في ذكر العدل والسياسة وذكر الملوك وسيرهم:
اعلم وتيقّن أن الله سبحانه وتعالى اختار من بني آدم طائفتين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليبينوا للعباد على عبادته الدليل ويوضحوا لهم إلى معرفته السبيل واختار الملوك لفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض وملكهم أزمة الإبرام والنقض فربط بهم مصالح خلقه في معايشهم بحكمته وأحَلّهم أشرف محل بقدرته كما يسمع في الأخبار السلطان ظل الله في أرضه.
فينبغي أن يُعلم أن من أعطاه الله درجة الملوك وجعله ظله في الأرض فإنه يجب على الخلق محبته ويلزمهم متابعته وطاعته ولا يجوز لهم معصيته ومنازعته.
قال الله تعالى: {يا أيُها الذين آمنُوا أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرسُول وأوُلي الأمرَ مِنكُم} فينبغي لكل من آتاه الله الدين أن يحب الملوك والسلاطين وأن يعطيهم فيما يأمرون ويعلم أن الله تعالى يعطي السلطنة والمملكة وأنه يؤتي ملكه من يشاء كما قال في محكم تنزليه: {تُؤتِي المُلك مَن تشَاء وتنزَع المُلك مِمن تشَاء وتُعِزُ مَن تشَاء وتُذِلُ مَن تشَاء بيدِك الخير إنِك على كُل شيء قَدير}.
والسلطان العادل من عدل بين العباد وحذر من الجور والفساد والسلطان الظالم شؤم لا يبقى ملكه ولا يدوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم).
وفي التواريخ أن المجوس ملكوا العالم أربعة آلاف سنة وكانت المملكة فيهم وإنما دامت المملكة بعدلهم في الرعية وحفظهم بالسوية وإنهم ما كانوا يرون الظلم والجور في دينهم وملتهم جائز وعمروا بعدلهم البلاد وأنصفوا العباد.
وقد جاء في الخبر أن الله جلّ ذكره أوحى إلى داود عليه السلام أن أنْهِ قومك عن سب ملوك العجم فإنهم عمروا الدنيا وأوطنوها عبادي.
فينبغي أن تعلم أن عمارة الدنيا وخرابها من الملوك فإذا كان السلطان عادلاً عمرت الدنيا وأمنت الرعايا كما كانت عليه في عهد أزدشير وأفريدون وبهرام كور وكسرى أنو شروان.
وإذا كان السلطان جائراً خربت الدنيا كما كانت في عهد الضحاك وافراسيان وبرزدكنها الخاطىء وأمثال هؤلاء وهكذا إلى أن استولى أهل الإسلام وغلبوا العجم وأزاحوهم عن بلادهم وعن الملك وقويت دولة دين الإسلام ببركة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وذلك في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فاعلم وتيقَن أن هؤلاء الملوك الذين ذكرناهم كانوا أصحاب الدنيا وملوك الأرض وأنهم بلغوا من الدنيا مُرادهم وصرفوا باللذات أوقاتهم ومضوا وبقيت أسماؤهم وسماتهم كما عددناه من أفعالهم وأوردناه من خصالهم لتعلم أن الناس إنما هم الحديث الذي يبقي بعدهم فكل إنسان يذُكر بالذي كان يفعله وينسب إليه ما كان يعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
فيجب على الإنسان أن يزرع بذر الإحسان وأن يبعد عن نفسه العيوب الفاحشات والخطايا الموبقات لا سيما الملوك ليبقى بعدهم حسن الإِسم وصالح الرسم لئلا يذكر بالقبيح وقد حل بالضريح.
قال الشاعر:
اهرُب مِن الذَنبِ وتُب يا فَتَى ** وإن بَدا مِنك فعُد واندم
وانفِ عن نفسِك ما شَانَها ** ومن مساوُي الدهرُ خِف تسَلم
وبُعدُك يُبقِى الذِكرَ لا غَيره ** فكُن حَديثاً حسناً تغنمُ
يُقال أن ذكر الرجال بعدهم حياتهم الثانية في الدنيا فواجب على العقلاء قراءة أخبار الملوك والنظر في أحوال هذه الدنيا القليل وفاؤها والكثير بلاؤها وأن لا يعقلوا قلوبهم بأمانيها فإنها لا يبقى عليها صالح ولا يسلم فيها طالح.
وليجتهد العاقل أن لا يكثر خصومه فإن أمر الخصوم صعب هائل والباري تعالى حاكم عادل لا بد أن ينصف يوم القيامة بين الخصوم ويأخذ من الظالم للمظلوم فلا تساوي الدنيا بأسرها أن تجعل الناس خصوماً لأجلها كما جاء في الحكاية.
حكاية
كان أبو علي بن إلياس إسفهسلار نيسابور فحضر يوماً عند الشيخ أبي علي الدقاق رحمه الله وكان زاهد زمانه وعالم أوانه.
فقعد على ركبتيه بين يديه وقال له: عظني.
فقال له أبو علي: أيها الأمير أسألك مسألة وأريد الجواب عنها بغير نفاق.
فقال: أجل أجيبك.
فقال: أيها الأمير أيُّمَا أحَبُّ إليك المال أو العدو فقال: المال أحَبُّ إليّ من العدو.
فقال: كيف تترك ما تحبه بعدك وتصطحب العدو الذي لا تحبه معك فبكى الأمير ودمعت عيناه وقال: نعم الموعظة هذه.
وجميع الوصايا والحكم تحت هذا الكلام.
والخالق سبحانه وتعالى أرسل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أخيراً حتى عادت ببركته دار الكفر دار الإيمان وأظهره في أسعد وقت وأوان وعمر الدنيا بشريعته وختم الأنبياء بنبوّته.
وكان الملك في ذلك الزمان كسرى أنو شروان وهو الذي فاق ملوك إيران بعدله ونصفته وتدبيره وسياسته وذلك جميعه ببركات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ولد في زمانه ووجد في أوانه.
وعاش أنو شروان بعد مولده صلى الله عليه وسلم سنتين والنبي صلى الله عليه وسلم افتخر بأيامه فقال: ولدت في زمن الملك العادل كسرى والإسم الجيد خير الأشياء.
والملوك الذين كانوا قبله كانت همتهم في عمارة الدنيا والعدل بين الرعية وحفظ الجسم بالسياسة وحسن الإنالة وآثار عمارتهم التي أثروها إلى اليوم ظاهرة في العالم وكل بلد يعرف بإسم ملكه لأنهم عمروا المواضع وبنوا الضياع والمزارع واستخرجوا القنوات والمصانع واظهروا ما كان خافياً من مياه العيون وجميع ما ذكرناه كان أنو شروان يعمره بعدله وإنصافه مع تجنبه الإسراف في عفافه.
حكاية:
يُقال أن أنو شروان العادل أظهر يوماً من أيام ملكه انه مريض وأنفذ ثقافته وأمناءه أن يطوفوا أقطار مملكته وأكناف ولايته وأن يتطلبوا له لبنة عتيقة من قرية خربة ليتداوى بها.
وذكر لأصحابه أن الأطباء وصفوا له ذلك فمضوا وطافوا جميع ولايته وعادوا فقالوا: ما وجدنا مكاناً خراباً ولا لبنة عتيقة.
ففرح أنو شروان وشكر إلَهه وقال: إنما أردت هذا لأجرب ولايتي وأختبر مملكتي ولأعلم هل بقي في الولاية موضع خراب لأعمِّره فالآن لم يبق مكان إلا هو عامر فقد تمَّت أمور المملكة وانتظمت الأحوال ووصلت العمارة إلى درجة الكمال.
واعلم:
أن أولئك الملوك القدماء همتهم واجتهادهم في عمارة ولاياتهم بعدهم.
روي أنه كلما كانت الولاية أعمر كانت الرعية أوفى وأشكر.
وكانوا يعلمون أن الذي قالته العلماء ونطقت به الحكماء صحيح لا ريب فيه وهو قولهم: إن الدين بالملك والملك بالجند والجند بالمال والمال بعمارة البلاد وعمارة البلاد بالعدل في العباد.
فما كانوا يوافقون أحداً على الجور والظلم ولا يرضون لحشمهم بالخرق والغشم علماً منهم أن الرعية لا تثبت على الجور وأن الأماكن تخرب إذا استولى عليها الظالمون ويتفرق أهل الولايات ويهربون في ولايات غيرها ويقع النقص في الملك ويقل في البلاد الدخل وتخلو الخزائن من الأموال ويتكدر عيش الرعايا لأنهم لا يحبون جائراً ولا يزال دعاؤهم عليه متواتراً فلا يتمتع بمملكته وتسرع إليه دواعي هلكته.
قال مؤلف الكتاب: الظلم نوعان
أحدهما: ظلم السلطان لرعيته وجور القوي على الضعيف والعني على الفقير.
والثاني: ظلمك لنفسك وذلك من شؤم معصيتك فلا تظلم ليُرفع عنك الظلم كما جاء في الخير.
حكاية:
يُقال أنه كان في بني إسرائيل رجلٌ يصيد السمك ويقوت من صيده أطفاله وزوجته فكان في بعض الأيام يتصيَّد فوقعت في شبكته سمكة كبيرة ففرح بها وقال: أمضي بهذه السمكة وأبيعها وأخرج ثمنها في نفقة العائلة فلقيه بعض العوانية في طريقه وقال له: أتبيع هذه السمكة فقال في نفسه: إن قلت له نعم أخذها بنصف ثمنها فقال له: ما أبيعها.
فضربه العواني بخشبة كانت معه على صلبه ضربة موجعة وأخذ السمكة منه غصباً فدعا الصياد عليه وقال: إلَهي خلقتني مسكيناً ضعيفاً وخلقته قوياً عنيفاً.
اللهم فخذ بحقي منه في الدنيا فإني لا أصبر إلى الآخرة.
ثم إن الغاصب انطلق بالسمكة إلى منزله وسلّمها إلى زوجته وأمرها أن تشويها فلمَّا شوتها وضعتها بين يديه على المائدة فمد يده ليأكل منها ففتحت السمكة فاها ونكزت أصبعه نكزة سلبت قراره وأزالت لشدة نكزتها اصطباره.
فشكا حاله إلى الطبيب وذكر ما ناله فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع هذه الأصبع لئلا يسري الألم إلى جميع الكف.
فقطع أصبعه فانتقل الألم إلى الكف وازداد تألمه وارتعدت من خوفه فرائضه فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع اليد من المعصم لئلا يسري الألم إلى الساعد فقطع يده من المعصم فانتقل الألم إلى ساعده فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع الساعد لئلا يسرى الألم إلى الكتف.
فقطع الساعد فانتقل الألم إلى الكتف وتوجَّع فخرج هائماً على وجهه داعياً إلى ربه ليكشف ما نزل به فرأى شجرة فانكفأ إليها فأخذه النوم.
فرأى في منامه كأن قائلاً يقول له: يا مسكين إلى كم تقطع يدك امضِ إلى خصمك وأرضه.
فانتبه وتفكَّر وتذكَّر وقال: إنني أخذت السمكة غصباً وأوجعت الصياد ضرباً وهي التي نكزتني.
فنهض وقصد المدينة وطلب الصياد فوجده فوقع بين يديه والتمس الإقالة وأعطاه شيئاً من ماله وتاب من فعله فرضي عنه خصمه ففي الحال سكن ألمه وبات تلك الليلة على فراشه وتاب واقلع عمَّا كان يصنع ونام على توبة خالصة ففي اليوم الثاني تداركته رحمة ربه ورد يده كما كانت بقدرته فنزل الوحي على موسى عليه السلام: أن يا موسى وعزتي وجلالي وقدرتي لولا أن الرجل أرضى خصمه لعذبته مهما امتدت به حياته.
حكاية:
كان موسى عليه السلام يناجي ربه عز وجل على الطور فقال في مناجاته: إلَهي أرني عدلك وإنصافك.
فقال له: أنت رجل عجول حاد جريء لا تقدر أن تصبر.
فقال: أقدر على الصبر بتوفيقك.
فقال: اقصد العين الفلانية واختف بإزائها وانظر إلى قدرتي وعلمي بالغيوب.
فمضى موسى وصعد إلى تل بأزاء تلك العين وقعد مختفياً فوصل إلى العين فارس فنزل عن فرسه وتوضأ من العين وشرب من مائها وحَلَّ من وسطه همياناً فيه ألف دينار فوضعه إلى جانبه وصلّى ثم ركب ونسى الهميان في موضعه وسار فجاء صبيٌ صغير فشرب من العين وأخذ الهميان فجاء بعد الصبي شيخ أعمى فشرب من الماء وتوضأ ووقف في الصلاة فذكر الفارس الهميان فعاد من طريقه إلى العين فوجد الشيخ فلزمه وقال: إني نسيت همياناً فيه ألف دينار في هذا الموضع هذه الساعة وما جاء إلى هذا المكان سواك.
فقال الأعمى: تعلم أني رجل أعمى فكيف أبصرت هميانك فغضب الفارس من كلامه وجذب السيف فضرب الأعمى فقتله وفتَّشه عن الهميان فلم يجده فمضى وتركه فعند ذلك قال موسى: إلَهي وسيدي قد نفد صبري وأنت عَادِلٌ فعرّفني كيف هذه الأحوال فهبط جبريل عليه السلام وقال: يا موسى الباري تعالى يقول: أنا عالم الأسرار أعلم ما لا تعلم.
أمَّا الصبي الصغير الذي أخذ الهميان فأخذ حقه وملكه وذلك أن أبا الصبي كان أجيراً لذلك الفارس فاجتمع عليه بقدر ما في الهميان فالذي أخذه الصبي حقه.
وأمَّا ذلك الأعمى فإنه قبل أن يعمى قتل أبا ذلك الفارس فقد اقتصَّ منه ووصل كل ذي حق إلى حقه وعدلنا وإنصافنا دقيق.
فلما علم موسى ذلك تحيَّر واستغفر.
وهذه الحكاية أوردناها ليعلم العقلاء ويتصور الألّباء أن الله جلّ ذكره لا يخفي عليه شيء وأنه يتصف من الظالم في الدنيا ولكن نحن غافلون عما جاءنا لا ندري من أين أتانا.
سُئِلَ ذو القرنين فقيل له:
أي شيء أنت به أكثر سروراً فقال: شيئان أحدهما العدل والإنصاف،
والثاني أن أكافىء مَنْ أحسن إليَّ بأكثر من إحسانه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب الإحسان في كل شيء حتى إنه يحب إنساناً إذا ذبح شاة أن يمهي لها المدية ليعجل خلاصها من ألم الذبح).
وقال موسى عليه السلام: إن الله تعالى لم يخلق شيئاً في الأرض أفضل من العدل والعدل ميزان الله في أرضه من تعلق به أوصله الجنة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للمحسنين في الجنة منازل حتى المحسن إلى أهله وأتباعه).
وقال قتادة في تفسير هذه الآية: {ألا تطَغوُا فِي المِيزَانِ} قال: أراد به العدل: فقال يا ابن آدم أعدل كما وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى إليه أربع كلمات وقال: يا آدم علمك وعلم جميع ذريتك على هذه الكلمات الأربع وهي كلمة لي وكلمة لك وكلمة بيني وبينك وبين الناس.
أمَّا الكلمة التي لي فهي أن تعبدني لا تشرك بي شيئاً.
وأمَّا التي هي لك فأنا أجازيك بعملك.
وأمَّا الكلمة التي هي بيني وبينك فمنك الدعاء ومني الإجابة.
وأمَّا الكلمة التي بينك وبين الناس فهي أن تعدل فيهم وتنصف بينهم).
وقال قتادة: الظلم ثلاثة أضرب: ظلم لا يُغفر لصاحبه وظلم لا يدوم وظلم يُغفر لصاحبه.
فأمَّا الذي لا يُغفر لصاحبه فهو الشّركُ بالله تعالى قال الله تعالى: {إن الشِركَ لظُلمٍ عَظيم}.
وأمَّا الظلم الذي لا يدوم فهو ظلم العباد بعضهم لبعض.
وأمَّا الظلم الذي يُغفر لصاحبه فهو ظلم العبد نفسه بارتكاب الذنوب ثم يرجع إلى ربه فإن الله يغفر له برحمته ويُدخله الجنة بفضله.
نكتة:
الدين والملك توأمان مثل أخوين ولدا من بطن واحد فيجب أن يهتم ويجتنب الهوى والبدعة والمنكر والشبهة وكل ما يرجع بنقصان الشرع وإن علم أن في ولايته مَنْ يتهم بدينه ومذهبه أمر بإحضاره وتهديده وزجره ووعيده فإن تاب وإلا أوقع عليه العقاب ونفاه عن ولايته ليطهر الولاية من إغوائه وبدعته وتخلو من أهل الأهواء ويعز الإسلام ويستديم عمارة الثغور بإنفاذ العساكر والحماة إليها ويجتهد في إعزاز الحق وإعادة رونق السنة النبوية والسيرة المرضية لتحمد عند الله طريقته وتعظم في الخلق هيبته وتخاف سطوته أعداوه ويعلو قدره وبهاؤه ومنزلته ويكبر في عين أضداده ويعظم عند أنداده.
ويجب أن يعلم أن صلاح الناس في حسن سيرة الملك فينبغي للملك أن ينظر في أمور الرعية ويقف على قليلها وكثيرها وعظيمها وحقيرها ولا يشارك رعيته في الأشياء المذمومة والأفعال المشؤومة.
ويجب عليه احترام الصالحين وأن يثيب على الفعل الجميل ويمنع من الفعل الرديء الوبيل ويعاقب على ارتكاب القبيح ولا يحابي من أصر على المعصية ليرغب الناس في الخيرات ويحذروا من السيئات.
ومتى كان السلطان بلا سياسة وكان لا ينهي المفسد عن فساده ويتركه على مراده أفسد في سائر بلاده.
وقالت الحكماء أن طباع الرعية نتيجة طباع الملوك لأن العامة إنما ينتحلون ويركبون الفساد وتضيق أعينهم اقتداء بالكبراء فإنهم يتعلمون منهم ويلزمون طباعهم.
ألا ترى أنه قد ذكر في التواريخ أن الوليد بن عبد الملك من بني أمية كان مصروف الهمة إلى العمارة وإلى الزراعة.
وكان سليمان بن عبد الملك همته في كثرة الأكل وطيب المطعم وقضاء الأوطار والمهمات وبلوغ الشهوات وكانت همة عمر بن عبد العزيز في العبادة والزهادة.
قال محمد بن علي بن الفضل:
ما كنت اعلم أن طباع الرعية تجري على عادة ملوكها حتى رأيت الناس في أيام الوليد قد اشتغلوا بعمارة الكروم والبساتين واهتموا ببناء الدور، وعمارة القصور ورأيتهم في زمن سليمان ابن عبد الملك قد اهتموا بكثرة الأكل وطيب المطعم حتى كان الرجل يسأل صاحبه أي لون اصطنعت وما الذي أكلت ورأيتهم في أيام عمر بن عبد العزيز قد اشتغلوا بالعبادة وتفرغوا لتلاوة القرآن وأعمال الخيرات وإعطاء الصدقات ليعلم أن في كل زمن يقتدون بأفعاله من القبيح والجميل وإتباع الشهوات وإدراك الإرادات.
حكاية:
ذكروا أن في زمن الملك العادل كسرى انو شروان ابتاع رجل من رجل أرضاً فوجد فيها كنزاً فمضى سريعاً إلى البائع وأخبره بذلك فقال: إنما بعتك ولم أعلم ما فيها والكنز الذي وجدته فهو لك ومبارك عليك فقال: لا أريده ولا أطمع في أموال الناس فترافعا بهذه الدعوى إلى الملك العادل انو شروان ففرح انو شروان بذلك وقال هل لكما أولاد فقال أحدهما لي ابن وقال الآخر لي بنت فقال انو شروان أحب أن يكون بينكما قرابة ووصلة وإن تزوجا الولد بالبنت وتنفقا هذا الكنز في جهازهما ليكون لكما ولولديكما ففعلا ما أمر به وتراضيا ما رسم لهما ولو أن الرجلين كانا في زمن سلطان جائر لقال كل واحد منهما الكنز لي ولكنهما لَمَّا عَلِمَا أن ملكهما عادل طلبا الحق وآثرا الصدق.
وقالت الحكماء الملك كالسوق فكل أحد يحمل إلى السوق ما يعلم أنه فيه نافق وما يعلم أنه كاسد لا يحمله إلى ذلك السوق.
والرجلان اللذان وجدا الكنز وترافعا إلى السلطان علما إن الزهد والعدل والصدق يعز عند الملك وأن الحق عنده نفاق فلذلك حملاه إليه وعرضاه عليه.
وأمَّا الآن في هذا الزمان فكلما يجري على يد أمرائنا وألسنة ولاتنا فهو جزاؤنا واستحقاقنا كما إننا رديئو الأعمال قبيحو الأفعال ذوو خيانة وقلة أمانة، فأمراؤنا ظلمة جائرون وغشمة معتدون.
(كما تكونوا يول عليكم) فقد صح بهذا الحديث أن أفعال الخلق عائدة إلى أفعال الملك أما ترى أنه إذا وصف بعض البلاد بالعمارة وأن أهله في أمان وراحة ودعة وغبطة فإن ذلك دليل على عدل الملك وعقله وسداده وحسن نيته في رعيته ومع أهل ولايته وأن ليس ذلك من الرعية فقد صح ما قالته الحكماء (الناس بملوكهم أشبه منهم بزمانهم).
وقد جاء في الخبر أيضاً: (الناس على دين ملوكهم).
وكان من سياسة انو شروان أن بحيث لو أن رجلاً ألقى في مكان حملاً من ذهب وبقي مهما بقي في موضعه لم يقدر أحد على إزالته من مكانه إلا صاحبه وكان يونان وزير انو شروان متقدماً عنده فقال له يوماً: أيها الملك لا تركن للأشرار فتخرب ولايتك وتفقر رعيتك فيصير حينئذ مُلكُك إلى الخراب وسلطانك إلى الفقر ويقبح إسمك في الدنيا فكتب انو شروان إلى عماله: إن أخبرت أنه قد بقى في جميع مملكتي أرض خراب سوى أرض سبخة لا تقبل الزرع صلبت عامل تلك الأرض.
وخراب الأرض من شيئين: أحدهما عجز الملك، والثاني جوره.
وكان الملوك في ذلك الزمان يتفاخرون بالعمارة ويتحاسدون على إجتماع المملكة.
حكاية:
أرسل ملك هندوستان رسولاً إلى الملك العادل كسرى انو شروان فقال أنا أولى بالمُلك منك فأنفذ لي خراج ولايتك فأمر أنو شروان بإنزال الرسول ثم جمع في اليوم الثاني أرباب دولته وأعيان مملكته وأذن للرسول في الدخول إليه فلمَّا مَثُلَ بين يديه قال له أسمع جواب رسالتك ثم أمر أنو شروان بإحضار صندوق ففتحه وأخرج منه صندوقاً صغيراً وأخرج منه قبضة من كبر وسلّمهُ إلى الرسول وقال هل في بلادكم من هذا قال نعم من هذا عندنا كثير فقال أنو شروان: أرجع وقل لملك الهند يجب عليك أن تعمر ولايتك فإنها خراب ثم تطمع بعد ذلك في ولاية عامرة فإنك لو طفت جميع ولايتي وطلبت أصلاً واحداً من كبر لم تجده ولو سمعت أن في موضع من ولايتي أصلاً واحداً من كبر لصلبت تلك الولاية على الملك أن سيلك طريق الملوك الذين تقدموه ويعمل على سننهم ويقرأ كتب مواعظهم وقضاياهم فإنهم كانوا أطول أعماراً وأكثر تجارب وإعتباراً وإنهم فرقوا بين الجيد والرديء وعرفوا الجلّي من الخفي.
وكان أنو شروان مع حسن سيرته يقرأ كتب مواعظهم ويطلب إستماع حكايتهم ويمضي على مناهجهم وسننهم وملوك هذا الزمان أجدر أن يفعلوا ذلك.
حكاية:
سأل أنو شروان العادل يوماً وزيره يونان وقال أريد أن تخبرني بسيرة الملوك المتقدمين فقال له يونان تريد أن أمدحهم بثلاثة أشياء أم بشيئين أم بشيء واحد؟ فقال أنو شروان أمدحهم بالثلاثة.
فقال يونان:
ما وجدت لهم في شغل من الأشغال ولا عمل من الأعمال قط كذباً.
ولا رأيت لهم بشيء جهلاً.
ولا رأيت لهم في حال من الأحوال غضباً.
فقال أنوشروان أمدحهم بالشيئين فقال يونان كانوا دائماً يسارعون إلى الخير وعمله.
وكانوا دائماً يحذرون من أعمال الشر.
فقال أمدحهم بشيء واحد فقال كانت سلطنتهم وجرأتهم على أنفسهم أكثر مما كانت على غيرهم فطلب أنو شروان الكأس وقال ولهذا سرور بالكرام الذين يأتون بعدنا ويملكون تاجنا وتختنا ويذكروننا كما نذكر نحن مَنْ تقدَّمنا.
وأشقى الناس مَنْ اغْتَرَّ بمُلكه وعَمَّرَ الدنيا وهو لا يدري كيف ينبغي أن يعيش فيها فيعبر دنياه بالتعب ويحصل في آخراه بالندم السرمد والعذاب المؤبد.
وإنما كان قصد أولئك الملوك وإجتهادهم في عمارة الدنيا ليبقى فيها بعدهم طيب الذكر مدى الأيام والدهر، كما جاء في الحكاية.
حكاية:
كان لأنو شروان كرم يعرف بهزاركام فاجتمع يوماً فيه قيصر ملك الروم ويعفورجين ملك هندوستان في ضيافة أنو شروان فتكلّم كل واحد منهم بكلمة حكمة.
فقال قيصر الروم ليس شيء في هذه الدنيا أجود من فعل الخير والاسم الصالح والذكر الطيب فإنه يذكر به صاحبه دائماً فيُقال بعده لم لا نكون نحن مثله.
فقال أنو شروان تعالوا حتى نفعل الخير ونتفكّر في الخير فقال قيصر إذا تفكّرت في الخير عملت الخير وإذا عملت الخير نلت المُراد فقال يعفورجين أعاذنا الله من فكرة إن نحن أظهرناها استحييناها وإن ذكرناها خجلنا وأن أخفيناها ندمنا فقال قيصر لأنو شروان أي شيء أحب إليك قال أحب الأشياء إلى أن أقضي حاجة مَنْ رآني أهلاً لقضاء حاجته فقال قيصر بل أنا أحب أن لا أذنب حتى لا أخاف ملوكاً كان هذا كلامهم.
أنظر كيف كانت سيرتهم مع رعيتهم يا سلطان الإسلام فيجب أن تسمع أقوال هؤلاء وتنظر أعمالهم وتقرأ حكاياتهم من الكتب وما ينظر فيها من نعت عدلهم وإنصافهم وحسن سيرتهم وطيب خبرهم وذكرهم الجاري على ألسنة الخلق إلى يوم القيامة.
كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من العدل والسياسة إلى حد أقام فيه الحد والعقاب على ولده حتى مات.
وكان إذا أنفذ عمالاً إلى أعمال قال لهم إشتروا دوابكم وأسلحتكم من أرزاقكم ولا تمدوا أيديكم إلى بيت مال المسلمين ولا تغلقوا أبوابكم دون أرباب الحوائج.
قال عبد الرحمن ابن عوف دعاني عمر بن الخطاب ذات ليلة وقال قد نزل بباب المدينة قافلة وأخاف عليهم إذا ناموا أن يسرق شيء من متاعهم فمضيت معه فلمَّا وصلنا قال لي نم أنت ثم جعل يحرس القافلة طول ليلته.
وقال عمر رضي الله عنه يجب علي أن أسافر لأقضي حوائج الناس في أقطار الأرض لأن بها ضعفاء لا يقدرن على قصدي في حوائجهم لبُعد المكان فينبغي أن أطوف البلاد لأشاهد أحوال العمال وأسير سيرتهم وأقضي حوائج المسلمين فلا يكون في سنيّ عمر أبرك من هذه السنة.
حكاية:
قال زيد بن أسلم رأيت ليلة عمر بن الخطاب يطوف مع العسس فتبعته وقلت أتأذن لي أن أصاحبك قال نعم فلمَّا خرجنا من المدينة رأينا ناراً من بُعد فقلنا ربما يكون قد نزل هناك مسافر فقصدنا النار فرأينا امرأة أرملة ومعها ثلاثة أطفال وهم يبكون وقد وضعت لهم قِدْراُ على النار وهي تقول الَهي أنصفني من عمر وخذ لي منه بالحق فإنه شبعان ونحن جياع فلمَّا سمع عمر بن الخطاب ذلك تقدَّم وسلَّم عليها وقال أتأذنين أن أدنو إليكِ؟ فقالت أن دنوت بخير فبسم الله فتقدَّم وسألها عن حالها وحال الجياع وقد بلغ مني ومنهم الجهد والجوع وقد منعهم عن الهجوع فقال عمر وأي شيء في هذه القِدْر؟ فقالت تركت فيها ماءً لأشاغلهم به ليظنوا أنه طعام فيصبروا.
قال زياد فعاد أمير المؤمنين وقصد دكان الدسم فابتاع منه دسماً ومضى إلى دكان الدقيق فابتاع منه ملء جراب ثم وضع الجميع على كاهله ومضى به يطلب المرأة والأطفال.
فقلت يا أمير المؤمنين ناولنيه لأحمله عنك فقال إن حملته عني فمَنْ يحمل عني ذنوبي ومَنْ يحول بيني وبين دعاء تلك المرأة والأطفال عليّ وجعل يسعى وهو يبكي إلى أن وصلنا إلى المرأة فقالت المرأة جزاك اللهُ عنا خير الجزاء فأخذ عمر جزءاً من الدقيق وشيئاً من الدَّسم فوضعهما في القِدْر وجعل يوقد النار وكلما أرادت أن تخمد نفخها والرماد يسقط على وجهه ومحاسنه إلى أن انطبخت القِدْر فوضع الطبيخ في القصعة وقال للمرأة كُلِي فأكلت المرأة والأطفال فقال عمر أيتها المرأة لا تدعين على عمر فإنه لم يكن عنده منك ولا من أطفالك خبر.
وأول من دُعي بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب فإن أبا بكر رضي الله عنه دعوه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا وصل الأمر إلى عمر كانوا يقولون يا خليفة خليفة رسول الله فكان يطول ذلك فقال يا أيها المؤمنون سمُّوني أميراً فإني أميركم وإن دعوتموني أمير المؤمنين فأنا ذلك عمر بن الخطاب.
حكاية:
سُئِلَ خازن بيت المال هل انبسط عُمَرُ في بيت المال فقال كان في أول الأمر إذا لم يكن له شيءٌ يتقوَّتُ به أخذ قليلاً برسم القوت فإذا حصل عنده شيء أعاده إلى بيت المال.
وخطب يوماً فقال أيها الناس قد كان الوحي ينزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نعرف به ظاهر الناس وباطنهم وجيدهم ورديئهم والآن قد إنقطع الوحي عنا فنحن ننظر من كل أحد إلى علانيته والله أعلم بسريرته وأنا على الجهد وعمالي أن لا نأخذ شيئاً بغير حق ولا تعطي شيئاً بغير حق.
فإن شئت أن تعلم أن عدل السلطان وتقيته سبب لجميل ذكره ونيل فخره فإنظر في أخبار عمر بن عبد العزيز فإنه لم يكن لأحد من بني أمية وبني مروان مثل مدحه ومحمدته ولا يدعي إلا له ولا يثني إلا عليه لأنه كان عادلاً تقياً كريماً حسن السيرة تقي السريرة.
حكاية:
كان في زمن عمر بن عبد العزيز قحط عظيم فوفد عليه قوم من العرب فاختاروا منهم رجلاً لخطابه فقال ذلك الرجل يا أمير المؤمنين إنا أتيناك من ضرورة عظيمة وقد يبست جلودنا على أجسادنا لفقد الطعام وراحتنا في بيت المال وهذا المال لا يخلو من ثلاثة أقسام: أما أن يكون لله أو لعباد الله أو لك.
فإن كان لله فالله غني عنه وإن كان لعباد الله فآتهم إيَّاه وأن كان لك فتصدَّق به علينا إن الله يجزي المتصدقين.
فتغرغرت عينا عمر ابن عبد العزيز بالدموع وقال هو كما ذكرت وأمر بحوائجهم فَقُضِيَتْ من بيت المال فَهَمَّ الأعرابي بالخروج فقال له عمر أيها الإنسان الحر كما أوصلت إلي حوائج عباد الله وأسمعتني كلامهم فأوصل كلامي وارفع حاجتي إلى الله تعالى فحول الأعرابي وجهه قِبَلِ السماء وقال إلَهي اصنع مع عمر ابن عبد العزيز كصنيعه في عبادك فما استتم الأعرابي كلامه حتى ارتفع غيم فأمطر مطراً غزيراً وجاء في المطر بردة كبيرة فوقعت على آجرة فانكسرت فخرج منها كاغد عليه مكتوب هذه براءة من الله العزيز لعمر ابن عبد العزيز من النار.
حكاية:
يُقال أن عمر بن عبد العزيز كان ينظر ليلاً في قصص الرعية وروزناتهم في ضوء السراج فجاء غلام له فحدَّثه في سبب كان يتعلّق ببيته فقال له عمر أطفيء السراج وحدثني فإن هذا الدهن من بيت مال المسلمين فلا يجوز إستعماله إلا في أشغال المسلمين.
كذا يكون حذر السلطان وتوقيه إذا كان عادلاً كما جاء في الحكاية.
حكاية:
كان لعمر بن عبد العزيز غلام وكان خازناً لبيت المال وكان لعمر بنات جئنه يوم عرفة وقلن له غداً العيد ونساء الرعية وبناتهم يلمننا وقلن أنتن بنات أمير المؤمنين ونراكن عريانات لا أقل من ثياب بيضاء تلبسنها وبكين عنده فضاق صدر عمر فدعا غلامه الخازن وقال له أعطني مشاهرتي لشهر واحد فقال الخازن يا أمير المؤمنين تأخذ المشاهرة من بيت المال سلفاً أتظن أن لك عمر شهر فتأخذ مشاهرة شهر فتحيَّر عمر وقال نعم ما قلت أيها الغلام بارك الله فيك ثم التفت إلى بناته وقال اكظمن شهواتكن فإن الجنة لا يدخلها أحد إلا بمشقة.
حكمة:
لَمَّا كان الأمراء كذلك كان حواشيهم وخدعهم على قاعدتهم والعدل التام هو أن تساوي بين المجهول الذي لا يعرف وبين المحتشم صاحب الجاه المعروف في مقام واحد في الدعاوي وتنظر أيضاً بعين واحدة ولا تفضل أحدهما على الآخر لأجل أن أحدهما فقير والآخر غني فإن الجوهر والخزف في الآخرة بسعر واحد ولا يحرق عاقل نفسه بالنار لحشمة الأغيار.
وإذا كان لرجل ضعيف على سلطان من السلاطين دعوى فينبغي أن يقوم من صدر مملكته ويعمل بحكم الله تعالى وينصف ذلك العبد الضعيف ويرضيه ولا يحيف عليه ولا يسحي من الحق ويعمل بقول الله: {إن الله يأمُر بِالعَدَلِ والإحسَان}، وحقيقة ذلك إن كان للملك على آخر حق أن يسامحه ويمن به عليه ويأمر عماله الثقات أن يقتدوا بمثاله ويعملوا بسيرته لئلا يسئل عنه يوم القيامة.
فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل راع يُسئل عن غنمه وكل إنسان يُسئل عن رعيته والحال على هذه الصفة والمآل.
حكاية:
يُقالُ أن إسماعيل بن أحمد أمير خراسان نزل بمرو وكان رسمه في كل موضع ينزله أن يامر المنادي أن ينادي في العسكر إن الجند ما لهم في الرعية شغل فمضى رجل من الخرنبدية ودخل مبطخة قوم فتناول من البطيخ قدراً يسيراً فجاءوا إلى باب الملك واستغاثوا فأمر بإحضاره فأحضر بين يديه فقال له ما حملك على أن آذيت رعيتي قال أخطأت قال لا أقدر لأجل خطئك على دخول النار ثم أمر به فقطعت يده.
حكاية:
يُحكى عن إسماعيل الساماني في كتاب سير الملوك أنه كان ينزل بحذاء موليان وكان يصل كل وقت إلى مدينة كغد ويأمر المنادي أن ينادي في الناس وكان يرفع الحجاب ويزيح البواب ليجيء كل مَنْ له ظلامة ويقف على جانب البساط ويخاطبه ويعود مقضي الحاجة.
وكان يقضي بين الخصوم مثل الحكام إلى أن تفي الدعاوي ثم يقوم من موضعه ويقبض على محاسنه ويوجه وجهه نحو السماء ويقول: إلَهي هذا جهدي وطاقتي قد بذلتهما وأنت عالم الأسرار تعلم نيتي ولا أعلم على أي عبد من عبادك حفت ولا لأيهم ظلمت.
وما أنصفت أنا واحداً من أصحابي فأغفر لي يا إلهي من ذلك ما لا أعلم.
فلمَّا كان نقي النية جميل الطوية لا جرم علا أمره وارتفع قدره وكان عسكره ألف فارس معتدين بالسلاح مقنعين بالحديد وببركة ذلك العدل والإنصاف ظفَّرهُ اللهُ تعالى بعمرو بن ليث حتى قبض عليه وفتح خراسان.
ثم أن عمرو ابن ليث أنفذ إليه من السجن فقال: لي بخراسان أموال كثيرة وكنوز موفورة.
وأنا أسلم الجميع إليك وأطلقني من السجن فلمَّا سمع إسماعيل ذلك ضحك وقال إلى الآن لم يستقم معي عمرو ابن ليث يريد أن يجعل المظالم التي احتقبها، والمآثم التي ارتكبها في عنقي ويتخلص من ثقل أوزارها في القيامة قولوا له مالي في مالك حاجة.
ثم أنه أخرجه من السجن وأنفذه رسولاً إلى بغداد فنال من أمير المؤمنين الخلع والتشريف.
وجلس إسماعيل في مملكته بخراسان آمناً فارغ البال حسن الحال.
وبقيت المملكة في عنصر السامانية مائة وثلاثين سنة فلمَّا إنتقل الأمر إلى أصاغرهم وصبيانهم ظلموا الخلق وتعدوا الحق فزال مُلكُهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عدل السلطان يوماً واحداً خير من عبادة سبعين سنة).
وقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ سَلَّ سيف الجور سَلَّ عليه سيف الغلبة ولازمه الغم)، كما قال الشاعر:
فَقُل لِلنَاسِ ما تهوَى إستماَعاَ ولا تقتل أن اختَرتُ البقاءِ
جاء في الخبر أن داود عليه السلام كان ينظر يوماً فرأى شيئاً ينزل من السماء مثل النخالة فقال: إلَهي ما هذا قال هذه لعنتي أنزلها على بيوت الجائرين.
حكاية:
لمَّا قعد انو شروان في المملكة كتب إليه يونان الوزير فقال إعلم أيها السطان أن أمور المُلك على ثلاثة أشياء: إمَّا أن ينصف رعيته ولا ينتصف منهم وذلك هو الدرجة العليا.
أو ينتصف وينصف أيها الملك إلى هذه الثلاثة وأختر أيها أردت وأنا أعلم أن مولانا يختار الأولى كما قال الشاعر:
مَنْ أنصفَ الناسَ ولم ينتَصِف بفضلهِ منهُم فذاك الأمير
ومن يرِد إنصَافِهم مِثلمَا أنصفَ أضحَى مالهُ مــن نظيرِ
ومن يُرِد إنصَافه وهو لا ينصَفهُم فـهـو الدنيُء الحـقـيرُ