذا لم يصحبه أمر احتمل الخصوصية للرسول -صلى الله عليه وسلم- بخلاف القول.

(مثاله): ترجيح حديث: النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، على حديث ابن عمر: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته مستقبلاً بيت المقدس، مستدبرا الكعبة.  

2ـ ترجيح ما كان عليه عمل أكثر السلف على ما ليس كذلك: لأن احتمال إصابة الأكثر أغلب.

3ـ موافقة أحد الخبرين للقياس، فيُقدم على ما خالف القياس:

(مثاله): ترجيح حديث: "إنما هو بَضعة منك", على حديث: "مَنْ مس ذكره فليتوضأ", لأن الأول موافق للقياس دون الثاني.

            

النســـــــــــــخ

تعريفه.

النسخ لغة: النقل، يقال: نسخت الكتاب, أي: نقلته.  

والنسخ الإزالة: يقال نسخت الشمس الظل, أي: أزالته.

واصطلاحا: رفع حكم شرعي عملي جزئي ثبت بالنص بحكم شرعي عملي جزئي ثبت بالنص ورد على خلافه متأخر عنه في وقت تشريعه، ليس متصلا به. فالرفع هو "النسخ"، والحكم الشرعي المرفوع هو "المنسوخ"، والحكم الشرعي المتأخر هو "الناسخ". أو هو: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخر عنه.

 شرح التعريف:

"رفع الحكم الثابت بخطاب" أي: بيان انتهاء العمل بالحكم الذي ثبت بدليل شرعي من كتاب أو سنة. وقولهم: "الثابت بخطاب متقدم" يخرج ما كان ثبوته بمقتضى البراءة الأصلية، فإن رفعه لا يسمى نسخاً. وقولهم: "بخطاب متأخر عنه" يعني: أن النسخ لا يكون إلا بدليل شرعي من كتاب أو سنة متأخر عن الدليل المنسوخ في نزوله إلينا إن كان كتاباً، أو في تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- به أو فعله أو إقراره إن كان سنة. وباب النسخ شغل حيزا كبيراً من كتب أصول الفقه، وأطالوا فيه الكلام بما لا طائل تحته.

والمفيد منه: أن يعرف الفقيه أنه أحد الطرق الشرعية لدفع التعارض الظاهري بين الأدلة، وأن يعرف شروط الناسخ، وطرق معرفة النسخ, وما عدا ذلك مما يذكرونه في باب النسخ قليل الفائدة. فأما كون النسخ طريقاً لدفع التعارض الظاهري فلا خلاف فيه بين الأئمة.

 ثبوت النسخ:

النسخ واقع في نصوص الوحي بدلالة الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة: 106، وقوله: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) النحل: 101ـ 102، وقوله: (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) الرعد: 39، وقوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى) يونس: 15. والأمثلة الآتية قريباً من الكتاب والسنة على النسخ قاطعة بصحة وقوع ذلك فيهما، وتواتر عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر النسخ، وذهب إلى القول به عامة أئمة الإسلام من السلف والخلف، إلا شرذمة عرفت بالبدعة.

حكمة النسخ:

النسخ جار على مقاصد الشرع في تحقيق مصلحة المكلف، فقد ينزل الحكم في أمر شديد يشق على المؤمنين يراد به اختبارهم وامتحان صدق إيمانهم، كما في نزول قوله تعالى: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء) البقرة: 284، حتى إذا ظهر التسليم والانقياد أنزل الله عز وجل تصديق ما في قلوبهم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة: 285، ونزلت الآية بعدها بالتخفيف. وتارة يراد به التدرج في التشريع لحداثة الناس بالجاهلية، فيراعي الشارع استعدادهم لذلك، كالتدرج في الصلاة في قلة الركعات والأوقات، إلى خمس في اليوم والليلة بأوقاتها المعلومة، والتدرج في الصيام بفرض صوم يوم واحد أولاً هو يوم عاشوراء، ثم نسخ بصوم شهر كامل هو رمضان، وهكذا. وهذا كما قال الله عز وجل: (ليُثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) النحل: 102.

وحقيقة النسخ تغيير للأحكام بتغير الأحوال والظروف، ممن يعلم مصالح خلقه تبارك تعالى,ولما امتنع أن يكون للعلماء من الإحاطة بالمصالح والمفاسد في أحوال البشر كإحاطة علم الله تعالى، امتنع القول بالنسخ بالاجتهاد، لما يقع به من إبطال أحكام الشرع المتيقنة بالظن، لكن للعلماء الاهتداء بمبدأ النسخ في مراعاة الظروف والمناسبات فيما مجاله الاجتهاد من الأحكام، فيفتي أحدهم في المسألة في ظرف يكون على خلافه في ظرف آخر.

 شروط النسخ:

 يشترط في صحة النسخ الشروط الآتية:

* الشرط الأول: أن توجد حقيقة النسخ ومعناه، وقد تقدم بيان ذلك في المسألة السابقة.

* الشرط الثاني: أن يكون الناسخ وحيا، من كتاب أو سنة.  

وبذلك يعلم:

* أن النسخ بمجرد الإجماع لا يجوز, فإن الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته ينقطع النسخ لأنه تشريع، ولا تشريع البتة بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-.  

* وإذا وجد في كلام العلماء أن الإجماع نسخ نصاً, فالمراد بالإجماع:

الناسخ النص الذي استند إليه الإجماع لا نفس الإجماع، فيكون من قبيل نسخ النص بنص مثله.  

* وأن النسخ لا يجوز بالقياس, لأن القياس إنما يعتبر فيما لا نص فيه وحيث وجد النص بطل القياس المخالف له.

* وأنه لا يجوز النسخ بأدلة العقل, لأن دليل العقل ضربان:

ـ ضرب لا يجوز أن يرد الشرع بخلافه فلا يتصور نسخ الشرع به.

ـ وضرب يجوز أن يرد الشرع بخلافه - وهو البقاء على حكم الأصل- فهذا إنما يجب العمل به عند عدم الشرع. ولا يشترط في الناسخ أن يكون أقوى من المنسوخ، أو في مرتبته، بل يكفي أن يكون الناسخ وحيا صحيح الثبوت, خلافًا لما ذهب إليه الأصوليون من قولهم: "لا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد، لأن المتواتر أقوى من الآحاد والأقوى لا يرفع بما هو دونه".

ويمكن بيان غلط الأصوليين في هذا من وجهين:

الأول: ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي إذ يقول: " أما قولهم: إن المتواتر أقوى من الآحاد، والأقوى لا يرفع بما هو دونه فإنهم قد غلطوا فيه غلطاً عظيماً مع كثرتهم وعلمهم، وإيضاح ذلك: أنه لا تعارض البتة بين خبرين مختلفي التاريخ, لإمكان صدق كل منهما في وقته، وقد أجمع جميع النظار أنه لا يلزم التناقض بين القضيتين إلا إذا اتحد زمانهم، أما إن اختلفا فيجوز صدق كل منهما في وقتها.

فلو قلت: النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى إلى بيت المقدس، وقلت أيضاً: لم يصل إلى بيت المقدس، وعنيت بالأولى ما قبل النسخ، وبالثانية ما بعده, لكانت كل منهما صادقة في وقتها.  

الثاني: أن الناسخ في الحقيقة إنما جاء رافعاً لاستمرار حكم المنسوخ ودوامه وذلك ظني وإن كان دليله قطعياً, فالمنسوخ إنما هو هذا الظني لا ذلك القطعي.  

* الشرط الثالث: أن يتأخر الناسخ عن المنسوخ.

وذلك يثبت بطرق، منها:  

ـ الإجماع: وهو أن تجمع الأمة على خلاف ما ورد من الخبر فيستدل بذلك على أنه منسوخ لئلا تجتمع على الخطأ، فالإجماع في مثل هذا بين أن النص المتأخر ناسخ للنص المتقدم، لا أن الإجماع هو الناسخ كما تقدم التنبيه على ذلك قريباً.

ـ وقوله -صلى الله عليه وسلم- وفعله.

ـ وقول الراوي: كان كذا ونسخ، أو رُخص في كذا ثم نهي عنه.

ـ وأن يضبط تاريخ القصص, فيُعلم الناسخ بتأخره مع وجود ما يعارضه.

والحاصل أن الناسخ والمنسوخ إنما يعرفان بمجرد النقل الدال على ذلك، ولا يعرف ذلك بدليل عقلي ولا بقياس.

* الشرط الرابع: أن يمتنع اجتماع الناسخ والمنسوخ, بأن يكونا متنافيين قد تواردا على محل واحد يقتضي المنسوخ ثبوته والناسخ رفعه أو بالعكس.  

* الشرط الخامس: أن يكون المنسوخ حكماً لا خبراً، إذ الأخبار لا يدخلها النسخ، كأخبار ما كان وما يكون، وأخبار الجنة والنار، وما ورد من أسماء الله وصفاته.   

أنواع ما يقع به النسخ.

لما كان أمر " النسخ " قد فرغ منه لارتباطه بنزول الوحي.

ثبت باستقراء صور النسخ أنه واقع بأربعة أشياء:

 الأول: " نسخ قرآن "، كنسخ قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) البقرة: 180, بآيات المواريث من سورة النساء، وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ", وصح القول بنسخها عن جماهير السلف، كابن عباس وغيره، وإن كانوا قد اختلفوا في الناسخ: هل هو آيات المواريث أم الحديث ؟

 والثاني: " نسخ سنة بسنة "، كصفة التطبيق في الركوع، فعن علقمة بن قيس والأسود بن يزيد: أنهما دخلا على عبد الله بن مسعود، فقال: أصلى من خلفكم ؟ قالا: نعم، فقام بينهما، وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا، فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا، ثم طبق بين يديه، ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: هكذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نسخه ما في حديث سعد بن أبي وقاص -صلى الله عليه وسلم-، فعن ابنه مصعب قال: صليت إلى جنب أبي، فلما ركعت شبكت أصابعي وجعلتهما بين ركبتي، فضرب يدي فلما صلى قال: قد كنا نفعل هذا، ثم أمرنا أن نرف إلى الركب.  

 والثالث: " نسخ قرآن بسنة "، وهو واقع في مذهب طائفة كبيرة من أهل العلم خلافاً للشافعي وأحمد، ومما يذكرونه له مثالاً: نسخ قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين) البقرة: 180, بقوله -صلى الله عليه وسلم- المتقدم ذكره قريباً: " لا وصية لوارث ".

ووقوع النسخ في المثال المذكور بهذه الصور أظهر، والله أعلم.

وكون القرآن والسنة وحياً لا يمنع وقوع النسخ بينهما، لأنهما جميعا من عند الله.

 والرابع: " نسخ سنة بقرآن "، كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة، فالأول ثابت بالسنة، وهو الحال التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون معه في مكة وبعد الهجرة زماناً، ونسخه بالكتاب، فعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه، وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهراً، ثم صرف إلى الكعبة.  

وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يوجه إلى الكعبة  فأنزل الله: (قد نرى تقلب وجهك في السماء) البقرة: 144, فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس وهم اليهود: (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي مَنْ يشاء إلى صراط مستقيم) البقرة: 142.  

( فائدة ): الوجوه التي يقع عليها النسخ في القرآن.  

النسخ في القرآن واقع على وجوه، هي:

1ـ نسخ الحكم مع بقاء التلاوة.

(مثاله): قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهنَّ الموت أو يجعل الله لهنَّ سبيلاً) النساء: 15، نسخ بقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة) النور: 2, كما صح ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مئة والرجم ".  

2ـ نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.

(مثالها): آية الرجم، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: إن الله قد بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله.

وإن الرجم في كتاب الله حق على مَنْ زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف.  

وكذلك روى بعض معنى ذلك سعيد بن المسيب عن عمر، فذكر الآية المنسوخة: (الشيخ والشيخة فارجموهما البتة).  

3ـ نسخ التلاوة والحكم:

(مثاله): ما أفاده حديث عائشة ـرضي الله عنهاـ قالت: كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات.  

 طريق معرفة النسخ:

يعرف النسخ بطرق، وهى:

1ـ دلالة اللفظ عليه صراحة، بلفظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كقوله: " نهيتكم عن زيارة القبور فزورها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرا ".. أو قول الصحابي راوي الحديث، كحديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار.

2ـ قرينة في سياق النص، كقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتقدم قريبا: " خذوا عني  خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً " الحديث، فهذا يشير إلى المنسوخ، وهو قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) النساء: 15.

3ـ معرفة تاريخ المتقدم والمتأخر، فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، كما هو الشأن في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد سبق.

ومما ينتدرج تحت هذا:

أن الأحكام الواقعة في حجة الوداع أو بعدها مما يعارض أحكاماً غير معلومة التاريخ، فما ورد في تلك الحجة أو بعدها ناسخ لتلك الأحكام، لأن في تلك الحجة كمال الدين، وجميع الأحكام المستخلصة منها محكمة، وما وقع بعد الحجة أيضاً مما عارض ما قبلها قرينة على إبطال الحكم السابق، وذلك نسخ.

(مثال): صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- النهي عن الشرب قائماً من وجوه، ولقد جاء الفعل النبوي على خلافه في حجة الوداع، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من زمزم، فشرب وهو قائم.  

ترتيـــب الأدلــــــة:

المراد بترتيب الأدلة: جعل كل دليلٍ في رتبته التي يستحقها بوجه من الوجوه.  

فإذا كان مرجع جميع الأدلة إلى "القرآن" فوجب ضرورة أن يكون أولها في الرجوع إليه لاستفادة الأحكام، ولما كانت "السنة" مبينة له وهي الدليل الثاني المتفق على الاستدلال به لعودها إلى مسمى الوحي, فهي التالية للقرآن في ترتيب الاستدلال، وجدير أن تكون سائر الأدلة في الترتيب تعود إلى قوة اتصالها بالوحيين، فـ "الإجماع" لا يعود تقريره إلى نظر، وعمدته على النص فهو ألصق من سائر الأدلة بالوحي، ثم يأتي ترتيب الأدلة النظرية وعلى رأسها "القياس" فهو أظهرها من جهة اتصاله بالوحي.

وقد روي في ترتيب الأدلة حديث مشهور لا يكاد يخلو منه كتاب من كتب الأصول، وهو حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بعثه إلى اليمن فقال: " كيف تصنع إن عرض لك قضاء ؟ " قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: " فإن لم يكن في كتاب الله ؟ " قال: فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: " فإن لم يكن في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ " قال: أجتهد رأيي لا آلوا، قال  فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدري ثم قال: "الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وهذا الحديث لا يثبته أئمة الحديث من السلف، ووافقهم على قولهم في رده محققو المحدثين ممن جاء بعدهم، فممن ضعفه ورده: البخاري، والترمذي، والدارقطني، وابن حزم، وابن طاهر المقدسي، وابن الجوزي، والذهبي، وأبو الفضل العراقي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم من أئمة المحدثين ونقادهم، وعلة الحديث تعود إلى الاختلاف فيه وصلاً وإرسالاً، وجهالة بعض رواته في موضعين، وواحدة من تلك العلل تسقط بحديث في الفضائل، فكيف بحديث في الأصول؟! ولكن ضعف هذا الحديث لا يؤثر في ترتيب الأدلة المذكورة، فإن أصول الشريعة اقتضته ودلت عليه، وهو المنقول عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك بتقديم الوحي أولاً على الرأي، والوحي كتاب وسنة، والسنة تابعة للقرآن من حيث أنها مبينة له، ودرجة التابع لا تصلح أن تكون مساوية للمتبوع فضلا عن أن تسبقه، كيف والقرآن كلام رب العالمين تبارك وتعالى؟.

            

الباب الثالث: الحكـــم الشرعـــي

 تعريف الحكم.

الحُكم في اللغة: المنع، ومنه قيل للقضاء: حُكم, لأنه يمنع من غير المقضي به.

وحكمت السفيه وأحكمت: إذا أخذت على يديه.

ومنه قول جرير:

أبني حنيفة احكموا سفهائكم       إني أخاف عليكمو أن أغضب

ومن الحكم بمعنى المنع " الحكمة " بالتحريك: للدابة وهى ما أحاط بحنكيها من اللجام، سميت بذلك لأنها تذللها لراكبها، وتمنعها من الجماح والشرود.

ومنه: اشتقاق الحكمة -بالكسر- وهى العدل والعلم، لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل.  

الحكم اصطلاحاً: إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه.

(مثل): زيد قائم، وعمرو ليس بقائم.

وهذا تعريف لمطلق الحكم إذ إن الحكم بالاستقراء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- حكم عقلي، وهو ما يَعرف فيه العقل نسبة أمر لأمر أو نفيه عنه.

(مثل): الكل أكبر من الجزء، والجزء ليس أكبر من الكل.

2- حكم عادي، وهو ما عُرفت فيه النسبة بالعادة، مثل: الماء مُرو.

3- حكم شرعي, وهو المقصود في هذا المقام.

ويمكن تعريفه بأنه:

 "خطاب الله المتعلقُ بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع".  

 شرح التعريف:

الخطاب في اللغة: توجيه الكلام المفيد إلى الغير بحيث سمعه، والمراد به هنا: المخاطب به، وهو الكلام الموجه إلى الغير.

والمراد بخطاب الله هنا: أمره ونهيه، وخبره وما تفرع عنه من وعد ووعيد، وتعليق على سبب أو شرط ونحو ذلك.

وإضافة لفظ الجلالة إليه قيد أول، يخرج به خطاب الإنس والجن والملائكة  لأن ذلك لا يعتبر حكماً. والمقصود بخطاب الله تعالى: كلامه المباشر، وهو القرآن الكريم، أو بالواسطة، وهو ما يرجع إلى كلامه من سنة أو إجماع، وسائر الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع لمعرفة حكمه. فالسُّنَّة وهى: ما يصدر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- على وجه التشريع راجعة إلى كلامه، لأنها مبينة له، وهى وحي الله إليه قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى).

والإجماع لا بد له من دليل من الكتاب والسنة فكان راجعاً إلى كلام الله تعالى بهذا الاعتبار. وهكذا سائر الأدلة الشرعية، كلها كاشفة عن خطاب الله تعالى، ومظهرة للحكم الشرعي، لا مثبتة له.  

والمقصود بأفعال المكلفين: الأفعال جمع فعل, والمراد به: ما صدر عن المكلف من قول أو فعل أو اعتقاد، وليس المراد به ما قابل القول والاعتقاد, لأن الحكم كما يتعلق بالأفعال، كإيجاب الصلاة والزكاة والحج، يتعلق بالأقوال، كتحريم الغيبة والنميمة، ويتعلق كذلك بالاعتقاد، كاعتقاد الوحدانية لله تعالى، فهو واجب.

والمكلفين: جمع مكلف, وهو: البالغ العاقل الذي بلغته الدعوة.

والمقصود بالاقتضاء: معناه: الطلب, سواء أكان طلب فعل أم طلب ترك.

أو التخيير: ومعناه: التسوية بين فعل الشئ وتركه، بدون ترجيح أحدهما على الآخر.

أو الوضع: المراد بالوضع: خطاب الله تعالى المتعلق بجعل الشئ سبباً أو شرطاً, أو مانعاً, أو صحيحاً, أو فاسداً.

(الأمثلة): فقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) المائدة: 1, حكم شرعي، لأنه خطاب من الله تعالى بفعل من أفعال المكلفين، وهو الإيفاء بالعقود، على جهة الطلب الجازم له، فيفيد الإيجاب. وقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) الإسراء 32, حكم شرعي، لأنه خطاب من الشارع طلب به الكف الجازم عن فعل وهو الزنى، فيفيد التحريم. وقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) المائدة: 2, حكم شرعي لأنه خطاب من الشارع بإباحة الاصطياد بعد التحلل من الإحرام، لأنه أمر ود بعد حظر.

            

كما سبق وقلنا أن الحكم الشرعي هو:

الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف به.

وهذا التعريف لا يخلو عن ثلاثة أمور:

الأول: أن يرد فيه اقتضاء وطلب, وهذا يشمل الأقسام الأربعة: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه.

الثاني: أن يرد فيه التخيير, وهذا هو القسم الخامس لأحكام التكليف وهو: المباح.

الثالث: ألا يرد فيه اقتضاء ولا تخيير فهذا هو خطاب الوضع، وذلك بأن يرد الخطاب بنصب سبب أو مانع أو شرط، أو كون الفعل رخصة أو عزيمة  وغير ذلك. ويسمى ما ورد بالاقتضاء أو التخيير خطاب التكليف, فتبين بذلك أن الحكم الشرعي قسمان: حكم تكليفي، وحكم وضعي.

 الفرق بين الحكمين.

1ـ الحكم التكليفي يتطلب فعل الشئ أو تركه، أو إباحة الفعل والترك للمكلف.

أما الحكم الوضعي: فلا يفيد شيئاً من ذلك، إذ لا يقصد به إلا بيان ما جعله الشارع سبباً لوجود شئ، أو شرطاً له، أو مانعاً منه، ليعرف المكلف متى يثبت الحكم الشرعي، ومتى يتنفي، فيكون على بينه من أمره.

2ـ المكلف به في الحكم التكليفي: أمر يستطيع المكلف فعله وتركه فهو داخل في حدود قدرته واستطاعته، لأن الغرض من التكليف امتثال المكلف ما كلف به، فإذا كان حاجه عن استطاعته، كان التكليف به عبثاً يتنزه عنه الشارع الحكيم، ولهذا كان من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية: " لا تكليف إلا بمقدور ".

أما في الحكم الوضعي، فلا يشترط في موضوعه بأن يكون في قدرة المكلف، ومن ثم كان منه المقدور للمكلف، ومنه الخارج عن قدرته، ولكن مع هذا إذا وجد ترتب عليه أثره.

فمن الحكم الوضعي المقدور للمكلف: السرقة والزنى, وسائر الجرائم، فقد جعلها الشارع أسباباً لمسبباتها، فالسرقة مثلاً سبب لقطع يد السارق، والزنى لجلد الزاني ورجمه، وهكذا بقية الجرائم.

ومن الحكم الوضعي غير المقدور للمكلف: حلول شهر رمضان، فهو سبب لوجوب الصوم، ودلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة، والقرابة سبب للميراث, فهذه الأسباب كلها غير مقدورة للمكلف.  

            

الحكم التكليفي هو:  

"خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير".

وللحكم التكليفي خمسة أقسام هي: الإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة  والإباحة.

 ووجه الحصر في هذه الأقسام الخمسة:

أن الخطاب الشرعي إما أن يكون طلباً أو تخييراً.

فإن كان طلباً فهذا يشمل طلب الفعل وطلب الترك، والطلب قد يكون جازماً وغير جازم، فطلب الفعل يشمل الواجب والمندوب.

فالواجب: ما كان طلب الفعل فيه على سبيل الجزم بحيث يتعلق الذم بتاركه.

والمندوب: ما كان طلب فعله بدون جزم بحيث لا يتعلق بتاركه ذم.

وطلب الترك يشمل المحرم والمكروه.

والمحرم: ما كان طلب تركه على سبيل الجزم بحيث يتعلق بفاعله الذم.

والمكروه: ما كان طلب الترك فيه بدون جزم بحيث لا يتعلق الذم بفاعله، أما إن كان الخطاب الشرعي تخييراً لا طلب فيه، فهذا هو المباح.

فصارت بذلك الأقسام خمسة:

الواجب: وهو ما يمدح فاعله ويذم تاركه، فهذا وجوده راجح على عدمه بالنسبة للشارع.

والمندوب: وهو ما يمدح فاعله ولا يذم تاركه، فهذا وجوده راجح على عدمه أيضاً.

والمحرم: وهو ما يمدح تاركه ويذم فاعله، فهذا عدمه راجح على وجوده.

والمكروه: وهو ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله، فهذا عدمه راجح على وجوده أيضاً.

والمباح: وهو ما لا يتعلق بفعله أو تركه مدح ولا ذم، فهذا وجوده وعدمه سواء، هذا ما يمكن بيانه إجمالاً بالنسبة لهذه الأقسام الخمسة.

وهنالك تفاصيل يمكن بيانها على النحو الآتي فنقول وبالله التوفيق:

            

الواجــــــــب:

 تعريف الواجب

الواجب في اللغة: الساقط، يقال: وجب إذا سقط, ويطلق الواجب بمعنى اللازم, وهذا الإطلاق ذكره بعض أهل اللغة ولكنه قد يكون متأثرا بالمعنى الشرعي للكلمة.

الواجب اصطلاحاً: عرف الإمام البيضاوي الواجب بأنه: "الذي يذم شرعاً تاركه قاصداً مطلقاً".

    شرح التعريف:

"الذي" اسم موصول تقديره: الفعل الذي، والمراد بالفعل هو فعل المكلف  لأن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بأفعال المكلفين، والمقصود بفعل المكلف: هو كل ما صدر عنه من قول أو فعل أو اعتقاد.

"يذم" أي: يحقق الذم، و قيد في التعريف، يخرج به المندوب والمكروه والمباح لأنه لا ذم فيها، فالمندوب لا ذم على تركه، والمكروه لا ذم على فعله والمباح لا ذم على فعله ولا على تركه.

والمراد بالذم: أن ينص في كتاب الله تعالى، أو في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو تجمع الأمة على لوم واستنقاص هذا التارك، استنقاصاً يرتب العقاب على تركه للفعل..

" شرعاً ": تنبيه على أن مصدر الذم إنما هو الشرع ليس غيره، خلافاً لزعم المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين.

" تاركه " اسم فاعل مشتق من الترك، وهو عدم الإتيان بالفعل، وهو قيد في التعريف يحترز به عن الحرام، فإن الذم فيه على الفعل.

" قصد " صفة لمفعول مطلق محذوف، تقديره: ترك قصداً، فالقصد راجع إلى الترك.

وفائدة الإتيان به في التعريف: إدخال بعض الواجبات، وهو الواجبات التي تركت سهواً أو لنوم، فمثلاً من دخل عليه وقت الصلاة، وتمكن من الإتيان بها، فقد وجبت عليه الصلاة وجوباً موسعاً، فإذا غفل عن الإتيان بها حتى خرج وقتها، أو نام معتقداً أنه سيستيقظ قبل خروج الوقت، فغلبه النوم حتى خرج الوقت، يصدق عليه أنه ترك واجباً، ولكن لا يذم على هذا الترك، لأنه لم يكن قصداً.  

ولفظ " مطلقاً ": متعلق بتاركه، أي أن الذم يتناول من ترك الواجب تركاً مطلقاً، فلم يتركه في أول الوقت دون آخره، ولم يتركه ليفعل ما يقوم مقامه، ولم يتركه لقيام غيره من المكلفين به. وهذا القيد في التعريف جيء به ليكون الحد جامعاً لثلاثة أنواع من الواجبات هي:

1ـ الواجب الموسع: كالصلاة التي يجوز تركها في أول الوقت مع فعلها في أثنائه، فلولا زيادة لفظ مطلقا لقيل إن الواجب الموسع في أول الوقت ليس بواجب, لأنه لا يذم تاركه.

2ـ الواجب المخير: مثل وجوب التكفير عن اليمين الحانثة بواحد من ثلاثة  العتق، والإطعام، والكسوة, فكل واحد من هذه الثلاثة بخصوصه يجوز تركه من غير ذم لكن بشرط أن يفعل غيره، فلولا زيادة وصف الترك بالإطلاق لقيل الواجب المخير ليس داخلا.

3ـ الواجب الكفائي: مثل غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فهذا واجب على عموم المسلمين العالمين بموت ذلك المسلم، ولكن لو تركه بعضهم وفعله آخرون لم يأثم التارك ولم يذم، فلو لم نصف الترك بقولنا مطلقاً، للزم خروج الواجب الكفائي لأن تاركه لا يذم، ولما زدنا هذا الوصف دخل الواجب الكفائي, لأن تركه ليس مطلقاً بل من بعض المكلفين دون بعض.

 صيغ الواجب:

إن الصيغ التي تدل على الواجب، إنما هي صيغ الأمر إذا تجردت عن القرآن الصارفة لها عن الوجوب، والصيغ الأصلية التي تدل عليه هي:

1ـ فعل الأمر, مثل قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) البقرة: 43, وقوله جل شأنه: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) التوبة: 103.

2ـ الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر, مثل قوله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته) الطلاق: 7, وقوله تعالى: (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) البقرة: 186.

3 ـ اسم فعل الأمر: مثل قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) المائدة: 105.

4 ـ المصدر النائب عن فعل الأمر: مثل قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) محمد: 4, وقوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) النساء: 92.

فإن هذه الصيغ السابقة كلها تكون للطلب على سبيل الجزم، والتي ينتج عنها الواجب والفرض.

إلا أن هناك أساليب أخرى، يمكن أن يستفاد منها الوجوب أيضاً وذلك مثل:

1ـ التصريح من الشارع بلفظ الأمر, كقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) النساء: 58.

2ـ التصريح بلفظ الإيجاب والفرض والكتب ونحوها، مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) البقرة: 183, وقوله جل شأنه: (فريضة من الله) التوبة: 60.

3ـ وكذلك لكل أسلوب في اللغة العربية يمكن أن يفيد الوجوب، مثل قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) آل عمران: 97.

فإنه صريح في الوجوب، إلى غير ذلك من الأمثلة.  

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 7:58 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقة Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقة   زاد الطالب في أصول الفقة Emptyالسبت 17 مايو 2014, 5:32 am

( فائدة ):
الفرض هو الواجب عند جمهور الفقهاء ، فيقولون:

" صوم رمضان واجب " كما يقولون: " فرض " ، ويقولون: " زكاة الفطر فرض " كما يقولون: " واجبة " .
وخالفهم في ذلك الحنفية ـ وهو رواية عن الإمام أحمد ـ ففرقوا بين: ( الفرض ) و ( الواجب ) لا من جهة التعريف المتقدم ، وإنما من جهة طريق ورود الدليل الدال على الوجوب أو الفرضية ، فكان عندهم ما ورد الدليل الدال على الوجوب أو الفرضية ، فكان عندهم ما ورد بدليل قطعي الورود كالقرآن والحديث المتواتر فهو فرض ، وما ورد بدليل ظني الورود كحديث الآحاد الصحيح فهو واجب ، وعليه فـ " الواجب " أدنى في الحتمية عندهم من " الفرض " بهذه الحيثية .
ومذهب الجمهور أصح وأرجح ، لرجحان وجوب العمل بحديث الآحاد الصحيح .
( مسألة ):
الفعل النبوي إذا جاء تفسيرا لواجب مجمل كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " صلوا كما رأيتموني أصلي ",  وقد صلى بفعله ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لتأخذوا مناسككم "، وقد حج بفعله ، هل يكون ذلك الفعل واجباً ؟
التحقيق الذي عليه أكثر أهل العلم أن البيان بالفعل واقع على ما هو واجب كالركوع والسجود في الصلاة ، وعلى ما هو مندوب كرفع اليدين وصف القدمين ووضع اليمنى على اليسرى ، فمجرد الفعل النبوي لم يحل المندوب منها واجباً ، وذلك لو صح فإنه يعني أن المندوبات في حقه -صلى الله عليه وسلم- انقلبت واجبات بفعله في حق أمته ، وهذا معنى لا يتصور ، فالتكليف في حقه -صلى الله عليه وسلم- مقطوع بأنه آكد منه في حق أمته .
فلا يصلح إذاً إطلاق أن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان بياناً لواجب فكل أجزاء ذلك الفعل واجبة على أمته ، وإنما يستفاد وجوبها من غير ذات الفعل ، وتبقى مشروعية المتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- واجبة في الواجب ، ومندوبة في المندوب .
أقسام الواجب:
ينقسم الواجب إلى عدة أقسام , تبعاً لاعتبارات مختلفة:
التقسيم الأول:

ينقسم الواجب بالنظر إلى ذاته قسمين:

معين ، ومخير .
فالواجب المعين هو:

ما ألزمنا الشارع به لذاته ، بحيث لا يجوز تركه ، ولا يجوز استبداله بغيره ، بل لا بد من الإتيان به ، وفعله بذاته .
{مثل }:
 أركان الإسلام الخمسة ، وأداء الدين والوفاء بالعقود ونحوها
فكلها مطلوبة بعينها دون تخيير .
والواجب المخير هو:
الواجب الذي خُير فيه المكلف بين أشياء محصورة مثل كفارة اليمين فإنها واجبة ، ولكن المكلف مخير بين ثلاثة أشياء: العتق ، أو إطعام عشرة مساكين ، أو كسوة عشرة مساكين .
التقسيم الثاني:
باعتبار وقت أدائه ، ينقسم الواجب بهذا الاعتبار إلى قسمين  واجب مطلق , وواجب مؤقت .
فالواجب المطلق:
هو الذي لم يعين الشارع لأدائه وقتاً معيناً مع وجوب الإتيان به , وذلك ككفارة اليمين مثلاً ، فمن حنث في يمينه كفر إن شاء عقب الحنث مباشرة ، وإن شاء آخر عن ذلك الوقت ، حيث إن النص الذي أوجب الكفارة لم يعين وقتاً للأداء.
والواجب المؤقت هو:
هو ما حدد له الشرع وقتا معيناً ، له بداية ونهاية. مثل الصلاة .
وينقسم الواجب المؤقت إلى قسمين:
واجب مضيق وواجب موسع .
والواجب المضيق هو:
هو الذي حدد له الشرع وقتاً لا يتسع لغيره من جنسه معه , مثل الصيام،  فإن الصيام له وقت محدد يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وهذا الوقت لا يتسع إلا لصيام واحد ، فلا يمكن أن يصوم يوماً واحداً عن القضاء وعن النذر مثلاً ، ولكن هذا الوقت يتسع لغير الصيام من الواجبات والمندوبات التي ليست صياماً ، ولهذا المعنى قلنا: لا يتسع لغيره من جنسه معه .
والواجب الموسع:
عكس المضيق ، فهو: الذي حدد له الشرع وقتا يتسع له ولغيره من جنسه معه , ومثاله: الصلاة ، فإن الوقت المحدد لصلاة العشاء مثلا يبدأ من غروب الشفق الأحمر ويمتد إلى نصف الليل لمن لا عذر له , فهذا الوقت يتسع لصلاة الفرض ولصلاة أخرى غير فرض العشاء .
التقسيم الثالث:
باعتبار فاعله إلى واجب عيني وواجب على الكفاية.
أما الواجب العيني ( أو فرض العين ):
فهو ما وجب على كل شخص بعينه  كالصلاة والصوم , فمقصود الشارع فيه : النظر إلى فاعله وصدق امتثاله .
وأما الواجب الكفائي ( أو فرض الكفاية ):
فقد وضحه الإمام الشافعي ، فقال:
" وهكذا كل ما كان الفرض فيه مقصودًا به قصد الكفاية فيما ينوب ، فإذا قام به من المسلمين من فيه الكفاية خرج من تخلف عنه من المأثم ، ولو ضيعوه معًا خفتُ ألا يخرج واحد منهم مطيق فيه من المأثم ، بل لا شك إن شاء الله لقوله: { إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } التوبة: 39.
والمعنى:
هو ما طلب الشارع حصوله من غير تعيين فاعله .
وهذا النوع يدخل فيه ما أوجبه الله على الأمة بمجموعها من غير تخصيص أفراد بأعيانهم كالجهاد ، وما أوجبه على جماعة محصورة من غير تحديد من يقوم به منهم بعينه كوجوب غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فإن ذلك واجب على من حوله من المسلمين .
وأهم الفروق بين الواجب العيني والواجب الكفائي:
1ـ أن الواجب العيني مطلوب من كل واحد من المكلفين بعينه ، فلا يقوم فعل غيره مقام فعله إلا بإذنه ، فإن أذن له في فعله نيابة عنه فإن كان الواجب مما تدخله النيابة أجزأه ما يفعله ذلك الغير عنه وإلا فلا , وأما الواجب الكفائي فلا يطلب من كل واحد ولا من واحد معين ، بل إذا قام به من يكفي أجزأ، ولا يشترط فيه الإذن ، بل مهما فعل أجزأ عمن لم يفعل وسقط عنه الإثم .
2ـ أن الواجب العيني مصلحته ترجع إلى فاعله ، أما الواجب الكفائي فمصلحته عامة .
3ـ الواجب الكفائي ينوب فيه البعض عن الكل ، وأما الواجب العيني فلا يكفي فعل بعض المكلفين عن بعضهم الآخر .
4ـ الأمر في الواجب العيني موجه لجميع المكلفين ، أي: لكل واحد منهم ، والأمر في الواجب الكفائي موجه للجميع لكن يسقط بفعل البعض .
مقدمة الواجب:
نختم الكلام على الواجب بما يسميه الأصوليون:
" مقدمة الواجب " وهى  ما يتوقف عليه الواجب ، أو كل ما لا يتم الواجب إلا به .
وهذه القاعدة من القواعد الأصولية المهمة التي أنبنى عليها فقه كثير ، وهي ليست على الإطلاق المذكور في العنوان ، ولا تصدق بعمومها, وإنما نقول: ما لا يتم الواجب إلا به ينقسم قسمين:
1ـ ما لا يتم الوجوب إلا به

كشروط الوجوب ، وأسبابه ، وانتفاء موانعه ، فهذه ليست واجبة باتفاق ، فليس على المكلف أن يمسك عن إنفاق ما عنده من مال حتى يتم الحول ويزكيه ، وليس عليه أن يمسك ما عنده من بهيمة الأنعام أو يزيدها حتى تبلغ نصاباً لتجب فيها الزكاة مثلا , وإنما يتصرف في ماله تصرفاً عادياً من غير هروب من الزكاة ، فإذا حال الحول وعنده نصاب زكاة زكاه وإلا فلا , فهذه الشروط والأسباب وإن كانت داخلة في عموم " ما لا يتم الواجب إلا به " لكنها غير مرادة .
2ـ ما لا يمكن عقلاً أو شرعاً أو عادةً أن يفعل الواجب تاماً إلا بفعله ،

وهذا ينقسم أيضا قسمين:
أ ـ ما ليس بمقدور للمكلف:
كغسل اليد في الوضوء إذا تعذر لقطع ونحوه، وكالركوع والسجود إذا تعذر ليبس في ظهره ونحو ذلك , فهذا خارج عن القاعدة فلا يجب باتفاق .
ب ـ ما هو مقدور للمكلف:
مثل غسل جميع الثوب الذي أصابته نجاسة ولا يدري موضعها ، وإمساك جزء من الليل مع النهار حتى يتم صيام النهار، والوضوء للصلاة، ونيتها ,

وهذا ينقسم أيضا قسمين:
1ـ ما ورد في إيجابه نص مستقل كالوضوء والنية للصلاة ، وهذا واجب باتفاق ، ولم ينقل عن أحد فيه خلاف .
2ـ ما لم يرد فيه بخصوصه دليل مستقل ، وهذا هو موضع النزاع ، وهو الذي قال بعض العلماء فيه : لا نسميه واجباً وإن وجب فعله تبعاً .
والخلاف في هذه القاعدة ضعيف ، والقاعدة معمول بها عند جميع الأئمة ، ومن نقل فيها خلافاً فإنما هو في التسمية ، وفي استحقاق هذه الزيادة ثوابا مستقلا , وإنما قال الجمهور: تسمى هذه الزيادة واجباً , لأنها لا يجوز تركها أبداً إلا بترك الواجب ، وترك الواجب يذم عليه المكلف فكذلك ما لازمه .
ومن فروع هذه المسألة:
ـ  إذا اشتبهت أخته بأجنبية اشتباهاً لا يمكن معه معرفة المحرمة عليه منهما بأي طريق ، وجب عليه ترك نكاح الاثنتين , ويؤيده حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " , ولكن لو اشتبهت أخته بنساء قرية لا يحرم عليه النكاح من نساء تلك القرية , لأن القاعدة هنا عارضتها قاعدة أخرى وهي قاعدة : " العبرة بالغالب لا بالنادر " .
2ـ  إذا اشتبهت الميتة بمذكاة وجب اجتنابهما معاً , لأن إحداهما منصوص على تحريمها ، والأخرى لا يتم اجتناب الحرام إلا باجتنابها .
3ـ  إذا أصابت النجاسة طرفاً من ثوبه كالكم ـ مثلاً ـ ولم يعرف موضعها، فإنه يغسل ما يتيقن بغسله أنه غسل النجاسة ، وحينئذ يكون قد غسل ما وجب غسله بالنص وما لا يتم فعل ذلك الواجب إلا به .
4ـ إذا امتنع المدين من سداد الدين وعنده عقار زائد عن حاجة السكنى وجب عليه بيعه لسداد الغرماء ، فإن امتنع أجبره القاضي .
            
المنــــــــدوب
 تعريفه:
الندب لغة:
الدعاء إلى الأمر المهم ، والمندوب : المدعو إليه,

وقال الشاعر:
يسألون أخاهم حين يندبهم      للنائبات على ما قال برهانا
وفي الاصطلاح:
عرفه الإمام البيضاوي بأنه: " ما يحمد فاعله ، ولا يذم تاركه " .
شرح التعريف:
قوله: " ما يحمد فاعله ": معناه: الفعل الذي يحمد فاعله ، والفعل جنس في التعريف يشمل كل فعل , وهو قيد أول في التعريف ، يخرج به المحرم والمكروه ، فإنه يحمد تاركهما ، كما يخرج به المباح أيضاً فإنه لا حمد فيه على الفعل , ولا على الترك .
وقوله: " ولا ذم تاركه " قيد ثان ، يخرج به الواجب ، فإن تاركه يذم .
ألقابــــــه:
يسمى " المندوب ":
1ـ السنة , 2ـ النافلة , 3ـ المستحب , 4ـ التطوع , 5ـ الفضيلة .
صيغ المندوب:
إذا كان كل من الواجب والمندوب يؤدى بصيغة الأمر ، فإن بينهما فرقاً من هذه الناحية ، وهو أن الأمر إذا أطلق دل على الوجوب ـ عند الأصوليين ـ ولا يدلل على غيره من الندب أو الإباحة ، أو غيرهما إلا بالقرينة .
فصيغة الأمر لا تدل على الندب بنفسها وإنما القرينة هي التى تعين ذلك .
ومن ذلك قول الله تعالى:
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } البقرة: 282 ، فإن الأمر بالكتابة صرف عن الإيجاب بقرينة ما جاء في الآية بعد ذلك من قول الله عز وجل: { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته } , فإن الوصف بالائتمان من شأنه ألا تكون معه كتابه ، إذ الكتابة تكون للإستيثاق خشية الضياع ، وهذا يفيد أن الأمر بالكتابة لا يراد به الوجوب والقرينة هنا منصوص عليها .
وقد تكون القرينة الصارفة الأمر عن إفادة الوجوب إلى إفادة الندب ، مأخوذة من مبادئ الشريعة العامة ، ومن قواعدها الكلية كما في الأمر بالمكاتبة الوارد في قول الله تعالى: { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } النور: 33, فقد دلت القواعد الشرعية العامة الخاصة بالملكية: أن المالك حر في ملكه لا سلطان لأحد عليه .
وكما أن الوجوب قد يؤدي بغير صيغة الأمر ، مما يدل في اللسان العربي على اللزوم والتحتم ، مثل التعبير بلفظ كتب أو كتبنا أو كتاباً موقوتاً ، وما أشبه ذلك مما سبق بيانه ، فكذلك الندب قد يؤدي بغير صيغة الأمر ، مما يدل في اللسان العربي على الرغبة من غير إلزام ولا تحتم , مثل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في رمضان: " سننت لكم قيامه " , ومثل قوله: " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل " .
ومثل قوله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-: " حبذا عبد الله لو كان يقوم الليل ", وكقوله -صلى الله عليه وسلم- لبريرة: وقد عتقت وكانت زوجة لرقيق مثلها ، فحق لها بالعتق خيار فسخ عقد الزواج: " لو راجعتيه " , فإن هذا اللفظ يشعر بالرغبة في بقاء الزواج بينهما دون أن يكون بصيغة الأمر .
{ ومثل }: إن الله يحب كذا ، في قوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " , وقوله: " إن الله جميل يحب الجمال " , وقوله: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " .
فكل هذه الأمثلة واضح فيها أنها تفيد طلب فعل الشئ ، لا على سبيل الإلزام والتحتم ، دون استعمال صيغة الأمر .
درجات المندوب:
ليست المندوبات على درجة واحدة من جهة الندب إليها ، بل متفاوتة باعتبارات:
1ـ سنة مؤكدة:
وهي ما داوم النبي -صلى الله عليه وسلم- على امتثاله ، وربما مع اقترانه بالحث عليه قولاً ، مثل : صلاة ركعتي التطوع قبل صلاة الصبح ، فقد صح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: " ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر " .
2ـ سنة غير مؤكدة:
وهي ما كان من السنن مما لم يواظب عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- كصيام التطوع ، فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم حتى يقال لا يفطر ، ويفطر حتى يقال لا يصوم ، وكصلاة أربع ركعات قبل العصر ، فقد حث عليها -صلى الله عليه وسلم- من غير مواظبة على فعلها .
ويندرج تحت هذا الباب جميع ما حث النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه بالقول من التطوعات ، ولم ينقل عنه المواظبة عليه بالفعل ، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة " , وحث على العمرة في رمضان ، ومع ذلك فما اعتمر -صلى الله عليه وسلم- في حياته إلا أربع عمر، وحج حجة واحدة.
3ـ فضيلة وأدب:
وتسمى كذلك بـ " سنة الزوائد " ، و " سنة العادة " ، وهي الأفعال النبوية في غير أمر التعبد ، كصفة أكله وشربه ونومه ولباسه ومشيه وركوبه ، ونحو ذلك ، فإن الإقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فيها فضيلة ، فذلك من باب التشبه به ، وهو ممدوح ، ما لم يعارض مصلحة أرجح .
وهذا باب جرى فيه الحال النبوي على مقتضى الطبع البشري ، أو على مجاراة العرف الذي لم يخالف الدين ، فما كان منه بمقتضى الطبع فالسنة فيه أن يجاري الإنسان طبع نفسه ما دام لا يخالف الشريعة ، وبذلك يحقق الإقتداء بأتم من تحقيقه له لو تكلف وتصنع بخلاف طبعه ليوافق المشية النبوية أو القعدة النبوية ، وإن كان جارياً على موافقة العرف كلبس الإزار والقميص الطويل ، فإن السنة التي ينبغي المتابعة فيها هي أن يجاري المسلم عرف بيئته وزمانه في ذلك ما دام لم يخالف شرعاً في نوع لباسهم وهيئتهم ، ويكون قد خالف الإقتداء بمخالفة العرف ، لأن الكون في المجتمع والناس على سبيل الموافقة لا المخالفة مقصود لئلا يقع التميز ومن ثم الارتفاع على الخلق والتزكية للذوات ، وإنما يدع المسلم من العرف ما خالف الشرع في أمر أو نهي .
وبعد هذا فيبقى من " سنن العادة " ما لا ينتدرج تحت طبع ولا عرف ، مما لا يخلو في أكثر الأحيان من معان شرعية  أو صحية أو غير ذلك ، يجدها المتأمل لو أمعن النظر ، وهذا كصفة جلوسه -صلى الله عليه وسلم- للأكل ، فإنه قال: " لا آكل متكئاً " ، وفيه معنى شرعي ديني ومعنى صحي ، فالمعنى الشرعي الديني بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله في حديث آخر: " آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد " ، وهذا معنى تواضع وانكسار ، وأما المعنى الصحي فإن الاتكاء فسر بالتربع ، كما فسر بالجلوس معتمداً على شيء ، وعلى أي التفسيرين فهي هيئة تمكن تدفع إلى الإقبال على الطعام بنهمة مع استعداد البطن للامتلاء ، فقد استرخت المفاصل وارتفعت القيود ، بخلاف جلسة العبد المقلقة التي صورتها صورة جلسة العجلان الذي ينتظر متى يفرغ من طعامه وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه " .
( فائدة ):

إن الله عز وجل جعل في المستحبات رحمة للعباد تصل بهم إلى المقامات العلية ، ففي الحديث القدسي: " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " ، كما جعل فيها عوضاً لهم عما يقع من تقصير في الفرائض فتجبر نقصها ، كما صح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة ، قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها ، فإن كانت تامة كتبت له تامة ، وإن كانت انتقص منها شيئاً قال: انظروا، هل لعبدي من تطوع ؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم " .
ولو أيقن العبد أنه أتم الفرائض وما انتقص منها شيئاً كانت نافلته زيادة في درجته ، وإن ترك التطوعات حينئذ فليس عليه من مأثم ، دليل ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث طلحة بن عبيد الله –رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول ، حتى دنا ، فإذا هو يسأل عن الإسلام ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " خمس صلوات في اليوم والليلة " فقال: هل علي غيرها ؟ قال: " لا ، إلا أن تطوع " , قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " وصيام رمضان " قال: هل علي غيره ؟ قال: " لا ، إلا أن تطوع " قال: وذكر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزكاة ، قال: هل علي غيرها ؟ قال: " لا ، إلا أن تطوع " ، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أفلح إن صدق " .
ولكن الصدق في ذلك أمر مظنون ، والعبد يعمل العمل لا يضمن إتقانه من كل وجوهه ، لذلك يبقى محتاجاً إلى التطوع ، ولا يحسن به أن يتركه طول عمره معتمداً على أدائه الفرائض ، فإن خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان المثل الأعلى في المحافظة على كثرة التطوعات.
            
المحــــــــــرم
تعريفه:

لغة:
المنع ، و" المحرم " الممنوع منه ، وهو ضد الحلال .
واصطلاحا:
ما طلب الشارع الكف عنه على وجه الحتم والإلزام ، ويثاب تاركه امتثالاً ، ويعاقب فاعله اختياراً .
وعرفه الإمام البيضاوي بأنه:
" ما يذم شرعاً فاعله " .
و له أسماء كثيرة منها:
المعصية , والذنب , والمحظور , والمزجور عنه , والقبيح .
صيغ المحرم:
1ـ يستفاد " التحريم " الصريح:

كقوله تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربا } البقرة: 275، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه " .
2ـ نفي الحل:
كقوله تعالى: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } البقرة: 230، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال " .
3ـ صيغة النهي:
وهي أنوع تعود جملتها إلى:
أ ـ لفظ " النهي " الصريح:

كقوله تعالى: { وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } النحل: 90, وقوله -صلى الله عليه وسلم- لعلي –رضي الله عنه- وقد وهبه خادماً: " لا تضربه، فإني نهيت عن ضرب أهل الصلاة ، وإني رأيته يصلي منذ أقبلنا " .
ويلحق بهذا قول الصحابي:
 نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كذا .
ب ـ صيغة " زجر ":
كحديث أبي الزبير قال: سألت جابر عن ثمن الكلب والسنور ؟ قال: زجر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك .
ج ـ صيغة الأمر بالانتهاء:
كقوله تعالى للنصارى: { ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم } النساء: 171، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: مَن خلق كذا ، مَن خلق كذا ، حتى يقول: مَن خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته".
د ـ صيغة الفعل المضارع المقترن بـ " لا " الناهية:
كقوله تعالى: { ولا تقربوا الزنا } الإسراء: 32، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يبع بعضكم على بيع بعض " .
هـ ـ صيغة " لا ينبغي ":
كقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحرير: " لا ينبغي هذا للمتقين ".
و ـ صيغة الأمر بالترك بغير صيغة النهي الصريحة:
كقوله تعالى: { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } المائدة: 90، وقوله تعالى: { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض } البقرة: 222، وقوله: " اجتنبوا السبع الموبقات " , قالوا: يا رسول الله ، وما هن ؟ قال: " الشرك بالله ، والسحر ، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " .

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقة 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 7:59 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقة Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقة   زاد الطالب في أصول الفقة Emptyالسبت 17 مايو 2014, 5:46 am

4ـ ما رتب على فعله عقوبة أو وعيد دنيوي أو أخروي:

فهو دليل على تحريمه.
ومن صوره :

أ ـ عقوبة الحدود:

كقوله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } المائدة: 38، وقوله: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة } النور: 2 .

ب ـ التهديد بالعقاب:

كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } البقرة: 278ـ 279، وقوله تعالى: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً } الأحزاب: 60ـ 62، وقوله تعالى: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } النساء: 10, وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين " , وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة " , فهذه فضيحة يوم العرض.

ج ـ ترتيب اللعنة على الفعل:

وهي نوع من العقوبة ، وفيه نصوص كثيرة في الكتاب والسنة .

5 ـ وصف الفعل بأنه من الذنوب:

ومنه وصفه بأنه كبيرة، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي ، وقطيعة الرحم " .

6ـ وصف الفعل بالعدوان ، أو الظلم ، أو الإساءة ، أو الفسق:

أو نحو ذلك كحديث عبد الله بن عمرو –رضي الله عنه- قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الوضوء ، فأراه الوضوء ثلاثا ثلاثا ، ثم قال: " هكذا الوضوء ، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم " , وقوله تعالى: { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } البقرة:282.

7ـ تشبيه الفاعل بالبهائم أو الشياطين أو الكفرة أو الخاسرين:

أو نحوهم  كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " ليس لنا مثل السوء ، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه " , وقوله تعالى: { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } الإسراء: 27.

8 ـ تسمية الفعل باسم شيء آخر محرم معلوم الحرمة:

كوصف الفعل بأنه زنا أو سرقة أو شرك ، أو غير ذلك ، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق " .

أقسامه:

التحريم لم يأت في شريعة الإسلام إلا لشيء كانت مفسدته خالصة أو غالبة ، وجميع المحرمات لا تخلو من أن تكون على واحد من الوصفين ، وهذه قاعدة عظيمة في الفقه لإدراك ما يمكن أن يلحق بالحرام بحسب رجحان جانب المفسدة ، أو فقدان المصلحة .

والمفسدة في المحرم تكون في ذات الشيء المحرم ، أو يكون المحرم سبباً فيها.

وعليه فالمحرمات قسمان:

1ـ محرم لذاته:

{ مثل }:
 الشرك ، والزنا ، والسرقة ، وأكل الخنزير ، فهذه حرمت لذواتها ، ومفاسدها خالصة أو راجحة ، ويترتب على فعلها: الإثم والعقاب ، وبطلان كونها أسباباً شرعية لثبوت شيء من الأحكام ، فالزنا مثلاً لا يثبت به النسب ولا يأخذ أحكام الزواج الصحيح ، والسرقة لا تثبت الملكية للمال المسروق ، وهكذا .

2ـ محرم لغيره:

هو مباح في الأصل أو مشروع لخلوه من المفسدة أو رجحان مصلحته ، لكنه في ظرف معين كان سبباً لمفسدة راجحة ، فتعتريه الحرمة في تلك الحال.

{ مثل }:
 البيع والشراء ، فإنه مباح مشروع ، إلا أنه يحرم عند سماع النداء الأول للجمعة ، لما يقع بمزوالته حينئذ من تفويت الجمعة ، والرجل يخطب امرأة أجنبية ليتزوجها حلال مباح ، لكنه يحرم إذا علم أن مسلماً غيره قد تقدم لخطبتها حتى ينصرف عنها أو تنصرف عنه ، وإنما كانت الحرمة العارضة لما يسبب ذلك من العداوة بين المسلمين بسبب ما يقع من الإيذاء، ومثله أن يبيع على بيع أخيه ، والصلاة مشروعة في كل وقت إلا في ساعات منعت الشريعة من الصلاة فيها دفعاً لمشابهة الكفار حيث يسجدون للشمس عند طلوعها وغروبها .

            

المكـــــــــــروه
 تعريفه:
لغة:

مادته " كره " وهو أصل يدل على خلاف الرضا والمحبة ، فـ " المكروه " ضد المحبوب.

واصطلاحا:

ما طلب الشارع من المكلف تركه لا على وجه الحتم والإلزام ، ويثاب تاركه امتثالاً ، ولا يعاقب فاعله .

أو هو:

ما نهى عنه الشرع نهياً غير جازم .

صيغته:

تعرف الكراهة في الأحكام الشرعية باستعمالات تدل عليها ، ترجع إلى ثلاثة أنواع:

1ـ لفظ " الكراهة ":

كما في حديث المغيرة بن شعبة –رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، وأود البنات ، ومنع وهات ، وكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال  " ، وفيه تفريق بين " الحرام " و " المكروه " .

2ـ صيغة النهي التي قام برهان على صرفها عن التحريم:

كحديث عبد الله بن عباس -- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنا أنهى عن الكي " ، فهذا النهي للكراهة لا للتحريم  ومما دل عليه: حديث جابر بن عبد الله e قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شربة عسل ، أو شرطة محجم ، أو لذعة من نار ، وما أحب أن أكتوي " ، فهذا إذن لهم في التداوي بالثلاث المذكورات ، مع كراهة الكي .

3ـ التروك النبوية التي قصد بها التشريع:

لا التي جرت بمقتضى الطبع البشري ، وهذا يقابل ما يفيده الفعل النبوي من الاستحباب ، فكذلك يفيد الترك الكراهة .

ومن أمثلة ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- تركه عمداً بقصد التشريع لا بمقتضى طبعه:

تركه مصافحة النساء في البيعة ، قالت عائشة -رضي الله عنها-: " ما مست يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يد امرأة قط ، غير أنه بايعهن بالكلام " , وقال في حديث أميمة بنت رقيقة: " إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة " , فهذا ترك مقصود للمصافحة ، مع أنها كانت من سنة البيعة ، وما كان ليدع مستحباً ، ولا مباحاً يستوي فيه الفعل والترك والمرأة تمد إليه يدها وهو يكف يده كما جاء في بعض روايات هذه القصة ، والترك المجرد لا يرقى بنفسه إلى أن يكون المتروك حراماً ، إلا أن يدل على التحريم دليل مستقل غير الترك ، ولم يأت في هذه المسألة ما يدل على تحريم مجرد المصافحة للنساء إلا أن تكون بشهوة ، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: " وزنا اليد اللمس " ، والزنا لا يقع بغير شهوة ، والمصافحة تقع بشهوة وبغير شهوة ، فمجردها مكروه ، وبالشهوة حرام .

( مسألة ):

لفظ  " الكراهة " في استعمال العلماء جار على معنى الكراهة المذكور ههنا ، سوى الحنفية فإنهم يقولون: كراهة تحريم ، وكراهة تنزيه .

والمكروه كراهة التحريم هو:

ما نهى عنه الشرع نهياً جازماً ، ولكنه ثبت بطريق ظني ، مثل أكل كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير .

والمكروه كراهة التنزيه هو:

ما نهى عنه الشرع نهياً غير جازم , وهو مرادف للمكروه عند الجمهور .

( فائدة ):

يُلاحظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا نهى عن شيء ، وثبت أنه فعله ، فإن فعله يدل على الجواز ، ولا يقال: صرف النهي عن التحريم إلى الكراهة ، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لا يفعل المكروه .

            

المبـــــــــاح

تعريفه:

لغة:
مادته " بوح " وتدل على سعة الشيء ، ومنه قيل: " باحة الدار " ، ومنه جاءت " إباحة الشيء " ، وذلك لكونه موسعاً فيه غير مضيق .

واصطلاحاً:

ما خير الشارع المكلف بين فعله وتركه ، ولا يلحقه مدح شرعي ولا ذم بفعله أو تركه ، إلا أن يقترن فعله أو تركه بنية صالحة فيثاب على نيته .

وهو:

الحلال .

أو هو:

" ما لا يتعلق بفعله ولا تركه مدح ولا ذم " .

وبذلك يُعلم أن المباح لا تكليف فيه ولا طلب ، فهو بهذا الاعتبار لا يدخل في أقسام التكليف ، وهي: الواجب ، والمندوب ، والمكروه ، والمحرم ، فتكون الأقسام أربعة ، وإدخاله من باب المسامحة وإكمال القسمة ، وذلك بناءً على أن التكليف هو: " الخطاب بأمرٍ أو نهي " ، ويمكن إدخاله أيضاً إذا عرف التكليف بأنه: " إلزام مقتضى خطاب الشارع " .

صيغته:

تعرف الإباحة بطرق ، تعود جملتها إلى أربع:

1ـ الصيغة الصريحة في الحل:

كقوله تعالى: { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } المائدة: 5، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في البحر حين سألوه عنه: " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " .

2ـ رفع الحرج أو الإثم أو الجناح:

أو ما في معنى ذلك ، كقوله تعالى: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم... } النور: 61، وقوله تعالى: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } البقرة: 173، وقوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم } النور:29.

3ـ صيغة الأمر الواردة بعد الحظر لما كان مباحاً في الأصل:

كقوله تعالى: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } الجمعة: 10، فهذا أمر جاء بعد حظر البيع عند سماع نداء الجمعة وإيجاب السعي إليها  فلما انتهى العرض من ذلك عاد الأمر إلى الإباحة السابقة بصيغة طلب أريد بها رفع الجناح العارض لأجل الجمعة .

ومنها:
صيغة الأمر الواردة لإفادة نسخ الحظر والعودة بحكم الشيء إلى الإباحة كما لو لم يرد الحظر:  كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " نهيتكم عن زيارة القبور فزورها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا " , فهذه أوامر جاءت لإزالة الحظر الذي ورد لسبب ، وقد كانت الأشياء المذكورة قبل الحظر مباحة ، فعادت بهذا الأمر إلى ما كانت عليه .

4ـ استصحاب الإباحة الأصلية:

وهذا الذي يقال فيه: " الأصل في الأشياء الإباحة " ، فكل شيء مباح ما لم يرد دليل ينقله من تلك الإباحة إلى غيرها من الأحكام التكليفية ، فلا يدعى وجوب أو استحباب أو تحريم أو كراهة إلا بدليل ناقل إليها من الإباحة .

وهذا أصل استفيد من نصوص صريحة في الكتاب والسنة ، وهو مناسب للمعقول الصريح ، فإن من أعظم مقاصد التشريع: رفع الحرج ، والإباحة تخيير ، ورفع الحرج ثابت بها ، بخلاف ما هو مطلوب الفعل أو الترك ، فإن المكلف محتاج إلى تكلف القيام به مما تحصل له به المشقة ، والأشياء لا حصر لها ، فإن علقت بغير الإباحة من الأحكام التكليفية لزم منها تكليف غير متناه ، وهذا لا يتناسب مع قدرة المكلف ، ومع الرحمة به .

والله امتن على عباده بالإباحة للأشياء فسخر لهم ما في السماوات والأرض نعمة منه ورحمة ، قال تعالى: { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } الجاثية: 13، وقال: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } البقرة: 29، وقال تعالى: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } الأعراف: 32 .

وهذه قاعدة عظيمة في الفقه ، فإن الأصل في كل شيء الحل حتى يوجد من الشرع دليل يخرجه من الحل ، وأن ما يخرج من الحل إلى حرمة أو كراهة مفصل في الكتاب والسنة ، وهو محصور معدود يمكن أن تستقصى أفراده ، ألم تقرأ قوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } الأنعام: 151، وقوله: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا } الأنعام: 145، وقوله: { قل إنما حرم ربي الفواحش... } الأعراف: 33، وقوله: { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } الأنعام: 119, وحتى الذي يجري المنع منه عن طريق القياس فإنه لا يحول الأصل إلى أن يقال: " الأصل في الأشياء الحرمة " ، فلو وصل القياس بأصحابه إلى هذا المعنى المعكوس لكان ذلك دليلا بنفسه على فساد قياسهم .

( مسألة ):

من المعلوم أن أصناف المباحات ليست قابلة للحصر، لكن لما كانت الإباحة فيها استواء طرفي الفعل والترك جاز أن تميل إلى أحد الطرفين باعتبار عارض.

فالقاعدة أن يقال:

يبقى حكم الإباحة للشيء ثابتاً ما لم يترجح فيه جانب المفسدة أو جانب المصلحة ، فإذا ترجح أحد الجانبين فإن المفسدة الراجحة تحيل المباح مكروهاً أو محرماً ، والمصلحة الراجحة تحيله مندوباً أو واجباً ، فالشيء يكتسب حكماً تكليفياً جديداً باعتبار عارض أخرجه عن الإباحة .

{ أمثلة }:

1ـ الأكل والشرب مباحان من جميع الطيبات ، لكن الإسراف فيهما إلى حد التخمة مكروه ، قال الله تعالى: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } الأعراف: 31، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه، وثلث لنفسه " .

2ـ اللهو واللعب مباحان في غير محرم معلوم الحرمة ، فإذا سببا تفويت فريضة كإخراج الصلاة عن وقتها ، أو جرا إلى محرم كالتعدي على الغير أو مواقعة فاحشة ، انتقلا إلى التحريم .

3ـ النوم مباح ، فإذا كان للتقوي على طاعة الله أو كسب الرزق صار مستحباً .

4ـ عن عائشة -رضي الله عنها-: أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أأصوم في السفر ؟ وكان كثير الصوم ، فقال: " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " ، لكن الفطر يكون واجبا إذا أضر الصوم بالمسافر.

**********************

الفهرس

مقدمة

الباب الأول

التعريف بعلم أصول الفقه

تعريف علم أصول الفقه

نشأة علم أصول الفقه

موضوع علم أصول الفقه

فائدة علم أصول الفقه

استمداد علم اصول الفقه

الباب الثاني

الأدلة الشرعية أو مصادر التشريع

أقسام الأدلة الشرعية

الأدلة المتفق عليها

الكتاب

السنة النبوية

الإجماع

القياس

العلة

الأدلة المختلف عليها

المصالح المرسلة

الاستصحاب

قول الصحابي

شرع من قبلنا

الاستحسان

العرف

الباب الثالث

مبحاث تتعلق بالأدلة الشرعية

التعارض

الترجيح

النسخ

ترتيب الأدلة

الباب الثالث

الحكم الشرعي

أقسام الحكم الشرعي

الحكم التكليفي

الواجب

المندوب

المحرم

المكروه

المباح

بفضل الله وتوفيقه تم نقل وتنسيق الجزء الأول.



زاد الطالب في أصول الفقة 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
زاد الطالب في أصول الفقة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» زاد الطالب في أصول الفقه ج 2
» أيها الطالب نصائح ماقبل ايام الامتحانات
» أصول في التجويد
» أصول المعاصي ثلاثة
» الباب الأول أصول الإيمان

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: فـقـــــــه الــدنــيــــا والديـــــن :: زاد الطالب في أصول الفقة :: الجزء الأول-
انتقل الى: