منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers

(إسلامي.. ثقافي.. اجتماعي.. إعلامي.. علمي.. تاريخي.. دعوي.. تربوي.. طبي.. رياضي.. أدبي..)
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالتسجيل
(وما من كاتب إلا سيبلى ** ويبقى الدهر ما كتبت يداه) (فلا تكتب بكفك غير شيء ** يسرك في القيامة أن تراه)

IZHAR UL-HAQ

(Truth Revealed) By: Rahmatullah Kairanvi
قال الفيلسوف توماس كارليل في كتابه الأبطال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد مُتمدين من أبناء هذا العصر؛ أن يُصْغِي إلى ما يظن من أنَّ دِينَ الإسلام كَذِبٌ، وأنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وسلم- خَدَّاعٌ مُزُوِّرٌ، وآنَ لنا أنْ نُحارب ما يُشَاعُ من مثل هذه الأقوال السَّخيفة المُخْجِلَةِ؛ فإنَّ الرِّسَالة التي أدَّاهَا ذلك الرَّسُولُ ما زالت السِّراج المُنير مُدَّةَ اثني عشر قرناً، لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم اللهُ الذي خلقنا، (وقت كتابة الفيلسوف توماس كارليل لهذا الكتاب)، إقرأ بقية كتاب الفيلسوف توماس كارليل عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، على هذا الرابط: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول المستشرق الإسباني جان ليك في كتاب (العرب): "لا يمكن أن توصف حياة محمد بأحسن مما وصفها الله بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين) فكان محمدٌ رحمة حقيقية، وإني أصلي عليه بلهفة وشوق".
فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ على سائر البُلدان، كما فَضَّلَ بعض الناس على بعض والأيام والليالي بعضها على بعض، والفضلُ على ضربين: في دِينٍ أو دُنْيَا، أو فيهما جميعاً، وقد فَضَّلَ اللهُ مِصْرَ وشَهِدَ لها في كتابهِ بالكَرَمِ وعِظَم المَنزلة وذَكَرَهَا باسمها وخَصَّهَا دُونَ غيرها، وكَرَّرَ ذِكْرَهَا، وأبَانَ فضلها في آياتٍ تُتْلَى من القرآن العظيم.
المهندس حسن فتحي فيلسوف العمارة ومهندس الفقراء: هو معماري مصري بارز، من مواليد مدينة الأسكندرية، وتخرَّجَ من المُهندس خانة بجامعة فؤاد الأول، اشْتُهِرَ بطرازهِ المعماري الفريد الذي استمَدَّ مَصَادِرَهُ مِنَ العِمَارَةِ الريفية النوبية المَبنية بالطوب اللبن، ومن البيوت والقصور بالقاهرة القديمة في العصرين المملوكي والعُثماني.
رُبَّ ضَارَّةٍ نَافِعَةٍ.. فوائدُ فيروس كورونا غير المتوقعة للبشرية أنَّه لم يكن يَخطرُ على بال أحَدِنَا منذ أن ظهر وباء فيروس كورونا المُستجد، أنْ يكونَ لهذه الجائحة فوائدُ وإيجابيات ملموسة أفادَت كوكب الأرض.. فكيف حدث ذلك؟!...
تخليص الإبريز في تلخيص باريز: هو الكتاب الذي ألّفَهُ الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" رائد التنوير في العصر الحديث كما يُلَقَّب، ويُمَثِّلُ هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث.
الشيخ علي الجرجاوي (رحمه الله) قَامَ برحلةٍ إلى اليابان العام 1906م لحُضُورِ مؤتمر الأديان بطوكيو، الذي دعا إليه الإمبراطور الياباني عُلَمَاءَ الأديان لعرض عقائد دينهم على الشعب الياباني، وقد أنفق على رحلته الشَّاقَّةِ من مَالِهِ الخاص، وكان رُكُوبُ البحر وسيلته؛ مِمَّا أتَاحَ لَهُ مُشَاهَدَةَ العَدِيدِ مِنَ المُدُنِ السَّاحِلِيَّةِ في أنحاء العالم، ويُعَدُّ أوَّلَ دَاعِيَةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث.

أحْـلامٌ مِـنْ أبِـي (باراك أوباما) ***

 

 زاد الطالب في أصول الفقه ج 2

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Empty
مُساهمةموضوع: زاد الطالب في أصول الفقه ج 2   زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Emptyالجمعة 20 فبراير 2015, 8:58 pm

زاد الطالب في أصول الفقة

الجزء الثاني

ابو البراء المصري  

مقدمة

إن الحمد لله...

نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران : 102)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } ( النساء : 1 ) .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } الأحزاب: 70-71.

أما بعد...

فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأن خير الهدى هدى نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن شر الأمور محدثاتها ، وأن كل محدثة بدعة ، وأن كل بدعة ضلالة ، وأن كل ضلالة في النار .

ثم أما بعد  . . .

فإن شرف العلم لا يخفى ، وهو درجات ومنازل تعرف بما تتصل به ، فسُموها من سُموه ، وقدرها من قدره ، فلذا كان أعلاها علوم الدين التي تدرك بها معانيه وأسراره ، وإنما شرفت وعظم قدرها لصلتها بالله رب العالمين ، فهي العلوم الموصلة في الحقيقة إليه ، وهذا معنى أكبر من علوم الشريعة المقننة بالاصطلاح ، بل هو شامل لما يحقق من العلوم أسباب الوصول إلى الله عز وجل .

فيندرج تحته كل علم أدى إلى هذه الحقيقة , وإن ألصق بالدنيا في عرف الناس ، لكن من العلم ما يصير إلى هذه الحقيقة بالمقاصد والنيات ، وما من إنسان يسعى لتحصيلها فيجد لذتها عند الطلب إلا وجرته بنفسها إلى الإخلاص  كما قال مجاهد -رحمه الله-: " طلبنا هذا العلم ، وما لنا فيه كبير نية ، ثم رزق الله بعد فيه النية " .  

وأعظم العلوم التي يدرك بها مراد الله تعالى ومراد ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: " علم أصول الفقه " ، فإن الله تعالى أمر بتدبر كتابه فقال : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } ص: 29، كما قال: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } محمد: 24، وقال: { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } النساء: 82 .

وفي هذا الكتاب سوف نحاول بإذن الله أن نعطي للقارئ الكريم , ولطالب العلم المبتدئ تصوراً عاماً عن علم أصول الفقه ما هو ؟ وما خصائصه ؟ وما مصادره ؟

الحكم الوضعي

تعريفه:

تعريفه بناءً على التعريف المتقدم للحكم الشرعي بأنه: 

" خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء ، أو التخيير ، أو الوضع ". 

يمكن تعريف الحكم الوضعي على وجه الخصوص بأنه:

" خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالوضع " ، إذ إن قيد " بالاقتضاء أو التخيير " خاص بالحكم التكليفي ، أما قيد " الوضع "   فهو خاص بالحكم الوضعي كما تقدم .

ومعنى الوضع هو: 

أن الشرع وضع أموراً يعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي.

وهذه الأمور هي: 

الأسباب ، والشروط ، والموانع.

وقيل هو: 

هو ما يقتضي جعل شيء سبباً لشيء آخر ، أو شرطاً ، أو مانعاً منه , وسمي " وضعياً " لأنه موضوع من قبل الشارع .

فهو الذي قرر مثلاً: 

أن السرقة سبب لقطع اليد ، والوضوء شرط لصحة الصلاة ، وقتل الوارث مورثه مانع من الميراث ، من غير أن يتعلق بطلب من المكلف .

أقسامه:

ينقسم الحكم الوضعي إلى ثلاثة أقسام:

السبب ، والشرط ، والمانع .

وأضاف البعض قسمًا رابعًا هو العلة , وهذا التقسيم باعتبار ما يظهر الحكم.

وبعضهم ألحق بالحكم الوضعي أقسامًا أخرى: 

كالصحة والفساد ، والقضاء والأداء والإعادة ، والرخصة والعزيمة . 

السبـــــب

تعريفه .

لغة : 

كل شيء يتوصل به إلى غيره .

واصطلاحا : 

ما يلزم من وجوده الوجود ، ومن عدمه العدم لذاته .  

وقيل : 

الأمر الذي جعل الشرع وجوده علامة على وجود الحكم ، وعدمه علامة على عدم الحكم .

فإذا كان السبب معقول المعنى يدرك العقل مناسبته للحكم سمي بـ " العلة " كما يسمى " السبب " ، مثل : الإسكار علة لتحريم الخمر .

وإذا كان السبب غير معقول المعنى ، بأن خفي على العقل أن يدرك مناسبته للحكم ، فيقتصر على تسميته " سببا " ولا يسمى " علة " ، مثل : دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة .

وفائدة هذا التفصيل : ما سمي " علة " صح فيه القياس  وما لم يسم " علة " امتنع فيه القياس .

ومما يساعد على معرفة كون الشيء سبباً : 

إضافة الحكم إليه ، تقول مثلاً : " صلاة المغرب ، وصوم الشهر ، وحد الشرب ، وكفارة اليمين " ، فالمغرب والشهر والشرب واليمين أسباب لما أضيفت إليه من الأحكام .

أقسامه .

ينقسم " السبب " باعتبار من سببه إلى قسمين :

1ـ ما جعلته الشريعة سبباً ابتداء من غير أن يكون للمكلف فعل فيه .

{ أمثلته } :

* زوال الشمس لوجوب صلاة الظهر ، قال تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } الإسراء : 78 .

* دخول الشهر لوجوب صوم رمضان ، قال تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } البقرة : 185.

* الاضطرار لجواز أكل الميتة ، قال تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } البقرة : 173 .

* المرض لإباحة الفطر ، قال تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } البقرة : 184 .

2ـ ما سببه المكلف فرتبت الشريعة الآثار على وجوده .

{ أمثلته } : 

* السفر لإباحة الفطر ، قال تعالى في الآية المتقدمة : { أو على سفر } .

* الزنا لإقامة الحد ، قال تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة } النور : 2 .* الردة لإباحة دم المرتد ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " من بدل دينه فاقتلوه " .  

الشـــــرط

 تعريفه .

لغة : العلامة .

واصطلاحا : 

 ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم  لذاته ، وكان خارجًا عن الماهية .  

وقيل : 

هو ما توقف وجود الشيء على وجوده ، وليس هو جزءاً من ذات ذلك الشيء ، بل هو خارج عنه ، كما لا يلزم من جوده وجود ما كان شرطاً فيه .

{ أمثلته } :

* الوضوء لصحة الصلاة ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } المائدة : 6، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " .  

فصحة الصلاة موقوفة على وجود شرط الوضوء ، وليس الوضوء جزءا من نفس الصلاة ، كما لا يلزم من وجود الصلاة .

* إذن ولي الزوجة شرط لصحة عقد النكاح عند جمهور العلماء ، لقوله صلى الله عليه وسلم- : " لا نكاح إلا بولي " .  

( مسألة ) : الفرق بين الشرط والركن .

يشترك " الشرط " و " الركن " في أن كلا منهما يتوقف عليه وجود الشيء  فالوضوء شرط للصلاة ، والركوع ركن فيها ، ولا بد من وجود كل منهما لصحة الصلاة .

لكن يلاحظ الفرق بينهما في أن :

* الشرط خارج عن نفس الصلاة ليس جزءاً منها .

* والركن جزء من نفس الصلاة .

أقسامه .

ينقسم الشرط عند جمهور الأصوليين باعتبارات مختلفة :  

أولا : ينقسم باعتبار ذاته ووضعه إلى أربعة أقسام .

1ـ شرعي : وهو ما عرف اشتراطه بالشرع ، مثل : الطهارة للصلاة .

2ـ عقلي : وهو ما عرف اشتراطه بالعقل ، مثل : الحياة شرط للعلم .

3ـ عادي : وهو ما عرف اشتراطه بالعادة ، مثل : وجود السلم شرط لصعود السطح .

4ـ لغوي : وهو التعليق الحاصل بإحدى أدوات الشرط المعروفة في اللغة ، كإن وإذا ونحوهما .

وهذا النوع الأخير يسمى شرطاً من حيث الاسم ، وهو سبب من حيث المعنى , لأنه ينطبق عليه تعريف السبب , لأنه يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته , وهذا معنى قولهم : " الشروط اللغوية أسباب " .

ثانيا : ينقسم الشرط باعتبار مشترطه إلى قسمين :

1ـ شرط شرعي : وهو الذي جعلته الشريعة شرطاً ، كحول الحول على المال الذي بلغ النصاب لإيجاب الزكاة فيه .

2ـ شرط جعلي : وهو الذي يضعه الناس باختيارهم في تصرفاتهم ومعاملاتهم لا في عباداتهم ، كالشروط التي يصطلحون عليها في عقودهم .

والفقهاء مختلفون في هذا النوع من الشروط في صحتها أو فسادها ، وما تدل عليه الأدلة فيه التفصيل ، 

وذلك بتقسيمه إلى قسمين :

* شرط صحيح : وتعرف صحته بأن لا يكون ورد في الشرع ما يبطله .

{ مثاله}: اشتراط البائع منفعة معينة على المشتري في عقد البيع لا تنافي مقصود البيع ، فقد صح عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنه كان يسير على جمل له قد أعيا ، فمر النبي صلى الله عليه وسلم- فضربه ، فسار سيراً ليس يسير مثله ، ثم قال صلى الله عليه وسلم- : " بعنيه بأوقية " فبعته ، فاستثنيت حملانه إلى أهلي ، فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ، ثم انصرفت ، فأرسل على أثري قال : " ما كنت لآخذ جملك ، فخذ جملك ذلك فهو مالك " .  

وما روي من النهي عن بيع وشرط فلا يصح من جهة الإسناد ، وكذلك كل شرط عرفي في أي عقد ليس معارضًا لدليل في الشرع فهو شرط صحيح .

والدليل على صحة الشروط في الأصل :

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } المائدة :1 ، وقوله : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا } الإسراء: 34،

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج ". 

* شرط باطل : ويعرف بطلانه بورود ما يبطله في الشرع .

{ ومثاله } : حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : جاءتني بريرة فقالت : كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية ، فأعينيني ، فقالت : إن أحبوا أن أعدها لهم ويكون ولاك لي فعلت ، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم ، فأبوا عليها ، فجاءت من عندهم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس ، فقالت : إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرت عائشة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : " خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمَن أعتق " , ففعلت عائشة , ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل , وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمَن أعتق " .  

والمقصود من كون الشرط في كتاب الله أو ليس فيه : 

أن يكون مشروعاً لا ممنوعاً ، وهو التقسيم المذكور .

على هذا مذهب الحنابلة وطائفة غيرهم من الفقهاء ، والدليل فيه أبين ، وهو المناسب لاعتبار المصالح والمفاسد .

المانــــــــع

تعريفه .

لغة : من " المنع " وهو أن تحول بين الشخصين وبين الشيء فتجعل بينهما مانعا .

واصطلاحا : ما يلزم من وجوده العدم ، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم  لذاته .  

وقيل : هو ما رتب الشرع على وجوده العدم .

أقسامه .  

1ـ مانع لحكم :

والمعنى : أن يقع فعل من المكلف يستوجب حكماً شرعيًا بأن وجد في ذلك الفعل تحقق الأسباب الموجبة لذلك الحكم ، فوضعت الشريعة " مانعًا " دون تنفيذ ذلك الحكم .

{ مثاله }: قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يُقتل والدٌ بولده "   فهذا " مانع " عند جمهور العلماء من إقامة القصاص على الوالد إذا قتل ابنه عمدًا ، فمع استيفاء الوالد لشروط القصاص فقد جعلت الشريعة أبوته مانعة من القصاص .

2ـ مانع لسبب :

والمعنى : أن تكون الشريعة قررت حكمًا تكليفياً بناءً على وجود سبب اقتضى وجوده وجود ذلك الحكم  لكن عرض دون إعمال ذلك السبب " مانع " أسقط السبب والحكم .

{مثاله } : مكلف ملك نصاب الزكاة وحال الحول عليه عنده ، لكنه جمع ذلك المال لدَين عليه ، فظاهر الأمر وجوب تنفيذ حكم إخراج الزكاة لوجود السبب المقتضي لذلك وهو ملك النصاب ، لكن عرض لذلك السبب " مانع " من الاعتبار فألغاه ، وهو " الدين " ، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " لا صدقة إلا عن ظهر غنى " , والله عز وجل جعل في أصناف الزكاة الغارمين ، وصاحب الدَّين غارم ، فاستقام أن لا تجب عليه الزكاة وإن وجد سبب الوجوب وهو بلوغ النصاب ، لأنه إنما يجمع لأجل الدين .

الصحة والبطلان

المقصود بهما :

أفعال المكلفين إذا استوفت شروطها وانتفت موانعها ووقعت على أسبابها فقد حكم الشرع بأنها " صحيحة " ، وإذا اختل ذلك , أو بعضه فقد حكم  الشرع بأنها " باطلة " .

و" الصحيح " : 

ما ترتبت عليه آثاره الشرعية من : براءة الذمة وسقوط المطالبة في العبادات ، ونفاذ العقد في العقود والتصرفات فلا يطالب المكلف بإيقاع نفس العبادة مرة أخرى ما دامت قد حققت وصف الصحة ، كما أن عقد البيع مثلاً حول ملكية المبيع من البائع إلى المشتري بغير ريبة ما كان العقد قد حقق وصف الصحة .

و " الباطل " : 

ما لا تترتب عليه الآثار الشرعية ، فلا تبرأ الذمة لمن صلى بغير طهور مختاراً ، ولا يصح طلاق من أكره على الطلاق ، لوجود مانع من صحة هذا التصرف .

( مسائل ) : 

1- المراد بالصحة في العبادات   : سقوط القضاء بمعنى أنه لا يُحتاج إلى فعل العبادة مرة ثانية ، وهذا هو الإجزاء ، ولا تكون العبادة مجزيةً مسقطة للقضاء إلا إذا كانت موافقة لأمر الشارع .

والدليل على ذلك :

قوله -صلى الله عليه وسلم-: " مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدُ " .

قال ابن رجب :

" فهذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود ، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود ، والمراد بأمره هنا : دينه وشرعه , فالمعنى إذن : أن من كان عمله خارجًا عن الشرع ليس متقيدًا بالشرع فهو مردود " .  

وقال أيضاً : 

" فمن كان عمله جارياً تحت أحكام الشرع موافقًاً لها ، فهو مقبول ، ومن كان خارجاً عن ذلك فهو مردود " .

وبناءً على ذلك فصلاة من ظن الطهارة صحيحة على قول المتكلمين ، فاسدة على قول الفقهاء ، فالمتكلمون نظروا إلى ظن المكلف ، والفقهاء نظروا لما في نفس الأمر .

وقد اتفق الفريقان على وجوب القضاء فيكون الخلاف بينهما لفظياً ، إذ يرى المتكلمون - وهم القائلون بصحة صلاة من ظن الطهارة - أن القضاء وجب بأمر جديد .  

والأعمال قسمان : عبادات ومعاملات .

فأما العبادات فما كان منها خارجاً عن حكم الله ورسوله بالكلية فهو مردود على عامله ، وعامله يدخل تحت قوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ }الشورى : 21.  

2- المراد بالصحة في المعاملات : ترتب الأثر المقصود من المعاملة ، فكل بيع أباح التصرف في المبيع وحقق كمال الانتفاع به فهو صحيح .  

3- بناءً على ما تقدم فالمراد بالفساد في باب العبادات عدم الإجزاء ، أو عدم سقوط القضاء ، أو عدم موافقة الأمر الشرعي .

وفي باب المعاملات عدم ترتب الأثر المقصود من العقد .  

5- الكمال في العبادة نوعان   :

أ- الكمال الواجب : وهو أن يقتصر في العبادة على الواجب منها ، وهذا كمال المقتصدين .

ب- الكمال المستحب : وهو أن يؤتي في العبادة بالمستحب ، وهذا كمال المقربين .

6- النقص في العبادة نوعان   :

فقد يراد بالنقص نقص بعض الواجبات ، وقد يراد به ترك بعض المستحبات وذلك مثل قول الفقهاء : الغسل ينقسم إلى كامل ومجزئ ، يريدون بالمجزئ الاقتصار على الواجب ، وبالكامل ما أتي فيه بالمستحب , في العدد والقدر ووالصفة ، وغالب استعمال الفقهاء تفسيرُ الكامل بما كمل بالمستحبات .

أما في عرف الشارع فالكامل : هو ما كمل بالواجبات .

7- الخلاف الواقع في حرف النفي الداخل على المسميات الشرعية :

كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا صلاة لمن لا وضوء له " , هل يحمل على نفي الكمال الواجب أو الكمال المسنون ؟

بيان ذلك : 

أن كل ما نفاه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من مسمى أسماء الأمور الواجبة ، كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج وغير ذلك فإنما يكون لترك واجب من ذلك المسمى .  

قال ابن تيمية :

" فمن قال : إن المنفي هو الكمال ، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ، ويتعرض للعقوبة فقد صدق .

وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله ، ولا يجوز أن يقع " .  

وقال ـ رحمه الله ـ ممثلاً لهذه القاعدة ومطبقًا لها :

" . . , وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: " مَن غشنا فليس منا " , ونحو ذلك ، لا يجوز أن يقال فيه : ليس من خيارنا كما تقول المرجئة .

ولا أن يقال : صار من غير المسلمين فيكون كافراً كما تقوله الخوارج .

بل الصواب : 

أن هذا الاسم المضمر ينصرف إطلاقه إلى المؤمنين الإيمان الواجب الذي به يستحقون الثواب بلا عقاب ، ولهم الموالاة المطلقة والمحبة المطلقة وإن كان لبعضهم درجات في ذلك بما فعله من المستحب .

فإذا غشهم لم يكن منهم حقيقة : 

لنقص إيمانه الواجب الذي به يستحقون الثواب المطلق بلا عقاب ، ولا يجب أن يكون من غيرهم مطلقًاً ، بل معه من الإيمان ما يستحق به مشاركتهم في بعض الثواب ، ومعه من الكبيرة ما يستحق به العقاب .

كما يقول من استأجر قوماً ليعملوا عملاً ، فعمل بعضهم بعض الوقت ، فعند التوفية يصلح أن يقال : هذا ليس منا ، فلا يستحق الأجر الكامل ، وإن استحق بعضه .

الأداء والإعادة والقضاء

ينقسم الحكم باعتبار الفعل الذي تعلق به إلى : أداء وإعادة وقضاء .

وحاصل ما قاله الأصوليون في هذا المقام : 

إن العبادة إما أن يكون لها وقت محدد من قبل الشارع بحيث يكون لها مبدأ ونهاية أو لا يكون لها وقت معين .

فالعبادة التي ليس لها وقت محدد الطرفين لا توصف بأداء ولا قضاء ، سواء كانت من ذوات السبب ، مثل : تحية لمسجد ، وسجدة التلاوة ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فإن سبب التحية دخول المسجد ، وسجدة التلاوة سببها قراءة آية السجدة ، والأمر بالمعروف سببه إما صيغه الأمر ـ إن قلنا أن الأمر يقتضي الفور ـ وإما منشئة الأمر ، إن لم يكن الأمر مقتضياً للفور  وإما إنكار المنكر فسببه رؤية المنكر .  

وأما العبادة التي لها وقت معين فأقسامها ثلاثة :

الأداء :

وهو إيقاع العبادة في وقتها المقدر لها شرعاً ، مع كونها لم تسبق بأداء مختل .  

فقولنا : " فعلها في وقتها المقدر لها شرعا " ، يخرج فعلها بعد فوات وقتها فلا يسمى أداء .

وقولنا : " غير مسبوق بفعل مختل " ، يخرج الإعادة .

الإعادة :

هي : فعل العبادة مرة أخرى ، وذلك لبطلانها مثلاً ، أو لغير ذلك ، كإعادتها لفضل الجماعة في الوقت .  

أو : إيقاع العبادة في وقتها بعد تقدم إيقاعها على خلل في الإجزاء ، كإنقاص ركن .

القضاء :

وهو : إيقاع العبادة خارج وقتها الذي عينه الشارع .

وجدير بالتنبيه عليه هنا : أن القضاء لم يرد في نصوص الشرع إلا في إيقاع العبادة بعد خروج وقتها بعذر كالنوم عن الصلاة ، أو الصوم للحائض أو النفساء ، أما خروج الوقت بدون عذر فلم يرد فيه القضاء ، بخلاف الذي عليه كثير من الفقهاء .

ويؤكد ذلك مسألة أثارها الأصوليون ، هي : 

هل القضاء يكون بالأمر الأول الذي كان به الأداء ، أو يحتاج إلى أمر جديد ؟

جمهورهم قال : 

أنه يحتاج إلى أمر جديد ، وهذا هو الصواب ، فإن العبادة المعلقة بوقت إنما مقصود الشارع أن تقع في الوقت الذي حدده لها ، فإذا أخل المكلف بذلك فأداها خارج وقتها بدون عذر فلم يقع فعله لها كما أمر ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " مَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌ " , وهذا بخلاف المعذور  فهو إما أن تكون الشريعة أسقطت عنه القضاء فلم تأمره به ، كما في قضاء الصلاة للحائض ، وإما أن تكون أمرته به بأمر جديد ، كصلاة النائم والناسي ، وقضاء الصوم للحائض والنفساء والمريض والمسافر ، وقضاء الحج عمن عجز عنه في حياته .

ويتفرع عن هذا مسألة مشهورة ، وهي قضاء الصلاة والصوم ونحوهما لمن ترك أداء ذلك في وقته متعمداً ، فهذا ليس له رخصة في القضاء ، إنما سبيله التوبة النصوح وأن يكثر من التطوع .

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 8:00 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقه ج 2   زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Emptyالجمعة 20 فبراير 2015, 9:31 pm

الرخصة والعزيمة

تعريفهما :

العزيمة لغة : 

الإرادة المؤكدة ، ومنه قوله تعالى : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما } طه : 115 , أي : قصد مؤكد في فعل ما أمر به .

واصطلاحاً : 

هي الحكم الثابت بدليل شرعي ، خالٍ عن معارض راجح وذلك يشمل الواجب ، والمندوب ، والمحرم ، والمكروه ، والمباح ، إذ الجميع حكم ثبت بدليل شرعي .

والأصل هو العمل بما ثبت بالدليل الشرعي ، إذ لا يجوز تركه إلا إذا وجد معارض أقوى مما ثبت بالدليل الشرعي ، فيتعين في حالة وجود المعارض الأقوى العمل بهذا المعارض وترك ما ثبت بالدليل الشرعي ، وهذه الحالة هي الرخصة .

فيُشترط إذن في العمل بالدليل الشرعي عدم المعارض الراجح له .  

{ مثالها } : 

الصلاة في أوقاتها هي الأصل ، فهي العزيمة ، وإتمام الصلاة هو الأصل فيها ، فهو العزيمة ، وحرمة الميتة هي الأصل ، فهي العزيمة .

الرخصة لغة : 

اليسر والسهولة.

واصطلاحاً : 

وهي الحكم الثابت على خلاف الدليل الشرعي ، لمعارضٍ راجح  .  

وقد تكون الرخصة واجبة , كأكل الميتة للمضطر .

وقد تكون مندوبة , كقصر المسافر الصلاة عند الجمهور إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع .

وقد تكون مباحة , كالجمع بين الصلاتين في غير عرفة ومزدلفة عند الجمهور .

وبذلك يُعلم أن الرخصة لا تكون محرمة ولا مكروهة .  

فالعزيمة أصل الأحكام التكليفية ، والرخصة الخروج عن الأصل بعذر .

وعليه فالرخصة باقية ببقاء العذر ، منتفية بانتفائه .

أسباب الرخص .

الأسباب التي ترجع إليها جميع الرخص الشرعية سبعة وهي :

1ـ ضعف الخلق : 

سبب لإسقاط التكليف عن الصبي والمجنون ، وتخفيف التكليف في حق النساء فلم تجب عليهن جمعة ولا جماعة ولا جهاد .

2ـ المرض : 

سبب للفطر في رمضان ، والصلاة من قعود أو اضطجاع ، وتناول الممنوع للعلاج إن فقد سواه .

3ـ السفر : 

سبب للفطر في رمضان ، وقصر الصلاة الرباعية ، وسقوط الجمعة ، والزيادة في مدة المسح على الخفين .

4ـ النسيان : 

سبب لإسقاط الإثم والمؤاخذة الأخروية ، وصحة الصوم لمن أكل أو شرب وهو كذلك .

5ـ الجهل : 

سبب لإسقاط المؤاخذة إذا لم يقع بتقصير في التعلم ، كما يكون سبباً لرد السلعة بعد شرائها لعيب جهله المشتري وقت التبايع ، كما يكون سببا للعذر في خطأ الاجتهاد ، لأن المجتهد بنى على ظن العلم .

6ـ الإكراه : 

سبب لإباحة الوقوع في المحظورات , دفعاً للأذى الذي لا يحتمل .

7ـ عموم البلوى : 

وهو في الأمر الذي يعسر الانفكاك عنه ، كالنجاسة التي يشق الاحتراز عنها ، كمن به سلس بول ، واحتمال يسير الغبن في البيوع ، ونحو ذلك .

أنواع الرخص :

الرخص الشرعية تعود إلى أنواع ثلاثة :

1ـ إباحة المحرم لعذر الضرورة ، وإليه ترجع قاعدة : " الضرورات تبيح المحظورات " .

{ مثالها } : 

التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه ، كما قال تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } النحل : 116، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر للمضطر ، كما قال تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } البقرة: 173، وقال : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } الأنعام: 119.

2ـ إباحة ترك الواجب , وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: " وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " .  

{ مثالها } : 

ترك القيام في الصلاة للعاجز مع فرضه ، فعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال : كانت بي بواسير ، فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة ؟ فقال : " صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب " .  

والفطر في رمضان للمسافر والمريض ، قال تعالى : { ومَن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر } البقرة : 185.

3ـ تصحيح بعض العقود مع اختلال ما تصحبه رفعاً للحرج وتيسيراً على الناس .

{ مثالها } : 

الإذن في بيع السلم "  أو : السلف " ، أو عقد الاستصناع ، مع أن كلا منهما بيع معدوم ليس موجوداً وقت التعاقد ، نعم ذلك بشروط كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " مَن أسلف في شيء ففي كيل معلوم ، ووزن معلوم ، على أجل معلوم " .   

أقسام الرخصة .

قسم جمهور الأصوليين الرخصة إلى الأقسام التالية :

1ـ رخصة واجبة : 

بمعنى أنه يجب الأخذ  بها ، فإن امتنع عن ذلك حتى مات أو لحقه ضرر ، فإنه يكون أثماً .

{ أمثلة } : 

أكل الميتة للمضطر ، أي في حال المخمصة ، فإن هذا الحكم ثبت بالدليل ، وهو قوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } البقرة : 195  وقوله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه} البقرة : 173 , وهذا الدليل خالف الدليل الدال على حرمة أكل الميتة ، وهو قوله تعالى  { حرمت عليكم الميتة } المائدة : 3 , فأكل الميتة للمضطر رخصة ، لأنه ثبت بدليل على خلاف دليل آخر لعذر ، وهو الاضطرار إلى الأكل لحفظ النفس .

* الفطر في رمضان لمن خشي على نفسه الهلاك بغلبة الجوع أو العطش ، وإن كان صحيحاً مقيماً ، فإن الصوم لمثل هذا حرام كما قال الإمام الغزالي    وغيره .

2ـ رخصة مندوبة : 

أي فعلها أفضل .

{ مثال } : 

قصر الصلاة الرباعية في السفر ـ إذا توفرت شروطه ـ فهو رخصة مندوبة عند جهور العلماء ، والعزيمة هي : الإتمام أربع ركعات والمسافر مخير بين القصر والإتمام ، والأفضل له أن يختار القصر .

3ـ رخصة مباحة : 

ومن أمثله هذا القسم : 

السلم والعرايا ، ونحو ذلك من العقود الثابتة على خلاف القياس ، لأن القياس عدم جواز مثل هذه العقود لما فيها من الجهالة والغرر ، ولكنها جوزت للحاجة إليها .

والسلم : 

هو اسم لعقد يوجب الملك في الثمن عاجلاً ، وفي المثمن آجلاً .  

والعرايا : 

بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله من التمر خرصاً ، فيما دون خمسة أوسق .  

ومن هذا القسم رؤية الطبيب لعورة الرجل أو المرأة عند الضرورة أو الحاجة إلى ذالك ، فإن النظر في الأصل محرم ، ولكنه أبيح هنا لرفع الحرج عن الناس والله أعلم .

ومن قبيل هذا : 

النظر إلى المخطوبة ، فهو من الرخص المباحة ، لقوله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا خطب أحدكم امرأة , فإن استطاع أن ينظر ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل " .  

4 ـ رخصة خلاف الأولى : 

ومعنى ذلك أن ترك الأخذ بالرخصة أولى وأفضل من فعلها .

{ مثال } : 

الفطر في نهار رمضان بالنسبة للمسافر الذي لا يتضرر بالصوم ، فإن هذا الحكم يثبت بقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } البقرة : 184 , فهذا الدليل مخالف لدليل أخر ، وهو قوله تعالى : { فمَن شهد منكم الشهر فليصمه } وهذه المخالفة لعذر ، وهو مشقة السفر .

وإنما كان الفطر في السفر لمن لا يتضرر بالصوم خلاف الأولى ، لقوله تعالى : { وإن تصوموا خير لكم } .

{ مثاله } : 

التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه ، فإن الأفضل عدمه ، والتزام الثبات والمثابرة على الدين .

( مسألة ) : 

هل يمنع الأخذ بالرخص ؟

صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته " .  

فما أحبه الله تعالى لا يصح أن يقال : 

هو ممنوع منع كراهة ولا منع تحريم .

وفي الحديث المذكور كراهة ترك الأخذ بالرخص تنزهاً عنها ، فإنه لا يصح التنزه عما يحبه الله تعالى ، ويؤكده حديث عائشة رضي الله عنها قالت : صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمراً فترخص فيه ، فبلغ ذلك ناساً من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه ، فبلغه ذلك فقام خطيباً فقال : " ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية " .  

أما ما يروى عن بعض السلف والعلماء من كراهة تتبع الرخص وذم مَن يفعل ذلك ، فليس كلامهم في رخص الله ورسوله مما جاءت به الشريعة ، إنما الرخص التي يستفيدها الناس من خلاف الفقهاء ، فهذا العالم حرَّم كذا وهذا رخَّص فيه ، فذم العلماء من يبحث عن تلك الرخص ويعمل بها أو يشيعها بين الناس ذمَّاً شديداً ، لأنها تصير بفاعل ذلك إلى استحلال ما حرم الله ورسوله ، فالمجتهد قد يقول الرأي في الشيء يخالف حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لا بقصد منه بل باجتهاده ظناً منه أنه الصواب ، فمَن عمد إلى رخصة هذا العالم أو ذاك مما أخطأوا فيه فتتبعه فقد اجتمع فيه الشر كله .

حكى إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي أنه دخل على الخليفة المعتضد بالله العباسي ، قال : فدفع إلي كتابًا ، فنظرت فيه ، فإذا قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء ، فقلت : مصنف هذا زنديق ، فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : بلى ، ولكن مَن أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومَن أباح المتعة لم يبح الغناء ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومَن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه ، فأمر بالكتاب فأحرق .  

وإنما الواجب في هذا أن ينظر في حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فتقاس رخص المجتهدين بموافقتها للكتاب والسنة أو مخالفتها لهما ، فإن وافقت فهي رخصة شرعية يحبها الله والأخذ بها حسن ، وإن خالفت فلها حكمها من الحرمة أو الكراهة .

قواعد في الحكم الشرعي :

هذه القواعد بعضها يقرر بعضًا ، وينتج بعضها عن بعض ، وقد اشتملت هذه القواعد على خصائص الحكم الشرعي ومعالمه ، وتضمنت الإشارة إلى أصوله وضوابطه .

* قد يعبر عن الحكم الشرعي بالأمر والنهي :

ذلك لأن الأحكام الشرعية لا تخرج عن الأمر والنهي ، ولذلك أيضاً يعبر بالإيجاب والتحريم عن الحكم الشرعي , أما المندوب فهو تابع للواجب , إذ كلاهما مأمور به ، وكذا المكروه فهو تابع للمحرم , إذ كلاهما منهي عنه ، ثم إن كلا من المندوب والمكروه لا جزم فيه ، ولا يترتب عليه عقاب ، فبالنظر إلى ترتب العقاب اجتمع الحكم الشرعي في الواجب الذي يترتب على تركه عقاب ، وفي المحرم الذي يترتب على فعله عقاب .

وقد يعبر عن الحكم الشرعي : 

بالحلال والحرام ، إذ الحلال يقصد به : ما أذن في فعله ، وذلك يشمل : الواجب ، والمندوب ، والمكروه ، والمباح .

وقد يعبر عن الحكم الشرعي :

بالواجب ، والمندوب ، والمكروه ، والحرام ، وذلك بالنظر إلى الطلب والاقتضاء فالمباح بذلك يخرج عن الحكم الشرعي .  

إذ لا اقتضاء فيه ولا طلب ، لكن سبق التنبيه على أن إدخاله تحت الأحكام الشرعية إنما كان على وجه المسامحة وإكمال القسمة ,وقد يعبر عن الحكم الشرعي بالأمر فقط ، وذلك بناءً على أن النهي فرع عن الأمر , إذ الأمر هو الطلب ، وهذا يشمل الترك وهو النهي ، وهذا أيضاً مبني على أن المندوب والمكروه تابعان للواجب والحرام على ما سبق .

وكثيراً ما يعبر بالحكم الشرعي عن الحكم التكليفي .

مع أن الحكم الشرعي ذو شطرين : 

الحكم التكليفي والحكم الوضعي ، لأن تسمية الحكم الوضعي حكماً فيها تجوز وتساهل , إذ الحكم الشرعي خطاب الشارع ، والخطاب يتضمن ولا بد أمراً أو نهياً ، وهذا هو الحكم التكليفي ، أما نصب الشارع علامات للدلالة على حكمه فهذه العلامات من أسباب وشروط وموانع إنما هي بيان وإظهار لهذا الحكم وإخبار وإعلام بوجوده أو انتفائه .

وعلى كل فتسمية خطاب الوضع حكماً وجعله نوعاً من أنواع الحكم الشرعي أمر اصطلاحي ، ولا مشاحة في الاصطلاح .

وبذلك يتبين أن الحكم التكليفي هو الأصل وهو المهم ، لذا ساغ أن يكون هو المراد عند إطلاق الحكم الشرعي .

* أن الحكم الشرعي إنما يؤخذ من الشرع ، إذ الحكم لله وحده ، ولا يجوز إثبات حكم شرعي بغير الأدلة الشرعية التي جعلها الله طريقاً لمعرفة أحكامه ، وهذا أصل عظيم من أصول هذا الدين .  

قال ابن تيمية :

". . , فلهذا كان دين المؤمنين بالله ورسوله أن الأحكام الخمسة : الإيجاب ، والاستحباب ، والتحليل ، والكراهية ، والتحريم ، لا يؤخذ إلا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله " . 

* إذا علم أن الحكم الشرعي إنما يؤخذ عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فالقول على الله بغير علم محرم

كما قال تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ } النحل : 116.

قال الشافعي :

" لا أعلم أحداً من أهل العلم رخص لأحد من أهل العقول والآداب في أن يفتي ولا يحكم برأي نفسه إذا لم يكن عالما بالذي تدور عليه أمور القياس من الكتاب والسنة والإجماع والعقل ، لتفصيل المشتبة " .  

وقال ابن قدامة :

" أنا نعلم بإجماع الأمة قبلهم على أن العالم ليس له الحكم بمجرد هواه وشهوته من غير نظر في الأدلة " .  

وقد خصص ابن القيم فصلاً لهذه المسألة في كتابه القيم إعلام الموقعين فقال : " ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وذكر الإجماع على ذلك " .  

* أن الأحكام الشرعية مبنية على تحقيق مصالح الناس وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها .

قال ابن القيم :

" فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها .

فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل .

فالشريعة عدل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله -صلى الله عليه وسلم- أتم دلالة وأصدقها " .  

* أن الأحكام الشرعية مبنية على تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما .  

ومن الأمثلة على ذلك ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- تغيير بناء الكعبة لما في إبقائه من تأليف القلوب .  

* تبين مما مضى أن مقصود الشارع من جميع الأوامر والنواهي تحصيل المصلحة والمنفعة ، أما ما يترتب على ذلك من مشقة فليس بمقصود للشارع .

قال ابن تيمية :

" وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا ، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة ، كالجهاد ، والحج ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وطلب العلم ، فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما يعقبها من المنفعة " .  

* إذا علم ذلك كان من باب أولى ألا يأمر الشارع بما مفسدته راجحة أو خالصة .

قال ابن تيمية :

" ومما ينبغي أن يُعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كل ما كان أشق كان أفضل كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء .

لا ، ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته ، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله ، فأي العملين كان أحسن ، وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل ، فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل " .  

وقال ابن رجب :

" إن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير ، كما قال تعالى : { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } البقرة : 185، وقال تعالى : { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } المائدة : 6، وقال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } الحج : 78، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول : " يسروا ولا تعسروا " وقال -صلى الله عليه وسلم- : " فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين " .  

* أن الأحكام الشرعية مبنية على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين , فمن ذلك أنها مشروطة بالقدرة والاستطاعة ، وأنها قائمة على تحقيق مصالح الخلق ودفع المفاسد عنهم .

وفي كلام ابن رجب السابق ما يقرر ذلك ويبينه .

* أن الأحكام الشرعية لا تبني على الصور النادرة ، بل العبرة بالكثير الغالب ، ولو فرض وجود مصلحة عظمى في صورة جزئية فإن حكمة الله سبحانه وتعالى أولى من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة أكبر وأهم .

وقاعدة الشرع والقدر : 

تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما ، ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما.  

* أن الأحكام الشرعية مبنية على التسوية بين المتماثلات وإلحاق النظير بنظيره .

قال ابن القيم :

" وأما أحكامه الأمرية الشرعية فكلها هكذا ، تجدها مشتملة على التسوية بين المتماثلين ، وإلحاق النظير بنظيره ، واعتبار الشيء بمثله ، والتفريق بين المختلفين وعدم تسوية أحدهما بالآخر ، وشريعته سبحانه منزهة أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيد منها .

فمن جوز ذلك على الشريعة فما عرفها حق معرفتها ولا قدرها حق قدرها .

وكيف يظن بالشريعة أنها تبيح شيئًا لحاجة المكلف إليه ومصلحته ثم تحرم ما هو أحوج إليه والمصلحة في إباحته أظهر ، وهذا من أمحل المحال " .  

* أن الأحكام الشرعية قد تجمع بين المختلفات إذا اشتركت في سبب الحكم .

قال ابن القيم :

" وأما قوله : إن الشريعة جمعت بين المختلفات ، كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال , فغير منكر في العقول والفطر والشرائع والعادات  اشتراك المختلفات في حكمٍ واحد باعتبار اشتراكها في سبب ذلك الحكم .

فإنه لا مانع من اشتراكها في أمر يكون علة لحكم من الأحكام ، بل هذا هو الواقع ، وعلى هذا فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علة للضمان ، وإن افترقا في علة الإثم " .  

وقد ذكر ابن القيم أمثلة عديدة على هذه القاعدة وبين أوجه الجمع فيها .

* الأحكام الشرعية نوعان : 

-ثابتة لا تتغير ، ولا يجوز الاجتهاد فيها ، ومتغيرة خاضعة لاجتهاد المجتهدين حسب المصلحة وهي تختلف من شخص لآخر ومن مكان لآخر .

قال ابن القيم :

" الأحكام نوعان ، نوع لا يتغير عن حالة واحدة ، وهو عليها ، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ، ولا اجتهاد الأئمة .

كوجوب الواجبات ، وتحريم المحرمات ، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ، ونحو ذلك , فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه .

والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له : زماناً ومكاناً وحالاً , كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها ، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة " .  

* إذا علم هذا فإن من الأحكام الشرعية ما يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال .

ذلك أن الحكم الشرعي يدور مع علته وجوداً وعدماً ، وهذا أيضاً دليل على أن هذه الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم .

وكون الحكم الشرعي يختلف من واقعة إلى واقعة إذا تغير الزمان ، أو المكان ، أو الحال ، ليس معناه أن الأحكام الشرعية مضطربة ويحصل فيها التذبذب والتباين ، بل إن الحكم الشرعي لازم لعلته وسببه وجارٍ معه ، لكن حيث اختلف الزمان أو المكان اختلفت الحقيقة والعلة والسبب ، فالواقعة غير الواقعة ، والحكم كذلك غير الحكم .

أما أن يختلف الحكم الشرعي في واقعتين متماثلتين في الحقيقة مشتركتين في العلة والسبب فهذا ما لا يمكن حدوثه أبداً .  

* وكذلك فإن من الأحكام الشرعية ما يختلف من شخص لآخر ، كل حسب حاله .

قال ابن القيم :

" ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته ، سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها .

فعلى العلم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل , وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره .

وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ، ما ليس على المفتي .

وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير .

وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما " .  

* أن أحكام الدنيا تجري على الأسباب الظاهرة ، ما لم يقم دليل على خلاف ذلك ، قال الشافعي : " فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالاً على أن ما أظهروا يحمل غير ما أبطنوا بدلالة منهم أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة ، وذلك أن يقول قائل : من رجع عن الإسلام ممن ولد على الإسلام قتلته ولم أستتبه ، ومن رجع عنه ممن لم يولد على الإسلام استتبته " .  

وقال ابن القيم :

" أن الله تعالى لم يُجرِ أحكام الدنيا على علمه في عباده ، وإنما أجراها على الأسباب التي نصبها أدلة عليها , وإن علم سبحانه وتعالى أنهم مبطلون فيها مظهرون لخلاف ما يبطنون , وإذا أطلع الله رسوله على ذلك لم يكن ذلك مناقضاً لحكمه الذي شرعه ورتبه على تلك الأٍسباب .

كما رتب على المتكلم بالشهادتين حكمه ، وأطلع رسوله وعباده المؤمنين على أحوال كثير من المنافقين وأنهم لم يطابق قولهم اعتقادهم " ..  

* أن العبرة في الأحكام الشرعية بالمقاصد والنيات ، وذلك إذا ظهرت ، أما إذا لم يظهر قصد ولا نية فالعبرة بالظاهر .

قال ابن القيم :

" إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام ، أو لم يظهر قصد يخالف كلامه :

وجب حمل كلامه على ظاهره " .

وقد ذكر ابن القيم لاعتبار النية والقصد في المعاملات والعبادات والثواب والعقاب أمثلة كثيرة .

منها : بيع الرجل السلاح لمن يعرف أنه يقتل به مسلماً حرام باطل , لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان ، وبيعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله طاعة وقربة .

وكذلك الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل ويحرم إذا ذبح لغير الله .

وكذلك الصوم ، فلو أمسك رجل من المفطرات عادة واشتغالاً ولم ينو القربة لم يكن صائماً .

ولو دار حول الكعبة يلتمس شيئًا سقط منه لم يكن طائفاً .

وكذلك لو جامع أجنبية يظنها زوجته أو أمته لم يأثم بذلك وقد يثاب بنيته .

ولو جامع في ظلمة مَن يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام .

ومن الأدلة على هذه القاعدة : 

قوله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " .  

وعلل ذلك -صلى الله عليه وسلم- بأن نية كل واحد منها قتل صاحبه .

قال ابن القيم :

" فالنية روح العمل ولبه وقوامه ، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال كلمتين كفتا وشفتا ، وتحتهما كنوز العلم ، وهما قوله : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " .  

فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية ، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية ، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه ، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال " .  

* أن الأحكام الشرعية لا تكون مخالفة للعقول والفطر.

قال ابن القيم : 

" بل أخبارهم ـ أي الرسل ـ قسمان :

أحدهما : 

ما تشهد به العقول والفطر .

الثاني : 

ما لا تدركه العقول بمجردها ، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر ، وتفاصيل الثواب والعقاب , ولا يكون خبرهم محالاً في العقول أصلاً .

وكل خبر يظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين :

1ـ إما أن يكون الخبر كذباً عليهم ، أو يكون ذلك العقل فاسداً ، وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقول صريح , قال تعالى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } سبأ : 6.

وقال تعالى : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } الرعد : 19. 

وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ } الرعد : 36، والنفوس لا تفرح بالمحال .

وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } يونس : 57، 58، والمحال لا يشفي ، ولا يحصل به هدىً ولا رحمة ، ولا يفرح به " .  

* أن الأحكام الشرعية محيطة بجميع أفعال المكلفين ، وافية بكل الحوادث.

قال ابن القيم : 

" وهذه الجملة إنما تنفصل بعد تمهيد قاعدتين عظيمتين :

إحداهما : 

أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمراً ونهياً ، وإذناً وعفواً ، كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علماً وكتابة وقدرا ، فعلمه وكتابه وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيرها ، وأمره ونهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية ، فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين : إما الكوني وإما الشرعي الأمري ، فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به ، وجميع ما نهى عنه ، وجميع ما أحله ، وجميع ما حرمه ، وجميع ما عفا عنه , وبهذا يكون دينه كاملاً كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } المائدة: 3 .

* أن الأحكام الشرعية ظاهرة واضحة مبينة ، خاصة ما تحتاج الأمة إليه منها .

قال ابن تيمية : 

" إن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بياناً عاماً ، ولا بد أن تنقلها الأمة " .

وقال ابن رجب : 

" وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالاً إلا مبينا ، ولا حراماً إلا مبيناً ، لكن بعضه كان أظهر بيانا من بعض .

فما ظاهر بيانه واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك : لم يبق فيه شك  ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام .

وما كان بيانه دون ذلك فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة فأجمع العلماء على حله أو حرمته ، وقد يخفي على بعض ما ليس منهم .

ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضاً فاختلفوا في تحليله وتحريمه ، وذلك أسباب " .

* أن الحكم الشرعي يجب اعتقاده ، وهذا أصل من أصول الدين , إذ يجب اعتقاد وجوب الواجبات ، وحرمة المحرمات ، واستحباب المستحبات، وكراهة المكروهات ، وإباحة المباحات .

فمن أنكر حكماً شرعياً معلوماً من الدين بالضرورة فهو كافر كفراً يخرج من الملة ، أما إذا كان الحكم الشرعي مما يمكن فيه الخلاف فلا .

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 8:01 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقه ج 2   زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Emptyالجمعة 20 فبراير 2015, 10:08 pm

لوازم الحكم الشرعي :

لما كان الحكم الشرعي لا بدّ له من حاكم وهو الله سبحانه وتعالى ، ومحكوم فيه هو فعل المكلف ، ومحكوم عليه وهو المكلَف ، حَسُنَ جمعُ هذه الأمور التي لا بد للحكم منها تحت مبحث واحد .

ولما كان الكلام على المحكوم فيه والمحكوم عليه يُجمع في الغالب تحت عنوان واحد - وهو التكليف - اقتضى المقام أن نتحدث عن هذه الأمور في هذا الفصل فنقول وبالله التوفيق :

التكليف .

التكليف لغة : 

مصدر كلف يكلف وهو الإلزام بما فيه كلفة ، والكلفة هي المشقة ، فيكون التكليف بمعنى الأمر بما فيه مشقة , وكلف بالشيء كلفا وكلفه  أحبه .

والمتكلف : 

الواقع فيما لا يعنيه .  

واصطلاحاً : 

" إلزام مقتضى خطاب الشرع " .  

والمراد بمقتضى خطاب الشرع : 

الأمر والنهي والإباحة .  

فبهذا التعريف تدخل الإباحة في التكليف ، ولا تدخل الإباحة في التكليف عند مَن عرَّف التكليف بأنه : " الخطاب بأمر أو نهي " .  

( مسألة ) : 

أنكر بعض العلماء أن تسمى أوامر الشرع ونواهيه تكاليف  لأنها ليس فيها مشقة .  

والصواب : 

صحة الإطلاق , إما من جهة أن الإطلاق جاء من قولهم : كَلِفت بالأمر ، إذا أحببته ، وتكاليف الشرع محبوبة للمؤمن ، وإما من جهة أن التكاليف الشرعية لا تخلو من مشقة ، ولكنها مشقة معتادة , ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات " , وتكون المشقة المنفية هي المشقة الخارجة عن المعتاد المؤدية إلى اختلال الحياة أو المعاش .

ومما يدل على صحة تسمية أوامر الشرع تكليفاً :

قوله تعالى : {   لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين } البقرة : 286 , فالآية تدل على امتناع التكليف بما خرج عن الوسع والطاقة ، وتدل على صحة التكليف بما يدخل تحت الوسع والقدرة بطريق المفهوم .

أركان التكليف .

للتكليف ثلاثة أركان : 

المكلِف، والمكلَف ، والمكلف به ، 

وقد يزاد ركن رابع هو الصيغة والطلب .

فالمكلِف : 

هو الآمر وهو الله جل وعلا .

والمكلَف : 

هو البالغ العاقل .

والمكلف به : 

هو الفعل أو الترك.

وصيغة التكليف : 

هي الأمر والنهي وما جرى مجراهما .

المكلِف أو " الحاكم " :

الحاكم حقيقة هو الله تبارك وتعالى وحده ، والرسل مبلغون عن الله لا يثبتون أحكاماً ابتداء من عند أنفسهم ، والمجتهدون مستكشفون لحكم الله لا مبتدئون له كذلك وإن سموا حكاماً ، أو نسبت الأحكام إليهم .

وهذه حقيقة واضحة في كتاب الله كما قال الله عز وجل : { والله يحكم لا معقب لحكمه } الرعد : 41، وقال : { إن الحكم إلا لله } الأنعام : 57، وقال: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } الشورى : 10، وقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم- : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } النساء : 105، وقال : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } المائدة : 48 ، وقال : { ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } المائدة : 44.

وعلى هذا فالتشريع حق الله تعالى وحده ، ونسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو إلى العلماء المجتهدين نسبة مجازية ، ذلك لأنهم يعالجونه وينظرون فيه .

المكلف به :

هو ما يتعلق به خطاب الشارع ، أو : هو الفعل المكلف به.

{ أمثلته } :

 * قوله تعالى : { وآتوا الزكاة } البقرة : 43، أفاد إيجاب الزكاة ، وهذا الأمر تعلق بفعل المكلف الذي هو " إيتاء الزكاة ".

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } البقرة : 282، أفاد الندب إلى كتابة الدين ، وهذا الأمر تعلق بفعل المكلف الذي هو " كتابة الدين " .

* قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنا } الإسراء : 32، أفاد حرمة الزنا ، وهذا النهي تعلق بفعل المكلف الذي هو " قربان الزنا " .

* قوله تعالى: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } البقرة :267، أفاد كراهة إنفاق المال الخبيث وهذا النهي تعلق بفعل المكلف الذي هو " إنفاق الخبيث ".

قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } المائدة : 2 , أفاد إباحة الصيد بعد التحلل من الإحرام ، وهذا الأمر تعلق بفعل المكلف الذي هو " الاصطياد " .

شروط التكليف :

التكليف له شروط بعضها يرجع إلى المكلف وبعضها يرجع إلى الفعل المكلف به .

والشروط التي ترجع إلى المكلَف قسمان :

أ- شروط عامة .      ب- شروط خاصة ببعض التكاليف .

فالشروط العامة في كل التكاليف هي :

1ـ البلوغ :

وهو يحصل ببلوغ الذكر أو الأنثى خمس عشرة سنة ، كما يحصل بالإنزال باحتلام أو بجماع ، أو بنبات الشعر الخشن حول العانة , وتزيد الأنثى بالحيض والحمل فإنها من علامات بلوغها .

والدليل على كون البلوغ شرطاً للتكليف حديث : " رفع القلم عن ثلاثة "، وذكر منهم : " الصغير حتى يحتلم  " .  

( مسألة ) : 

تكليف المميز : 

واختلف العلماء في مَن بلغ عشر سنين ولم تظهر عليه علامات البلوغ هل يعد مكلفا ؟

فذهب الجمهور إلى أنه ليس بمكلف , للحديث السابق .

وذهب الإمام أحمد في رواية إلى أنه مكلف بالصلاة دون غيرها , لحديث : " واضربوهم عليها لعشر " ، ولا يضرب على الترك مَن ليس بمكلف , وذهب بعض المالكية إلى أنه مُكلف بالمندوبات والمكروهات دون الواجبات والمُحرمات , لأنه يُثاب على الطاعات إذا فعلها فتكون مندوبة في حقه ، ولا يعاقب على المعاصي فتكون مكروهة في حقه .

2ـ العقل وفهم الخطاب :

فمن لا يعقل الخطاب ولا يفهمه لا يمكن أن يخاطب ، وخطابه عبث وسفه يتنزه الله عنه .

والدليل على عدم خطاب المجنون قوله -صلى الله عليه وسلم- : " رفع القلم عن ثلاثة " ، وذكر منهم : " المجنون حتى يفيق " , ويلحق بالمجنون كل من لا يعقل الخطاب من نائم أو مغمى عليه أو ذاهل ناسِ فإنه حال نسيانه لا يخاطب , وهذا لا يمنع وجوب الفعل في ذمته ووجوب قضائه ، وقد يسمى مخاطباً بهذا المعنى أي بمعنى لزوم الفعل في ذمته .

3ـ القدرة على الامتثال :

فالعاجز لا يكلف , لقوله تعالى : {  لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين  } البقرة 286 , وقوله : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } الطلاق : 7، وقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } الحج : 78 .

4ـ الاختيار :

وهو أن لا يكون مكرهاً على الفعل ولا على الترك ، والدليل على اشتراط هذا الشرط قوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  } النحل :106، فالآية تدل على عدم مؤاخذة من أكره على النطق بكلمة الكفر ، وإذا عذر في النطق بكلمة الكفر فمن باب أولى عذره فيما عدا ذلك من حقوق الله جل وعلا .

وأما حقوق الآدميين فلا تسقط بالإكراه , لأن إيجابها من باب الربط بين الأسباب ومسبباتها .

5ـ العلم بالتكليف :

فمن لم يعلم بالتكليف لا يُعد مكلفاً ، قال تعالى : { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } الإسراء : 15، والحكمة من بعثة الرسل تعليم الناس حكم الله تعالى ، ومفهوم الغاية في هذه الآية يدل على أنه بعد بعثة الرسل يمكن مؤاخذة المكلفين على تقصيرهم وتفريطهم .

والتكاليف الشرعية منها ما لا يعذر أحد بجهله بعد الدخول في الإسلام  لكونها مما علم من الدين بالضرورة ، مثل وجوب الصلاة ، والزكاة ، والصوم  والحج ، وتحريم الزنا ، والكذب ، والظلم ، ونحو ذلك .

فهذه الأحكام من ادعى الجهل بها من المسلمين إما أن يكون كاذباً في دعواه أو يكون مفرطاً ومضيعاً لدينه , لأن العلم بها يقارن العلم بالإسلام .

والصنف الثاني من الأحكام يمكن أن يجهلها المسلم لعدم اشتهارها أو لغموض أدلتها أو لحاجتها إلى نظر واستنباط ، مثل حرمة بيع العينة ، وبعض أنواع البيوع التي قد يجهلها الإنسان العادي ، وبعض أحكام الطهارة كالمسح على الخفين ، وبعض أحكام الصلاة كصلاة المسبوق وصلاة من لا يجد ما يستره ، وبعض أحكام الزكاة كزكاة الحلي وأنصبة الزكاة ، وبعض أحكام الصوم كاستعمال الإبر المغذية ونحوها .

فهذا النوع من الأحكام يعذر الجاهل بدعوى الجهل به فلا يلحقه إثم بما فعله أو تركه مما يخالف حكم الله ، ولكن يجب عليه استدراك ما فاته إذا علم بحكم الله جل وعلا ، ومن العلماء من رأى أنه لا يطالب باستدراك ما فاته ولا يؤاخذ إلا بحقوق الآدميين , فإنها لا تسقط بجهله لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير.

والقول الأول هو الصحيح إن شاء الله ، ولكن قد يعذر في استدراك ما فاته بجهله إذا كانت مطالبته بذلك توقعه في حرج ومشقة ، كمن صلى أكثر عمره وهو يمسح على خف لا يستر محل الفرض أو يمسح على خف لم يلبسه على طهارة ونحو ذلك .

أما الشروط المقيدة :

وأما الشروط التي تختلف باختلاف المكلف به فمنها : الحرية ، فهي شرط للتكليف بالجهاد والجمعة ، وليست شرطاً للتكليف بالصلاة والصوم , ومنها : الذكورية ، وهي شرط للتكليف بالجمعة ، ومنها : الإقامة ، شرط للجمعة ، ونحو ذلك .

شروط الفعل المكلف به :

1ـ أن يكون معلوماً :

والمراد بهذا الشرط أن تكون حقيقة الفعل المأمور به معلومة ، والأمر به معلوماً لدى أهل العلم من المكلفين ، والدلائل عليه منصوبة , لأن الأمر بغير المعلوم عبث يتنزه الله عنه , وليس معناه أن يعلمه كل مكلف ، بل يكفي نصب الدلائل على التكليف به بحيث يعرفها من طلبها .

وهذا الشرط يختلف عن الشرط السابق الذي ذكرناه في شروط المكلف ؛ لأن ذلك الشرط يشمل كل مكلف ، ولذلك وقع الخلاف في اشتراطه .

أما هذا فهو شرط في الفعل نفسه بغض النظر عن آحاد المكلفين ، فإذا كان معلوم المقدار وعُلِم الأمر به من بعض المكلفين صح التكليف به ، ويجب على من جهل مقداره أن يطلب العلم به من أهله ، وأما مؤاخذة كل مكلف بتقصيره فكما تقدم ، تختلف باختلاف اشتهار التكليف به وعدمه ، فيعذر في جهل بعض الأفعال دون بعض كما تقدم ، ويعذر حديث الإسلام ، ومن عاش ببادية فيما لا يعذر به غيره .

2ـ أن يكون معدوماً :

ومعناه أن يكون غير حاصل حال الأمر به إن كان مأمورا به , وذلك لأن الحاصل لا يمكن تحصيله ، فمن صلى الفجر لا يؤمر به بعد فعله ، وهذا الشرط لا ينطبق إلا على المأمور به ، أما المنهي عنه فيمكن أن يكون معدوما كما ينهى المسلم عن الزنا وهو لم يرتكبه ، وعن الكذب وهو لم يكذب ، ويكون موجوداً كما ينهى الكاذب عن الكذب ، وشارب الخمر عن شربه ، مع مباشرته للفعل المحرم ، ولم أجد من نبه على اختصاص هذا الشرط بالمأمور به مع ظهوره لمن تأمله ، وقد يقال : إن النهي عن الفعل المستقبل ـ وهو معدوم ـ لا عن الموجود الواقع ، والأول أظهر .

3ـ أن يكون ممكناً :

ومعنى الإمكان أن لا يكون واجب الوقوع ولا ممتنع الوقوع عقلا ، وخالف الأشعرية فأجازوا التكليف بالمحال ، واختلفوا في وقوعه في الشرع ، وأكثرهم لا يرى وقوعه .

ومحل النزاع هو المستحيل عقلاً كالجمع بين الضدين ، أو عادة كالصعود إلى السطح بلا سلم ، أو ما يقوم مقامه .

موانع التكليف :

اعتاد جمهور الأصوليين أن يتكلموا عن التكليف وشروطه ، ويذكروا موانعه ضمن كلامهم عن شروطه .

وأما الحنفية فمنهجهم بحث شروط التكليف وموانعه تحت اسم الأهلية وعوارضها .

والأهلية لغة : 

الصلاحية ، تقول : فلان أهل لكذا : أي صالح ومستوجب له  وتقول : أهلته لكذا : إذا جعلته صالحاً له .

واصطلاحاً نوعان :

1ـ أهلية وجوب :

وهي صلاحية الإنسان لأن تثبت له الحقوق وتجب عليه الواجبات .

ويعبر عن هذه الأهلية بـ " الذمة " ، 

فكل إنسان له ذمة تتعلق بها حقوق وواجبات .

وتثبت هذه الأهلية للإنسان بمجرد " الحياة " ، فكل إنسان حي له أهلية وجوب .

قيل : أصل هذه الأهلية مستفاد من العهد الأول الذي أخذه الله تعالى على بني آدم ، كما قال عز وجل : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } الأعراف : 172، ذلك أن الذمة هي العهد ، والعهد الثابت للإنسان بمجرد إنسانيته هو هذا العهد .

أما تسميتها " ذمة " فقيل : لأن نقض العهد يوجب الذم ، فسمي العهد بما يؤول إليه نقضه .

ثانيا : أهلية الأداء :

وهي صلاحية الإنسان لصدور الأفعال والأقوال منه على وجه يعتد به شرعاً .

وشرطها الأساس : 

التمييز ، فإذا كان الإنسان مميزاً اعتد الشرع بأقواله وأفعاله في الجملة .

وكل من أهلية الوجوب وأهلية الأداء قد تكون ناقصة أو تامة ، فأهلية الوجوب الناقصة تثبت للجنين في بطن أمه ؛ لأنه تثبت له حقوق ولا تترتب عليه واجبات ، ولكن تلك الحقوق لا بد لثبوتها من ولادته حياً ، فإن ولد ميتا لم يثبت له حق الإرث والوصية ونحوها .

وأهلية الوجوب الكاملة تثبت للإنسان منذ ولادته إلى وفاته ولا تفارقه بسبب الصبا أو الجنون أو نحو ذلك ، ولكنه إذا لم يبلغ سن التمييز ، أو بلغ ولكنه مجنون فلا ينضم إلى هذه الأهلية أهلية الأداء ، وما عليه من واجبات يقوم وليه بأدائها من ماله ، فيخرج عنه ما يجب عليه من نفقة أو زكاة أو ضمان متلف من ماله .

وأما أهلية الأداء الناقصة فهي تثبت للإنسان منذ بلوغه سن التمييز إلى البلوغ ولا تثبت للمجنون الذي لا يعقل ، ولكنها تثبت لضعيف الإدراك ومن به تخلف عقلي .

وهذا النوع من الأهلية يترتب عليه صحة ما يفعله من حصلت له من العبادات ، فيصح إسلام الصبي وصلاته وحجه وصيامه ونحو ذلك ، ولكن لا يكون ملزماً بأدائها إلا على جهة التأديب والتمرين .

الفصل الرابع

دلالات الألفــــــاظ

اهتم علماء الأصول بالألفاظ اهتماماً كبيراً من حيث تقسيماتها وأنواعها ، ومن حيث دلالتها على المعاني ، وذلك لأن الأحكام الشرعية إنما تستفاد من الألفاظ إما بطريق الدلالة المباشرة ، أو بطريق الإشارة والإيماء ، وقد أحاط الأصوليون بما قرره علماء اللغة والنحو والتصريف ، وزادوا عليهم تفصيلات لا يجدها الباحث عند غيرهم حتى من علماء اللغة الذين ألفوا فيها المؤلفات الكثيرة .

ومن الأصوليين من خاض في تقسيمات وتعريفات للألفاظ لا حاجة للفقيه بها ، وإنما استدعاها حب الاستقصاء وغلبة النقل على مؤلفاتهم ، والاستطراد الذي ينسي بعض المؤلفين الغرض من التأليف في علم أصول الفقه .

اللغة العربية والشريعة :

تتجلى أهمية اللغة العربية وعلاقتها بعلوم الشريعة في الآتي :

1- أن الكتاب والسنة عربيان:

فالقرآن الكريم إنما نزل بلغة العرب ، قال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } يوسف : 2.

والرسول -صلى الله عليه وسلم- من العرب ، وهو ذو لسان عربي فصيح .

قال الشافعي : 

" ومن جماع علم كتاب الله : العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب " .

وقال أيضاً : 

" وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة " .  

2- أن معاني كتاب الله موافقة لمعاني كلام العرب ، وظاهر كتاب الله ملائم لظاهر كلام العرب .

ففي القرآن من الإيجاز والاختصار والعام والخاص كما في كلام العرب.  

3- إذا عُلم ذلك فإن فهم مراد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- متوقف على فهم لغة العرب ومعرفة علومها , فعلى كل مسلم أن يتعلم من هذه اللغة ما يقيم به دينه .

قال الشافعي :  

" لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها .

ومن عَلِمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها " .

وقال أيضاً : 

" فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، ويتلو به كتاب الله " .  

وقال ابن تيمية :

" فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه " .  

4- أن الإحاطة بلسان العرب حاصلة بالنسبة لعام الأمة , إذ لا يذهب منه شيء إلا ويوجد في هذا الأمة من يعرفه ، أما النسبة للواحد فقد يعزب عنه بعض كلام العرب .

وهذا كأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- , فإنه قد يعزب الحديث عن واحد من العلماء ، إلا أنه لا يمكن أن يعزب عن عامة الأمة .

الأسماء الشرعية :

أولاً : تنقسم الألفاظ إلى أربعة أقسام :  

حقيقة وضعية أو لغوية ، وحقيقة شرعية ، وحقيقة عرفية ، ومجاز .

ووجه الحصر في الأقسام الأربعة : 

أن اللفظ إما أن يبقى على أصل وضعه  فهذه هي الحقيقة الوضعية ، أو يغير عنه ولا بد أن يكون هذا التغيير من قبل الشرع ، أو من قبل عرف الاستعمال ، أو من قبل استعمال اللفظ في غير موضعه لعلاقة بقرينة .

فإن كان تغييره من قبل الشرع فهو الحقيقة الشرعية ، وإن كان من قبل عرف الاستعمال فهو الحقيقة العرفية، وإن كان من قبل استعمال اللفظ في غير موضعه لدلالة القرينة فهو المجاز .

{ مثال }  الحقيقة الوضعية : 

" أسد " فإنه يطلق في أصل الوضع على الحيوان المفترس ، فإن استعمل في غير ما وضع له فهو المجاز , مثل إطلاق لفظ " أسد " على الرجل الشجاع .

{ مثال } الحقيقة الشرعية : 

لفظ الصلاة والصيام والحج ، فإنها تطلق ويراد بها تلك العبادات المعروفة ، مع أن لهذه الألفاظ معاني أخرى في أصل وضعها اللغوي ، فالصلاة : الدعاء ، والصيام : الإمساك ، والحج : القصد .

{ مثال } الحقيقة العرفية : 

لفظ الدابة ، فإنه يطلق ويراد به عرفاً ذوات الأربع من الحيوان ، مع أن معناه الأصلي في اللغة يشمل كل ما يدب على الأرض .

ثانياً : اختلف الأصوليون في الأسماء الشرعية :  

وذلك على أقوال  :

1- أن الشارع نقلها عن مسماها في اللغة .

2- أنها باقية على ما كانت عليه في اللغة إلا أن الشارع زاد في أحكامها.

3- أن الشارع تصرف فيها تصرف أهل العرف , فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز ، وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة .

وهذا الخلاف يعود إلى اللفظ إذا حصل الاتفاق على وجوب الرجوع إلى بيان الشارع لهذه الأسماء وتفسيره لها .

قال ابن تيمية :

" والاسم إذا بين النبي -صلى الله عليه وسلم- حد مسماه لم يلزم أن يكون قد نقله عن اللغة أو زاد فيه ، بل المقصود أنه عُرف مراده بتعريفه هو -صلى الله عليه وسلم- كيف ما كان الأمر ، فإن هذا هو المقصود .

وهذا كاسم الخمر فإنه قد بين أن كل مسكر خمر ، فعرف المراد بالقرآن وسواء كانت العرب قبل ذلك تطلق لفظ الخمر على كل مسكر أو تخص به عصير العنب : لا يحتاج إلى ذلك , إذ المطلوب معرفة ما أراد الله ورسوله بهذا الاسم , وهذا قد عرف ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- " .  

ثالثا : أن بيان الشارع لألفاظه وتفسيره لها مقدم على أي بيان .

قال ابن تيمية :

" ومما ينبغي أن يُعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم " .

وقال أيضاً : 

" فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد بيَّن المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك .

فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله فإنه شافٍ كافٍ " .  

وقد بين ـ رحمه الله ـ أن طريقة أهل البدع إنما هي تفسير ألفاظ الكتاب والسنة برأيهم وبما فهموه وتأولوه من اللغة ، والإعراض عن بيان الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهم يعتمدون على العقل واللغة وكتب الأدب.

رابعاً : إذا عُلم أن بيان الشرع لألفاظه مقدم على كل بيان فالواجب ملاحظة أربعة أمور في هذا المقام :

الأمر الأول : 

معرفة حدود هذه الألفاظ ، والوقوف عند هذا الحد ؛ بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه ، ولا يخرج منه شيء من موضوعه .

قال ابن القيم :

" ومعلوم أن الله سبحانه حد لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه , وذم من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله ، والذي أنزله هو كلامه ، فحدود ما أنزل الله هو الوقوف عند حد الاسم الذي علق عليه الحل والحرمة ". 

وقد ذكر ـ رحمه الله ـ أن تعدي حدود الله يكون من جهتين :

1- من جهة التقصير والنقص .

2- من جهة تحميل اللفظ فوق ما يحتمل والزيادة عليه .

فالأول : كإخراج بعض الأشربة المسكرة عن شمول اسم الخمر لها ، فهذا تقصير به وهضم لعمومه ، والحق ما قاله صاحب الشرع : " كل مسكر خمر " , وفي هذا غنية عن القياس أيضاً .

والثاني : كإدخال بعض صور الربا في التجارة المباحة بحيلة من الحيل ، فهذا إدخال ما ليس من اللفظ فيه ، وهو يقابل التقصير .

الأمر الثاني : 

حمل ألفاظ الكتاب والسنة على عادات عصره -صلى الله عليه وسلم- وعلى اللغة والعرف السائدين وقت نزول الخطاب ، ولا يصح أن تحمل هذه الألفاظ على عادات حدثت فيما بعد ، أو اصطلاحات وضعها المتأخرون من أهل الفنون.  

قال ابن تيمية :

" ولا يجوز أن يحمل كلامه ـ أي الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عادات حدثت بعده في الخطاب لم تكن معروفة في خطابه وخطاب أصحابه ، كما يفعله كثير من الناس وقد لا يعرفون انتفاء ذلك في زمانه " .

وقال أيضا : 

" فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله لا بما حدث بعد ذلك " .  

الأمر الثالث : 

مراعاة السياق ومقتضى الحال والنظر في قرائن الكلام عند تفسير ألفاظ الكتاب والسنة .  

ذلك أن دلالة الألفاظ تختلف حسب الإطلاق والتقييد ، والاقتران والتجريد .

فلفظ الفقير مثلاً إذا أطلق دخل فيه المسكين كقوله تعالى : { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } البقرة : 271.

وكذلك لفظ المسكين إذا أطلق دخل فيه الفقير كقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } المائدة : 89. أما إذا قرن بينهما أحدهما فأحدهما غير الآخر  كقوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } التوبة : 60.

قال ابن تيمية :

" والاسم كلما كثر التكلم فيه ، فتكلم به مطلقاً ومقيداً بقيد ، ومقيداً بقيد آخر في موضع آخر ؛ كان هذا سبباً لاشتباه بعض معناه ثم كلما كثر سماعه كثر من يشتبه عليه ذلك .

ومن أسباب ذلك : 

أن يسمع بعض الناس بعض موارده ولا يسمع بعضه ، ويكون ما سمعه مقيدا بقيد أوجبه اختصاصه بمعنى ، فيظن معناه في سائر موارده كذلك .

فمن اتبع علمه حتى عرف مواقع الاستعمال عامة ، وعلم مأخذ الشبه أعطى كل ذي حق حقه ، وعلم أن خير الكلام كلام الله ، وأنه لا بيان أتم من بيانه " .

وكذلك لا بد من التفريق بين الكلام الذي اتصل به ما يقيده وبين الكلام العام المطلق .

فلو قال قائل : والله لا أسافر , وسكت سكوتاً طويلاً ثم وصله باستثناء ، أو عطف ، أو وصف ، أو غير ذلك ، لم يؤثر .

ولو قال : والله لا أسافر إلى المكان الفلاني لتقيدت يمينه بهذا القيد اتفاقاً .

قال ابن تيمية :

" والفرق بين القرينة اللفظية المتصلة باللفظ الدالة بالوضع , وبين الألفاظ المنفصلة معلوم يقيناً من لغة العرب والعجم .

ومع هذا فلا ريب عند أحد من العقلاء أن الكلام إنما يتم بآخره ، وأن دلالته إنما تستفاد بعد تمامه وكماله ، وأنه لا يجوز أن يكون أوله دالاً دون آخره ، سواء سمي أوله حقيقة أو مجازاً ، ولا أن يقال : إن أوله يعارض آخره فإن التعارض إنما يكون بين دليلين مستقلين .

والكلام المتصل كله دليل واحد ، فالمعارضة بين أبعاضه كالمعارضة بين أبعاض الأسماء المركبة " .  

وقال أيضاً : 

" إن الكلام متى اتصل به صفة أو شرط أو غير ذلك من الألفاظ التي تغير موجبه عند الإطلاق وجب العمل بها ، ولم يجز قطع ذلك الكلام عن تلك الصفات المتصلة به .

وهذا مما لا خلاف فيه أيضاً بين الفقهاء بل ولا بين العقلاء .

وعلى هذا تبنى جميع الأحكام المتعلقة بأقوال المكلفين من العبادات والمعاملات مثل الوقف والوصية والإقرار " .

ويعلل ابن تيمية هذا التفريق بأن التعارض فرع على استقلال الكلام بالدلالة  والاستقلال بالدلالة فرع على انقضاء الكلام وانفصاله ، أما مع اتصاله بما يغير حكمه فلا يجوز أن يجعل بعضه مخالفاً لبعض , لأن من شرط حمل اللفظة على عمومها أن تكون منفصلة عن صلة مخصصة .

فهي عامة عند الإطلاق وليست عامة على الإطلاق .

لذلك لزم من اعتبر الكلام صحيحاً قبل أن يتم أن يجعل أول كلمة التوحيد كفراً وأخرها إيماناً ، وأن المتكلم بها قد كفر ثم آمن .

الأمر الرابع : 

اعتبار مراد المتكلم ومقاصده ، وضم النظير إلى نظيره ، وهذا قدر زائد على مجرد فهم اللفظ .  

والناس يتفاوتون في ذلك بحسب مراتبهم في الفقه والعلم .

قال ابن القيم :

" والألفاظ لم تقصد لذواتها ، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم ، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه :

سواء كان بإشارة ، أو كتابة ، أو بإيماءة ، أو دلالة عقلية ، أو قرينة حالية ، أو عادة له مطردة لا يخل بها ، أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته ، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته .

وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه ، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه , فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ، ويكره هذا ، ويحب هذا ويبغض هذا .

وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه ، ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله ، وأنه لا يقول بكذا ، ولا يذهب إليه ، لما لا يوجد في كلامه صريحاً " .

وقد ذكر ابن القيم لذلك أمثلة , فمن ذلك قوله رحمه الله :

" وأنت إذا تأملت قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ } الواقعة : 77 - 79.

وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- , وأن هذا القرآن جاء من عند الله , وأن الذي جاء به روح مطهر ؛ فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل .

ووجدت الآية أخت قوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } الشعراء : 210، 211.

ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر , ووجدتها دالة أيضًا بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به وعمل به " .

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 8:01 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقه ج 2   زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Emptyالجمعة 20 فبراير 2015, 11:13 pm

النــــــص

ينقسم الكلام إلى : 

نص ، وظاهر ، ومجمل .  

وذلك أن اللفظ لا يخلو من أمرين : 

إما أن يدل على معنى واحد لا يحتمل غيره , فهذا هو " النص " .

وإما أن يحتمل غيره ، وهذا له حالتان :

الأولى : 

أن يكون أحد الاحتمالين أظهر , فهذا هو " الظاهر " .

والثانية : 

أن يتساوى الاحتمالان بألا يكون أحدهما أظهر من الآخر , فهذا هو " المجمل " .

ومعلوم أن المجمل محتاج إلى البيان ، كما أن الظاهر قد يرد عليه التأويل فيكون مؤولاً .

فهذه أمور خمسة : النص ، والظاهر ، والمؤول ، والمجمل ، والبيان .

و النص هو  :   

تعريفه : ما لا يحتمل إلا معنى واحداً ، أو : ما يفيد بنفسه من غير احتمال .

{ مثاله } :

قوله تعالى : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } البقرة : 196.

وقيل : 

ما دل على معناه ولم يحتمل غيره احتمالاً ناشئاً عن دليل .

وعلى هذا فالاحتمال الذي لا دليل عليه لا ينقض قوة الدلالة ، ولا يجعل اللفظ ظاهراً بل يبقى في مرتبة النص .

ويطلق النص في مقابل الدليل العقلي أو الدليل من المعنى فيكون المقصود به النقل ، سواء أكان نصاً صريحاً أم ظاهرًا أم مجملاً .

وهذا كما يقول الفقهاء دليلنا النص والقياس ، فإنهم لا يقصدون النص بمعناه المقابل للظاهر بل المقابل للقياس ونحوه .

حكمه :

أن يصار إليه ولا يعدل عنه إلا بنسخ .

الظاهــر والمــؤول

الظاهر

وهو في اللغة : 

خلاف الباطن ، وهو الواضح ، يقال : ظهر الأمر إذا انكشف .

وفي الاصطلاح :

 ما احتمل معنيين فأكثر ، هو في أحدهما أو أحدها أرجح ، أو ما تبادر منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره .  

وقيل :
ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر.

وهذا يدل على أن الظاهر صفة للفظ , لأن اللفظ هو الذي احتمل معنيين ، وقد يطلقون لفظ الظاهر على المعنى الراجح الذي دل عليه اللفظ مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحا ، فيقولون : هو الاحتمال الراجح .

{ مثاله } : 

دلالة الأمر على الوجوب مع احتمال الندب ، ودلالة النهي على التحريم مع احتمال الكراهة كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقوله : " لا تبع ما ليس عندك " .  

وأيضاً : " الأسد " فإنه ظاهر في الحيوان المفترس ، ويبعد أن يراد به الرجل الشجاع مع احتمال اللفظ له .

وهكذا كل حقيقة احتملت المجاز , ولم تقم قرينة قوية تدل على ذلك فهي ظاهرة في المعنى الحقيقي .

وقد يعرفون الظاهر بما كانت دلالته على المعنى دلالة ظنية لا قطعية , تفريقا بينه وبين النص ، وقد وقع للشافعي تسمية الظاهر نصا كما نقل ذلك الإمام الجويني وغيره .

المؤول :

والمؤول في اللغة : 

اسم مفعول من التأويل ، وفعله آل يؤول ، بمعنى : رجع  فيكون المؤول بمعنى المرجوع به ، والتأويل بمعنى الرجوع .

وفي الاصطلاح المؤول : 

هو اللفظ المحمول على الاحتمال المرجوح بدليل  سمي بذلك لأن المؤول يرجع معنى اللفظ إلى المعنى البعيد الذي لم يكن موضوعاً له لدليل يذكره .

أنواع التأويل :

لا يخلو التأويل من ثلاث حالات :  

1ـ التأويل الصحيح : 

وهو حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل قوي يقتضي ذلك .

{ مثاله } : 

تخصيص العام بدليل خاص ، مثل تخصيص قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } البقرة : 275, بالأحاديث الدالة على تحريم البيع على بيع أخيه ، والبيع مع النجش ، وبيع الحصاة ونحوه من بيوع الغرر.

فحينئذ نقول : 

هذه الآية مصروفة عن عمومها الذي كان هو المتبادر من اللفظ ، والصارف لها الأدلة السابقة .

{ ومثله } : 

تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم } النحل :98، على أن المراد : إذا أردت قراءة القرآن ، وليس المراد إذا فرغت من قراءته كما يفيده ظاهر اللفظ من حيث الوضع .

{ ومثله } : 

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ } المائدة : 6، فإنها مؤولة عن ظاهرها ، والمقصود : إذا أردتم القيام للصلاة , لأن الوضوء يسبق القيام للصلاة .

2ـ التأويل الفاسد : 

حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل ضعيف لا يقوى على صرف اللفظ عن ظاهره .

كتأويل حديث : 

" أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل " , بأن المراد بالمرأة : الصغيرة .

3ـ الثالث : 

أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل أصلاً ، وهذا يسمى لعباً ، كقول بعض الشيعة في قوله تعالى : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } البقرة : 67؛ قالوا : هي عائشة ـ رضي الله عنها ـ .

شروط التأويل الصحيح :

للتأويل الصحيح أربعة شروط :  

الشرط الأول : 

أن يكون اللفظ محتملاً للمعنى الذي تأوله المتأول في لغة العرب .

الشرط الثاني : 

إذا كان اللفظ محتملاً للمعنى الذي تأوله المتأول فيجب عليه إقامة الدليل على تعين ذلك المعنى ، لأن اللفظ قد تكون له معانٍ ، فتعين المعنى يحتاج إلى دليل .

الشرط الثالث : 

إثبات صحة الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره ، فإن دليل مدعي الحقيقة والظاهر قائم ، لا يجوز العدول عنه إلا بدليل صارف يكون أقوى منه .

الشرط الرابع : 

أن يسلم الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره عن معارض .

المجمــــل والبيـــــان

المجمـــــــــل

هو في اللغة : 

المبهم ، اسم مفعول من الإجمال بمعنى الإبهام أو الضم ، يقال : أجمل الأمر ، أي : أبهمه ، ويقال : أجملت الحساب إذا جمعته ، وجمل الشحم إذا أذابه وجمعه ، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- : " حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها  " .   

وفي الاصطلاح : 

ما احتمل معنيين أو أكثر من غير ترجح لواحد منهما أو منها على غيره .  

{ مثاله } : 

الألفاظ الشرعية التي تتوقف معرفة المراد منها على تفسير الشارع لها ، كلفظ " الصلاة والزكاة والصوم والحج " ، فإن الشرع أراد بها غير معناها اللغوي ، ومجرد الأمر بها من غير وقوف على بيان المراد منها إجمال ، فهي لا تدل على مراد الشرع بمجرد صيغتها ، ولا طريق للعلم بها إلا ببيان الشرع نفسه .

فلذا يقال : 

" الصلاة " لفظ مجمل في القرآن ، لم يفهم المراد به إلا ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- .

ومن ذلك لفظ " الحق " في قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } الأنعام 141، وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " , فهذا لفظ مجهول القدر أو مجهول الجنس ، فيحتاج إلى البيان .

حكمه :

المجمل لتعذر العلم بالمراد منه إلا عن طريق الشرع ، ولا مجال فيه للاجتهاد ، فالأصل فيه التوقف حتى يوجد تفسيره من جهة الكتاب والسنة ، فإن وجد مستوفى لا شبهة فيه انتقل من وصف " المجمل " إلى وصف " المفسر " ، وإن بينه الشرع بعض البيان , مع بقية خفاء كان من قسم : " المشكل " للاجتهاد فيه مجال .

واعلم أن كل ما يثبت به التكليف العملي ويتصل به الفقه فإنه يستحيل استمرار الإجمال فيه ، فلا بد أن تكون الشريعة بينته ، وإن كان قد تخفى معرفته على بعض أفراد العلماء ، فإن العلم بحقيقة المراد منه لا تخفى على جميع الأمة .

البيـــــــــــــان :

البيان في اللغة : 

الإيضاح والكشف , والمبيَّن : الموضح .

وفي الاصطلاح : 

يطلق البيان على الدليل الذي أوضح المقصود بالمجمل ، وهو " المبيِّن " .

ويطلق على الخطاب الواضح ابتداء ، ويطلق على فعل المبيِّن .

ويطلق المبيَّن ـ بالفتح ـ على الدليل المحتاج إلى بيان ، كالمجمل بعد ورود بيانه ، كما يطلق على الخطاب الذي ظهر معناه ابتداء ، ولهذا اختلفت عبارات الأصوليين في تعريفه .  

مراتب البيان :

يحصل البيان بقول من الله سبحانه أو من رسوله -صلى الله عليه وسلم- .

ويحصل بفعله -صلى الله عليه وسلم- وبكتابته ، وإشارته ، وإقراره ، وسكوته ، وتركه .

والبيان يحصل بأمور بعضها أقوى من بعض ، وهي :

1ـ القول :

وهو الكلام المسموع ، وقد حصل غالب البيان للشريعة بهذا الطريق ، فبينت أنصبة الزكاة ، والقدر الواجب فيها بالقول ، وبينت أكثر أحكام الصلاة والبيوع وسائر المعاملات بالقول .

2ـ الفعل :

وهو أن يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يبين مجمل القرآن أو مجمل سنة سابقة ، وذلك

كبيان صفة الصلاة وعدد ركعاتها ، وصفة الحج ؛ فإن أكثر ذلك إنما بين بالفعل مع قوله -صلى الله عليه وسلم- : "  خذوا عني مناسككم " , وقوله في الصلاة : " صلوا كما رأيتموني أصلي " .  

3 ـ الكتاب :

وهو أن يكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يبين بعض الفرائض ، والغالب أن لا يكون البيان بالكتابة إلا للبعيد عن المدينة ، وذلك مثل كتابه لأهل اليمن الذي فيه بيان زكاة بهيمة الأنعام ، والديات .

4 ـ الإشارة :

وذلك بأن يشير النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المراد ، بيده أو بغير ذلك ، ومثاله : قوله -صلى الله عليه وسلم- : " الشهر هكذا وهكذا وهكذا " ، وأشار مرة بأصابع يديه العشرة ثلاث مرات ، وأشار مرة أخرى بأصابع يديه العشرة مرتين وعقد في الثالثة أحد أصابعه ؛ إشارة إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوماً .

وكذلك إشارته بيده إلى وضع النصف من الدين في حديث كعب بن مالك وأبي حدرد حين تقاضى كعب دَينا له على أبي حدرد في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج إليهما فنادى : " يا كعب " قال : لبيك يا رسول الله ، فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دَينِك " .  

5 ـ التنبيه :

وذلك بالإيماء إلى المعنى الذي يعلق عليه الحكم حتى يكون علة له ، يوجد الحكم بوجودها .

{ مثاله } :  قوله -صلى الله عليه وسلم- : " أينقص الرطب إذا جف "   ,  فإن في ذلك إشارة إلى أن العلة في التحريم عدم تساوي الرطب والتمر , وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر " إنك لست ممن يجره خيلاء "   , فإن فيه تنبيها إلى أن العلة في تحريم الإسبال الخيلاء ، وإن كان بعض العلماء عمم التحريم عملاً بالظاهر وأعرض عن دلالة هذا التنبيه .

6 ـ الترك :

والمقصود به أن يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل الشيء مع قيام الداعي له ، كما ترك الوضوء مما مسته النار مع أنه كان يتوضأ من الأكل مما مسته النار , ففهم الصحابة من فعله نسخ الحكم السابق .

والترك إن كان مع وجود المقتضي الداعي للفعل دل على عدم المشروعية  فأما الترك المطلق فإنما يكون دليلا على عدم الوجوب لا غير .

 تأخير البيان :

تأخير البيان إما أن يكون تأخيراً عن وقت الحاجة ,  أو تأخيراً عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.

والمقصود بوقت الحاجة : 

الوقت الذي يحتاج فيه المكلف إلى البيان , ليتمكن من الامتثال , بحيث لو تأخر البيان عنه لم يتمكن من العمل الموافق لمراد الشارع .

والمقصود بوقت الخطاب : 

الوقت الذي يسمع فيه المكلف الخطاب ، سواء أكان قرآنا أم سنة .

ومذهب العلماء : 

أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ؛ لأن ذلك يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق وهو ممتنع شرعاً .

وقد نقل ابن قدامة الإجماع على ذلك فقال : 

" ولا خلاف في أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة " .  

أما تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فهو جائز وواقع عند الجمهور .

ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى :

{ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } القيامة : 18، 19، و" ثم " للتراخي ، فدلت على تراخي البيان عن وقت الخطاب .

وإذا علم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلا بد أن يفهم هذا على وجهه الصحيح ، إذ إن الحاجة قد تدعو إلى تعجيل بيان الواجبات والمحرمات من العقائد والأعمال ، وقد تدعو الحاجة إلى تأخير هذا البيان .  

ومن الأمثلة على مشروعية تأخير البيان لأجل الحاجة :

1- أن المبلغ لا يمكنه أن يخاطب الناس جميعاً ابتداء ، فعليه أن يبلغ من يستطيع تبليغه .

2- أن المبلغ لا يمكنه مخاطبة الناس بجميع الواجبات جملة ، بل يبلغ بحسب الطاقة والإمكان على سبيل التدريج ، فيبدأ بالأهم ويؤخر غيره , وكذلك إذا ضاق عليه الوقت .

وهذا التأخير في البيان لبعض الواجبات لا ينفي قيام الحاجة التي هي سبب وجوب البيان ، بل الحاجة قائمة إلا أن حصول الوجوب والعقاب على الترك ممتنع لوجود المزاحم الموجب للعجز .

وهذا كالدين على المعسر ، أو كالجمعة على المعذور .

3- أن يكون في الإمهال وتأخير البيان من المصلحة ما ليس في المبادرة , إذ البيان إنما يجب على الوجه الذي يحصل به المقصود .

فيكون تأخير البيان هو البيان المأمور به ، ويكون هو الواجب أو المستحب  مثل : تأخير النبي -صلى الله عليه وسلم- البيان للأعرابي المسيء صلاته إلى المرة الثالثة .

وإنما يجب التعجيل إذا خيف الفوت بأن يترك الواجب المؤقت حتى يخرج عن وقته ونحو ذلك .

{ فوائد } :   

أ- كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام , لأنه كتمان وتدليس ، ويدخل في هذا : الإقرار بالحق ، والشهادة ، و الفتيا ، والحديث ، والقضاء .

ب- وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب إذا أمكن ووجب الخطاب .

جـ - وإن جاز بيانه وكتمانه : فحيث كانت المصلحة في كتمانه فالتعريض فيه مستحب ، وحيث كانت المصلحة في إظهاره وبيانه فالتعريض مكروه والإظهار مستحب .

وإن تساوت المصلحة في كتمانه وإظهاره جاز التعريض والتصريح .

الأمـــر والنهـــي :

الأمــــر

تعريف الأمر :

يمكن تعريفه بأنه : " استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء" .  

وهذا التعريف يشمل الأمور الآتية :   

أ- أن الأمر من قبيل الطلب إذ هو استدعاء ، ومعلوم أن الكلام إما طلب وإما خبر .

ب- أن الأمر طلب الفعل ، وذلك بخلاف النهي فهو طلب الكف .

جـ - المراد بالأمر القول حقيقة ، فيخرج بذلك الإشارة .

د- أن يكون الطلب على جهة الاستعلاء ، أي : يعرف من سياق الكلام أو من طريقة التكلم به أن الآمر يستعلي على المأمور ، سواء أكان أعلى منه رتبة أم أدنى منه في واقع الأمر .

وبناء على هذا التعريف فإن العبد لو قال لسيده : 

افعل كذا ، بنبرة توحي بأنه يستعلي عليه ، سمي كلامه هذا أمراً ، واستحق التأديب عليه لأنه يأمر سيده .

وأما إن قال : 

افعل كذا ، على جهة التوسل والسؤال فلا يسمى أمراً ، مع أن اللفظ واحد .

وقد اتفق الأصوليون على القيد الأول ، وهو أن الأمر طلب فعل لا طلب ترك ، واختلفوا في القيدين الأخيرين .

فالقيد الثاني خالف فيه جماعة من الأصوليين وقالوا : إن الأمر قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل كالإشارة والكتابة ، والجمهور قالوا : لا يسمى الفعل أمراً إلا على سبيل المجاز المفتقر إلى القرينة .

ولهذا فإن أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- المجردة لا تكون بمثابة الأمر إلا إذا دل الدليل على وجوب متابعته فيها .

وأما القيد الثالث فقد اختلفوا فيه ، فمنهم من اشترط في مسمى الأمر الاستعلاء ، وقد تقدم تفسيره .

ومنهم من اشترط العلو ، وهو أن يكون الكلام صادراً ممن هو أعلى رتبة من المأمور في واقع الأمر .

ومنهم من اشترط الأمرين معا " العلو والاستعلاء " .

ومنهم من لم يشترط أياً منهما .

والصواب : 

أن الأمر الذي يصلح مصدراً للتشريع , لا يكون إلا ممن هو أعلى رتبة ، أي : من الله عز وجل أو من رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، ولذا فاشتراط العلو هو الأقرب .

والفرق بين الاستعلاء والعلو : 

أن الاستعلاء صفة في الأمر نفسه ، أي : في نبرة الصوت ، أو في طريقة إلقائه ، أو في القرائن المصاحبة .

وأما العلو فهو صفة في الآمر أي : أن الآمر أعلى رتبة من المأمور في واقع الأمر .

صيغة الأمر :

الألفاظ المستعملة في " الأمر"  تعود إلى أربعة مخصوصة ، هي :  

1ـ لفظ " افعل " :

كقوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } النحل : 125، وقوله  للمسيء صلاته " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ، وافعل ذلك في صلاتك كلها " .  

2ـ الفعل المضارع المقترن بلام الأمر :

كقوله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } الطلاق : 7، وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم مَن يخالل " .  

3ـ اسم فعل الأمر :

كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } المائدة : 105، وقوله -صلى الله عليه وسلم- " مه يا عائشة ، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش "    , قال ذلك حين أتاه ناس من اليهود فقالوا : السام عليكم ، فسبتهم عائشة ، فأمرها بالكف عن ذلك .

4ـ المصدر النائب عن فعل الأمر :

كقوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } محمد : 4، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " لن يُنجي أحدا منكم عمله " قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة ، فسددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة ، والقصد تبلغوا " .  

دلاله الأمر :

تدل صيغة الأمر في خطاب الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مجردة من القرائن على حقيقة واحدة هي الوجوب .

هذا مذهب عامة أئمة الفقه والعلم ممن يقتدي بهم كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.  

وخالف الفرد والأفراد من المتأخرين في ذلك فذكروا أنها لغير الوجوب ، قال بعضهم : للندب ، وقال بعضهم : للإباحة ، وقال بعضهم غير ذلك .

والقول لا عبر به إن لم يصححه الدليل ، ولقد تواترت الأدلة وظهرت وجوه دلالاتها على المذهب الأول ، وهو الوجوب ، فمنها :

1ـ قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } الأحزاب : 36 .

قال أبو عبد الله القرطبي :

" وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور , من أن صيغة " افعل " للوجوب في أصل وضعها ، لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلف عند سماع أمره وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية ، ثم علق على المعصية بذلك الضلال ، فلزم حمل الأمر على الوجوب " .  

2ـ قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } النور : 63.

وجه الدلالة من الآية : أن الله تعالى حذر من مخالفة أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن تصيب المخالف فتنة أو عذاب أليم ، وهذا لا يمكن فيما للإنسان فيه اختيار ، فدلت على أن الأمر للوجوب في أصل وروده حتى يرد التخيير فيه من الآمر .

3ـ إطلاق مسمى " المعصية " على ترك " الأمر " في نصوص الوحي، فمن أدلة ذلك :

أ ـ قوله تعالى عن الملائكة : { لا يعصون الله ما أمرهم } التحريم : 6.

ب ـ قوله تعالى عن موسى في قصته مع الخضر : { ولا أعصي لك أمرا } الكهف : 69.

ج ـ قوله تعالى عن موسى : { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمري } طه : 92ـ 93 .

والمعصية موجبة للعقوبة ، كما قال تعالى في معصيته ومعصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : { ومَن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدًا } الجن  23.

4ـ قوله تعالى عن إبليس حين أبى أن يسجد لآدم : { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } الأعراف : 12، وإنما كان أمره تعالى بالسجود بقوله : { اسجدوا } البقرة :34 مفيدة بنفسها وجوب الامتثال لم يكن هناك وجه للإنكار على إبليس في تركه السجود ، فإن قيل : إنما حمل إبليس على تركها الكبر ، فجوابه أن هذا لا علاقة له بالصيغة ، وإنما أبدى عنه إبليس بعد إنكار الله تعالى عليه عدم السجود ، وقد استحق بالكبر المقترن بترك الأمر أن يُحرم الجنة ويُخلد في النار ، وهذا لا يكون على مجرد ترك امتثال الأمر مع اعتقاد المعصية بذلك الترك ، فاشترك كل تارك لامتثال الأمر من الله تعالى أو نبيه -صلى الله عليه وسلم- مع إبليس في كونه عصى بترك امتثال الأمر ، وقد يشترك مع إبليس في العاقبة إذا اقترن الإباء بالكبر ، وإنما يكون أمره تحت المشيئة الربانية إذا اعتقد أنه عاص إلا أن يتوب .

5 ـ ومن هذا يقال : " طاعة الأمير " و " معصية الأمير " ، والأمير إنما سمي بذلك لأنه يقول للناس : " افعلوا واعملوا واسمعوا " ونحو ذلك ، وعلى الناس السمع والطاعة ، لا يقولون له : أمرك على الندب أو الإباحة ونحن في خيرة من فعله وتركه حتى يقترن بأمرك الوعيد والتهديد ، فمن يجرؤ على أن يقول ذلك لحاكم أو سلطان ؟ ومن يجرؤ على التردد فيه ؟ فعجباً أن يدرك هذا المعنى في حق الخلق ولا يدرك في أمر رب الخلق تبارك وتعالى الذي بيده سلطان الأمر والنهي كله !

قاعدة الأمر :

" الأمر للوجوب حتى يصرف عنه بقرينة " .

ومعنى القاعدة واضح مما تقدم من بيان  " دلالة الأمر " .

{ مثال القاعدة } :

1ـ قوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } الأعراف : 204، فإن الأمر على أصل دلالته للوجوب ، فلذلك سقط به وجوب قراءة الفاتحة وراء الإمام عند جمهور العلماء.

2ـ قوله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين " ، فهذا أمر مصروف عن الوجوب إلى الندب في قول جمهور العلماء ، والقرينة الصارفة له عن الوجوب هي ما تواترت به النصوص من كون الصلوات المفروضات خمساً في اليوم والليلة ، وما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من عد جميع ما يزيده المسلم عليها تطوعاً .

واعلم أن القرينة مما يختلف في تقديره العلماء وجرى منهاجهم على اعتبار القرينة صارفة لدلالة اللفظ عما استعملت فيه في الأصل إلى المعنى الذي دلت عليه ، وهي قد تكون صريحة بينة كما في المثال المذكور ، وقد تكون خفية لا تبدوا إلا بالبحث والتأمل ، كما أنها قد تستفاد من نفس النص ، أو من دليل خارجي ، ولا يلزم أن تكون نصاً من الكتاب والسنة ، إنما يجوز أن تكون كذلك ، ويجوز أن تستند إلى قواعد الشرع ومقاصده ، ويجري فيها ما يجري على الدليل القائم بنفسه من جهة الثبوت والدلالة ، وهذا معنى يغفل عنه كثيرون فلا يدركون من المقصود بالقرينة إلا بالقرينة اللفظية الصريحة .

( مسائل ) :

1 ـ  دلالة الأمر على الفور :

اختلف العلماء في الأمر المجرد عن القرائن ، هل يدل على الفور وسرعة المبادرة والامتثال ، أو على التراخي ؟

وكونه دالاً على الفور اختيار ابن قدامة وابن القيم وابن النجار الفتوحي والشنقيطي .  

ومن الأدلة على ذلك ما يأتي :  

أولاً : أن ظواهر النصوص تدل عليه ، كقوله تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } آل عمران : 133، { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } البقرة: 148 .

ثانياً : أن وضع اللغة يدل على ذلك , فإن السيد لو أمر عبده فلم يمتثل فعاقبه لم يكن له أن يعتذر بأن الأمر للتراخي .

ثالثاً : أن السلامة من الخطر والقطع ببراءة الذمة إنما يكون بالمبادرة ، وذلك أحوط وأقرب لتحقيق مقتضى الأمر وهو الوجوب .

2ـ دلالة الأمر على التكرار :

اختلف العلماء في الأمر المجرد غير المقيد بالمرة ولا بالتكرار ولا بصفة ولا بشرط ، هل يقتضي التكرار أو المرة ؟  

أ ـ الأمر بمرة واحدة ، لأن امتثال الأمر لا بد فيه من المرة فوجوبها مقطوع به  وأما الزيادة على المرة فلا دليل عليها ، ولفظ الأمر لم يتعرض لها , ولدلالة اللغة على ذلك فلو قال السيد لعبده : اشترِ متاعاً ، لم يلزمه ذلك إلا مرة واحدة.

ب – وقيل : إن الأمر المطلق للتكرار , وهذا ما اختاره ابن القيم ، واستدل لذلك بأن عامة أوامر الشرع على التكرار .

مثل قوله تعالى : { آمِنُوا بالله وَرَسُولِهِ } النساء : 136، { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } البقرة : 208، { وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } التغابن : 12، { وَاتَّقُوا اللهَ } الحشر : 18، وفي مواضع أخرى ، { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } المزمل : 20.

ثم قال : " وذلك في القرآن أكثر من أن يحصر ، وإذا كانت أوامر الله ورسوله على التكرار حيث وردت إلا في النادر علم أن هذا عرف خطاب الله ورسوله الأمة , وإن لم يكن في لفظه المجرد ما يؤذن بتكرار ولا قول ، فلا ريب أنه في عرف خطاب الشارع للتكرار فلا يحمل كلامه إلا على عرفه والمألوف من خطابه ، وإن لم يكن ذلك مفهوماً من أصل الوضع في اللغة " .  

3ـ الأمر بعد الحظر :

إذا وردت صيغة الأمر بعد النهي فإنها تفيد ما كانت تفيده قبل النهي :

فإن كانت تفيد الإباحة أفادت الإباحة ، وكذا الوجوب والاستحباب .

وهذا المذهب هو المعروف عن السلف والأئمة .  

والذي يدل على ذلك هو الاستقراء ، فمن ذلك:

أ- قتل الصيد كان مباحاً ثم مُنع للإحرام ثم أمر به عند الإحلال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } المائدة : 2, فرجع لما كان عليه قبل التحريم وهو الإباحة.

ب- قتل المشركين كان واجباً ثم منع لأجل دخول الأشهر الحرم ، ثم أمر به

عند انسلاخها في قوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } التوبة : 5 , فرجع إلى ما كان عليه قبل المنع وهو الوجوب .

وهذا المذهب ينتظم جميع الأدلة ولا يرد عليه دليل .

قال ابن كثير عند قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } المائدة : 2 : " وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت على السير أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي , فإن كان واجباً رده واجباً ، وإن كان مستحباً فمستحب  أو مباحاً فمباح , ومن قال إنه على الوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة ، ومن قال إنه للإباحة يرد عليه آيات أخرى , والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما اختاره بعض علماء الأصول , والله أعلم " . 

4ـ هل يستلزم الأمر الإرادة ؟

التحقيق في هذه المسألة التفصيل , وذلك أن الإرادة نوعان :  

1- إرادة قدرية كونية فهذه هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات ، كقوله تعالى { إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } الحج: 14, وهي لا تستلزم محبة الله ورضاه .

2- إرادة دينية شرعية فهذه متضمنة لمحبة الله ورضاه ، كقوله تعالى: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } النساء : 27, ولكنها قد تقع وقد لا تقع .

فأوامر الله سبحانه وتعالى تستلزم الإرادة الشرعية ,  لكنها لا تستلزم الإرادة الكونية ؛ فقد يأمر سبحانه بأمر يريده شرعاً وهو يعلم سبحانه أنه لا يريد وقوعه كوناً وقدراً .

والحكمة من ذلك : 

ابتلاء الخلق وتمييز المطيع من غير المطيع .

5ـ الأمر بالشيء هل يستلزم النهي عن ضده ؟ :

لا شك أن الأمر بالشيء ليس هو النهي عن ضده من حيث اللفظ ، إذ لفظ الأمر غير لفظ النهي .

أما من حيث المعنى فإن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ، فإن قولك : اسكن ، مثلاً يستلزم النهي عن الحركة , لأنه لا يمكن وجود السكون مع التلبس بضده وهو الحركة ، لاستحالة اجتماع الضدين ، فالأمر بالشيء أمر بلوازمه وذلك ثابت بطريق اللزوم العقلي لا بطريق قصد الأمر .

ذلك أن الآمر بالفعل قد لا يقصد طلب لوازمه وإن كان عالماً بأنه لا بد من وجودها مع فعل المأمور .  

6ـ الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً به :

وذلك كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين " , فهذا ليس خطابًا من الشارع للصبي ولا إيجابًا عليه، مع أن الأمر واجب على الولي .

وقد يدل دليل على أن الأمر بالأمر بالشيء أمر به فيكون ذلك أمرا به بلا خلاف , وذلك كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " مره فليراجعها " , فإن لام الأمر في قوله : " فليراجعها " ، صدرت منه -صلى الله عليه وسلم- متوجهة إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- فيكون مأمورًا بلا خلاف . 

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 8:02 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقه ج 2   زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Emptyالأحد 22 فبراير 2015, 6:44 am

النهــــي

تعريفه :

النهي في اللغة : 

المنع ، ومنه سمي العقل نُهية ، وجمعه : نُهى , لأن العقل يمنع صاحبه من الخطأ غالباً ، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: " ليلني منكم أولو الأحلام والنّهي " .  

ومنه سمي الغدير : نِهياً , لأن الماء يجتمع فيه ، فيمنعه من الجريان حتى يمتليء .

وفي الاصطلاح : 

هو طلب الترك بالقول ممن هو أعلى , أو هو : القول الطالب للترك على سبيل الاستعلاء .

والمعنى : 

أن النهي هو القول الذي يدل على طلب الترك ، ولا بد أن يكون ممن هو أعلى رتبة , لأنه لو لم يكن كذلك لكان سؤالاً أو التماساً ، فإن كان من الأدنى إلى من فوقه فهو سؤال ، كقولنا في الدعاء : ربنا لا تؤاخذنا ، وإن كان من الند للند سمي التماساً ، كقولك لصديقك : لا تفعل كذا .

وقد اختلفوا في زيادة قيد العلو أو الاستعلاء كما سبق في الأمر ، وحيث إن كلام الأصوليين والفقهاء في نواهي الشرع فينبغي أن يقيد النهي بما كان طلب الترك فيه صادراً من الأعلى إلى من دونه , لأن هذا حال النواهي الشرعية .

قال ابن قدامة :

" اعلم أن ما ذكرناه من الأوامر , تتضح به أحكام النواهي ، إذ لكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي على العكس , فلا حاجة إلى التكرار , إلا في اليسير " .  

صيغة النهي :

للنهي صيغة واحدة متفق على كونها تفيد النهي ، وهي صيغة : " لا تفعل " كقوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون } الأنعام :151.

وخالف بعض الأشعرية في إفادة هذه الصيغة للنهي ، وزعم أنها مترددة بين عدة معان ، فلا تحمل على أحدها إلا بقرينة , وعامة الأصوليين من الأشعرية وغيرهم يقرون بأن صيغة " لا تفعل " تفيد النهي عن الفعل ، وإن كان بعضهم قد يخالف في إفادتها التحريم .

وزاد بعضهم صيغتي : 

" انته " و " اكفف " ، ونحوهما من الأوامر الدالة على الترك .  

وهناك أساليب كثيرة يعرف بها تحريم الفعل .

ومنها على سبيل المثال لا الحصر :

1ـ لعن الله أو رسوله للفاعل ، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- : " لُعِنَ الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " , فهذا دليل على النهي عن اتخاذ القبور مساجد , وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لعن اللهُ النامصة والمتنمصة " .  

2ـ الخبر ، مثل قوله تعالى : { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } الممتحنة : 9 .

3ـ توعد الفاعل بالعقاب كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } الفرقان :68 .

4ـ إيجاب الحد على الفاعل ، مثل قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِين } النور : 2.

5 ـ وصف العمل بأنه من صفات المنافقين أو من صفات الكفار نحو قوله تعالى عن المنافقين : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } النساء : 142 .

دلالته :

تدل صيغة " النهي " الواردة في خطاب الشارع للمكلفين على حقيقة واحدة هي التحريم ، ولا يصار إلى سواها إلا بقرينة .

هذا مذهب عامة العلماء المقتدى بهم في الدين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم  وفيهم الأئمة الأربعة الفقهاء .

قاعدته :

" النهي للتحريم حتى يصرف عنه بقرينة " .

دليل القاعدة :

1ـ قوله تعالى :

{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } الحشر 7 .

وجه الدلالة : 

أن الله تعالى أمر بالانتهاء عما نهى عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتقدم أن الأمر للوجوب حقيقة واحدة ، فدل أن ترك المنهي عنه على سبيل الحتم والإلزام بالترك .

حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- : عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : " دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك مَن كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " .  

وجه الدلالة : 

أن ترك المنهي عنه لم يعلق باستطاعة كما علق بها فعل المأمور ، لأن الشأن في الترك والاجتناب أيسر في التكليف من تكلف الفعل ، والأمر للوجوب ، والأمر بالترك بصيغة الاجتناب أبلغ من مجرد النهي عنه ، مما دل على تغليظ شأن المنهي عنه ، وهذا لا يكون في المكروه الذي غايته أن فعله ترك للأولى ، لا فعلاً للحرام .

4ـ فاعل المنهي عنه لا يختلف أهل اللسان أنه عاص بمجرد فعله ذلك ، فإن الأمير لو قال لرعيته : " لا تفعلوا كذا"  فواقعه أحد منهم وصف بالمخالفة واستحق العقوبة ، وإذا تصور هذا في حق نهي المخلوق ، فهو أبين في حق نواهي الله عز وجل في كتابه وعلى لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- .

{ مثال } : لصرف النهي عن حقيقته التي هي التحريم بقرينة :

عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال : سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في مبارك الإبل ؟ فقال : " لا تصلوا في مبارك الإبل ، فإنها من الشياطين " ، وسُئل عن الصلاة في مرابض الغنم ؟ فقال : " صلوا فيها فإنها بركة  " .

فهذا النهي ليس على سبيل التحريم .

والقرينة الصارفة له عن ذلك من وجهين :

1 ـ الأمر بالصلاة في مبارك الغنم على سبيل الندب من جهة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حث عليها للبركة فيها ، وطلب البركة مندوب إليه ليس بواجب ، ولذا لم يعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذ من مبارك الغنم موضعاً لصلاته ، فلما خرج النهي عن الصلاة في مبارك الإبل نفس مخرج الأمر دل على أن قدره في الحكم على المقابلة لقدر الصلاة في مبارك الغنم ، فلما كان هناك الندب فيقابله الكراهة .

2ـ قوله -صلى الله عليه وسلم- : " وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا " , فجعل جميع الأرض صالحة للصلاة ، وجاء الاستثناء من هذا العموم في دليل آخر وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- : " الأرض كلها مسجد إلا الحمَّام والمقبرة " , وليس في الاستثناء مبارك الإبل ، فدل على أن النهي عن الصلاة فيها ليس على التحريم ، إنما هو على الكراهة .

النهي يقتضي الفساد :

وهذا ما عليه سلف الأمة ، لا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات والعقود ، ولا بين ما نُهي عنه لذاته أو لغيره ، إذ كل نهيٍ للفساد ، وهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين .  

ومن الأدلة على ذلك :

أولاً : قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " , يعني : مردود كأنه لم يوجد .

ثانياً : أن الصحابة استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها ، وهذا أمر مشتهر بينهم من غير نكير فكان إجماعاً .

ثالثاً: أن المنهي عنه مفسدته راجحة ، وإن كان فيه مصلحة فمصلحته مرجوحة بمفسدته ، فما نَهَى اللهُ عنه وحرَّمهُ إنما أراد منع وقوع الفساد ودفعه لأن الله إنما ينهى عما لا يحبه ، والله لا يحب الفساد ، فعُلم أن المنهي عنه فاسد ليس بصالح .  

ويمكن تفصيل قاعدة " النهي يقتضي الفساد " ببيان أقسام المنهي عنه .

وذلك على النحو الآتي :

ينقسم المنهي عنه أولاً إلى ما نُهي عنه لأجل حق الله ، وإلى ما نُهي عنه لأجل حق الآدمي .

فالأول : 

كنكاح المحرمات ، وبيع الربا .

والثاني : 

كتحريم الخطبة على الخطبة ، وبيع النجش ، والكل فاسد ، إلا أن القسم الثاني موقوف على إذن المظلوم , لأن النهي هنا لحق الآدمي ، فلم يجعله الشارع صحيحاً لازماً كالحلال ، بل أثبت حق المظلوم وسلطه على الخيار ، فإن شاء أمضى وإن شاء فسخ .

وينقسم ثانيا إلى عبادات ومعاملات ، والكل يقتضي الفساد ، إلا ما كان من المعاملات من قبيل حق الآدمي فهذا موقوف على إجازة صاحب الحق كما تقدم .

وينقسم ثالثاً :

إلى ما نُهي عنه لذاته ، لكونه يشتمل على مفسدة ، بمعنى أنه محرم على أي صورة وقع ، ولا يمكن أن يكون حلالاً ، وذلك كتحريم الخمر والربا .

وإلى ما نُهي عنه لسد الذريعة ، فهو إن جرد عن الذريعة لم يكن فيه مفسدة .

بمعنى أنه محرم على صورة معينة وصفة خاصة ، لكن أصل الفعل حلال ، وذلك كالنهي عن الصلاة في أوقات النهي ، والصوم يوم العيد .  

ويمكن أن نقول : 

إن النهي ينقسم إلى ما له جهة واحدة ، وإلى ما له جهتان هو من إحداهما مأمور به ومن الأخرى منهي عنه ، ومعلوم أن القسم الأول لا خلاف في اقتضائه للفساد .

والخلاف في القسم الثاني إنما وقع في انفكاك الجهة :

فمن رأى أن الجهة منفكة بمعنى أن الفعل من حيث كونه مأموراً به قربةٌ ، ومن حيث كونه منهيا عنه معصية ، قال : إن النهي لا يقتضي الفساد ، ومن رأى أن الجهة واحدة ليست منفكة بمعنى أن الفعل يقع محرماً ولا يمكن أن يقع قربة ، قال : إن النهي يقتضي الفساد والكل متفق على أن المنهي عنه إن كانت جهته واحدة اقتضى الفساد .

{ تنبيه } : 

كون النهي يقتضي الفساد مشروط بأن يتجرد النهي عن القرائن ، أما مع وجود القرائن فيختلف الحال , إذ يقتضي النهي ههنا ما دلت عليه القرينة ، لذا فإن النهي إذا تجرد عن القرائن أفاد التحريم والفساد معا في آن واحد .

العـــام والخـــاص

العـــــــــــــام :

تعريفه :

العام لغة : 

الشامل .  

وفي اصطلاح الأصوليين يمكن تعريفه بأنه : 

" ما يستغرق جميع ما يصلح له ، بحسب وضع واحد , دفعة ، بلا حصر " .  

معنى التعريف : 

لفظ " العام " مثل لفظ " الناس " مستعمل في لسان العرب ليشمل كل من يندرج تحت هذا اللفظ من بني الإنسان ، فلا يخرج عنه إنسان ، وهو لفظ واحد دل بمجرده على الاستيعاب والإحاطة .

قوله : " المستغرق " ، من الاستغراق وهو التناول مع الاستيعاب ، يقال : استغرق العمل ليلة ، أي : استوعبها كلها .

وفي هذا التعريف النقاط الآتية :

أ- أن العام لا بد فيه من الاستغراق ، أما ما لا استغراق فيه فلا يدخل تحت العام ، كلفظ الرجل إذا أريد به معين فإنه لم يستغرق ما يصلح له , إذ لفظ الرجل يصلح للدلالة على جميع الرجال .  

ب- أن الاستغراق في العام شامل لجميع أفراده في آن واحد ، وهذا هو المراد من تقييد العام في التعريف بـ " دفعة " ليخرج بذلك المطلق إذ إن استغراق المطلق بدلي - على سبيل التناوب - لا دفعة واحدة .

جـ - أن الاستغراق في العام لا حد ولا حصر له ، وبذلك تخرج أسماء الأعداد فإنها محصورة وهذا معنى القيد الوارد في تعريف العام " بلا حصر " .

د- أن الاستغراق في العام يتعلق بشيء واحد ، فنجد العام يستغرق شيئاً واحداً ، أما المشترك الموضوع لاستغراق عدة أشياء فليس من العام ، ولهذا قيد العام بأنه " بحسب وضع واحد " .  

صيغه العام :

يعرف " العموم " بألفاظ مخصوصة ، أهمها :

1ـ لفظ ( كل ) و ( جميع ) و( كافة ) و ( عامة ) وما في معناها :

كقوله تعالى : { كل نفس ذائقة الموت } آل عمران : 185، وقوله: { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } الأعراف : 158، وقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } التوبة : 36، وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .  

2ـ الجمع المعرف بـ ( أل ) الاستغراقية :

كقوله تعالى : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } البقرة : 222، وقوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } البقرة : 228 .

ومثله لفظ الجنس الجمعي الذي لا واحد له من لفظه مثل " الناس ، الإبل " .

3ـ الجمع المعرف بالإضافة :

كقوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } النساء : 23، وقوله : { خذ من أموالهم صدقة } التوبة : 103.

4ـ المفرد المعرف بـ (أل) الاستغراقية:

كقوله تعالى : { إن الإنسان لفي خسر } العصر : 2، وقوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا } البقرة : 275، وقوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } المائدة : 38.

أما المفرد المعرف بـ (أل) العهدية ، كقوله تعالى : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً * فعصى فرعون الرسول } المزمل : 15ـ 16، فالرسول هنا معهود حيث تقدم قبله بقوله { رسولاً } والمقصود به موسى -صلى الله عليه وسلم-، فليس هذا للعموم .

وكذلك المفرد المعرف بـ (أل) الجنسية ، كقوله تعالى : { وليس الذكر كالأنثى } آل عمران : 36، فالمقصود جنس الذكر وجنس الأنثى ، لكل ذكر وكل أنثى .

5ـ المفرد المعرف بالإضافة :

كقوله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } إبراهيم : 34، وقوله -صلى الله عليه وسلم- " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " .  

6ـ الأسماء الموصولة :

كقوله تعالى : { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } الأحزاب : 58 ، وقوله : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } الطلاق : 4، وقوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } النساء : 22 .

7ـ أسماء الشرط مثل ( من ، ما ، أين ، أي ) :

كقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } البقرة : 185، وقوله : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } البقرة : 197، وقوله : { أينما تكونوا يدرككم الموت } النساء : 78 ، وقوله  : { أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } الإسراء : 110.

8 ـ أسماء الاستفهام (من ، ما ، أين ، متى ، أي) :

كقوله تعالى : { مَن ذا الذي يُقرض اللهَ قرضًا حسنًا } البقرة : 245، وقوله : { أيكم يأتيني بعرشها } النمل : 38 .

9ـ النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الامتنان :

ككلمة التوحيد : " لا إله إلا الله " ، وقوله تعالى : { وما كان معه من إله } المؤمنون : 91، وقوله : { لا يعزب عنه مثقال ذرة } سبأ : 3، وقوله : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا } التوبة : 84، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا صلاة لمَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " ، وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا ضرر ولا ضرار " , وقوله تعالى : { وإن أحدٌ من المشركين استجارك } التوبة : 6، وقوله : { وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا } الفرقان : 48 .

10ـ ضمير الجمع :

كالواو في قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } البقرة : 110 .

دلالة العام :

" العام " من حيث دلالته ينقسم إلى أنواع ثلاثة هي :

1ـ عام دلالته على العموم قطعية :

وذلك بمجرد صيغة العموم، وإنما بقيام الدليل على انتفاء احتمال التخصيص مثل قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } هود : 6 .

2ـ عام يراد به الخصوص قطعاً :

وذلك بقيام الدليل على أن المراد بهذا العام بعض أفراده , كقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } آل عمران : 97 ، وكخروج غير المكلفين كالصبيان والمجانين من عموم صيغة الخطاب الشاملة لهم في الأصل كلفظ " الناس " .

3ـ عام مخصوص :

وهو العام الذي يقبل التخصيص ، وذلك حين لا تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه ، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم ، وهو أكثر العمومات في نصوص الكتاب والسنة .

والأصل أن كل لفظ من ألفاظ " العموم " مستعمل في لسان العرب للاستغراق والشمول ، وهذه حقيقة متبادرة بمجرد استعمال اللفظ ، ولم يخرج الاستعمال الشرعي عن هذه الحقيقة إلا بدليل يرد بالتخصيص لتلك الألفاظ يبين أنه لم يرد بها الاستغراق .

دلالة العام بين القطع والظن :

اتفق العلماء على أن دلالة العام قطعية على أصل المعنى .

واختلفوا في دلالته على أفراده على قولين :

القول الأول : 

أن دلالة العام على أفراده ظنية ظاهرة .

القول الثاني : 

أن دلالة العام على أفراده قطعية .

وسواء قيل بقطعية العام أو ظنيته في الدلالة على أفراده ، فإن الأمر لا يختلف إذا حصل الاتفاق على القواعد الآتية :  

القاعدة الأولى : 

وجوب حمل الألفاظ العامة وإجرائها على العموم ، واعتقاد عمومها في الحال من غير بحث عن مخصص .

قال الشنقيطي :

" حاصله : أن التحقيق ومذهب الجمهور وجوب اعتقاد العموم والعمل به من غير توقف على البحث عن المخصص , لأن اللفظ موضوع للعموم فيجب العمل بمقتضاه ، فإن اطلع على مخصص عمل به " .  

القاعدة الثانية : 

وجوب العمل بدليل التخصيص إذا ظهر ، والواجب في هذه الحالة إهدار دلالة العام على صورة التخصيص .  

القاعدة الثالثة : 

شرط العمل بدليل التخصيص أن يكون هذا الدليل صحيحا، ولا يشترط فيه أن يكون مساويا أو أقوى رتبة من العام , إذ التخصيص بيان ، والبيان يجوز أن يكون أضعف رتبة من المبين فيجوز تخصيص الكتاب بالسنة والمتواتر بالآحاد .  

القاعدة الرابعة : 

وجوب العمل باللفظ العام - بعد التخصيص - فيما بقي منه والاحتجاج به فيما عدا صورة التخصيص , إذ لا فرق بين العام قبل التخصيص وبعده من حيث وجوب العمل .

الخــــــــــــاص

تعريفه :

الخاص لغة : 

الإفراد والتمييز ، يقال : خصه بكذا ، أي : ميزه عن غيره .

وفي الاصطلاح : 

بيان أن المراد بالعام بعض أفراده .

وقيل : 

قصر العام على بعض أفراده ، بدليل يدل على ذلك " .  

حكمه :

الإجماع منعقد على جواز تخصيص العموم من حيث الجملة .

قال ابن قدامة :

" لا نعلم اختلافاً في جواز تخصيص العموم " .   

شرطه :

القاعدة العامة في التخصيص : 

" أنه لا يصح إلا بدليل صحيح " .  

قال الشيخ الشنقيطي :

" وقد تقرر في الأصول أنه لا يمكن تخصيص العام إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، سواء كان من المخصصات المتصلة أو المنفصلة " . 

أثره :

يجب العمل بالدليل المخصص ـ إذا صح ـ في صورة التخصيص وإهدار دلالة العام عليها ، ولا يجوز ـ والحالة كذلك ـ حمل اللفظ العام وإبقاؤه على عمومه , بل تبقى دلالة العام قاصرة على ما عدا صورة التخصيص .  

المخصصات :

مخصصات العموم عند الجمهور قسمان : 

" متصلة ، ومنفصلة " .  

المخصصات المتصلة :

وهي تشمل الآتي :

1ـ الاستثناء :

وهو إخراج بعض الجملة عنها بصيغ خاصة .

وأهم صيغه : 

إلا ، وسوى ، وغير ، وخلا ، وعدا ، وحاشا ، ولكن .

{ مثاله } : 

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } الفرقان : 68-70 .

فلفظ : 

{ من يفعل ذلك } عام , لأن { من } الشرطية من صيغ العموم .

وقوله : 

{ إلا من تاب } أخرج من عموم الآية التائبين .

2 ـ الشرط :

ومثاله قوله -صلى الله عليه وسلم- : " تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فُقِّهُوا " .  

فقوله : " خيارهم في الجاهلية " عام , لأنه مفرد مضاف إلى معرفة يشمل كل مَن كان خياراً في الجاهلية .

وقوله : " إذا فُقِّهُوا " أخرج مَن لم يتفقه في الدين ، فإنه لا يكون خيارًا بعد الإسلام ، وإن كان خياراً في الجاهلية .

3ـ الصفة :

ويقصد بها كل معنى يميز بعض المسميات ، فيشمل ما يسميه النحويون نعتا أو حالاً أو ظرفاً أو جاراً ومجروراً ، أو غير ذلك .

مثال التخصيص بالصفة : 

قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } النساء : 25 , فقوله : { من فتياتكم } عام , لأنه جمع مضاف إلى معرفة فيشمل كل الإماء .

وقوله : { المؤمنات } ، صفة خصصت مَن يجوز نكاحهن من الإماء بالمؤمنات .

4 ـ الغاية :

وهي نهاية الشيء ومنقَطعُه , ولها لفظان : " حتى ، إلى " .

ومثال التخصيص بالغاية :  

قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين } البقرة : 222 .

فقوله : { لا تقربوهن } نهي ، فيمكن أن يؤخذ منه العموم , لأن النهي يقتضي الدوام والاستمرار كما سبق ، فيكون المعنى : لا يكن منكم قربان لهن  فتكون الصيغة هي النكرة في سياق النهي .

وقوله : { حتى يطهرن } ، تخصيص للعموم المستفاد من النهي ، فيخرج من عمومه ما بعد الطهر .

وفي الآية مثال للتخصيص بالشرط , فإن الآية تدل على أن الوطء لا يباح إلا بعد الغسل , إذ هو المراد بالتطهر .

وهذا تخصيص للمخصص الأول وهو الغاية ، فإن الغاية دلت على أنه بعد الطهر يجوز الوطء ، والشرط دل على أن الوطء لا يجوز إلا بعد الطهر والتطهر الذي هو الاغتسال ، وقد خالف في هذا الأخير الحنفية ، فأجازوا الوطء بعد الطهر وإن لم تغتسل .

5ـ البدل :

ومثال التخصيص به : قوله تعالى : { فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين} آل عمران : 97، فقوله : { على الناس } ، عام يشمل كل الناس .

وقوله : { من استطاع } بدل وهو مخصص لعموم الناس فلا يجب الحج إلا على المستطيع .

المخصصات المنفصلة :

وهي كل دليل يستقل بنفسه ، ولا يحتاج في ثبوته إلى ذكر لفظ العام معه .

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 8:03 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقه ج 2   زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Emptyالأحد 22 فبراير 2015, 7:52 am

أنواع المخصصات المنفصلة :

1ـ الحس :

مثال التخصيص به قوله تعالى :

{ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيم } الذاريات :42، فالعموم في قوله : { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ } مخصوص , إذ لم تجعل الجبال كالرميم ، والذي دل على ذلك الحس .

2ـ العقل :

مثال التخصيص به قوله تعالى :

{ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } الزمر : 62، فالعقل دل على أن الله لا يخلق نفسه .

وقد اختلف في عد العقل من المخصصات ، فقال بعض العلماء إنه ليس مخصصاً , لأن ما دل العقل على عدم دخوله تحت اللفظ لا يكون اللفظ موضوعاً له أصلاً ، فالله جل وعلا غير داخل في لفظ { شيء } المذكور في الآية فلا حاجة إلى القول بتخصيصه .  

وقال أكثرهم : 

إنه من المخصصات , لأن لفظ { كل شيء } موضوع في اللغة للعموم ، وفي هذه الآية لا يمكن حمل اللفظ على عمومه لدلالة العقل على خروج الله جل وعلا وصفاته من هذا العموم .

3ـ النص :

والتخصيص بالنص له صور :

أ ـ تخصيص القرآن بالقرآن :

مثاله :

تخصيص قوله تعالى :

{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة 228]، بقوله تعالى: { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } الطلاق : 4 ، فالآية الأولى تفيد أن كل مطلقة عدتها ثلاث حيض ، وإذا قيل إنها مخصوصة بالآية الثانية فتخرج الحوامل من العموم ، وكذلك خص من عموم المطلقات غير المدخول بها ، بقوله تعالى  { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } الأحزاب 49 .

ب ـ تخصيص القرآن بالسنة :

مثاله :

تخصيص قوله تعالى :

{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} النساء :11، بقوله -صلى الله عليه وسلم- : " ليس للقاتل شيء  " , فأخرج القاتل ، وبقوله -صلى الله عليه وسلم- : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " , فأخرج أبناء الأنبياء ، وتخصيص قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } النور : 2، بما ثبت أنه رجم الزاني المحصن ، فيكون مخصوصاً من العموم ، وهو تخصيص بالفعل .

والتخصيص بتقرير النبي -صلى الله عليه وسلم-

مثاله : 

تخصيص عموم قوله تعالى :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } البقرة : 267، بإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة بعدم إخراج الزكاة من الخضروات .

ج ـ تخصيص السنة بالسنة :

{ مثاله }: 

تخصيص قوله -صلى الله عليه وسلم- :

 " فيما سقت السماء والعيون العشر "  

بقوله -صلى الله عليه وسلم- : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ، فإن الحديث الأول عام في القليل والكثير ، والثاني دل على إخراج القليل الذي لا يبلغ خمسة أوسق عن أن تجب فيه زكاة .

د ـ تخصيص السنة بالقرآن :

ونقل عن الشافعي إنكاره ، والصواب جوازه ووقوعه .

{ ومثاله } :

تخصيص قوله -صلى الله عليه وسلم-:

" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " بقوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون } التوبة : 29 , فالحديث دل على مقاتلة جميع الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , والآية خصصت أهل الكتاب فإنهم لا يقاتلون إذا أعطوا الجزية .

4 ـ القياس :

وقد اختلف في تخصيص عموم القرآن والسنة بالقياس .

على أقوال أهمها أربعة :

1ـ الجواز مطلقاً .

2ـ المنع مطلقاً .

3ـ  جواز التخصيص بالقياس الجلي دون الخفي .

4 ـ جواز التخصيص بالقياس إذا كان العام قد سبق تخصيصه .

والصواب :

جواز تخصيص القرآن والسنة بالقياس الجلي دون الخفي ، ونعني بالجلي ما كان بنفي الفارق بين الأصل والفرع ، أو منصوصاً على علته .

ومثال التخصيص بالقياس الجلي : 

تخصيص عموم قوله تعالى :

{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } النور : 2، بقياس العبد على الأمة والاكتفاء بجلده خمسين جلدة ، وذلك أن الأمة ورد النص بأن حدها على النصف من حد الحرة ، قال تعالى : { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } النساء : 25، فيقاس العبد على الأمة لعدم الفارق بينهما ، فيكون حده خمسين جلدة .

والدليل على جواز التخصيص بالقياس الجلي أن الصحابة قد اتفقوا على إلحاق العبد بالأمة في تنصيف الحد ، وهو تخصيص بالقياس ، وأيضاً فإن القياس الجلي بمنزلة النص ولا ينكره إلا مكابر .

5 ـ  الإجماع :

ولا خلاف في جواز التخصيص به ، ومثله بعضهم بالإجماع على تخصيص العبد من عموم آية : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ }، فيكون حده خمسين جلدة .

6ـ المفهوم : 

وهو قسمان :

1ـ  مفهوم الموافقة : 

وهو إثبات مثل حكم المنطوق للمسكوت عنه الأولى منه أو المساوي .

 مثاله :

التخصيص به : 

تخصيص حديث :

" مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته " بمفهوم الموافقة في قوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } الإسراء : 23، فإن مفهوم الموافقة من الآية أن الابن لا يجوز أن يؤذي أباه بالشكوى إلى القاضي ولا يحل له عرضه أو معاقبته إذا ماطله في حق له .

2ـ مفهوم المخالفة : 

والمقصود به : 

إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه .

ومثال التخصيص به : 

تخصيصهم حديث : 

" الماء طهور لا ينجسه شيء "  ، بمفهوم حديث : " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث "  فمفهوم هذا الحديث : أن الماء إذا لم يبلغ القلتين يحمل الخبث ، أي : يتنجس ، ولو لم يتغير طعمه أو ريحه أو لونه .

المطلــق والمقيــد

تعريفهما :

المطلق في اللغة : 

الخالي من القيد ، يقال : أطلق البعير من قيده إذا خلاّه بلا قيد .

واصطلاحاً هو : 

اللفظ الدال على فرد غير معين ، أو أفراد غير معينين .

أو هو : " اللفظ المتناول لواحد لا بعينه ، باعتبار حقيقة شاملة لجنسه " .  

ومعنى ذلك :  

أ- أن المطلق يتناول واحداً ، فخرج بذلك ألفاظ الأعداد لأنها تتناول أكثر من واحد ، وكذا العام .

ب- أن ما تناوله المطلق مبهم ، وهذا مأخوذ من قيد " لا بعينه " فيخرج بذلك المعارف كزيد .

جـ - أن المطلق يختلف عن المشترك والواجب المخير مع أن الجميع يتناول واحدًا غير معين , ذلك أن تناولهما لواحد لا بعينه باعتبار حقائق مختلفة .

{ مثل } : 

" رجل " لفرد غير محدد ، و " رجال " لأفراد غير محددين .

والمقيد هو : " المتناول لمعين أو لغير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه " .  

{ أمثله } : 

مثال المطلق : " رقبة " من قوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } المجادلة : 3.

ومثال المقيد : قوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } النساء : 92، فقد قيد الرقبة بالإيمان .

قاعدة المطلق :

" اللفظ المطلق باق على إطلاقه حتى يرد دليل التقييد " .

{ أمثلة } : 

1ـ قوله تعالى في كفارة الظهار :

{ والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } المجادلة : 3 .

لفظ { رقبة } مطلق من أي قيد ، فلو أعتق المظاهر رقبة على أي وصف أجزأه مؤمنة كانت أو كافرة .

2ـ قوله تعالى في أحكام المواريث : 

{ من بعد وصية يوصي بها أو دين } النساء : 11، فلفظ { وصية } مطلق ورد الدليل من السنة بتقييده بالثلث ، كما في حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي ، فقلت : إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : " لا " فقلت بالشطر ؟ فقال " لا "، ثم قال : " الثلث والثلث كبير ـ أو كثير ـ ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " .  

قاعدة المقيد :

" يجب العمل بالقيد إلا إذا قام دليل على إلغائه " .

{ أمثلة } : 

قوله تعالى في كفارة الظهار : { فمَن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسَّا } المجادلة : 4، فقوله : { متتابعين } قيد يجب إعماله ، فلا تجزيء الكفارة لو صام شهرين مقطعين .

2ـ وقوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } النساء : 23، فقوله : { في حجوركم } قيد , لكنه لا أثر له وإنما خرج مخرج الغالب ، لأن بنت الزوجة تكون غالباً مع أمها ، على هذا جمهور العلماء أن بنت الزوجة المدخول بها محرمة بمجرد الدخول بأمها كانت في بيت الزوج وتحت رعايته أو كانت في موضع بعيد لا شأن له بها .

حمل المطلق على المقيد :

المقصود بمسألة " حمل المطلق على المقيد " أن يأتي المطلق في كلام مستقل ، ويأتي المقيد في كلام مستقل آخر .

ومعنى حمل المطلق على المقيد - إذا تعين - أن يكون المقيد حاكماً على المطلق ، بياناً له ، مقيدا لإطلاقه ، مقللاً من شيوعه وانتشاره , فلا يبقى حينئذٍ للمطلق تناول لغير المقيد .

فيراد بالمطلق الذي ورد في نص المقيد الذي ورد في نص آخر .

( مسألة ) : 

متى يحمل المطلق على المقيد ؟

إذا ورد القيد مقترناً باللفظ فالقاعدة ـ كما تقدم ـ وجوب إعمال القيد ، ولكن إذا جاء القيد منفصلاً عن الإطلاق ، بأن يجيء هذا في نص ، وهذا في نص آخر .

فله أربع حالات :  

1ـ إذا اتحد في الحكم والسبب ، فيجب حمل المطلق على المقيد :

{ مثاله } : 

قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } المائدة : 3، مع قوله : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } الأنعام  : 145، فلفظ { الدم } في الآية الأولى مطلق ، وفي الآية الثانية مقيد بالمسفوح ، والحكم : حرمة الدم ، والسبب : بيان حكم المطاعم المحرمة في الآيتين والدم فيهما واحد .

2ـ إذا اختلفا في الحكم والسبب ، فلا يحمل المطلق على المقيد :

{ مثاله } :

قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } المائدة : 38, مع قوله : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } المائدة : 6، فلفظ { الأيدي } مطلق في الآية الأولى ، ومقيد في الآية الثانية ، لكن حكم الأولى وجوب قطع الأيدي ، وسببها السرقة  وحكم الثانية وجوب غسل الأيدي ، وسببها القيام إلى الصلاة .

فعلاقة التأثير منعدمة بين الحكمين ، فلا يصح حمل المطلق على المقيد .

ولذا روي في السنة تقييد القطع بالكف إلى الرسغ ، وهذا وإن كان النقل بخصوصه لا يثبت به إسناد ، لكنه لم ينقل غيره والرواية فيه ليست بساقطة ، وهو المروي فعله عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد اعتضد بأصل شرعي ، ذلك أن لفظ { اليد } يراد به الكف ، كما يراد به إلى المرفق ، كما يراد به إلى المنكب  والحد يسقط بالشبهة ، كما لا يتجاوز به قدر اليقين ، واليقين ههنا بقطع أدنى ما يسمى يدا ، وبه يتحقق المقصود .

3ـ إذا اختلفا في الحكم واتحدا في السبب، فلا يحمل المطلق على المقيد :

{ مثاله } : 

قوله تعالى: { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } المائدة : 6، مع قوله قبل ذلك في الآية : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } فلفظ { الأيدي }، في الموضع الأول مطلق ، وفي الثاني مقيد { إلى المرافق }، السبب متحد في النصين ، فكلاهما في القيام إلى الصلاة لكن الحكم مختلف ففي الأول وجوب التيمم للصلاة عند فقد الماء ، وفي الثاني وجوب الوضوء .

فلا يصح في هذه الحالة أن يقال : تمسح الأيدي في التيمم إلى المرافق ، حملاً للمطلق في نص التيمم على المقيد في نص الوضوء .

4ـ إذا اتحد في الحكم واختلفا في السبب ، فلا يحمل المطلق على المقيد :

{ مثاله } :

قوله تعالى في كفارة الظهار : { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } المجادلة : 3، مع قوله في كفارة قتل الخطأ : { فتحرير رقبة مؤمنة } النساء : 92، فلفظ { رقبة } في الآية الأولى مطلق ، وفي الثانية مقيد بالإيمان ، الحكم واحد هو الكفارة ، والسبب مختلف ، فالأولى الظهار ، والثانية القتل .

فلا يصح في هذا الحالة حمل المطلق على المقيد عند الحنفية ومن وافقهم خلافاً للشافعية .

المنطـــوق والمفهـــوم :

المنطـــــــــــوق :

تعريفه :

المنطوق : 

هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق ، فهو المعنى المستفاد من اللفظ من حيث النطق به .  

{ مثاله } : 

المعنى المستفاد من قوله تعالى : {  وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير } البقرة :110، وهو الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .

أقسام المنطوق :

المنطوق قسمان : 

صريح ، وغير صريح .

فالصريح : 

هو المعنى الذي وضع اللفظ له ، وذلك يشمل دلالة المطابقة ، كدلالة الرجل على الإنسان الذكر ، ودلالة التضمن كدلالة الأربعة على الواحد ربعها .

وغير الصريح : هو المعنى الذي دل عليه اللفظ في غير ما وضع له ، ويسمى دلالة الالتزام ، كدلالة الأربعة على الزوجية .

أقسام المنطوق غير الصريح :

المنطوق غير الصريح , وهو ما يسمى بدلالة الالتزام ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول :

 " دلالة الاقتضاء " ، وهي : أن يتضمن الكلام إضماراً ضرورياً لا بد من تقديره .

لأن الكلام لا يستقيم دونه لأسباب :

أ- إما لتوقف الصدق عليه ، كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان " , فإن ذات الخطأ والنسيان لم يرتفعا ، فيتضمن تقدير رفع الإثم أو المؤاخذة , لتوقف الصدق على هذا التقدير .

ب- وإما لتوقف الصحة عليه عقلاً ، مثل : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } يوسف : 82 أي : أهل القرية .

جـ - وإما لتوقف الصحة عليه شرعاً ، كقول القائل : اعتق عبدك عني وعليَّ ثمنه ، فلا بد من تقدير الملك السابق ، فكأنه قال : بعني عبدك وأعتقه عني .

القسم الثاني : 

" دلالة الإشارة " , وهي : أن يدل اللفظ على معنى ليس مقصوداً باللفظ في الأصل ولكنه لازم للمقصود ، فكأنه مقصود بالتبع ، كاستفادة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر من قوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } الأحقاف : 15، مع قوله تعالى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } لقمان : 14 .

القسم الثالث :

" دلالة التنبيه وتسمى الإيماء " ، وهي : أن يقترن بالحكم وصف لو لم يكن هذا الوصف تعليلاً لهذا الحكم لكن ذكره حشواً في الكلام لا فائدة منه وذلك ما تنزه عنه ألفاظ الشارع ، وذلك كقوله تعالى: { إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } الانفطار : 13، أي : لبرهم.

المفهـــــــــوم :

تعريفه :

المفهوم : 

هو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق , فهو المعنى المستفاد من حيث السكوت اللازم للفظ .

مثل دلالة قوله تعالى :

{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } الإسراء : 23 , على تحريم الضرب والشتم ، ودلالة قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات } النساء :25 , على أن الأمة غير المؤمنة لا يصح نكاحها لمن لم يجد مهر الحرة .

أنواعــه :

1 ـ مفهوم الموافقة :

وهو ما وافق المسكوت عنه المنطوق في الحكم , ويسمى بفحوى الخطاب  ولحن الخطاب ، وبالقياس الجلي ، وبالتنبيه . 

أقسامه :

ينقسم مفهوم الموافقة إلى قسمين باعتبارين :

الاعتبار الأول ينقسم إلى : 

" أولوي ، ومساوي " .

أ- مفهوم أولوي : 

وهو ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق  كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب لأنه أشد ، وذلك في قوله تعالى : { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } الإسراء : 23 . 

ب- مفهوم مساوي : 

وهو ما كان المسكوت عنه مساويًا للمنطوق في الحكم , كدلالة تحريم أكل مال اليتيم على تحريم إحراقه ، وذلك في قوله سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } النساء : 10, فالأكل والإحراق متساويان , إذ الجميع إتلاف .

الاعتبار الثاني : 

منه ما هو " قطعي " ، ومنه ما هو " ظني " .

" فالقطعي " : 

ما قطع فيه بنفي الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق ، كما مر في المثالين السابقين .

" والظني " : 

ما ظن فيه انتفاء الفارق ، كأن يقال : إذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى , لأن الكافر قد يحترز من الكذب لدينه ، والفاسق متهم في الدين .

حجية مفهوم الموافقة :

مفهوم الموافقة حجة بإجماع السلف .  

قال ابن تيمية :

" بل وكذلك قياس الأولى وإن لم يدل عليه الخطاب ، لكن عرف أنه أولى بالحكم من المنطوق بهذا ، فإنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحد من السلف ، فما زال السلف يحتجون بمثل هذا وهذا " .  

( مسألة ) : 

شرط العمل بمفهوم الموافقة : أن يفهم المعنى من اللفظ في محل النطق ، وأن يكون المفهوم أولى بالحكم من المنطوق أو مساوياً له ، وإنما يفهم ذلك من دلالة سياق الكلام وقرائن الأحوال .  

قال ابن بدران موضحاً هذا الشرط :

" يعني أن شرط مفهوم الموافقة فهم المعنى في محل النطق كالتعظيم ونحوه  فإنا فهمنا من آية : { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } الإسراء : 23 , أن المعنى المقتضي لهذا النهي هو تعظيم الوالدين , فلذلك فهمنا تحريم الضرب بطريق أولى ، حتى لو لم نفهم من ذلك تعظيماً لما فهمنا تحريم الضرب أصلاً .

لكنه لما نفى التأفيف الأعم  , دل على نفي الضرب الأخص  , بطريق الأولى " .  

2 ـ مفهوم المخالفة :

هو : ما خالف المسكوت عنه المنطوق في الحكم .

ويسمى : بدليل الخطاب .  

أقسامه :  

مفهوم المخالفة ستة أقسام :

القسم الأول : 

مفهوم " الصفة " كصفة السوم في قوله -صلى الله عليه وسلم- : " في سائمة الغنم الزكاة " ، فمقتضى هذا عدم وجوب الزكاة في المعلوفة غير السائمة ، وليس المراد من الصفة كالمثال السابق .

القسم الثاني : 

" التقسيم " ، كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر " , ووجهه : أن تقسيمه إلى قسمين وتخصيص كل واحدٍ بحكم , يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر ، ولو عم الحكم النوعين لم يكن للتقسيم فائدة .

القسم الثالث : 

مفهوم " الشرط " ، والمراد به ما علق من الحكم على شيء بأداة الشرط ، مثل : " إن " و" إذا " ، وهو المسمى بالشرط اللغوي لا الشرط الذي هو قسيم السبب والمانع .

وذلك كقوله تعالى : { وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } الطلاق : 6، فإنه يدل بمفهومه على عدم وجوب النفقة للمعتدة غير الحامل .

القسم الرابع : 

مفهوم " الغاية " وهو: مد الحكم بأداة الغاية ، مثل : إلى، وحتى ، ومثال ذلك قوله تعالى : { فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } البقرة : 230 .

القسم الخامس : 

مفهوم " العدد " ، وهو: تعليق الحكم بعدد مخصوص ، نحو قوله تعالى : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } النور : 4 .

القسم السادس : 

مفهوم " اللقب " وهو : تخصيص اسم بحكمٍ ، كالتنصيص على الأعيان الستة في الربا فإنه يمنع جريانه في غيرها .

أما إن استلزم اللقب أوصافاً صالحة لإناطة الحكم به فإنه يُعتبر مفهوم صفة لا مفهوم لقب ، وذلك مثل لفظ : " رجال " في قوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ } النور : 36، 37، فقد يظهر للناظر أنه مفهوم لقبٍ لا يحتج به ، ولكن مفهوم الرجال ههنا معتبر , لأن الرجال لا تخشى منهم الفتنة وليسوا بعورة بخلاف النساء , ومعلوم أن وصف الذكورة وصف صالح لإناطة الحكم به الذي هو التسبيح في المساجد والخروج إليها دون وصف الأنوثة .

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 8:04 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقه ج 2   زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Emptyالأحد 22 فبراير 2015, 8:27 am

حجيه مفهوم المخالفة :

أولاً : مفهوم المخالفة حجة عند جماهير العلماء بجميع أقسامه ، ويستثنى من ذلك مفهوم اللقب , إذ التحقيق عدم الاحتجاج به .

يقول ابن قدامة في مفهوم اللقب :

" وأنكره الأكثرون وهو الصحيح , لأنه يفضي إلى سد باب القياس ، وأن تنصيصه على الأعيان الستة في الربا تمنع جريانه في غيرها " .  

ويقول الشنقيطي :

" وقد علمتَ أن الحق عدمُ اعتبار مفهوم اللقب ، وأن فائدة ذكره إمكان الإسناد إليه " .  

ثانياً : الأدلة على حجية مفهوم المخالفة :

أولاً : أن فصحاء أهل اللغة يفهمون من تعليق الحكم على شرطٍ أو وصفٍ انتفاء الحكم بدون الشرط أو الوصف.  

ومن الأمثلة على ذلك أن عمر -رضي الله عنه- قد فهم من تعليق إباحة قصر الصلاة على حال الخوف وجوب الإتمام حال الأمن وعجب من ذلك .

وهذا في قوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } النساء : 101، لذلك سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .  

ثانياً : أن التخصيص بالذكر لا بد له من فائدة ، فإن استوت السائمة والمعلوفة في وجوب الزكاة فيهما فلِمَ خص الشارع السائمة بالذكر فقال : " في سائمة الغنم الزكاة " ، مع عموم الحكم والحاجة إلى البيان ؟ بل لو قال : " في الغنم الزكاة " لكان أقصر في اللفظ وأعم في بيان الحكم .

والتطويل لغير فائدة لكنه في الكلام وعي ، وهذا مما ينزه عنه كلام العقلاء، فمن باب أولى كلام الشارع (1) .  

ثالثاً : أقسام مفهوم المخالفة ـ عند القائلين بحجيته ـ ليست على مرتبة واحدة، بل إنها متفاوتة قوة وضعفاً .

فترتيبها حسب القوة كالآتي :

1- مفهوم الغاية .

2- مفهوم الشرط .

3- مفهوم الصفة .

4- التقسيم .

5- مفهوم العدد .

6- مفهوم اللقب .

قال ابن بدران :

" والضابط في باب المفهوم : أنه متى أفاد ظناً عرف من تصرف الشارع الالتفات إلى مثله ـ خالياً عن معارض ـ كان حجة يجب العمل به .

والظنون المستفادة من دليل الخطاب متفاوتة بتفاوت مراتبه ، ومن تدرب بالنظر في اللغة وعرف مواقع الألفاظ ومقاصد المتكلمين سهل عنده إدراك ذلك التفاوت والفرق بين تلك المراتب , والله الموفق " .

شرط العمل به :

للعمل بمفهوم المخالفة عند القائلين به شروط .  

والجامع لهذه الشروط : 

أن يكون تخصيص المنطوق بالذكر لكونه مختصاً بالحكم دون سواه .

قال ابن تيمية :

" فإذا عُلم أو غلبَ على الظن ألا موجب للتخصيص بالذكر من هذه الأسباب ونحوها ، عُلم أنه إنما خصه بالذكر لأنه مخصوص بالحكم " .  

أما إن ظهر أن تخصيص المنطوق بالذكر كان لسببٍ من الأسباب - غير تخصيص الحكم به ونفيه عن سواه - فالتخصيص بالذكر في هذه الحالة لا يدل على اختصاصه بالحكم دون المسكوت عنه .

قال ابن النجار :

" ثم الضابط لهذه الشروط وما في معناها : ألا يظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت عنه " .  

والأسباب والفوائد والنكت التي لأجلها يخص المنطوق بالذكر غير تخصيص الحكم به ونفيه عن المسكوت عنه كثيرة ، وهي تعرف بموانع اعتبار المفهوم .

فمن ذلك : 

أ - أن يخرج ذكره مخرج الغالب :

كقوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } النساء : 23، فتقييد تحريم الربيبة بكونها في حجر الزوج لا يدل على أنها تكون حلالاً ولا تحرم إذا لم تكن في حجره , لأن الغالب كون الربيبة في حجر زوج أمها .

ب- أن يقع ذكره جوابًا لسؤال :

كأن يُسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً : هل في الغنم السائمة زكاة ؟

فيقول : " في الغنم السائمة زكاة " فإن ذكر إحدى الصفتين المذكورتين في السؤال ـ وهي السوم في هذا المثال ـ لا يلزم منه تخصيصها للحكم ونفيه عن الأخرى .

جـ - أن يكون ذكرُه وقع على سبيل الامتنان :

كقوله تعالى : { لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا } النحل : 14، فلا يدل وصف اللحم بكونه طرياً على تحريم اللحم غير الطري .

الباب الخامس

الاجتهاد والتقليد والفتوى :

الاجتهــــاد :

تعريفه :

الاجتهاد لغة : 

بذل الوسع والطاقة ، ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد ومشقة ، يقال : اجتهد في حمل الرحى ، ولا يقال : اجتهد في حمل النواة .  

وفي الاصطلاح : 

" بذل الوسع في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية " .   

وقد اشتمل هذا التعريف على الضوابط الآتية :

أ- أن الاجتهاد هو بذل الوسع في النظر في الأدلة ، فهو بذلك أعم من القياس  إذ القياس هو إلحاق الفرع بالأصل ، أما الاجتهاد فإنه يشمل القياس وغيره .

ب- أن الاجتهاد لا يجوز إلا من فقيه ، عالم بالأدلة وكيفية الاستنباط منها  إذ النظر في الأدلة لا يتأتى إلا ممن كان أهلاً لذلك.

جـ - أن الاجتهاد قد ينتج عنه القطع بالحكم أو الظن به ، وذلك ما تضمنه قيد " لاستنباط " .

د - وقد تضمن قيد " لاستنباط " أيضاً بيان أن الاجتهاد إنما هو رأي المجتهد واجتهاده ، وذلك محاولة منه لكشف حكم الله ، ولا يُسمى ذلك تشريعاً فإن التشريع هو الكتاب والسنة ، أما الاجتهاد فهو رأي الفقيه أو حكم الحاكم .

أركان الاجتهاد :

للاجتهاد ثلاثةُ أركان ، هي :

1- المجتهِد : وهو الفقيه المستوفي للشروط الآتي ذكرُها .

2- المجتهَد فيه : وهو الواقعة المطلوب حكمُها بالنظر والاستنباط ، لعدم ظهور حكمها في النصوص ، أو لتعارض الأدلة فيها ظاهراً .

3-  النظر وبذل الجهد : وهو فعل المجتهد الذي يتوصل به إلى الحكم .

حكمه :

تقدمت الإشارة غير مرة إلى أن حاجات الناس لا تتناهى ، والمستجدات لا تنقطع ، من أجل ذلك جاءت أحكام شريعة الإسلام فيما يتعلق بالحوادث مقننة على صفة تناسب أن تستفاد منها الحلول لأي أمر طاريء يتصل بمصالح المكلفين ، وتلك القوانين متمثلة بأدلة الشريعة المستوعبة الشاملة ، وهي بين نصوص عامة لا تختص بواقعة ، أو قواعد عامة ، يمكن أن يستعملها الفقيه لجميع العوارض ، فيجد لها الأحكام المناسبة .

فلعلة بقاء الحوادث وحاجة المكلفين إلى معرفة أحكام دينهم فيها فإنه يجب أن يكون فيهم من يحقق الكفاية لهم في ذلك ، وهذا هو قوله عز وجل : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } التوبة : 122.

والأمة ونبيها -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرها كان إليه مرجعها ، فكان الحكم ينزل من السماء ، أو يقع باجتهاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيسدده الله تعالى فيه ، فلما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- صار مرجع الناس بعده إلى علمائهم والفقهاء فيهم يبينون لهم ما أشكل، ويجيبونهم عما أعضل ، ولم يزل تاريخ الأمة شاهداً على استمرار وجود أهل الاجتهاد فيها ، وإن كان يقصر ذلك في أحيان لكنه لم يعدم ، فالاجتهاد باق ما بقيت الحاجة إليه ، وإيجاد المجتهدين فرض على الأمة المسلمة حتى تتحقق كفايتها ، لا يملك أحد من الخلق أن يلغي ذلك .

ولقد كان من أبطل الناس قولاً من زعم أن الاجتهاد قد أغلق بابه ، بل هذا القول من الضلال البين مهما ألصق به من المبررات .

قال ابن تيمية :

" والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة " .  

والأدلة على ذلك كثيرة منها :

أ- قول الله تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } الأنبياء : 78، 79.

دل قوله تعالى : { إِذْ يَحْكُمَانِ } على أن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام حكما في هذه الحادثة معاً ، كل منهما بحكم مخالف للآخر ، ولو كان وحياً لما ساغ الخلاف ، فدل على أن الحكم الصادر من كل منهما اجتهاد .

يؤيد ذلك قوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } إذ خص الله سليمان -صلى الله عليه وسلم- بتفهيمه الحكم الصحيح ، ولو كان الحكم نصاً لاشترك في فهمه الاثنان عليهما الصلاة والسلام .  

ب - قوله -صلى الله عليه وسلم-: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " .  

جـ - حديث معاذ -رضي الله عنه- المشهور، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعثه إلى اليمن ، قال له : " بِمَ تحكم ؟ " قال بكتاب الله ، قال : " فإن لم تجد ؟ " قال : بسنة رسول الله ، قال : " فإن لم تجد؟ " قال : اجتهد رأيي ، قال : فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " .

د - وقوع الاجتهاد منه -صلى الله عليه وسلم- في وقائع كثيرة .

منها :  

أنه أخذ الفداء في أسرى بدر ، ولذلك عاتبه الله فقال سبحانه : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ } الأنفال : 67 .

الاجتهاد في عصر الصحابة والتابعين وكبار الأئمة :

في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان هو المرجع في الفتوى ، ومع ذلك لم يكن بابُ الاجتهاد موصَداً أمام الصحابة رضوان الله عليهم ، بل كانوا يجتهدون في غيابهم عنه ، فإذا جاءوه عرضوا عليه اجتهادَهم ، كما فعلوا عندما بعثهم إلى بني قريظة ، وقال : " لا يُصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظةَ " ، فجاءهم وقت العصر ، فقال بعضهم : لم يُرد منا أن نؤخر الصلاة ، وإنما أرادَ استعجالنا .

وقال آخرون : بل نأخذُ بظاهر النص ، ولا نصلي حتى نصل بني قريظة ، ولو غربت الشمس ، فعمل كل فريق باجتهاده ، ولم يعنف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحدا منهم .

وأما بعدَ وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد اشتهر اجتهادُ الصحابة ، ونُقل إلينا أكثرُه .

وفي عهد التابعين ازدادت الحاجة إلى الاجتهاد , لكثرة الوقائع ، واختلاطِ المسلمين بأمم أخرى .

ولقد تأثر اجتهادُ التابعين باجتهاد مَنْ تفقهوا عليه من الصحابة ، فكان أهلُ العراق أكثرَ أخذاً عن ابن مسعود وعلي ـرضي الله عنهماـ وأهل المدينة أكثر تأثراً بابن عمر -رضي الله عنه- .

ونشأ على إثر ذلك ما عُرف بمدرسة أهل المدينة ، أو أهل الحديث ، ومدرسة أهل العراق أو أهل الرأي .

وفي عهد كبار الأئمة كأبي حنيفةَ ومالك والشافعي وأحمد أخذت المذاهب الفقهية يتميز بعضها عن بعض ، فلم تعد مدرسة الرأي على مذهب واحد ، ولا أهل الحديث على مذهب واحد ، ولم يكن أهل الرأي معزولين عن الحديث ، ولا أهل الحديث رافضين للرأي بالكلية .

أقسام الاجتهاد :

ينقسم الاجتهاد إلى أقسام متعددة ، وذلك باعتبارات مختلفة .

وبيان ذلك كما يأتي :

أولاً : ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى أهله إلى اجتهاد مطلق واجتهاد مقيد :

وفي هذين القسمين تجتمع أقسام المجتهدين الأربعة الذي ذكرها ابن القيم ، وهي :

أ- مجتهد مطلق : 

وهو العالم بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأقوال الصحابة، يجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت .

فهذا النوع هم الذين يسوغ لهم الإفتاء والاستفتاء ، وهم المجددون لهذا الدين القائمون بحجة الله في أرضه .

ب - مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به :

فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله ، عارف بها ، متمكن من التخريج عليها ، من غير أن يكون مقلدا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل ، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا ، ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره ، فهو موافق له في مقصده وطريقه معا .

جـ - مجتهد مقلد في مذهب من انتسب إليه :

مقرر له بالدليل ، متقن لفتاويه  عالم بها ، لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها ، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة .

بل نصوص إمامه عنده كنصوص الشارع ، قد اكتفى بها من كلفة التعب والمشقة ، وقد كفاه إمامه استنباط الأحكام ومؤنة استخراجها من النصوص .

وشأن هؤلاء عجيب ؛ إذ كيف أوصلهم اجتهادهم إلى كون إمامهم أعلم من غيره ، وأن مذهبه هو الراجح ، والصواب دائر معه ، وقعد بهم اجتهادهم عن النظر في كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- واستنباط الأحكام منه ، وترجيح ما يشهد له النص .

د - مجتهد في مذهب من انتسب إليه :

فحفظ فتاوى إمامه ، وأقر على نفسه بالتقليد المحض له ، من جميع الوجوه ، وذكر الكتاب والسنة عنده يكون على وجه التبرك والفضيلة لا على وجه الاحتجاج به والعمل ، بل إذا رأى حديثا صحيحاً مخالفاً لقول من انتسب إليه أخذ بقوله وترك الحديث ، فليس عند هؤلاء سوى التقليد المذموم .

قال ابن القيم في هذه الأقسام الأربعة :

" ففتاوى القسم الأول من جنس توقيعات الملوك وعلمائهم ، وفتاوى النوع الثاني من جنس توقيعات نوابهم وخلفائهم ، وفتاوى النوع الثالث والرابع من جنس توقيعات خلفاء نوابهم ، ومن عداهم فمتشبع بما لم يعط ، متشبه بالعلماء، محاكِ للفضلاء " .  

ثانيا : ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى المجتهد من حيث استيعابُه للمسائل أو اقتصاره على بعضها إلى مجتهد مطلق ومجتهد جزئي .

فالمجتهد المطلق : 

هو الذي بلغ رتبة الاجتهاد بحيث يمكنه النظر في جميع المسائل .

والمجتهد الجزئي : 

هو الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل ، وإنما بلغ هذه الرتبة في مسألة معينة ، أو باب معين ، أو فن معين ، وهو جاهل لما عدا ذلك .

وقد اختلف العلماء في جواز تجزئة الاجتهاد ، والذي عليه المحققون من أهل العلم جوازه وصحته .  

قال ابن القيم :

" الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام ، فيكون الرجل مجتهداً في نوع من العلم مقلداً في غيره ، أو في باب من أبوابه .

كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم ، أو في باب الجهاد ، أو الحج ، أو غير ذلك .

فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه ، ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الإفتاء بما لا يعلم في غيره .

وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه ؟ 

فيه ثلاثة أوجه :

أصحها : 

الجواز ، بل هو الصواب المقطوع به ، والثاني : المنع ، والثالث : الجواز في الفرائض دون غيرها .

فحجة الجواز : 

أنه قد عرف الحق بدليله ، وقد بذل جهده في معرفة الصواب فحكمه في ذلك حكمُ المجتهد المطلق في سائر الأنواع " .  

وقال أيضا : " فإن قيل : فما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أو مسألتين ، هل له أن يفتي بهما ؟

قيل : نعم ، يجوز في أصح القولين ، وهما وجهان لأصحاب الإمام أحمد ، وهل هذا إلا من التبليغ عن الله وعن رسوله ، وجزى الله من أعان الإسلام ولو بشطر كلمة خيرا, ومنع هذا من الإفتاء , بما علم خطأ محض , وبالله التوفيق " .

ثالثا : ينقسم الاجتهاد بالنسبة لعلة الحكم إلى ثلاثة أقسام :

تحقيق المناط ـ وتنقيحه ـ وتخريجه .

والمناط لغة : 

موضع النوط ، وهو التعليق والإلصاق ,

 وفي اصطلاح الأصوليين :

يطلق على " العلة " .  

أ- فتحقيق المناط : 

هو أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي ، فينظر المجتهد في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان , كالأمر باستقبال القبلة واستشهاد شهيدين عدلين فينظر هل المصلي مستقبل القبلة ؟ وهذا الشخص هل هو عدل مرضي ؟

وهذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين بل بين العقلاء .

ب- وتنقيح المناط : 

وهو تهذيب العلة ، فإذا أضاف الشارع حكماً إلى سببه واقترن بذلك أوصاف لا مدخل لها في إضافة الحكم ، وجب حذف الأوصاف غير المؤثرة عن الاعتبار وإبقاءُ الوصف المؤثر المعتبر في الحكم .

وذلك كأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الأعرابي الذي واقع أهله في رمضان بالكفارة , فعلم

أن كونه أعرابياً ، أو عربياً ، أو الموطوءة زوجته ، لا أثر له في الحكم ، فلو وطئ المسلم العجمي سريته كان الحكم كذلك ، وهذا النوع قد أقر به أكثر منكري القياس .

جـ - وتخريج المناط : 

وهو القياس المحض ، وهو أن ينص الشارع على حكم في محل ، ولا يتعرض لمناطه أصلاً ، كتحريم الربا في البر ، فيجتهد المجتهد في البحث عن علة الحكم ومناطه بطريقٍ من طرق ثبوت العلة .

وهذا النوع هو الذي وقع فيه الخلاف المشهور في حجية القياس .

رابعاً : ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى كون المسائل المجتهد فيها جديدة أو متقدمة إلى قسمين :

مسائل لا قول لأحد من العلماء فيها ، ومسائل تقدم لبعض العلماء فيها قول .

فالقسم الأول : 

وقع فيه خلاف بين العلماء .

أما القسم الثاني :

 فلا خلاف في جواز الاجتهاد فيه .

والصحيح في القسم الأول الجواز .  

قال ابن القيم :

" إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد العلماء ، فهل يجوز الاجتهاد فيها بالإفتاء والحكم أم لا ؟ فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : يجوز ، وعليه تدل فتاوى الأئمة وأجوبتهم ، فإنهم كانوا يسألون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " , وهذا يعم ما اجتهد فيه مما لم يعرف فيه قول من قبله ، وما عرف فيه أقوالاً واجتهد في الصواب منها .

وعلى هذا درج السلف والخلف ، والحاجة داعية إلى ذلك لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث " .  

خامسا : ينقسم الاجتهاد أيضا بالنظر إلى المسائل المجتهد فيها من جهة وقوعها أو عدم وقوعها إلى قسمين : 

مسائل واقعة نازلة، ومسائل لم تقع .

وقد تقدم آنفاً الكلام على القسم الأول ، أما القسم الثاني وهو الاجتهاد في مسائل لم تقع فهذا فيه تفصيل لأهل العلم سيأتي بيانه إن شاء الله في شروط الاجتهاد .

سادساً : ينقسم الاجتهاد بالنظر إلى بذل الوسع فيه إلى قسمين : 

اجتهاد تام ، واجتهاد ناقص .

فالاجتهاد التام : 

ما كان بذل الوسع فيه إلى درجة يحس فيها المجتهد من نفسه العجز عن المزيد .

والاجتهاد الناقص : 

ما لم يكن كذلك ، فيدخل فيه النظر المطلق في الأدلة لمعرفة الحكم .  

ومعلوم أن المطلوب من المجتهد بذل غاية وسعه وطاقته كما سيأتي نقل ذلك عن الشافعي عند الكلام على شروط الاجتهاد .

سابعاً : ينقسم الاجتهاد إلى صحيح وفاسد :

فالاجتهاد الصحيح : 

هو الذي صدر من مجتهد توفرت فيه شروط الاجتهاد وكان هذا الاجتهاد في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد .

أما الاجتهاد الفاسد فهو : 

الذي صدر من جاهل بالكتاب والسنة ولغة العرب لم تتوفر فيه شروط الاجتهاد ، أو صدر من مجتهد أهل للاجتهاد لكنه وقع في غير موضعه من المسائل التي لا يصح فيه الاجتهاد .

قال ابن قدامة بعد ذكره لآثار عن السلف في ذم الرأي -في معرض جوابه عنها- :

" قلنا هذا منهم ذم لمن استعمل الرأي ، والقياس في غير موضعه أو بدون شرطه , جواب ثانِ : أنهم ذموا الرأي الصادر عن الجاهل الذي ليس أهلاً للاجتهاد والرأي ، ويرجع إلى محض الاستحسان ووضع الشرع بالرأي، بدليل أن الذين نقل عنهم هذا هم الذين نقل عنهم القول بالرأي والاجتهاد " .  

ولابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ بحث نفيس في أنواع الرأي ، أنقله فيما يأتي ملخصاً :

" الرأي ثلاثة أقسام : رأي باطل بلا ريب ، ورأي صحيح ، ورأي هو موضع الاشتباه .

والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف :

فاستعملوا الرأي الصحيح ، وعملوا به ، وأفتوا به ، وسوغوا القول به .

وذموا الباطل ، ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به ، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله .

والقسم الثالث سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه ، حيث لا يوجد منه بد ، ولم يلزموا أحداً العمل به ، ولم يحرموا مخالفته ، ولا جعلوا مخالفه مخالفاً للدين ، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده ، فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه .

كما قال الإمام أحمد : 

سألت الشافعي عن القياس فقال لي : عند الضرورة وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة .

لم يفرطوا فيه ، ويفرعوه ، ويولدوه ، ويوسعوه ، كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار ، وكان أسهل عليهم من حفظها .

أنواع الرأي الباطل :

أ- الرأي المخالف للنص : وهذا مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ولا تحل الفتيا به ولا القضاء ، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد .

ب- الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها ، فإن من جهل النصوص وقاس برأيه من غير نظر إليها فقد وقع في الرأي المذموم الباطل .

جـ - الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهلُ البدع والضلال ، حيث استعملوا قياساتهم الفاسدة ، وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة ، فقابلوا هذه النصوص بالتحريف والتأويل ، وقابلوا بالتكذيب معاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلاً .

د - الرأي الذي أحدثت به البدع ، وغيرت به السنن ، وعم به البلاء .

فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وإخراجه من الدين .

أنواع الرأي المحمود :

أ- رأي الصحابة -رضي الله عنهم- فهم أفقه الأمة وأبرها قلوباً ، وأقلها تكلفاً ، الذين شاهدوا التنزيل ، وعرفوا التأويل ، وفهموا مقاصد الشريعة .

فحقيق أن يكون رأيهم لنا خيراً من رأينا لأنفسنا ، كيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نوراً وإيماناً ، وحكمة وعلماً ، ومعرفة وفهماً عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ونصيحة للأمة ، وقلوبهم على قلب نبيهم ولا وساطة بينهم وبينه ، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضاً طرياً ، لم يشبه إشكال ، ولم يشبه خلاف ، ولم تدنسه معارضة ، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس .

ب - الرأي الذي تفسر به النصوص ، ويبين وجه الدلالة منها ، ويقررها ويوضح محاسنها ويسهل طرق الاستنباط منها .

جـ - الرأي المجمع عليه ، الذي تواطأت الأمة عليه وتلقاه خلفهم عن سلفهم،

فإن ما تواطئوا عليه من الرأي لا يكون إلا صواباً ، كما أن ما تواطئوا عليه من الرواية والرؤيا لا يكون إلا صواباً .

د - الرأي الذي يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن فإن لم يجدها في القرآن ففي السنة ، فإن لم يجدها في السنة فيما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان منهم أو واحد ، فإن لم يجده فبما قاله واحد من الصحابة -رضي الله عنهم- فإن لم يجده اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأقضية أصحابه ، فهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة واستعملوه ، وأقر بعضهم بعضا عليه " .

شروط الاجتهاد :

يشترط لصحة الاجتهاد شروط ، بعض هذه الشروط يرجع إلى المجتهد والبعض الآخر يرجع إلى المسائل المجتهد فيها .

ومما تقدم يظهر أن المجتهد هو الفقيه ، وهو : 

مَن كانت له القدرة على استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية .

وهذا وصف يمكن أن يتصف به كل من حصل آلته ، فلا يختص به أحد دون أحد ، إنما العبرة بأن يكون أهلاً له ، ولا تتحقق تلك الأهلية إلا بقدرة ذاتية على الاستنباط والنظر متمثلة بفطنة وذكاء ، مع توفر شروط ضرورية، تلك الشروط ضوابط استفيدت من أدلة الشرع وقواعده ، لحفظ الدين من أن يقول فيه مَن شاء ما شاء .

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 8:04 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقه ج 2   زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Emptyالأحد 22 فبراير 2015, 2:29 pm

والشروط اللازم توفرها في المجتهد فيمكن إجمالها فيما يأتي :  

1ـ معرفة اللغة العربية :

وذلك على الوجه الذي يتمكن به من فهم الكلام وتركيبه ودلالاته على المعاني .

ويتطلب على التحديد معرفة أصول العلوم اللغوية التي لها اتصال بكلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وهي :

أ ـ علم النحو :

 بما يحسن به الإعراب على الأصول المسلمات والراجحات، من غير احتياج للتعمق في خلاف النحاة .

ب ـ علم الصرف : 

بما يحسن به ما تعود إليه أصول الكلمات مع ما يتغير به ضبطها بسبب الاشتقاق ، لما يقع له من التأثير كثيراً على اختلاف الدلالات والمعاني .

جـ ـ علم البلاغة : 

بالمقدار الذي يتمكن فيه من معرفة وجوه المعاني ، وما تتخرج عليه الأساليب العربية من الاستعمالات ، كدلالات الخبر والإنشاء ، وتأثير التقديم والتأخير , والحذف والتعريف والتنكير والإطلاق والتقييد والوصل والفصل والإيجاز والإطناب والحقيقة والمجاز والتشبيه والاستعارة  وغير ذلك .

وهو علم عظيم لمعرفة أسرار القرآن والسنن .

ولا يحتاج المجتهد إلى المعرفة بعلم البديع منها ، إنما حاجته إلى علمي " المعاني والبيان " .

د ـ علم الحروف : والمقصود به الحروف التي هي من أقسام الكلام كحروف الجر والعطف ، لا الحروف التي تتركب منها المفردات .

وهذا علم يجب على الفقيه أن يدرك منه ما تدل عليه الحروف من المعاني ليدرك وجوهها في نصوص الكتاب والسنة ، كمعرفة معاني حروف العطف وما تقتضيه من المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، أو الاشتراك أو الترتيب أو التراخي ، أو غير ذلك .

وقد عني بهذا الفن طائفة من أئمة العربية والأصول فضمنوا الكلام في معانيها كتبهم ، ومنهم من أفردها بالتصنيف ، فالوقوف عليها متيسر.

هذه العلوم من علوم العربية التي يجب على المجتهد أن يلم بالقدر الذي يتصل بنصوص الشرع منها ، أما معرفة الشعر والعروض فلا تلزم المجتهد .

وكذلك معرفة معاني المفردات فإنه يكفيه أن يكون عنده مرجع في شرحها مثل " لسان العرب " لابن منظور أو غيره ، يعود إليه عند الحاجة .

2ـ معرفة القرآن :

والمقصود أن يعرف كيف يستفيد الأحكام من نصوصه ، وهو يتطلب معرفة خمسة علوم من علومه على التحديد :

أ ـ أحكام القرآن : 

وذلك بمعرفة الآيات التي دلت على الأحكام منه .

وقيل : 

هي نحو خمس مئة آية ، وليس هذا بحصر فالمجتهد قد يجد الحكم في قصة أو مثل من القرآن ، لكن عليه أن يعرف ما له علاقة ظاهرة بالأحكام منه ، ومما يساعده في ذلك أن طائفة من العلماء اعتنوا بآيات الأحكام خاصة فأفردوها بالتصنيف ، ككتاب " أحكام القرآن " للجصاص الحنفي ، ومثله لأبي بكر ابن العربي المالكي ، ومن الجوامع فيه : " الجامع لأحكام القرآن " لأبي عبد الله القرطبي ، وهذا الأخير عظيم المنفعة غزير العلم .

ب ـ علم نزول القرآن : 

وأجله معرفة أسباب النزول ، وفيه الوقوف على حكم التشريع ومقاصد الشريعة ، وإدراك الوجه الذي يكون عليه معنى الآية ، والجهل به مورد لزلل في الفهم ووضع للنص في غير محله .

وخذ له مثالاً :

فعن حميد بن عبد الرحمن بن عوف : 

أن مروان ـ وهو ابن الحكم ـ قال : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امريء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون ، فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ؟ إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } آل عمران : 187 , وتلا ابن عباس : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } آل عمران : 188، وقال ابن عباس : سألهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه .  

ومنه معرفة المكي والمدني .

ومن فوائده : 

معرفة أحكام اختلاف الدارين ، ومراعاة الظروف والمناسبات وأحوال المكلفين .

جـ ـ علم الناسخ والمنسوخ : 

وهو قليل في القرآن ، إلا أن معرفته لا بد منها للمجتهد ، لما ينبني عليه من إبطال العمل بنص وبناء الحكم على خلافه .

د ـ علم اختلاف القراءات : 

والذي يحتاجه منه هو الوقوف على وجوه القراءات الثابتة لآيات الأحكام ، فلها تأثير على استفادة الحكم ، تارة بالإبانة عنه وإيضاحه ، وتارة بإفادة حكم جديد ، وبغير ذلك .

هـ ـ علم التفسير : 

يعرف منه ما يتصل بقواعده ويرجع كثير منها في الحقيقة إلى " علوم العربية " و" أصول الفقه " ، لكن منه جوانب خاصة به كمعرفة وجوه التباين في أقوال المفسرين وما ترجع إليه ، ومعرفة أهله والعارفين به ، وتمييز الإسرائيليات حذر التأثر بها في استنباط الأحكام .

ومما تنبغي ملاحظته : 

أن حفظ القرآن حسن للمجتهد لكنه ليس بشرط في الاجتهاد ، لأن المطلوب هو أن يقف على الآية الدالة على الحكم ، فإذا أمكنه ذلك بأي طريق فقد تحصل المقصود .

3 ـ معرفة السنة :

والواجب أن يعرف منها :

أ ـ ما يميز به الصحيح من السقيم ، وهذا يتطلب معرفة بعلوم مصطلح الحديث ، والجرح والتعديل ، وعلل الحديث .

لكن له أن يعتمد على العارفين المتخصصين فيه ، ويكفيه ذلك عن النظر بنفسه واجتهاده في تفاصيل هذا العلم ، فيأخذ مثلاً تصحيح الشيخين البخاري ومسلم للحديث المعين أو غيرهما من أهل هذا الفن إذا تبين له أنهم من المثبتين فيه .

غير أن اعتماده على أصحاب التخصص لا يعفيه من أن يكون له من الفهم في قواعد هذا العلم ما يرجح به عند الاختلاف .

ومن ذلك أن يميز المتواتر من الآحاد .

ب ـ الأحاديث التي تدور عليها الأحكام , ويحسن به حفظها أو ما تيسر منها ولا يجب .

ولطائفة من العلماء اعتناء بأحاديث الأحكام ، ومن الكتب النافعة فيها كتاب " منتقى الأخبار " لمجد الدين ابن تيمية ، و " بلوغ المرام " للحافظ ابن حجر العسقلاني .

ويجدر به أن يعرف موارد الأحاديث ، فإن لها من ا لمنفعة للمجتهد ما لأسباب نزول القرآن ، كما عليه أن يلاحظ زيادات الثقات في المتون فيعتني بتتبعها وجمعها وتحقيق ثبوتها ، فلها من التأثير في الفقه والاستنباط ما يسبب اختلاف العلماء كثيراً .

4ـ معرفة علم أصول الفقه :

هذا العلم القاعدة العظمى للمجتهد للتوصل إلى الأحكام .

وتقدم في ثنايا هذا الكتاب ما يدرك به ذلك ، فهو بجميع تفاصيل أنواعه واجب التحصيل للمجتهد .

5 ـ معرفة مواضع الإجماع :

والمقصود به الإجماع الصحيح الذي تقدم شرحه ، وذلك لئلا يقضي بخلافه.

وما يبقى بعد هذه الشروط فضلة وليس بلازم للمجتهد ، فله أن يضرب بنصيه منها كما يشاء ، خاصة آراء المجتهدين من السلف في القرون الفاضلة لينظر أساليبهم في النظر والاستنباط ، ويعرف الخلاف وأدبه ، كما يحسن به أن يعرف رأي من سبقه من العلماء المجتهدين في المسائل التي يتعرض لها، ويتحرى أقوالهم قبل المصير إلى وفاقها أو خلافها ، كما يحسن به أن يكون له نظر في الشعر والأدب لترويض اللسان بلغة العرب .

كما يحسن به أن يعرف مباديء في الحساب تساعده في حساب المواريث، ويمكن أن يعود فيها إلى من يحسنها فيما يتعلق بالحساب المحض .

أما فنون العلم الخارجة عن العلوم الشرعية وما يلتصق بها ، كالطب والهندسة والزراعة والصناعة ، فلا صلة لها بالاجتهاد ، وإن عرض للمجتهد من الحوادث ما يحتاج إليها فيه فإنه يكفيه أن يرجع إلى أهلها يسألهم ، ويعتمد قولهم .

وأما الشروط اللازم توفرها في المسألة المجتهد فيها فيمكن إجمالها فيما يأتي :

أولاً : أن تكون هذه المسألة غير منصوص أو مجمع عليها , والمراد بذلك ألا يوجد في المسألة نص أصلاً :

والدليل على هذا الشرط حديث معاذ -رضي الله عنه- المشهور ، إذ جعل الاجتهاد مرتبة متأخرة إذا لم يوجد كتاب ولا سنة .

وقد كان منهج الصحابة -رضي الله عنه- النظر في الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم الاجتهاد .

ومعلوم أن الاجتهاد يكون ساقطًا مع وجود النص .

قال ابن عبد البر :

" باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة " .  

وقال الخطيب البغدادي أيضاً :

" باب في سقوط الاجتهاد مع وجود النص " .  

وقال ابن القيم :

" فصل في تحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص ، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص وذكر إجماع العلماء على ذلك " .

ثانياً : أن يكون النص الوارد في هذه المسألة - إن ورد فيها نص - محتملاً  قابلاً للتأويل :

كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " , فقد فهم بعض الصحابة من هذا النص ظاهره من الأمر بصلاة العصر في بني قريظة ولو بعد وقتها ، وفهم البعض من النص الحث على المسارعة في السير مع تأدية الصلاة في وقتها ولم ينكر -صلى الله عليه وسلم- على الفريقين ما فهم ، ولم يعنف الطرفين على ما فعل .

قال الشافعي :

" قال : فما الاختلاف المحرم ؟ قلت : كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحل الاختلافُ فيه لمن علمه ، وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياساً ، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس ، وإن خالفه فيه غيره ، لم أقل : إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص " .

وقد استدل الشافعي على أن الاختلاف مذموم فيما كان نصه بيناً بقوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } البينة : 4، وقوله تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } آل عمران : 105 .

وقد عدَّ ابن تيمية ذلك من أسٍباب الاختلاف بين العلماء فقال :

" وتارة يختلفون في كون الدلالة قطعية لاختلافهم في أن ذلك الحديث : هل هو نص أو ظاهر ؟ وإذا كان ظاهرا , فهل فيه ما ينفي الاحتمال المرجوح أو لا ؟ " .  

ثالثاً : ألا تكون المسألة المجتهد فيها من مسائل العقيدة :

فإن الاجتهاد والقياس خاصان بمسائل الأحكام على النحو الذي سبق بيانه في القياس .

قال ابن عبد البر :

" قال أبو عمر : لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة - وهم أهل الفقه والحديث - في نفي القياس في التوحيد وإثباته في الأحكام ، إلا داود بن علي بن خلف الأصبهاني ثم البغدادي , ومَن قال بقوله فإنهم نفوا القياس في التوحيد والأحكام جميعاً " .  

وعد ابن القيم من أنواع الرأي المذموم باتفاق سلف الأمة الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال .

رابعاً : أن تكون المسألة المجتهد فيها من النوازل ، أو مما يمكن وقوعه في الغالب والحاجة إليه ماسة :

 أما استعمال الرأي قبل نزول الواقعة والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات والاستغراق في ذلك ، فهو مما كرهه جمهور أهل العلم , واعتبروا ذلك تعطيلاً للسنن , وتركاً لما يلزم الوقوف عليه من كتاب الله عز وجل ومعانيه .

وقد استدل الجمهور على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم- : " إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته " .  

وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " إن الله كره لكم ثلاثاً : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " .

قال ابن القيم :

" ولكن إنما كانوا ( أي الصحابة ) -رضي الله عنه-  يسألونه ( أي النبي ) -صلى الله عليه وسلم- عما ينفعهم من الواقعات ، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها ، بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم ، وقد قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } المائدة : 101، 102.

ولم ينقطع حكم هذه الآية ، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه ، بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله " .

فعلم بذلك أن المجتهد لا ينبغي له أن يبحث ابتداء في مسألة لا تقع ، أو وقوعها نادر ، لكن إن سئل عن مسألة من هذا القبيل ، فهذه قضية أخرى ، لعل الكلام عليها أليق بمسائل الفتوى .

( مسألة ) : ما يمتنع فيه الاجتهاد :

مما تقدم ذكره في توضيح معنى الاجتهاد والمجتهد دال على حصر الاجتهاد فيما لم تثبت به نصوص الكتاب والسنة ، فيبقى فيه مجال للنظر ، أما القضايا والأحكام التي قطعت فيها النصوص فالأصل فيها التوقف عند النص من غير زيادة ولا استدراك ولا وجه من التغيير .

وعليه فيخرج من الاجتهاد أمور، هي :

1ـ العقائد : 

فهي كلها توقيفية ، ولهذا امتنع اشتقاق الأسماء الحسنى من صفات الأفعال ، فإن الله تعالى هو الذي سمي نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بما شاء من الأسماء ، ولسنا ندرك الحسن فيها ليصح لنا القياس ، فلا يسمى الله تعالى : راضياً ولا ساخطاً ولا غاضباً ، ولا ماكراً ولا مُهلكاً ، ولا غير ذلك من الأسماء اشتقاقاً من صفات فعله : الرضي ، والسخط ، والغضب ، والمكر ، والإهلاك .

كما يمتنع القياس لصفاته بصفات خلقه بأي وجه من الوجوه :

كقول مَن قال : " لله عينان " على التثنية ، استلالاً بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في المسيح الدجال : " إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور " .

والعور في اللغة : 

زوال حاسة البصر في إحدى العينين ، فهذا القول زيادة على الأدلة بتفسير استفيد من العرف في المخلوق ، وإنما نفى الحديث عن الله تعالى العور ، وإثبات لازمه يجب أن يكون بالنص ، والنص إنما جاء بإثبات كمال البصر لله رب العالمين ، فيوقف عنده من غير زيادة ، وتثبت لله العين كما أخبر عن نفسه تعالى ، ولا يقال " له عينان " لعدم ورود ذلك صريحاً في النصوص ، إلا في حديث موضوع .

2ـ المقطوع بحكمه ضرورة : 

وهو ما انعقد إجماع الأمة عليه ، كفرض الصلاة والزكاة والصيام والحج ، وحرمة الزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس بغير الحق ، فإن هذه وشبهها شرائع أحكمت على ما علم للكافة من أحكامها ، لا تقبل الاستنباط في هذا الجانب المعلوم منها .

3ـ المقطوع بصحة نقله ودلالته : 

كألفاظ الخاص التي هي نصوص قطعية على ما وردت به ، مثل تحديد عدد الجلدات في الزنا والقذف ، وفرائض الورثة ، ونحو ذلك .

وهذه الأنواع هي التي يقال فيها : 

" لا اجتهاد في موضع النص " ، المراد به النص القطعي في ثبوته ودلالته ، لا مطلق النص .

( فائدة ) : تجزؤ الاجتهاد :

المقصود بذلك : 

القدرة على الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض ، أو بعض الأبواب دون بعض . 

اختلف العلماء في جواز ذلك على قولين :

الأول : 

يقبل التجزؤ ، فيمكن أن يجتهد الإنسان بأحكام المناسك لإحاطته وعنايته بها ، دون سائر الأحكام ، ومنذ عهد الصحابة كان هذا شائعا في المجتهدين .

الثاني : 

لا يقبل ، لأن الاجتهاد ملكة تحصل للمجتهد بجمعه لآلات معينة ، وهذه الآلات إذا اجتمعت تمكن بها من النظر في أي مسألة .

وأظهر القولين هو الثاني ، فإن من أمكنه الاجتهاد في المناسك لزمه فيه شروط الاجتهاد ، فإذا وجدت فيه كان له الاجتهاد في سواها ، وليس المقصود بالمجتهد أن يكون قد اجتهد في كل قضية ، إنما المجتهد من أمكنه أن يجتهد في كل قضية لتملكه لآلة الاجتهاد .

هذا مع أن المجتهد قد يتوقف عن الجواب لعدم ظهور وجه الحكم له ، لا لنقص في الآلة أو قصور في الشرط ، وقد حصل من هذا شيء كثير لكثير من أئمة الأمة المقتدى بهم في الدين .

( تنبيهات ) : 

1- لا يجوز أن يخلو عصر عن قائم لله بحجته : 

وقد بوب الخطيب البغدادي لهذه المسألة بقوله : 

" ذكر الرواية أن الله تعالى لا يخلي الوقت من فقيه أو متفقه " . 

ومن الأدلة على ذلك : 

قوله -صلى الله عليه وسلم- : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " .  

وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يُجدد لها دينها " .  

ومن المتفق عليه أن هذه الأمة معصومة عن إضاعة الحق أو جهل نص محتاج إليه ، بالنسبة لجميع العلماء ، أما بالنسبة لبعضهم فقد يخطئ العام ،

أو يجهل العالم النص .

فإذا ثبت أن الحق لا يمكن أن يضيع عن عامة الأمة ، لزم أن يقوم بهذا الحق قائم واحد على الأقل .

2- أن الخلاف في المسائل الاجتهادية فيه رحمة بالأمة ، إذا التزم في هذا الخلاف بالشرع .

قال ابن تيمية :

" والنزاع في الأحكام قد يكون رحمةً إذا لم يُفضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم ، ولهذا صنف رجل كتاباً سماه كتاب الاختلاف، فقال أحمد : سمه كتاب السعة ، وأن الحق في نفس الأمر واحد ، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه ، ويكون من باب قوله تعالى : { لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } المائدة : 101.  

3- من الأحكام المترتبة على المسائل الاجتهادية :  

أ- أنه لا يجوز الإنكار على المخالف، فضلاً عن تفسيقه أو تأثيمه أو تكفيره.

ب- أن سبيل الإنكار إنما يكون ببيان الحجة وإيضاح المحجة .

جـ - أن المجتهد ليس له إلزام الناس بإتباع قوله .

د - أن غير المجتهد يجوز له اتباع أحد القولين إذا تبينت له صحته ، ثم يجوز له تركه إلى القول الآخر اتباعًا للدليل .

هـ - لا يصح للمجتهد أن يقطع بصواب قوله وخطأ من خالفه فيما إذا كانت المسألة محتملة .

و- أن الخلاف في المسائل الاجتهادية لا يخرج المختلفين من دائرة الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- .

ز - أن المجتهد يجب عليه اتباع ما أداه إليه اجتهاده ، ولا يجوز له ترك ذلك إلا إذا تبين له خطأ ما ذهب إليه أولاً ، فيصح أن يرد عن المجتهد قولان متناقضان في وقتين مختلفين لا في وقت واحد .

ح - أن المجتهد في مسائل الاجتهاد بين الأجر والأجرين ، وذلك إذا اتقى الله في اجتهاده.

ط - أن المسائل الاجتهادية ظنية في الغالب ، بمعنى أنه لا يقطع فيها بصحة هذا القول أو خطئه ، لكن قد توجد مسائل يسوغ فيها الاجتهاد وهي قطعية يقينية ، يجزم فيها بالصواب ، وذلك أن المجتهد قد يخالف الصواب دون تعمد، إما لتعارض الأدلة أو خفائها ، فلا طعن على من خالف في مثل ذلك .

4- إذا علم أن للمسائل الاجتهادية أحكاماً تخصها ، لزم التفريق بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية .

إذ يجب الإنكار على المخالف في المسائل الخلافية غير الاجتهادية ، كمن خالف في قول يخالف سنة ثابتة ، أو إجماعاً شائعاً .

وكذلك يجب الإنكار على العمل المخالف للسنة أو الإجماع بحسب درجات إنكار المنكر .  

5 ـ من أسباب الخلاف بين العلماء :  

أ- ألا يكون الحديث قد بلغ الواحد منهم .

ب- أن يكون الحديث قد بلغه ، لكنه لم يثبت عنده .

جـ- أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده ، لكن نسيه .

د- اعتقاده ألا دلالة في الآية أو الحديث .

هـ - اعتقاده أن دلالة النص صحيحة ، لكنه يعتقد أن تلك الدلالة قد عارضها ما يدل على ضعف النص أو نسخه أو تأويله .

6- من الأعذار التي تلتمس للعلماء في اختلافاتهم :

أ- أنهم ليسوا معصومين ، بل إن تطرق الخطأ لرأي العالم أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية ؛ إذ كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله .  

ب- تفاوت المدارك والأفهام ، فإن إدراك الكلام وفهم وجوهه بحسب منح الله سبحانه ومواهبه .

جـ - أن الإحاطة بحديث رسول الله  لم تكن لأحد من هذه الأمة .

د - أن ترك السنة ومخالفها لا يثبت عن أحد من العلماء إلا بسبب ولعذر ، لما علم من عدالتهم وإمامتهم ، وأنهم متفقون على وجوب اتباع السنة .

هـ - حصول بعض الانحرافات في نسبة المذاهب إلى أهلها .

فمن ذلك : 

أن يكون هذا القول لم يقله الإمام وإنما هو قول لبعض المتأخرين من اتباعه ، أو قاله الإمام وغلط بعض أصحابه فيه ، أو قاله الإمام فزيد عليه أو أن يفهم من كلامه ما لم يرده ، أو يجعل كلامه عاماً أو مطلقاً وليس كذلك ، أو أن يكون عنه في المسألة اختلاف فيتمسكون بالقول المرجوح ، أو أنه لم يقل مع كون لفظه محتملاً لما نقل عنه ، أو أنه قد قال وأخطأ .  

التقليــــد

تعريفه :

التقليد لغة : 

جعل القلادة في العنق ، والقلادة معروفة وهي ما تضعه المرأة في عنقها .  

واصطلاحا :

هو اتباع قول الغير من غير معرفة دليله .

ويمكن بيان هذا التعريف في الآتي :  

1- أن التقليد هو الأخذ بقول الغير ، أما الأخذ بالكتاب والسنة والإجماع فلا يسمى تقليداً وإنما هو اتباع ، فيكون المراد من قول الغير اجتهاده .

2- أن التقليد لا يكون إلا مع عدم معرفة الدليل ، وهذا إنما يتأتى من العامي المقلد الجاهل الذي لا قدرة له ولا نظر له في الأدلة .

أما من له القدرة على النظر في الأدلة فإن أخذه بقول الغير إن تبين له صوابه لا يكون تقليداً ، بل هذا ترجيح واختيار ، أما إن أخذ بقول الغير دون نظر في الأدلة مع كونه قادراً على النظر فهو مقلد ، ولا يعذر مع القدرة كما سيأتي .

3- موضع التقليد هو موضع الاجتهاد ، فما جاز فيه الاجتهاد من المسائل جاز فيه التقليد ، وما حرم فيه الاجتهاد حرم فيه التقليد .

والمقلد تابع للمجتهد في اجتهاده ، يلزمه تقليده ، وليس له أن يرجح أو يصوب أو يخطئ ؛ إذ لا قدرة له على ذلك ، لذلك ساغ تسمية التقليد تقليداً ، فكأن المقلد وضع أمره وفوضه إلى المجتهد كالقلادة إذا جعلت في العنق .

حكم التقليد :

التقليد جملة جائز للعامة الذين لا قدرة لهم على النظر في الأدلة واستنباط الأحكام منها .

قال ابن عبد البر :

" ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } النحل : 43 ، وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه ، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه " .  

وقال ابن تيمية :

" والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة ، والتقليد جائز في الجملة ، ولا يوجبون الاجتهاد على كل أحد , ويحرمون التقليد ، ولا يوجبون التقليد على كل أحد ويحرمون الاجتهاد " . 

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 8:05 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقه ج 2   زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Emptyالأحد 22 فبراير 2015, 3:06 pm

أما حكم التقليد على وجه التفصيل : 

فمنه ما هو جائز ، ومنه ما ليس بجائز.  

أما التقليد الجائز فهو ما تحققت فيه الشروط الآتية :

1- أن يكون المقلد جاهلاً ، عاجزاً عن معرفة حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ، أما القادر على الاجتهاد فالصحيح أن يجوز له التقليد حيث عجز عن الاجتهاد إما لتكافؤ الأدلة ، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد ، وإما لعدم ظهور دليل له ، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب الاجتهاد وانتقل إلى بدله وهو التقليد .

2- أن يقلد من عرف بالعلم والاجتهاد من أهل الدين والصلاح .

3- أن يتبين للمقلد الحق وأن يظهر له أن قول غير مقلده أرجح من قول مقلده ، أما إن تبين له ذلك أو عرف الحق وفهم الدليل فإن التقليد والحالة كذلك لا يجوز بل الواجب عليه اتباع ما تبينت صحته .

4- ألا يكون في التقليد مخالفة واضحة للنصوص الشرعية أو لإجماع الأمة.

5- ألا يلتزم المقلد مذهب إمام بعينه في كل المسائل ، بل عليه أن يتحرى الحق ، ويتبع الأقرب للصواب ، ويتقي الله ما استطاع .

وعليه - في المقابل - ألا يتنقل بين المذاهب تتبعاً للرخص وبحثاً عن الأسهل على نفسه والأقرب لهواه .

وأما التقليد المذموم فهو أنواع ، منها :

1- الإعراض عما أنزل الله ، وعدم الالتفات إليه اكتفاءً بتقليد الآباء ، قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } لقمان : 21 .  

2- تقليد مَن لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله ، قال تعالى : { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } الإسراء : 36 .

3- تقليد قول مَن عارض قول الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ، كائناً من كان ذلك المعارض قال تعالى : { وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } الأعراف : 3.

4- التقليد بعد وضوح الحق ومعرفة الدليل .

5- تقليد المجتهد القادر على الاجتهاد مع اتساع الوقت وعدم الحاجة .

6- تقليد مجتهدٍ واحدٍ بعينه في جميع اجتهاداته .

تقليد الفقهاء الأربعة :

الأئمة الأربعة : 

أبو حنيفة ، ومالك بن أنس ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، رحمهم الله ، من سادة الأمة وأعلام الأئمة ، كتب الله تعالى لهم القبول في نفوس أهل الإسلام ، وجعلهم قدوة للأنام على مر العصور في فروع الشريعة ، كما جعلهم مع إخوانهم من أمثالهم من الأئمة كالثوري والأوزاعي وابن عيينة والحميدي وإسحاق بن راهويه وغيرهم أئمة الناس في أصول الشريعة .

ولم يكن الاجتهاد مقصوراً على هؤلاء الأربعة ، ولكن الله تعالى قيض لهم من الأصحاب مَن قاموا بفقههم ومسائلهم ، كما أن التأليف من بعضهم في الفقه كمالك والشافعي كان من أسباب حفظ مذاهبهم .

وما قصد واحد من هؤلاء السادة أن يكون مذهبه بمثابة الشريعة المعصومة ، ولا قصد واحد منهم أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده ، بل أرادوا النصيحة لأهل الإسلام بما آتاهم الله من آلة الفقه والنظر ، وبقيت مذاهبهم وآراؤهم في اعتبارهم صواباً يحتمل الخطأ .

لكن لما وجد مَن جاء بعدهم من علماء الأمة تدوين المسائل وتوضيح الدلائل بنوا على ذلك ، فوقع من العناية بمسائلهم تفصيلاً وتأصيلاً ما لا ينقضي من سعته العجب .

وكان الأمر حتى في حق مَن بلغ رتبة الاجتهاد من أتباعهم أن تخرَّجوا من مدارسهم ونهلوا من علومهم ، وصار مَن أراد تلقي علوم الفقه لا يستغني عن سلوك سبيلهم والانتفاع بهم ، وإن فاتته علومهم فقد فاته خير كثير .

وليس في هذا الذي علمت شيء يُذم , لكن الذي لا يرتضيه الأئمة أنفسهم أن تجعل آراؤهم بمنزلة النصوص ، بل إن النص بضدها يقبل النسخ والتأويل كما صرح بذلك بعض المتعصبين ، أو أن يوجب الالتزام بها دون غيرها وحرم النظر في أدلة الكتاب والسنة ، أو أنها تكون سبباً في تفريق المسلمين فيجعل في المسجد الحرام في فترة من الزمن أربعة محاريب ، أو أن يجعل من فروع المذهب بطلان الصلاة للحنفي خلف الشافعي ، وأمور سوى ذلك من الزيغ والضلال للحنفي خلف الشافعي ، وأمور سوى ذلك من الزيغ والضلال والخروج عن الهدى والصراط المستقيم ، مما جعل كثيراً من العلماء يشنعون على التقليد والمذهبية غاية التشنيع ، فجرأ هؤلاء بدورهم كثيراً من الجهال على الكلام في أحكام الدين بغير علم  , وهكذا الشأن في كل مسلك يجاوز الاعتدال .

وحاصل القول : 

أن الناس كما تقدم صنفان ، عالم مجتهد ، وعامي مقلد ، فأما المجتهد فقد امتنع عليه التقليد ما دام قادراً على الاجتهاد ، وأما المقلد فإنه مأمور بسؤال من يقدر على سؤاله من أهل العلم ، ولا يتقيد بمذهب من المذاهب الأربعة ، وإنما هو كما يقول بعض العلماء : " مذهبه مذهب مَن يستفتيه " ، وعلى هذا أكثر أهل العلم .

لكن التتلمذ لمَن يقصد تحصيل آلة الاجتهاد على مذهب من هذه المذاهب لأجل ما وقع من العناية بها مشروع صحيح ؛ نظراً لما يحقق من المصالح العظيمة في مراتب العلم ، ولا ضرورة لتسميته تقليداً ، فإن كان في مراحل العلم فله بعض الحال يشبه العامي فيأخذ حكمه المذكور آنفاً ، وله حال يشبه المجتهد فيأخذ حكمه كذلك .

أما الانتساب بسبب التلقي إلى واحد من هذه المذاهب ، فشرط جوازه أن لا يقترن بعصبية .

قال الشيخ الشنقيطي :

" اعلم أن موقفنا من الأئمة ـ رحمهم الله ـ ، من الأربعة وغيرهم هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم ، وهو موالاتهم ومحبتهم ، وتعظيمهم وإجلالهم  والثناء عليهم بما هم عليه من العلم والتقوى ، واتباعهم في العمل بالكتاب والسنة وتقديمهما على رأيهم ، وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق ، وترك ما خالف الكتاب والسنة منها .

أما المسائل التي لا نص فيها :

فالصواب النظر في اجتهادهم فيها ، وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا ؛ لأنهم أكثر علماً وتقوى منا ، ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضى الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه ، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، وقال : " فمَن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " .  

وحقيقة القول الفصل في الأئمة رحمهم الله :

أنهم من خيار علماء المسلمين ، وأنهم ليسوا معصومين من الخطأ ، فكل ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ، وما أخطئوا فيه فهم مأجورون فيه باجتهادهم ، معذورون في خطئهم ، فهم مأجورون على كل حال ، لا يلحقهم ذم ولا عيب ولا نقص في ذلك .

ولكن كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفي .

فلا تك ممن يذمهم وينتقصهم، ولا ممن يعتقد أقوالهم مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله أو مقدمة عليهما " .  

ولتقريب هذا الموقف أحب أن ألقي الضوء على بعض الأمور :

* اعلم أن الأئمة ـ رحمه الله ـ ليسوا معصومين , وكل من الأئمة أخذت عليه مسائل , قال العلماء : إنه خالف فيها السنة .

فهذا الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ وهو أكثرهم في ذلك لأنه أكثرهم رأياً ، يترك العمل بحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال ، وبحديث تغريب الزاني البكر وغير ذلك .

وأخِذ على مالك إنكاره صيام الست من شوال ، واستحسانه صيام الجمعة ولو مفرداً ، لأنه لم يبلغه السنة فيهما ، وترك مالك العمل بحديث خيار المجلس ، وهو متفق عليه ! إلى غير ذلك .

وأخذ على الشافعي ـ رحمه الله ـ قوله بنقض الوضوء من مجرد لمس المرأة بدون حائل ، مع ورود ما يخالفه في السنة ، على أن له أجوبة عليها .

وأخذ على أحمد ـ رحمه الله ـ صوم يوم الشك احتياطاً لرمضان ، مع ورود النص بالنهي عن صومه وغير ذلك .

وليس المقصود هنا انتقاص الأئمة وعيبهم فيما أخذ عليهم ، لأنهم ـ رحمهم الله ـ بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم اجتهدوا بحسب طاقاتهم ، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته ، والمخطئ منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطأه ، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يجب تقديمها على أقوالهم ، لأنهم غير معصومين من الخطأ .  

* وليُعلم أنه ليس أحد من الأئمة - المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً - يتعمد مخالفة رسول الله * في شيء من سنته , دقيق ولا جليل , إنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- , وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك , إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- , ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه , فلابد له من عذر في تركه .

* وأعذار الأئمة ـ رحمهم الله ـ في ترك السنة هي :  

الأول : عدم اعتقاد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله ، وهذا له أسباب :

ـ أن لا يكون الحديث قد بلغه , ومَن لم يبلغه الحديث لم يُكلف أن يكون عالماً بموجبه , وإذا لم يكن قد بلغه - وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر , أو بموجب قياس , أو موجب استصحاب - فقد يوافق ذلك الحديث تارة , ويخالفه أخرى .

وهذا السبب : 

هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث .

فمَن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة , أو إماماً معيناً فهو مخطئ خطأ فاحشاً قبيحاً .

ـ أن يكون الحديث قد بلغه , لكنه لم يثبت عنده , إما لأن محدثه , أو محدث محدثه , أو غيره من رجال الإسناد مجهول عنده , أو متهم أو سيئ الحفظ .

ـ اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره , مع قطع النظر عن طريق آخر , سواء كان الصواب معه , أو مع غيره , أو معهما عند من يقول : { كل مجتهد مصيب } .

ـ اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً يخالفه فيها غيره , مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة , واشتراط بعضهم أن يكون المحدث فقيهاً إذا خالف قياس الأصول , واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى , إلى غير ذلك مما هو معروف في مواضعه .

ـ أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه .

الثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول ، ولهذا أسباب منها :

ـ عدم معرفته بدلالة الحديث , فتارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريباً عنده ومما يختلف العلماء في تفسيره , وتارة لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي -صلى الله عليه وسلم- , وهو يحمله على ما يفهمه في لغته , بناء على أن الأصل بقاء اللغة , وتارة لكون اللفظ مشتركاً , أو مجملاً , أو متردداً بين حقيقة ومجاز فيحمله على الأقرب عنده , وإن كان المراد هو الآخر .

ـ وتارة لكون الدلالة من النص خفية , فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جدا يتفاوت الناس في إدراكها , وفهم وجوه الكلام بحسب منح الحق سبحانه ومواهبه , ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم , ولا يتفطن لكون هذا المعنى داخلاً في ذلك العام .

ثم قد يتفطن له تارة ثم ينساه بعد ذلك , وهذا باب واسع جداً لا يحيط به إلا الله , وقد يغلط الرجل , فيفهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية التي بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بها.

ـ اعتقاده أن لا دلالة في الحديث , والفرق بين هذا وبين الذي قبله , أن الأول لم يعرف جهة الدلالة .

والثاني عرف جهة الدلالة , لكن اعتقد أنها ليست دلالة صحيحة , بأن يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة , سواء كانت في نفس الأمر صواباً أو خطأ  مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة , أو أن المفهوم ليس بحجة , أو أن العموم الوارد على سبب مقصور على سببه , أو أن الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب , أو لا يقتضي الفور , أو أن المعرف باللام لا عموم له , أو أن الأفعال المنفية لا تنفي ذواتها ولا جميع أحكامها , أو أن المقتضي لا عموم له فلا يدعي العموم في المضمرات والمعاني , إلى غير ذلك مما يتسع القول فيه .

ـ اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مراده , مثل معارضة العام بخاص , أو المطلق بمقيد , أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب  أو الحقيقة بما يدل على المجاز إلى أنواع المعارضات , وهو باب واسع أيضا فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم .

ـ اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه , أو نسخه , أو تأويله إن كان قابلاً للتأويل , بما يصلح أن يكون معارضاً بالاتفاق مثل آية , أو حديث آخر , أو مثل إجماع .

وهذا نوعان :

أحدهما : أن يعتقد أن هذا المعارض راجح في الجملة , فيتعين أحد الثلاثة من غير تعيين واحد منها , وتارة يعين أحدها , بأن يعتقد أنه منسوخ أو أنه مؤول , ثم قد يغلط في النسخ فيعتقد المتأخر متقدماً , وقد يغلط في التأويل بأن يحمل الحديث على ما لا يحتمله لفظه , أو هناك ما يدفعه  وإذا عارضه من حيث الجملة , فقد لا يكون ذلك المعارض دالاً , وقد لا يكون الحديث المعارض في قوة الأول إسناداً أو متنا .

فهذه الأسباب وغيرها أكثر ما يُعذر الأمام بمخالفته الحديث من أجله ، وهي في الحقيقة أسباب اختلافهم ـ رحمهم الله ـ .

وإذا تقرر هذا ، فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم , إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة وإن كان أعلم , إذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية , فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده  بخلاف رأي العالم .

وإليك أخي القارئ ما وقفنا عليه من أقوالهم ـ رحمهم الله ـ في ذلك :  

1 ـ الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ :

فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ـ رحمه الله ـ وقد روي عنه أصحابه أقوالاً شتى ، وعبارات متنوعة ، كلها تؤدي إلى شئ واحد وهو : وجوب الأخذ بالحديث ـ وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له فقال :

ـ " إذا صح الحديث فهو مذهبي " .

ـ " لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه " .

ـ " حرام على مَن لم يعرف دليلي أن يُفتي بكلامي " .

ـ وفي رواية " فإننا بشر ، نقول القول اليوم ونرجع فيه غداً " .

ـ " إذا قلت قول يخالف كتاب الله تعالى وخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاتركوا قولي ".

2 ـ الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ :

وأما الإمام مالك ـ رحمه الله ـ فقال :

ـ " إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه " .

ـ " ليس أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ويؤخذ من قوله ويترك ، إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- " .

ـ  وقال ابن وهب :

" سمعت عمى يقول : سمعت مالكاً سُئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء , فقال : ليس ذلك على الناس .

قال : فتركته حتى خف على الناس , فقلت له : عندنا في ذلك سنة .

فقال : وما هي ؟ قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبى عبد الرحمن الحبلى عن المستورد بن شداد القرشي قال : " رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه " .

فقال : إن هذا الحديث حسن , وما سمعت به قط إلا الساعة , ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع " .  

3 ـ الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ :

وأما الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ فالنقول عنه ذي ذلك أكثر وأطيب ، وأتباعه أكثر عملاً بها وأسعد ، فمنها :

ـ " ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعزب عنه ، فمهما قلت من قول ، أو أصلت فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلاف ما قلت ، فالقول قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وهو قولي " .

ـ " أجمع المسلمون على أن مَن استبان له سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحل له أن يدعها لقول أحد " .

ـ " إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقولوا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ودعوا قولي " .

ـ " كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند أهل النقل بخلاف ما قلت ، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي " .

ـ  " إذا رأيتموني أقول قولاً ، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلافه ، فاعلموا أن عقلي قد ذهب " .

4 ـ الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ :

وأما الإمام أحمد ، فهو أكثر الأئمة جمعاً للسنة وتمسكاً بها ، حتى " كان يكره وضع الكتب التى تشتمل على التفريع والرأي " ، ولذلك قال :

ـ لا تقلدني ، ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا " .

ـ " من رد حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فهو على شفة هلكة " .

ولقد نظم أحد الشعراء ما قاله الأئمة الأربعة في أرجوزة قصيرة فقال :

وقول أعلام الهدى لا يقبــــــلُ     بقولِ ما بدون نصِ يعمـــــــــــــــلُ

فيه دليل الأخذ بالحديـــــــــثِ      وذاك في القديمِ والحديــــــــــــــثِ

قال أبو حنيفة الإمــــــــــــــامُ      لا ينبغي لمن له إســــــــــــــــــلامُ

أخذاً بأقواليَ حتى تُعــــــرضَ     على الحديثِ والكتاب المرتضــــــيَ

ومالكُ إمام دار الهجــــــــــرةِ      قال وقد أشار نحو الحجــــــــــــرةِ

كل كلام منه ذو قبـــــــــــــولِ      ومنه مردود سوى الرســـــــــــولِ

والشافعي قال إن رأيتمـــــــوا      قولي مخالف لما رويتمــــــــــــــوا

من الحديث فاضربوا الجــدارَ      بقول المخالف الأخبـــــــــــــــــــارَ

وأحمد قال لهم لا تكتبـــــــــوا      ما قلته والأصل ذاك فاطلبــــــــــوا

فانظر ما قالت الهداة الأربعـة       واعمل به فإن فيه منفعـــــــــــــــة

لقمعها لكل ذي تعصــــــــــبِ       والمنصفون يكتفون بالنبــــــــــــي

الفتــــــوى :

تعريفها :

الفتوى والفتيا لغة : 

بيان الحكم .  

واصطلاحاً : 

بيان الحكم الشرعي .

وهذا التعريف شامل لما أخبر به المفتي مما نص عليه الكتاب والسنة ، أو أجمعت عليه الأمة ، ولما استنبطه وفهمه باجتهاده .  

أهميتها وخطورتها :

1- أن المفتي موقع عن رب العالمين .

قال ابن القيم :

" وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ، ولا يجهل قدره ، وهو من أعلى المراتب السنيات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات ؟

فحقيق بمَن أقيم في هذا المنصب أن يُعد له عدته ، وأن يتأهب له أهبته ، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به , فإن الله ناصره وهاديه ، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب ، فقال تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } النساء : 127، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفًا وجلالة " .

2- أن المفتي من شأنه إصدار الفتاوى في ساعته بما يحضره من القول ، فلا يتهيأ له من الصواب ما يتهيأ لمن أطال النظر وتثبت كالقاضي .

3- أن فتوى المفتي - وإن لم تكن ملزمة - حكم عام يتعلق بالمستفتي وبغيره  فالمفتي يحكم حكماً عاماً كلياً أن من فعل كذا ترتب عليه كذا ، ومن قال كذا لزمه كذا ، بخلاف القاضي فإن حكمه جزئي خاص على شخصٍ معينٍ لا يتعداه إلى غيره .

حكم الفتوى :

لما كان حكم الفتوى مما تتطرق إليه الأحكام التكليفية الخمسة حسن توضيح ذلك فيما يأتي :

أ- حكم الإفتاء في الأصل جائز :

فقد ثبت عن الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يفتون الناس ، فمنهم المُكثر في ذلك والمُقل ، وكذلك كان في التابعين وتابعيهم ومن بعدهم .  

فلا بد للناس من علماء يسألونهم ، ومفتين يستفتونهم .

قال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } الأنبياء : 7 .

وقال -صلى الله عليه وسلم- : " ألا سألوا إذ لم يعلموا ، فإنما شفاء العي السؤال " .  

ب- وقد يكون الإفتاء واجباً :

وذلك إذا كان المفتي أهلاً للإفتاء ، وكانت الحاجة قائمة ، ولم يوجد مفتٍ سواه ، فيلزمه والحالة كذلك فتوى من استفتاه ، لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } البقرة : 159، وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } آل عمران : 187 .

وقال -صلى الله عليه وسلم-:" مَن سُئل من علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " .

جـ - وقد يكون الإفتاء مستحباً :

إذا كان المفتي أهلاً ، وكان في البلد غيره ، ولم تكن هنالك حاجة قائمة .

د - وقد يحرم على المفتي الإفتاء :

وذلك إذا لم يكن عالماً بالحكم ، لئلا يدخل تحت قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } الأعراف : 33 .

فجعل الله القول عليه بلا علم من المُحرمات التي لا تباح بحال ، ولهذا حصر التحريم فيها بصيغة الحصر .

وكذلك يحرم الإفتاء فيما إذا عرف المفتي الحق :

فلا يجوز له أن يفتي بغيره ، فإن مَن أخبر عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمداً ، وقد قال تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ } الزمر : 60 . والكاذب على الله أعظم جرماً ممن أفتى بغير علم .

هـ - ويكره للمفتي أن يفتي في حال غضب شديد ، أو جوعٍ مفرطٍ ، أو هم مقلق ، أو خوف مزعج ، أو نعاسٍ غالب ، أو شغلِ قلب مستول عليه ، أو حالِ مدافعة الأخبثين :

بل متى أحس من نفسه شيئاً من ذلك يخرجه عن حال اعتداله وكمال تثبته وتبينه أمسك عن الفتوى .

و- وعلى كل ، فالضابط لحكم الإفتاء النظر إلى المصالح والمفاسد .

قال ابن القيم :

" هذا إذا أمن المفتي غائلة الفتوى ، فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها أمسك عنها ، ترجيحاً لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما , وقد أمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نقض الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم لأجل حدثان عهد قريش بالإسلام , وأن ذلك ربما نفرهم عنه بعد الدخول فيه .

وكذلك إن كان عقل السائل لا يحتمل الجواب عما سأل عنه ، وخاف المسئول أن يكون فتنة له ، أمسك عن جوابه " .  

شروط المفتي وصفته وآدابه :

أولاً : شروط المفتي :  

أ- أن يكون عالماً ، قد توفرت فيه شروط الاجتهاد السابق ذكرها.

ب- أن يكون عدلاً، متصفاً بالصدق والأمانة .

قال ابن القيم :

" ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه ، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتية إلا لمن اتصف بالعلم والصدق ، فيكون عالما بما يبلغ ، صادقا فيه .

ويكون مع ذلك حسن الطريقة ، مرضي السيرة ، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله " .  

ثانياً : صفات المفتي :

للمفتي خصال لا بد أن يتحلى بها في نفسه وفي سائر حاله .

قال الإمام أحمد :

لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال :

أولها : أن تكون له نية ، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ، ولا على كلامه نور .

الثانية : أن يكون له علم ، وحلم ، ووقار ، وسكينة .

الثالثة : أن يكون قوياً على ما هو فيه ، وعلى معرفته .

الرابعة : الكفاية ، وإلا مضغه الناس .

الخامسة : معرفة الناس " .  

قال ابن القيم :

" فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى ، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه " .

يتبع إن شاء الله...



زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 2013_110


عدل سابقا من قبل أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn في الإثنين 21 سبتمبر 2020, 8:05 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn
مؤسس ومدير المنتدى
أحمد محمد لبن Ahmad.M.Lbn


عدد المساهمات : 52561
العمر : 72

زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: زاد الطالب في أصول الفقه ج 2   زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 Emptyالأحد 22 فبراير 2015, 4:54 pm

ثالثاً : آداب المفتي 

للمفتي آداب ينبغي أن يتحلى بها قبل إصداره الفتوى ، وأثناء الفتوى ، وبعدها .

فمن ذلك :

1- ألا يفتي في مسألة يكفيه غيره إياها ، فقد كان السلف ? يتدافعون الفتوى ، ويتورعون عن الإفتاء ، ويود أحدهم أن يكفيه الجواب غيره ، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل جهده في معرفة حكمها مستعينًا بالله تعالى .

2- ألا يتسرع في إصدار الفتوى إن تعينت عليه ، بل عليه أن يتأمل وينظر

ولا يبادر إلى الجواب إلا بعد استفراغ الوسع ، وبذل الجهد ، وحصول الاطمئنان .

لذلك كان على المفتي :

3- أن يستشير مَن يثق بدينه وعلمه ، ولا يستقل بالجواب ذهاباً بنفسه وارتفاعاً بها ، فقد قال الله لنبيه ? : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } آل عمران : 159، وأثنى على المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم .

هذا إذا لم يعارض ذلك مفسدة من إفشاء سر السائل أو تعريضه للأذى ، أو مفسدة لبعض الحاضرين .

لذلك فإن على المفتي :

4- أن يحفظ أسرار الناس ، وأن يستر ما اطلع عليه من عوراتهم .  

5- إذا اعتدل عند المفتي قولان أو لم يعرف الحق منهما فلم يتبين له الراجح من القولين فالأظهر أنه يتوقف ولا يفتي بشيء .

6- للمفتي أن يدل المستفتي على عالم غيره ، لكن على المفتي أن يتقي الله ويرشده إلى رجل سُنة ، فإنه إما أن يكون مُعيناً على البر والتقوى ، أو على الإثم والعدوان .

وهذه الدلالة وذلك التوقف إنما يجوز بالتفصيل الآتي :

7- إذا كانت الفتوى مخالفة لغرض السائل فإن على المفتي أن يفتي بالحق الذي يعتقده ، ولا يسعه أن يتوقف في الإفتاء به إذا خالف غرض السائل ؛ فإن ذلك إثم عظيم ، وكيف يسعه من الله أن يقدم غرض السائل على الله ورسوله ? ، ولا يجوز له أيضاً أن يدله على مفتٍ أو مذهبٍ يكون غرضه عنده .

8- ذكر الدليل والتعليل ، فإن جمال الفتوى وروحها هو الدليل ، وقول المفتي إذا ذكر معه الدليل حجة يحرم على المستفتي مخالفتها ، ويبرئ المفتي من عهدة الإفتاء بلا علم ، ومن تأمل فتاوى النبي ? الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ، ونظيره ، ووجه مشروعيته .

ومن ذلك : نهيه عن الخذف .  

وتعليل ذلك بأنه : " يفقأ العين ويكسر السن " .  

وكذلك أحكام القرآن فإن الله يرشد إلى مداركها وعللها ، كقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } البقرة : 222 .

9- التوطئة للحكم إذا كان مستغرباً لم تألفه النفوس بما يؤذن به ويدل عليه ، ويقدم بين يديه مقدمات تؤنس به .

10- الإرشاد إلى البديل المناسب ، فإن من فقه المفتي ونصحه إذا منع المستفتي مما يحتاجه أن يدله على ما هو عوض له منه ، فإذا سد عليه باب المحظور فتح له باب المباح ، فمتى وجد المفتي للسائل مخرجاً مشروعاً أرشده إليه ونبهه عليه ، كما قال تعالى لأيوب ? لما حلف أن يضرب زوجته مائة : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ } ص : 44 .

11- ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه ، فإن النص يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام ، فهو حكم مضمون له الصواب ، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان .

وقد كان الصحابة ? إذا سئلوا عن مسألة يقولون : قال الله كذا ، قال رسول الله ? كذا، أو فعل رسول الله ? كذا ، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلاً .

ويحرم على المفتي أن يفتي بضد لفظ النص ، بل عليه أن يتبع النص ولو خالف مذهبه .

وبيان ذلك :

12- يجب على المفتي أن يفتي بالحق ولو خالف مذهبه , وعليه أن يجعل مذهبه ثلاثة أقسام : 

أ- قسم ، الحق فيه ظاهر ، بين ، موافق للكتاب والسنة ، فهذا يفتي به مع طيب نفس وانشراح صدر .

ب- قسم مرجوح ومخالفه معه الدليل ، فهذا لا يُفتي به .

جـ - قسم من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة ، فهذا قد يفتي به وقد لا يفتي ، حسب النظر .

13- ينبغي على المفتي أن يبين للسائل الجواب بياناً مزيلاً للإشكال ، متضمناً لفصل الخطاب ، كافياً في حصول المقصود ، لا يحتاج معه إلى غيره  ولا يوقع السائل في الحيرة والإشكال .

ولا يكون كالمفتي الذي سُئل عن مسألة في المواريث فقال : يُقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل , وسئل آخر عن مسألة فقال : فيها قولان ولم يزد .

وهذا حيد عن الفتوى ، إلا أن المفتي المتمكن من العلم المضطلع به قد يتوقف في المسألة المتنازع فيها فلا يقدم على الجزم بغير علم ، وغاية ما يمكنه أن يذكر الخلاف فيها للسائل .

وهذا كثير في أجوبة الإمام الشافعي وأحمد ، فلا بأس من الجواب بذكر الخلاف إن كان المفتي متوقفاً .

14- ينبغي للمفتي إذا كان السؤال محتملاً استفصالُ السائل ، وعدم إطلاق الجواب إلا إذا علم أنه أراد نوعاً من تلك الأنواع الممكنة في المسألة .

فمتى دعت الحاجة إلى الاستفصال استفصل ، ومتى كان الاستفصال لا يحتاج إليه تركه .

فإذا سئل عن مسألة من الفرائض لم يجب عليه أن يذكر موانع الإرث ؛ فيقول : بشرط ألا يكون كافراً ، ولا رقيقاً ، ولا قاتلاً .

وإذا سئل عن فريضة فيها أخ وجب عليه أن يقول : إن كان لأب فله كذا ، وإن كان لأم فله كذا .

15- ينبغي للمفتي أن ينبه على وجه الاحتراز مما قد يذهب إليه الوهم على خلاف الصواب ، كقوله ? : " لا تجلسوا على القبور , ولا تصلوا إليها " .  

فإن نهيه عن الجلوس فيه نوع تعظيمٍ لها ، لذا عقبه بالنهي عن المبالغة في تعظيمها حتى تجعل قبلة .

16- لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بأنه أحل كذا أو حرمه ، إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- على حله أو تحريمه ، والأولى أن يقول : نكره كذا ، نرى هذا حسناً ، ينبغي هذا ، لا نرى هذا ، ونحو ذلك مما نقل عن السلف في فتاواهم .

17- ينبغي للمفتي إذا نزلت به المسألة أن يتوجه إلى الله بصدقٍ وإخلاصٍ أن يلهمه الصواب ويفتح له طريق السداد ، ويدله على حكمه الذي شرعه في المسألة ، فإذا استفرغ وسعه في التعرف على الحكم فإن ظفر به أخبر به ، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله .

فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده ، والهوى والمعصية عاصفة تطفئ ذلك النور أو تكاد ، ولا بد أن تضعفه .

ومما يجدر الدعاء به :

ما ورد في الحديث الصحيح : " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم " .  

وكان بعضهم يقول عند الإفتاء : { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } البقرة : 32 .

وبعضهم يقول : " يا معلم إبراهيم علمني " .

وبعضهم يقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " .

وبعضهم يقول : { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي } طه : 25 - 28 .

18- يجوز للمفتي بل يجب عليه أن يغير فتواه إذا تبين له أنها خطأ ، ولأجل هذا خرج عن بعض الأئمة في المسألة قولان فأكثر ، وهذا لا يقدح في علم المفتي ولا في دينه ، بل هو دليل على تقواه وسعة علمه .

ولا يجب عليه والحالة كذلك أن يخبر المستفتي إن كان قد عمل بالفتوى الأولى ، إلا إن ظهر للمفتي الخطأ قطعاً لكونه خالف نصاً لا معارض له أو إجماع الأمة ، فعليه إعلام المستفتي في هذه الحالة .

آداب المستفتي :

1- على المستفتي أن يجتهد في البحث عن المفتي الأعلم والأدين ؛ لأنه المستطاع من تقوى الله المأمور به كل أحد .

2- ينبغي للمستفتي أن يلزم الأدب مع المفتي وأن يوقره ويُجله .

3- لا يجوز للمستفتي العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه إليها ، وكان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه به ، ولم تخلصه فتوى المفتي من الله كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك ، كما قال -صلى الله عليه وسلم- : " فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " , وعلى المستفتي أن يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة إذا كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي , كأن يعلم المستفتي جهل المفتي ومحاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة ، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة ، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها ، فإن لم يجد من يسأله فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والواجب تقوى الله قدر الاستطاعة .  

4- إذا استفتى المستفتي عن حكم حادثة فأفتاه المفتي وعمل بفتواه ، ثم وقعت له ثانية فالأحوط للمستفتي أن يستفتي مرة ثانية ، لاحتمال أن يكون المفتي قد غير اجتهاده ، ولاحتمال طروء بعض ما يغير حكم الحادثة ، فيظن المستفتي أن الحادثة هي هي وأن حكمها لم يتغير ، والواقع أنهما حادثتان مختلفتان وأن لكل منهما حكماً يخصها .

5- لا ينبغي للمستفتي أن يسال عما يبعد وقوعه أو لا يمكن وقوعه ، لقوله -صلى الله عليه وسلم- : " من حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " .  

الخاتمــــــــة :

وفي النهاية اسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل المتواضع سهلاً ميسوراً لكل قارئ كريم ، ولكل طالب علم مجد ، فهذا هو المقصود من إعداد هذا الكتاب .

وهو أن يستطيع القارئ الكريم أن يفهم ويستوعب هذا العلم بدون تعقيد ولا غموض .

أسأل الله تعالى أن يكون عملاً متقبلا ، وأن يكون لوجه الله تعالى خالصاً إنه ولى ذلك والقادر عليه .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين .

إعداد

محمد الخضيري

سامحه الله وغفر له .

أهم المراجـــــــع :

القرآن الكريم .

كتب السنة .

" أساس البلاغة " للزمخشري .

" أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن " لمحمد الأمين الشنقيطي .

" إعلام الموقعين عن رب العالمين " لابن قيم الجوزية .

" اقتضاء الصراط المستقيم " لابن تيمية .

" جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر .

" البحر المحيط في أصول الفقه " للزركشي .

" جماع العلم " للشافعي .

" الرسالة " للشافعي .

" روضة الناظر وجنة المناظر " لابن قدامة المقدسي .

" شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة "  للالكائي .

" شرح الكوكب المنير "  لابن النجار الفتوحي .

" الفقيه والمتفقه " للخطيب البغدادي .

" مجموع الفتاوى " لابن تيمية .

" المختصر في أصول الفقه " لابن اللحام .

" مذكرة أصول الفقه " للشنقيطي .

" المستصفى " للغزالي .

" نزهة الخاطر العاطر " لابن بدران . 

الفهــــــــرس :

مقدمة 

الحكم الوضعي 

السبب 

الشرط 

المانع 

الصحة والبطلان 

الأداء والإعادة والقضاء 

الرخصة والعزيمة 

قواعد في الحكم الشرعي 

لوازم الحكم الشرعي 

الفصل الرابع دلالات الألفاظ 

النص 

الظاهر 

المؤول 

المجمل  

البيان 

الأمر  

النهي 

العام 

الخاص 

المطلق والمقيد 

المنطوق 

المفهوم 

الباب الخامس الأجتهاد والتقليد والفتوى  

الاجتهاد 

التقليد 

الفتوى 

الخاتمة 

المراجع

تم بحمد الله .



زاد الطالب في أصول الفقه ج 2 2013_110
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://almomenoon1.0wn0.com/
 
زاد الطالب في أصول الفقه ج 2
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» زاد الطالب في أصول الفقة
» أيها الطالب نصائح ماقبل ايام الامتحانات
» مقدمة عن علم الفقه
» ناظم الفقه ابن عبد القوي
» ناظم الفقه ابن عبد القوي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات إنما المؤمنون إخوة (2024 - 2010) The Believers Are Brothers :: (العربي) :: فـقـــــــه الــدنــيــــا والديـــــن :: زاد الطالب في أصول الفقة :: الجزء الثاني-
انتقل الى: