ــ 4 ــ
القيــــــــــاس
تعريف القياس .
القياس لغة : التقدير ، ومنه قولهم : قست الثوب بالذراع ، إذا قدرته به .
والقياس : المساواة ، يقال : فلان لا يقاس بفلان , أي : لا يساويه .
وفي اصطلاح الأصوليين يمكن تعريفه بأنه : " حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما " .
وبهذا التعريف يتضح أن للقياس أربعة أركان :
الركن الأول : الأصل ، وهو المقيس عليه .
الركن الثاني : الفرع، وهو المراد إلحاقه بالأصل المقيس عليه وحمله عليه.
الركن الثالث : حكم الأصل ، وهو الوصف المقصود حمل الفرع عليه .
الركن الرابع : الوصف الجامع ، وهو العلة الجامعة بين الأصل والفرع المقتضية للحمل .
أقسام القياس .
ينقسم القياس إلى أقسام متعددة بعدة اعتبارات :
أولاً : باعتبار قوته وضعفه ينقسم القياس إلى " جلي " و " خفي " .
فالقياس الجلي : ما قطع فيه بنفي الفارق المؤثر ، أو كانت العلة فيه منصوصاً أو مجمعاً عليها ، فهذه ثلاث صور .
وهذا النوع من القياس لا يحتاج فيه إلى التعرض لبيان العلة الجامعة ، لذلك سُمي بالجلي ، وذلك مثل قياس إحراق مال اليتيم وإغراقه على أكله في الحرمة الثابتة في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } النساء : 10 .
وهذا النوع من القياس متفق عليه ، وهو أقوى أنواع القياس لكونه مقطوعاً به ، وقد اختلف في تسميته قياساً كما سيأتي بيان ذلك في الكلام على مفهوم الموافقة .
والقياس الخفي : ما لم يُقطع فيه بنفي الفارق , ولم تكن علته منصوصاً أو مجمعاً عليها ، وذلك مثل قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في وجوب القصاص .
فهذا النوع لا بد فيه من التعرض لبيان العلة وبيان وجودها في الفرع ، فيحتاج إلى مقدمتين :
المقدمة الأولى : أن السكر مثلاً علة التحريم في الخمر ، فهذه المقدمة إنما تثبت بأدلة الشرع ، وهي مسالك العلة الآتي بيانها .
المقدمة الثانية : أن السكر موجود في النبيذ ، فهذه المقدمة يجوز أن تثبت بالحس والعقل والعرف وأدلة الشرع .
وهذا النوع متفق على تسميته قياساً .
ثانيًا : باعتبار علته ينقسم القياس إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : قياس العلة ، وهو : ما صرح فيه بالعلة فيكون الجامع هو العلة ، وذلك كقوله تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } آل عمران : 137.
يعني : هم الأصل وأنتم الفرع ، والعلة الجامعة التكذيب ، والحكم الهلاك.
والقسم الثاني : قياس الدلالة ، وهو : ما لم تذكر فيه العلة ، وإنما ذُكر فيه لازم من لوازمها , كأثرها أو حكمها فيكون الجامع هو دليل العلة ، وذلك كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فصلت : 39.
فالأصل القدرة على إحياء الأرض ، والفرع القدرة على إحياء الموتى ، والعلة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته ، وإحياء الأرض دليل العلة .
والقسم الثالث : القياس في معنى الأصل ، وهو : ما كان بإلغاء الفارق فلا يحتاج إلى التعرض إلى الجامع ، وذلك كإلحاق الضرب بالتأفيف ، وهذا القسم هو القياس الجلي , ويسمى : بمفهوم الموافقة .
ثالثا : وينقسم القياس إلى " قياس طرد " ," قياس عكس " .
فقياس الطرد : ما اقتضى إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه .
وقياس العكس: ما اقتضى نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه .
ومثال هذين القسمين يوضحه ابن تيمية بقوله :
" وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس , فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم ، كان من الاعتبار أن يُعلم أن من فعل مثل ما فعلوا ، أصابه مثل ما أصابهم ، فيتقي تكذيب الرسل حذراً من العقوبة وهذا قياس الطرد ، ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك ، وهذا قياس العكس " .
رابعاً : ينقسم القياس باعتبار محله إلى الأقسام التالية :
أ- القياس في التوحيد والعقائد :
اتفق أهل السنة على أن القياس لا يجري في التوحيد إن أدى إلى البدعة والإلحاد ، وتشبيه الخالق بالمخلوق ، وتعطيل أسماء الله وصفاته وأفعاله .
وإنما يصح القياس في باب التوحيد إذا استدل به على معرفة الصانع وتوحيده ، ويستخدم في ذلك قياس الأولى ، لئلا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى } النحل : 60، ولئلا يتماثلان أيضاً في شيء من الأشياء { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } الشورى : 11.
بل الواجب أن يُعلم أن كل كمال ـ لا نقص فيه بوجه ـ ثبت للمخلوق فالخالق أولى به ، وكل نقص وجب نفيه عن المخلوق فالخالق أولى بنفيه عنه .
ب - القياس في الأحكام الشرعية :
منع البعض إجراء القياس في جميع الأحكام الشرعية ، لأن في الأحكام ما لا يعقل معناه فيتعذر إجراء القياس في مثله .
وهذا غير صحيح , بل كل ما جاز إثباته بالنص جاز إثباته بالقياس ، لأنه ليس في هذه الشريعة شيء يخالف القياس .
قال ابن تيمية :
" ومن كان متبحراً في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة " .
وقال ابن القيم :
" فهذه نبذة يسيرة تطلعك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس ، ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم فيه مخالف ، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجوداً وعدماً " .
خامساً : باعتبار الصحة والبطلان ينقسم القياس إلى صحيح وفاسد ومتردد بينهما :
فالصحيح : هو ما جاءت به الشريعة في الكتاب والسنة ، وهو الجمع بين المتماثلين ، مثل أن تكون العلة موجودة في الفرع من غير معارض يمنع حكمها ، ومثل القياس بإلغاء الفارق , والفاسد ما يضاده .
قال ابن تيمية :
" وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد ، وكل من ألحق منصوصاً بمنصوص يخالف حكمه فقياسه فاسد ، وكل من سوى بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد " .
والقسم الثالث : هو القياس المتردد بين الصحة والفساد فلا يقطع بصحته ولا بفساده ، فهذا يتوقف فيه حتى يتبين الحال فيقوم الدليل على الصحة أو الفساد , فلفظ القياس إذن لفظ مجمل يدخل فيه الصحيح والفاسد .
لذلك لا يصح إطلاق القول بصحته أو ببطلانه .
ولهذا أيضاً تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين ، وتجد في كلامهم أيضاً استعماله والاستدلال به ، وهذا حق وهذا حق .
فمراد من ذمه : القياس الباطل ، ومراد من استعمله واستدل به : القياس الصحيح .
ولهذا أيضاً لم يجئ في القرآن الكريم مدحه ولا ذمه ، ولا الأمر به ولا النهي عنه ، فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد .
حجية القياس .
اتفق جمهور العلماء على إثبات القياس والاحتجاج به من حيث الجملة , بل ذكره كثير من علماء أهل السنة ضمن الأدلة المتفق عليها .
والناس في القياس طرفان ووسط .
فطرف أنكر القياس أصلاً ، وطرف أسرف في استعماله حتى رد به النصوص الصحيحة ، والحق هو التوسط بين الطرفين ، وهو مذهب السلف ، فإنهم لم ينكروا أصل القياس ولم يثبتوه مطلقاً ، بل أخذوا بالقياس واحتجوا به.
ولكن وفق الضوابط الآتية :
الضابط الأول : ألا يوجد في المسألة نص , لأن وجود النص يسقط القياس ، فلا بد أولاً من البحث عن النص قبل استعمال القياس حتى لا يُصار إلى القياس إلا عند عدم النص .
قال الشافعي :
" ونحكم بالإجماع ثم القياس ، وهو أضعف من هذا ، ولكنها منزلة ضرورة لأنه لا يحل القياس والخبر موجود ، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء ، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء ، إنما يكون طهارة في الإعواز " .
الضابط الثاني : أن يصدر هذا القياس من عالمٍ مؤهل ، قد استجمع شروط الاجتهاد .
الضابط الثالث : أن يكون القياس في نفسه صحيحاً ، قد استكمل شروط القياس الصحيح الآتي بيانها في المسألة اللاحقة .
بهذه الضوابط الثلاثة يكون القياس صحيحا ومعتبرا في الشريعة ، وهذا هو القياس الذي أشار إليه السلف واستعملوه ، وعملوا به وأفتوا به ، وسوغوا القول به .
وهو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه ، قال تعالى : { اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } الشورى : 17، وقال سبحانه : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } الحديد : 25.
قال ابن تيمية :
"وكذلك القياس الصحيح حق، فإن الله بعث رسله بالعدل، وأنزل الميزان مع الكتاب، والميزان يتضمن العدل وما يُعرف به العدل".
وقال ابن القيم :
" فالصحيح ـ يعني من القياس ـ هو الميزان الذي أنزله مع كتابه " .
وهذا القياس من العدل الذي جاءت به الشريعة ، ولا يمكن أن يقع بينهما شيء من التعارض أو التناقض .
أما القياس الذي خلا من هذه الضوابط ، أو من واحد منها فهو القياس الباطل والرأي الفاسد ، وهذا هو الذي ذمه السلف ومنعوا من العمل والفتيا به ، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله .
قال ابن عبد البر :
" وأما القياس على الأصل والحكم للشيء بنظيره فهذا مما لا يختلف فيه أحد من السلف ، بل كل من رُوي عنه ذم القياس قد وُجد له القياس الصحيح منصوصاً ، لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل مخالف للسلف في الأحكام " .
وقبل ذكر الأدلة على حجية القياس ، تحسن الإشارة إلى أن العمل بالقياس الصحيح والاحتجاج به لدي أهل السنة ، أمر مبني على أصول شرعية ثابتة .
الأصل الأول : إثبات الحكمة والتعليل في أحكام الله وشرعه وأمره سبحانه وتعالى ، وتنزيهه جل شأنه عن العبث .
الأصل الثاني : شمول النصوص لجميع الأحكام وإحاطتها بأفعال المكلفين، فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بكلامه وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- جميع ما أمر به ، وجميع ما نَهَى عنه ، وجميع ما أحله ، وجميع ما حرمه ، وجميع ما عفا عنه ، وبهذا يكون الدين كاملاً ، كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } المائدة : 3، ولكن الناس يتفاوتون في معرفة النصوص والإطلاع عليها ، ويتفاوتون أيضا في فهمها .
فمنهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين ، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر ، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه ، ومنهم من يضم إلى النص نصاً آخر متعلقاً به فيفهم من اقترانه به قدراً زائداً على ذلك النص بمفرده ، وهذا مشروط بفهم يؤتيه الله عبده .
والمقصود : أن دلالة القياس الصحيح لا تخرج عن دلالة النصوص , فقد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان ، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان , فإن ما ثبت بالقياس لا بد وأن يستند إلى الكتاب أو السنة أو الإجماع في ثبوت حكم الأصل المقيس عليه من جهة ، وفي ثبوت علته من جهة أخرى ، والقياس على كل حال مستند في ثبوت حجيته إلى نصوص الكتاب والسنة .
فإذا علم ذلك , وهو شمول النصوص للأحكام وتفاوت الناس في فهم النصوص : علم أولاً بطلان قول من قال : " إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة " .
وعُلم ثانياً أن النصوص كافية ويُستغنى بها عن القياس والرأي في كثير من المسائل .
فمن ذلك :
الاكتفاء بقوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } المائدة : 38 عن إثبات قطع النباش بالقياس ، إذ السارق يعم في لغة العرب وعرف الشارع سارق ثياب الأحياء والأموات .
والاكتفاء بقوله -صلى الله عليه وسلم-: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " , في إبطال كل عقد نهى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- عنه وحرمه ، وأنه لغو لا يعتد به .
وعلم ثالثاً مقدار هذه الشريعة ، وجلال مكانتها ، وسعتها ، وهيمنتها ، وشرفها على جميع الشرائع .
وعُلم رابعاً أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بين لأمته كل شيء من الدين .
الأصل الثالث : موافقة القياس الصحيح لنصوص الشريعة , إذ ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس .
ومما يدل على ذلك :
1- أن القياس الصحيح من العدل ، والنص الشرعي من العدل ، فكلاهما عدل .
قال ابن تيمية :
" وهو ـ أي القياس الصحيح ـ من العدل الذي بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم-" .
2- أن الشريعة لا تناقض فيها ولا تعارض بين شيء من أحكامها ، والقياس الصحيح مما جاءت به الشريعة .
أن الشريعة جاءت بالجمع بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، والقياس من قبيل الجمع بين المتماثلين فيكون موافقًا للشريعة .
ولابن تيمية رسالة نفيسة في بيان أنه ليس في الشريعة ما يخالف قياسًا صحيحًا ، كما عقد ابن القيم في ذلك فصلاً في كتابه القيم " إعلام الموقعين " ، فقال : " فصل في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس ".
وبذلك يتضح :
* خطأ من عنون لتلك المسألة بقوله : " ما حكم العمل بخبر الواحد إذا خالف القياس ؟ " .
لأن هذا العنوان مبني على تصور وقوع الاختلاف بين الخبر والقياس ، وهذا غير صحيح .
* وأن من ادعى وقوع اختلاف بين الخبر والقياس فالجواب عليه أن يقال لا يخلو الحال من أمرين :
الأمر الأول : عدم ثبوت هذا الخبر المخالف للقياس .
والأمر الثاني : فساد هذا القياس .
قال ابن تيمية :
" وليس من شرط القياس الصحيح المعتدل أن يعلم صحته كل أحد .
فمن رأى شيئاً من الشريعة مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ، ليس مخالفاً للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر ، وحيث علمنا أن النص جاء بخلاف قياس : علمنا قطعاً أنه قياس فاسد , فليس في الشريعة ما يخالف قياساً صحيحاً ، لكن فيها ما يخالف القياس الفاسد ، وإن كان من الناس من لا يعلم فساده " .
* وأن الخبر يقدم على القياس دائماً إذا ظهر للمجتهد بينهما تعارض ، يوضحه :
* أن القياس المخالف للنص قياس فاسد ، لا يجوز المصير إليه ولا الأخذ به وهذا هو القياس الذي ثبت عن السلف ذمه والمنعُ منه .
أما الأدلة على حجية القياس فمنها :
أولاً : إجماع الصحابة على الحكم بالقياس في وقائع كثيرة تصل بمجموعها إلى حد التواتر .
فمن ذلك قياس الزكاة على الصلاة في قتال الممتنع منها بجامع كونهما عبادتين من أركان الإسلام .
ولم يزل التابعون أيضًا ومن بعدهم من علماء الأمة على إجازة القياس وإثبات الأحكام به .
ثانيًا : حديث معاذ –رضي الله عنه- المشهور أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن قال : " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ " قال : أقضي بكتاب الله ، قال : " فإن لم تجد في كتاب الله ؟ " قال : فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال : " فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله ؟ " قال : اجتهد رأي ولا آلو ، فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسولَ رسوِل الله لما يرضي رسول الله " .
قال ابن عبد البر عن هذا الحديث :
" وهو الحجة في إثبات القياس عند جميع الفقهاء القائلين به " .
وقد وردت عن الصحابة -رضي الله عنهم- آثار تدل على هذا المعنى .
ثالثا : ما ثبتَ في الكتاب والسنة من الأمر بالاعتبار والاتعاظ والاستفادة من الأمثال المضروبة وأخذ الأحكام منها ، وأن للنظير حكم نظيره ، وهذا معلوم أيضاً في فطر الناس ومستقر في عوائدهم وأحوالهم .
فمن ذلك قوله تعالى : { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } الحشر : 2، وقوله تعالى : { ضَرَبَ اللهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } الزمر : 29، وقوله تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } الصافات : 22.
وكذلك لو قال الطبيب للعليل وعنده لحم ضأن : لا تأكل الضأن فإنه يزيد في مادة المرض ، لفهم كل عاقل منه أن لحم الإبل والبقر كذلك ، ولو أكل منهما لعد مخالفاً .
وكذلك لو من عليه غيره بإحسانه ، فقال : والله لا أكلت له لقمةً ولا شربت له ماء , يريد خلاصه من منته عليه ، ثم قبل منه الدراهم َ، والذهبَ ، والثيابَ والشاة ، ونحوها ، لعده العقلاء واقعاً فيما هو أعظم مما حلف عليه .
شروط القياس
لا بد في صحة القياس واعتباره شرعاً من توفر الشروط الآتية فيه :
الشرط الأول : أن يكون حكم الأصل المقيس عليه ثابتاً ، إما بنص ، أو إجماع ، أو باتفاق الخصمين عليه ، أو بدليل يغلب على الظن صحته ، وألا يكون منسوخاً.
الشرط الثاني : أن يكون حكم الأصل المقيس عليه معقول المعنى لتمكن تعدية الحكم ، أما ما لا يعقل معناه كعدد الركعات فلا سبيل إلى تعدية الحكم فيه.
الشرط الثالث : أن توجد العلة في الفرع بتمامها ، وذلك بأن يقطع بوجودها - وهذا هو قياس الأولى أو المساواة - أو يغلب على الظن وجودها في الفرع.
الشرط الرابع : ألا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه بنص مخالف لحكم الأصل ، إذ القياس يكون حينئذ على خلاف النص وهو باطل ، وأما إن كان النص موافقاً لحكم الأصل ، فإن هذا يجوز من باب تكثير الأدلة , فيقال في حكم الفرع : دل عليه النص والقياس .
الشرط الخامس : أن يكون حكم الفرع مساوياً لحكم الأصل ، فلا يصح قياس واجب على مندوب، ولا مندوب على واجب مثلاً , لعدم مساواتهما في الحكم .
الشرط السادس : أن تكون العلة متعدية ، فإن كانت قاصرة صح التعليل بها ولم يصح تعدية الحكم بها ، مثال العلة القاصرة : الثمنية في الذهب والفضة ، ومثال العلة المتعدية : الطعم في البر .
الشرط السابع : أن تكون العلة ثابتة بمسلك من مسالك العلة وهي النص أو الإجماع أو الاستنباط .
الشرط الثامن : ألا تخالف العلة نصاً ولا إجماعاً ، وذلك إن كانت مستنبطة
الشرط التاسع : أن تكون العلة - وذلك إن كانت مستنبطة - وصفاً مناسباً وصالحاً لترتيب الحكم عليه ، فلا يصح التعليل بالوصف الطردي كالطول والسواد .
الشرط العاشر : أن يكون القياس في الأحكام الشرعية العملية , إذ لا يصح إجراء القياس في العقائد والتوحيد إن أدى إلى البدعة والتعطيل .
العلـــــــــة
العلة لغة : بمعنى المرض .
وفي اصطلاح الأصوليين : هي أحد أركان القياس وهو الوصف الجامع بين الفرع والأصل المناسب لتشريع الحكم .
وتسمى العلة : بالمناط ، والمؤثر ، والمظنة ، والسبب ، والمقتضي ، والمستدعي ، والجامع .
والأوصاف ثلاثة أقسام :
الأول : وصف يُعلم مناسبته لبناء الحكم الشرعي عليه ، كمناسبة الإسكار لتحريم الخمر ، فهذا يسمى : بالوصف المناسب ، وهو صحيح يجوز فيه القياس .
الثاني : وصف لا يُتوهم أنه مناسب لبناء الحكم عليه , لعدم التفات الشارع إليه في حكم ما ، كالطول والقصر ، والسواد والبياض ، فهذا يسمى : بالوصف الطردي ، والقياس به باطل .
الثالث : وصف بين القسمين السابقين ، متردد بين المناسبة وعدمها ، وهذا يسمى : بقياس الشبه فهو من حيث إنه لم تتحقق فيه المناسبة أشبه الطردي ومن حيث إنه لم يتحقق فيه انتفاؤها أشبه المناسب ، ولهذا سمي شبهاً .
وهو من أصعب مسالك العلة وأدقها فهماً .
{ مثاله } : العبد إذا قتل هل تلزم فيه القيمة أو الدية ؟
فمن حيث إنه يباع ويوهب ويورث أشبه المال ومن حيث إنه يثاب ويعاقب وينكح أشبه الحر ، فيلحق بأكثرهما شبها .
وقد تكون العلة وصفاً عارضاً كالشدة في الخمر ، وقد تكون وصفاً لازماً كالأنوثة في ولاية النكاح .
وقد تكون حكماً شرعياً ، كأن يقال: يحرم بيع الخمر فلا يصح بيعه كالميتة .
وقد تكون فعلاً من أفعال المكلفين كالقتل والسرقة .
وقد تكون وصفاً مجرداً كالكيل عند من يعلل به تحريم الربا ، وقد تكون أوصافاً مركبة كالقتل العمد العدوان .
وقد تكون إثباتاً ، وقد تكون نفياً ، نحو : لم ينفذ تصرفه لعدم رشده .
وقد تكون العلة قاصرة كالثمنية في الذهب والفضة ، وقد تكون متعدية كالطعم في البر .
وقد تكون العلة وصفاً مناسباً ، وقد تكون وصفاً غير مناسب ، وقد تكون وصفًا متردداً بين المناسبة وعدمها, وقد تقدم قريباً التمثيل لهذه الأقسام الثلاثة .
وقد تكون العلة مطردة بمعنى أن يوجد الحكم كلما وجدت العلة ، وقد تكون غير مطردة فتوجد العلة ويتخلف عنها الحكم .
شروط العلة .
أكثر الأصوليين يعبرون عن الوصف الجامع بالعلة ، ثم يذكرون من شروط العلة أن تكون وصفاً مناسباً ، وهذا لا يستقيم على قول من يرى جواز الاستدلال بقياس الشبه وقياس الدلالة , لأن الوصف الجامع في هذين القياسين هو الشبه في الأول ودليل العلة في الثاني ، ولا يشترط لهما ظهور المناسبة ، فالوصف الجامع الذي هو ركن من أركان القياس قد يكون علة ، وقد يكون دليل العلة ، وقد يكون وصفا شبهيا .
والشروط التي تشترك فيها هذه الثلاثة هي :
1ـ أن يكون وصفا ظاهراً لا خفياً ، مثل الإسكار علة لتحريم الخمر ، وكون العبد لا يجبر على ابتداء النكاح يعلل به عدم إجباره على فسخه ، وكون العبد يصح نكاحه يستدل به على صحة طلاقه وظهاره ، وكون الوضوء قربة فيستدل به على اشتراط النية فيه .
2ـ أن يكون الوصف منضبطاً ، أي : لا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة اختلافاً كبيراً .
فإن كان غير منضبط ، فلا يصح التعليل به كالمشقة في الفطر في السفر ، فإن الناس يختلفون في قدرة تحملهم ، فمنهم من يشق عليه السفر وإن كان قصيراً ، ومنهم من لا يشق عليه السفر ، والشرع من مقاصده التساوي بين الناس في الحكم الشرعي ، فلهذا جعل السفر مناط الحكم لأنه مظنة المشقة .
هكذا قال كثير من العلماء ، والصواب أن المشقة علة للتخفيف ، ولكن ليس كل ما فيه مشقة يكون علة للتخفيف ، بل المشقة الخارجة عن المعتاد هي التي تصلح علة للتخفيف .
وأما التعليل لجواز الفطر للمسافر بالسفر فهو تعليل بعلة قاصرة على المحل لا تتعداه إلى غيره وهي قليلة الفائدة , إذ لا يبنى عليها قياس وإنما هي قصر للنص على محله .
ومع أن كثيراً من العلماء قالوا بقاعدة : " المشقة تجلب التيسير " ، إلا أنهم لم يجعلوا الفطر في السفر مقصورا على من لحقته مشقة ، بل عملوا بعموم النص الوارد في جواز الفطر للمسافر وإن كان منهم من حدد السفر المبيح للفطر بيوم وليلة أو بفراسخ محددة , لظنه أن ما دون ذلك لا توجد فيه مشقة .
ولم يقولوا : إن من لم يشق عليه السفر لا يجوز له الفطر والجمع والقصر ، وذلك لعدم التجرؤ على مخالفة النص ، فإن النص عام في كل مسافر فلم يقيدوه بالمشقة , ولا يختلفون في أن من شق عليه الصيام مشقة تفضي به إلى الهلاك أو الضرر الذي لا يتحمل ، جاز له الفطر وإن كان مقيماً في بيته ، وهذه المشقة تختلف من شخص لآخر فما يشق على فلان من الناس ويلجئه إلى الفطر ربما لا يشق على غيره .
3 ـ أن يكون الوصف متعدياً ، أي : يوجد في غير الأصل كوجوده في الأصل ، فإن كان الوصف المعلل به قاصراً ، أي : لا يتعدى محل الأصل الذي ثبت حكمه بالنص فتسمى العلة القاصرة ، وقد أنكر التعليل بها الحنفية وأثبتها الشافعية ، والجميع متفقون على أن العلة القاصرة لا يبنى عليها قياس ، فلا تكون ركناً من أركانه .
{ مثال } التعليل بالعلة القاصرة : تعليل جواز الفطر في السفر بالسفر ، فإن هذه علة قاصرة لا تتعدى إلى غير المنصوص عليه .
4ـ ثبوت العلية قطعاً أو ظناً ، والوصف الجامع يثبت كونه علة بطرق بعضها محل وفاق وبعضها محل خلاف .
5 ـ الاطراد ، والمراد به : وجود الحكم كلما وجد الوصف المدعى كونه علة .
وعكسه : الانتقاض ، وهو وجود الوصف مع تخلف الحكم .
والنقض هو : إبداء صورة أو أكثر وجد فيها الوصف المدعى علته ، مع تخلف الحكم .
{ مثاله } لو علل القصاص بالقتل ، فإن هذه العلة منتقضة , لأن القتل خطأ لا قصاص فيه باتفاق ، ولأن القاتل يقتل ولا قصاص في قتله ، الخ .
وأما إذا علل القصاص بالقتل عمداً وعدواناً , فإن هذه العلة مطردة غير منقوضة ، فكل من قتل مسلماً معصوماً يستحق القتل .
واختلف في هذا الشرط ، فذهب أكثر الأصوليين إلى أنه شرط لصحة العلة مطلقاً ، سواء أكانت منصوصة أم مستنبطة .
وذهب بعضهم إلى أنه شرط للعلة المستنبطة فقط .
والصحيح : أنه ليس بشرط لصحة العلة مطلقاً , لأن العلة يكتفي فيها بالظن الغالب ، وتخلف الحكم عن العلة في موضع لا يلغي الظن الغالب إذا شهد لهذا الظن شواهد أخرى ، فإن تخلف الحكم في هذا الموضع قد يكون لفوات شرط من شروط العلة أو لوجود مانع ، ولكن إذا اعترض على العلة بالنقض فلا بد للمستدل أن يبين سبب تخلف الحكم في هذا الموضع ، فإن عجز عن بيان الفرق بين الصورة التي اعترض بها المعترض ومحل النزاع سقط استدلاله .
وهناك شروط أخرى مختلف فيها ، وهي تذكر في كتب الأصول في مسائل خاصة ، مثل مسألة التعليل بالحكم ، أو التعليل بالاسم المجرد ، أو عدم التركيب من أكثر من وصف ، أو التعليل بالعدم ، ونحو ذلك .
فهذه المسائل تشير إلى شروط مختلف فيها ، اشترطها بعض العلماء في العلة فقال : يشترط أن تكون العلة وصفاً وألا تكون اسماً مجرداً أو مركبة من أوصاف متعددة ، أو عدمية ( منفية ) .
طرق معرفة العلة .
يتعرف المجتهد على العلة بعدة طرق ، بعضها محل وفاق وبعضها محل خلاف ، أهمها ما يلي :
النص : ومنه ما هو صريح في العلية ، كقوله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } المائدة : 32، وغير ذلك من الألفاظ الدالة على التعليل صراحة .
ومنه ما ليس صريحاً في التعليل ، وهذا يسمى " بالإيماء " والتنبيه على العلة .
وهو: أن يقترن الحكم بوصف على وجه لو لم يكن علة لكان هذا الاقتران بعيدا عن الفصاحة ومعيبا عند العقلاء ، وكلام الشارع ينزه عن ذلك .
والإيماء والتنبيه أنواع :
منها : أن يذكر الحكم عقب وصف بالفاء فيدل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، كقوله تعالى : { قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } البقرة : 222.
ومنها : ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } الطلاق : 2 , أي : لتقواه .
ومنها : أن يذكر الحكم مقروناً بوصف مناسب ، كقوله تعالى : { إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } الانفطار : 13، أي : لبرهم .
الإجماع : والمراد بهذا المسلك : أن تجمع الأمة على أن هذا الحكم علته كذا ، كالإجماع على أن الصغر علة الولاية في المال ، أو في الإجبار على النكاح .
الاستنباط ، وهو ثلاثة أنواع :
النوع الأول : " السبر والتقسيم " ، وقد يسمى بالسبر فقط ، وبالتقسيم فقط ، وبهما معاً وهو الأكثر.
والسبر والتقسيم مبني على أمرين :
أحدهما : حصر الأوصاف ، وهو المعبر عنه بالتقسيم ، وذلك كقوله تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } الطور : 35، فيقال : لا يخلوا الحال من ثلاثة أمور :
الأول : أن يكونوا قد خُلقوا من غير شيء , أي : بدون خالق .
والثاني : أن يكونوا خلقوا أنفسهم .
والثالث : أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم .
والأمر الثاني : إبطال ما هو باطل من الأوصاف المحصورة ، وإبقاء ما هو صحيح منها ، وهذا ما يعبر عنه بالسبر ، فيقال في المثال السابق : لا شك أن القسمين الأولين باطلان ضرورة ، والقسم الثالث هو الحق الذي لا شك فيه ، فإن الله عز وجل هو خالقهم المستحق وحده للعبادة .
وهذا الحصر وما يتبعه من الإبطال متى كان قطعياً كان التعليل به قطعياً .
ومتى كان ذلك ظنياً كان التعليل كذلك ، وهكذا....
النوع الثاني : " الدوران الوجودي والعدمي " ، ويسمى بالدوران فقط وبالطرد والعكس .
والمراد بهذا المسلك : أن اقتران الحكم بوصف ما وجوداً وعدماً دليل على أنه علته ، فلا يكفي اقترانه به في الوجود فقط أو في العدم فقط .
وذلك مثل الشدة في الخمر فإنها علة تحرميه .
النوع الثالث : " المناسبة والإخالة " ، والمراد بهذا المسلك عند الأصوليين :
أن يكون الحكم مقترنا بوصف مناسب لبناء الحكم عليه ، فيجعل هذا الوصف علة لهذا الحكم , لاشتمال هذا الوصف على مصلحة معتبرة .
وذلك كالإسكار فإنه مناسب للتحريم , لأن المنع من الإسكار فيه مصلحة حفظ العقل , وقد تقدم بيان أن الأوصاف منها ما هو مناسب لبناء الحكم عليه، وهو المقصود في هذا المقام , إذ الوصف المناسب هو " ما كان في إثبات الحكم عقبه مصلحة " , فيدل ذلك على التعليل به .
والوصف المناسب للعلية ينقسم من حيث اعتبار الشرع له في ربط الأحكام به وعدم اعتباره إلى أربعة أقسام :
مؤثر ـ وملائم ـ وغريب ـ ومرسل
لأن الوصف المناسب إما أن يدل الدليل على اعتباره في الحكم ، وإما أن يدل على عدم اعتباره فيه ، وإما ألا يدل على اعتباره فيه ولا على عدمه ، فهذه ثلاثة أقسام لا رابع لها ، وواحد منها ينقسم إلى قسمين ، وهو ما دل الدليل على اعتبار الوصف في الحكم ، لأنه مؤثر أو ملائم .
فالمؤثر : ما دل الدليل فيه على اعتبار عين الوصف في عين الحكم ، كتعليل ولاية المال بالصغر , فإنه اعتبر عين الصغر في عين الولاية في المال إجماعا ، وسُمي هذا القسم مؤثراً لحصول التأثير فيه عيناً وجنساً فظهر تأثيره في الحكم .
والملائم : ما دل الدليل على اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم ، كتأثير القتل بالمثقل في القصاص , فإنه اعتبر جنس الجناية في جنس القصاص .
وكذلك ما دل الدليل على اعتبار عين الوصف في جنس الحكم ، كتقديم الأخ الشقيق على الأخ لأب في الميراث ، فاعتبر ذلك في جنس الولاية ، ومنها ولاية النكاح .
وكذلك ما دل الدليل على اعتبار جنس الوصف في عين الحكم ، كتأثير جنس المشقة في إسقاط الصلاة عن الحائض ، وفي التخفيف عن المسافر ، فاعتبرت هذه المشقة المشتركة في عين إسقاط القضاء عن الحائض .
والغريب : هو ما دل الدليل على عدم اعتبار هذا الوصف في الحكم ، وهو المعروف بالمصلحة الملغاة التي أهدرها الشارع .
والمرسل : هو ما لم يقم دليل خاص على اعتبار مناسبته أو إهدارها ، وهذا ما يعرف " بالمصلحة المرسلة " .
وحاصل القول في الوصف المناسب :
أنه مبني على أن أحكام الله سبحانه مشتملة على مصالح ومنافع .
وأن أحكامه معللة بهذه المصالح .
وأن هذه المصالح ترجع إلى : حفظ الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال .