النــــــص
ينقسم الكلام إلى :
نص ، وظاهر ، ومجمل .
وذلك أن اللفظ لا يخلو من أمرين :
إما أن يدل على معنى واحد لا يحتمل غيره , فهذا هو " النص " .
وإما أن يحتمل غيره ، وهذا له حالتان :
الأولى :
أن يكون أحد الاحتمالين أظهر , فهذا هو " الظاهر " .
والثانية :
أن يتساوى الاحتمالان بألا يكون أحدهما أظهر من الآخر , فهذا هو " المجمل " .
ومعلوم أن المجمل محتاج إلى البيان ، كما أن الظاهر قد يرد عليه التأويل فيكون مؤولاً .
فهذه أمور خمسة : النص ، والظاهر ، والمؤول ، والمجمل ، والبيان .
و النص هو :
تعريفه : ما لا يحتمل إلا معنى واحداً ، أو : ما يفيد بنفسه من غير احتمال .
{ مثاله } :
قوله تعالى : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } البقرة : 196.
وقيل :
ما دل على معناه ولم يحتمل غيره احتمالاً ناشئاً عن دليل .
وعلى هذا فالاحتمال الذي لا دليل عليه لا ينقض قوة الدلالة ، ولا يجعل اللفظ ظاهراً بل يبقى في مرتبة النص .
ويطلق النص في مقابل الدليل العقلي أو الدليل من المعنى فيكون المقصود به النقل ، سواء أكان نصاً صريحاً أم ظاهرًا أم مجملاً .
وهذا كما يقول الفقهاء دليلنا النص والقياس ، فإنهم لا يقصدون النص بمعناه المقابل للظاهر بل المقابل للقياس ونحوه .
حكمه :
أن يصار إليه ولا يعدل عنه إلا بنسخ .
الظاهــر والمــؤول
الظاهر
وهو في اللغة :
خلاف الباطن ، وهو الواضح ، يقال : ظهر الأمر إذا انكشف .
وفي الاصطلاح :
ما احتمل معنيين فأكثر ، هو في أحدهما أو أحدها أرجح ، أو ما تبادر منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره .
وقيل :
ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر.
وهذا يدل على أن الظاهر صفة للفظ , لأن اللفظ هو الذي احتمل معنيين ، وقد يطلقون لفظ الظاهر على المعنى الراجح الذي دل عليه اللفظ مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحا ، فيقولون : هو الاحتمال الراجح .
{ مثاله } :
دلالة الأمر على الوجوب مع احتمال الندب ، ودلالة النهي على التحريم مع احتمال الكراهة كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقوله : " لا تبع ما ليس عندك " .
وأيضاً : " الأسد " فإنه ظاهر في الحيوان المفترس ، ويبعد أن يراد به الرجل الشجاع مع احتمال اللفظ له .
وهكذا كل حقيقة احتملت المجاز , ولم تقم قرينة قوية تدل على ذلك فهي ظاهرة في المعنى الحقيقي .
وقد يعرفون الظاهر بما كانت دلالته على المعنى دلالة ظنية لا قطعية , تفريقا بينه وبين النص ، وقد وقع للشافعي تسمية الظاهر نصا كما نقل ذلك الإمام الجويني وغيره .
المؤول :
والمؤول في اللغة :
اسم مفعول من التأويل ، وفعله آل يؤول ، بمعنى : رجع فيكون المؤول بمعنى المرجوع به ، والتأويل بمعنى الرجوع .
وفي الاصطلاح المؤول :
هو اللفظ المحمول على الاحتمال المرجوح بدليل سمي بذلك لأن المؤول يرجع معنى اللفظ إلى المعنى البعيد الذي لم يكن موضوعاً له لدليل يذكره .
أنواع التأويل :
لا يخلو التأويل من ثلاث حالات :
1ـ التأويل الصحيح :
وهو حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل قوي يقتضي ذلك .
{ مثاله } :
تخصيص العام بدليل خاص ، مثل تخصيص قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } البقرة : 275, بالأحاديث الدالة على تحريم البيع على بيع أخيه ، والبيع مع النجش ، وبيع الحصاة ونحوه من بيوع الغرر.
فحينئذ نقول :
هذه الآية مصروفة عن عمومها الذي كان هو المتبادر من اللفظ ، والصارف لها الأدلة السابقة .
{ ومثله } :
تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم } النحل :98، على أن المراد : إذا أردت قراءة القرآن ، وليس المراد إذا فرغت من قراءته كما يفيده ظاهر اللفظ من حيث الوضع .
{ ومثله } :
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ } المائدة : 6، فإنها مؤولة عن ظاهرها ، والمقصود : إذا أردتم القيام للصلاة , لأن الوضوء يسبق القيام للصلاة .
2ـ التأويل الفاسد :
حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل ضعيف لا يقوى على صرف اللفظ عن ظاهره .
كتأويل حديث :
" أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل " , بأن المراد بالمرأة : الصغيرة .
3ـ الثالث :
أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل أصلاً ، وهذا يسمى لعباً ، كقول بعض الشيعة في قوله تعالى : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } البقرة : 67؛ قالوا : هي عائشة ـ رضي الله عنها ـ .
شروط التأويل الصحيح :
للتأويل الصحيح أربعة شروط :
الشرط الأول :
أن يكون اللفظ محتملاً للمعنى الذي تأوله المتأول في لغة العرب .
الشرط الثاني :
إذا كان اللفظ محتملاً للمعنى الذي تأوله المتأول فيجب عليه إقامة الدليل على تعين ذلك المعنى ، لأن اللفظ قد تكون له معانٍ ، فتعين المعنى يحتاج إلى دليل .
الشرط الثالث :
إثبات صحة الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره ، فإن دليل مدعي الحقيقة والظاهر قائم ، لا يجوز العدول عنه إلا بدليل صارف يكون أقوى منه .
الشرط الرابع :
أن يسلم الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره عن معارض .
المجمــــل والبيـــــان
المجمـــــــــل
هو في اللغة :
المبهم ، اسم مفعول من الإجمال بمعنى الإبهام أو الضم ، يقال : أجمل الأمر ، أي : أبهمه ، ويقال : أجملت الحساب إذا جمعته ، وجمل الشحم إذا أذابه وجمعه ، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- : " حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها " .
وفي الاصطلاح :
ما احتمل معنيين أو أكثر من غير ترجح لواحد منهما أو منها على غيره .
{ مثاله } :
الألفاظ الشرعية التي تتوقف معرفة المراد منها على تفسير الشارع لها ، كلفظ " الصلاة والزكاة والصوم والحج " ، فإن الشرع أراد بها غير معناها اللغوي ، ومجرد الأمر بها من غير وقوف على بيان المراد منها إجمال ، فهي لا تدل على مراد الشرع بمجرد صيغتها ، ولا طريق للعلم بها إلا ببيان الشرع نفسه .
فلذا يقال :
" الصلاة " لفظ مجمل في القرآن ، لم يفهم المراد به إلا ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
ومن ذلك لفظ " الحق " في قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } الأنعام 141، وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " , فهذا لفظ مجهول القدر أو مجهول الجنس ، فيحتاج إلى البيان .
حكمه :
المجمل لتعذر العلم بالمراد منه إلا عن طريق الشرع ، ولا مجال فيه للاجتهاد ، فالأصل فيه التوقف حتى يوجد تفسيره من جهة الكتاب والسنة ، فإن وجد مستوفى لا شبهة فيه انتقل من وصف " المجمل " إلى وصف " المفسر " ، وإن بينه الشرع بعض البيان , مع بقية خفاء كان من قسم : " المشكل " للاجتهاد فيه مجال .
واعلم أن كل ما يثبت به التكليف العملي ويتصل به الفقه فإنه يستحيل استمرار الإجمال فيه ، فلا بد أن تكون الشريعة بينته ، وإن كان قد تخفى معرفته على بعض أفراد العلماء ، فإن العلم بحقيقة المراد منه لا تخفى على جميع الأمة .
البيـــــــــــــان :
البيان في اللغة :
الإيضاح والكشف , والمبيَّن : الموضح .
وفي الاصطلاح :
يطلق البيان على الدليل الذي أوضح المقصود بالمجمل ، وهو " المبيِّن " .
ويطلق على الخطاب الواضح ابتداء ، ويطلق على فعل المبيِّن .
ويطلق المبيَّن ـ بالفتح ـ على الدليل المحتاج إلى بيان ، كالمجمل بعد ورود بيانه ، كما يطلق على الخطاب الذي ظهر معناه ابتداء ، ولهذا اختلفت عبارات الأصوليين في تعريفه .
مراتب البيان :
يحصل البيان بقول من الله سبحانه أو من رسوله -صلى الله عليه وسلم- .
ويحصل بفعله -صلى الله عليه وسلم- وبكتابته ، وإشارته ، وإقراره ، وسكوته ، وتركه .
والبيان يحصل بأمور بعضها أقوى من بعض ، وهي :
1ـ القول :
وهو الكلام المسموع ، وقد حصل غالب البيان للشريعة بهذا الطريق ، فبينت أنصبة الزكاة ، والقدر الواجب فيها بالقول ، وبينت أكثر أحكام الصلاة والبيوع وسائر المعاملات بالقول .
2ـ الفعل :
وهو أن يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يبين مجمل القرآن أو مجمل سنة سابقة ، وذلك
كبيان صفة الصلاة وعدد ركعاتها ، وصفة الحج ؛ فإن أكثر ذلك إنما بين بالفعل مع قوله -صلى الله عليه وسلم- : " خذوا عني مناسككم " , وقوله في الصلاة : " صلوا كما رأيتموني أصلي " .
3 ـ الكتاب :
وهو أن يكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يبين بعض الفرائض ، والغالب أن لا يكون البيان بالكتابة إلا للبعيد عن المدينة ، وذلك مثل كتابه لأهل اليمن الذي فيه بيان زكاة بهيمة الأنعام ، والديات .
4 ـ الإشارة :
وذلك بأن يشير النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المراد ، بيده أو بغير ذلك ، ومثاله : قوله -صلى الله عليه وسلم- : " الشهر هكذا وهكذا وهكذا " ، وأشار مرة بأصابع يديه العشرة ثلاث مرات ، وأشار مرة أخرى بأصابع يديه العشرة مرتين وعقد في الثالثة أحد أصابعه ؛ إشارة إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوماً .
وكذلك إشارته بيده إلى وضع النصف من الدين في حديث كعب بن مالك وأبي حدرد حين تقاضى كعب دَينا له على أبي حدرد في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج إليهما فنادى : " يا كعب " قال : لبيك يا رسول الله ، فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دَينِك " .
5 ـ التنبيه :
وذلك بالإيماء إلى المعنى الذي يعلق عليه الحكم حتى يكون علة له ، يوجد الحكم بوجودها .
{ مثاله } : قوله -صلى الله عليه وسلم- : " أينقص الرطب إذا جف " , فإن في ذلك إشارة إلى أن العلة في التحريم عدم تساوي الرطب والتمر , وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر " إنك لست ممن يجره خيلاء " , فإن فيه تنبيها إلى أن العلة في تحريم الإسبال الخيلاء ، وإن كان بعض العلماء عمم التحريم عملاً بالظاهر وأعرض عن دلالة هذا التنبيه .
6 ـ الترك :
والمقصود به أن يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل الشيء مع قيام الداعي له ، كما ترك الوضوء مما مسته النار مع أنه كان يتوضأ من الأكل مما مسته النار , ففهم الصحابة من فعله نسخ الحكم السابق .
والترك إن كان مع وجود المقتضي الداعي للفعل دل على عدم المشروعية فأما الترك المطلق فإنما يكون دليلا على عدم الوجوب لا غير .
تأخير البيان :
تأخير البيان إما أن يكون تأخيراً عن وقت الحاجة , أو تأخيراً عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.
والمقصود بوقت الحاجة :
الوقت الذي يحتاج فيه المكلف إلى البيان , ليتمكن من الامتثال , بحيث لو تأخر البيان عنه لم يتمكن من العمل الموافق لمراد الشارع .
والمقصود بوقت الخطاب :
الوقت الذي يسمع فيه المكلف الخطاب ، سواء أكان قرآنا أم سنة .
ومذهب العلماء :
أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ؛ لأن ذلك يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق وهو ممتنع شرعاً .
وقد نقل ابن قدامة الإجماع على ذلك فقال :
" ولا خلاف في أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة " .
أما تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فهو جائز وواقع عند الجمهور .
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى :
{ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } القيامة : 18، 19، و" ثم " للتراخي ، فدلت على تراخي البيان عن وقت الخطاب .
وإذا علم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فلا بد أن يفهم هذا على وجهه الصحيح ، إذ إن الحاجة قد تدعو إلى تعجيل بيان الواجبات والمحرمات من العقائد والأعمال ، وقد تدعو الحاجة إلى تأخير هذا البيان .
ومن الأمثلة على مشروعية تأخير البيان لأجل الحاجة :
1- أن المبلغ لا يمكنه أن يخاطب الناس جميعاً ابتداء ، فعليه أن يبلغ من يستطيع تبليغه .
2- أن المبلغ لا يمكنه مخاطبة الناس بجميع الواجبات جملة ، بل يبلغ بحسب الطاقة والإمكان على سبيل التدريج ، فيبدأ بالأهم ويؤخر غيره , وكذلك إذا ضاق عليه الوقت .
وهذا التأخير في البيان لبعض الواجبات لا ينفي قيام الحاجة التي هي سبب وجوب البيان ، بل الحاجة قائمة إلا أن حصول الوجوب والعقاب على الترك ممتنع لوجود المزاحم الموجب للعجز .
وهذا كالدين على المعسر ، أو كالجمعة على المعذور .
3- أن يكون في الإمهال وتأخير البيان من المصلحة ما ليس في المبادرة , إذ البيان إنما يجب على الوجه الذي يحصل به المقصود .
فيكون تأخير البيان هو البيان المأمور به ، ويكون هو الواجب أو المستحب مثل : تأخير النبي -صلى الله عليه وسلم- البيان للأعرابي المسيء صلاته إلى المرة الثالثة .
وإنما يجب التعجيل إذا خيف الفوت بأن يترك الواجب المؤقت حتى يخرج عن وقته ونحو ذلك .
{ فوائد } :
أ- كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام , لأنه كتمان وتدليس ، ويدخل في هذا : الإقرار بالحق ، والشهادة ، و الفتيا ، والحديث ، والقضاء .
ب- وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب إذا أمكن ووجب الخطاب .
جـ - وإن جاز بيانه وكتمانه : فحيث كانت المصلحة في كتمانه فالتعريض فيه مستحب ، وحيث كانت المصلحة في إظهاره وبيانه فالتعريض مكروه والإظهار مستحب .
وإن تساوت المصلحة في كتمانه وإظهاره جاز التعريض والتصريح .
الأمـــر والنهـــي :
الأمــــر
تعريف الأمر :
يمكن تعريفه بأنه : " استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء" .
وهذا التعريف يشمل الأمور الآتية :
أ- أن الأمر من قبيل الطلب إذ هو استدعاء ، ومعلوم أن الكلام إما طلب وإما خبر .
ب- أن الأمر طلب الفعل ، وذلك بخلاف النهي فهو طلب الكف .
جـ - المراد بالأمر القول حقيقة ، فيخرج بذلك الإشارة .
د- أن يكون الطلب على جهة الاستعلاء ، أي : يعرف من سياق الكلام أو من طريقة التكلم به أن الآمر يستعلي على المأمور ، سواء أكان أعلى منه رتبة أم أدنى منه في واقع الأمر .
وبناء على هذا التعريف فإن العبد لو قال لسيده :
افعل كذا ، بنبرة توحي بأنه يستعلي عليه ، سمي كلامه هذا أمراً ، واستحق التأديب عليه لأنه يأمر سيده .
وأما إن قال :
افعل كذا ، على جهة التوسل والسؤال فلا يسمى أمراً ، مع أن اللفظ واحد .
وقد اتفق الأصوليون على القيد الأول ، وهو أن الأمر طلب فعل لا طلب ترك ، واختلفوا في القيدين الأخيرين .
فالقيد الثاني خالف فيه جماعة من الأصوليين وقالوا : إن الأمر قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل كالإشارة والكتابة ، والجمهور قالوا : لا يسمى الفعل أمراً إلا على سبيل المجاز المفتقر إلى القرينة .
ولهذا فإن أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم- المجردة لا تكون بمثابة الأمر إلا إذا دل الدليل على وجوب متابعته فيها .
وأما القيد الثالث فقد اختلفوا فيه ، فمنهم من اشترط في مسمى الأمر الاستعلاء ، وقد تقدم تفسيره .
ومنهم من اشترط العلو ، وهو أن يكون الكلام صادراً ممن هو أعلى رتبة من المأمور في واقع الأمر .
ومنهم من اشترط الأمرين معا " العلو والاستعلاء " .
ومنهم من لم يشترط أياً منهما .
والصواب :
أن الأمر الذي يصلح مصدراً للتشريع , لا يكون إلا ممن هو أعلى رتبة ، أي : من الله عز وجل أو من رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، ولذا فاشتراط العلو هو الأقرب .
والفرق بين الاستعلاء والعلو :
أن الاستعلاء صفة في الأمر نفسه ، أي : في نبرة الصوت ، أو في طريقة إلقائه ، أو في القرائن المصاحبة .
وأما العلو فهو صفة في الآمر أي : أن الآمر أعلى رتبة من المأمور في واقع الأمر .
صيغة الأمر :
الألفاظ المستعملة في " الأمر" تعود إلى أربعة مخصوصة ، هي :
1ـ لفظ " افعل " :
كقوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } النحل : 125، وقوله للمسيء صلاته " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ، وافعل ذلك في صلاتك كلها " .
2ـ الفعل المضارع المقترن بلام الأمر :
كقوله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } الطلاق : 7، وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم مَن يخالل " .
3ـ اسم فعل الأمر :
كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } المائدة : 105، وقوله -صلى الله عليه وسلم- " مه يا عائشة ، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش " , قال ذلك حين أتاه ناس من اليهود فقالوا : السام عليكم ، فسبتهم عائشة ، فأمرها بالكف عن ذلك .
4ـ المصدر النائب عن فعل الأمر :
كقوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } محمد : 4، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " لن يُنجي أحدا منكم عمله " قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة ، فسددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة ، والقصد تبلغوا " .
دلاله الأمر :
تدل صيغة الأمر في خطاب الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مجردة من القرائن على حقيقة واحدة هي الوجوب .
هذا مذهب عامة أئمة الفقه والعلم ممن يقتدي بهم كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.
وخالف الفرد والأفراد من المتأخرين في ذلك فذكروا أنها لغير الوجوب ، قال بعضهم : للندب ، وقال بعضهم : للإباحة ، وقال بعضهم غير ذلك .
والقول لا عبر به إن لم يصححه الدليل ، ولقد تواترت الأدلة وظهرت وجوه دلالاتها على المذهب الأول ، وهو الوجوب ، فمنها :
1ـ قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } الأحزاب : 36 .
قال أبو عبد الله القرطبي :
" وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور , من أن صيغة " افعل " للوجوب في أصل وضعها ، لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلف عند سماع أمره وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- ، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية ، ثم علق على المعصية بذلك الضلال ، فلزم حمل الأمر على الوجوب " .
2ـ قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } النور : 63.
وجه الدلالة من الآية : أن الله تعالى حذر من مخالفة أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأن تصيب المخالف فتنة أو عذاب أليم ، وهذا لا يمكن فيما للإنسان فيه اختيار ، فدلت على أن الأمر للوجوب في أصل وروده حتى يرد التخيير فيه من الآمر .
3ـ إطلاق مسمى " المعصية " على ترك " الأمر " في نصوص الوحي، فمن أدلة ذلك :
أ ـ قوله تعالى عن الملائكة : { لا يعصون الله ما أمرهم } التحريم : 6.
ب ـ قوله تعالى عن موسى في قصته مع الخضر : { ولا أعصي لك أمرا } الكهف : 69.
ج ـ قوله تعالى عن موسى : { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمري } طه : 92ـ 93 .
والمعصية موجبة للعقوبة ، كما قال تعالى في معصيته ومعصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : { ومَن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدًا } الجن 23.
4ـ قوله تعالى عن إبليس حين أبى أن يسجد لآدم : { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } الأعراف : 12، وإنما كان أمره تعالى بالسجود بقوله : { اسجدوا } البقرة :34 مفيدة بنفسها وجوب الامتثال لم يكن هناك وجه للإنكار على إبليس في تركه السجود ، فإن قيل : إنما حمل إبليس على تركها الكبر ، فجوابه أن هذا لا علاقة له بالصيغة ، وإنما أبدى عنه إبليس بعد إنكار الله تعالى عليه عدم السجود ، وقد استحق بالكبر المقترن بترك الأمر أن يُحرم الجنة ويُخلد في النار ، وهذا لا يكون على مجرد ترك امتثال الأمر مع اعتقاد المعصية بذلك الترك ، فاشترك كل تارك لامتثال الأمر من الله تعالى أو نبيه -صلى الله عليه وسلم- مع إبليس في كونه عصى بترك امتثال الأمر ، وقد يشترك مع إبليس في العاقبة إذا اقترن الإباء بالكبر ، وإنما يكون أمره تحت المشيئة الربانية إذا اعتقد أنه عاص إلا أن يتوب .
5 ـ ومن هذا يقال : " طاعة الأمير " و " معصية الأمير " ، والأمير إنما سمي بذلك لأنه يقول للناس : " افعلوا واعملوا واسمعوا " ونحو ذلك ، وعلى الناس السمع والطاعة ، لا يقولون له : أمرك على الندب أو الإباحة ونحن في خيرة من فعله وتركه حتى يقترن بأمرك الوعيد والتهديد ، فمن يجرؤ على أن يقول ذلك لحاكم أو سلطان ؟ ومن يجرؤ على التردد فيه ؟ فعجباً أن يدرك هذا المعنى في حق الخلق ولا يدرك في أمر رب الخلق تبارك وتعالى الذي بيده سلطان الأمر والنهي كله !
قاعدة الأمر :
" الأمر للوجوب حتى يصرف عنه بقرينة " .
ومعنى القاعدة واضح مما تقدم من بيان " دلالة الأمر " .
{ مثال القاعدة } :
1ـ قوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } الأعراف : 204، فإن الأمر على أصل دلالته للوجوب ، فلذلك سقط به وجوب قراءة الفاتحة وراء الإمام عند جمهور العلماء.
2ـ قوله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين " ، فهذا أمر مصروف عن الوجوب إلى الندب في قول جمهور العلماء ، والقرينة الصارفة له عن الوجوب هي ما تواترت به النصوص من كون الصلوات المفروضات خمساً في اليوم والليلة ، وما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من عد جميع ما يزيده المسلم عليها تطوعاً .
واعلم أن القرينة مما يختلف في تقديره العلماء وجرى منهاجهم على اعتبار القرينة صارفة لدلالة اللفظ عما استعملت فيه في الأصل إلى المعنى الذي دلت عليه ، وهي قد تكون صريحة بينة كما في المثال المذكور ، وقد تكون خفية لا تبدوا إلا بالبحث والتأمل ، كما أنها قد تستفاد من نفس النص ، أو من دليل خارجي ، ولا يلزم أن تكون نصاً من الكتاب والسنة ، إنما يجوز أن تكون كذلك ، ويجوز أن تستند إلى قواعد الشرع ومقاصده ، ويجري فيها ما يجري على الدليل القائم بنفسه من جهة الثبوت والدلالة ، وهذا معنى يغفل عنه كثيرون فلا يدركون من المقصود بالقرينة إلا بالقرينة اللفظية الصريحة .
( مسائل ) :
1 ـ دلالة الأمر على الفور :
اختلف العلماء في الأمر المجرد عن القرائن ، هل يدل على الفور وسرعة المبادرة والامتثال ، أو على التراخي ؟
وكونه دالاً على الفور اختيار ابن قدامة وابن القيم وابن النجار الفتوحي والشنقيطي .
ومن الأدلة على ذلك ما يأتي :
أولاً : أن ظواهر النصوص تدل عليه ، كقوله تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } آل عمران : 133، { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } البقرة: 148 .
ثانياً : أن وضع اللغة يدل على ذلك , فإن السيد لو أمر عبده فلم يمتثل فعاقبه لم يكن له أن يعتذر بأن الأمر للتراخي .
ثالثاً : أن السلامة من الخطر والقطع ببراءة الذمة إنما يكون بالمبادرة ، وذلك أحوط وأقرب لتحقيق مقتضى الأمر وهو الوجوب .
2ـ دلالة الأمر على التكرار :
اختلف العلماء في الأمر المجرد غير المقيد بالمرة ولا بالتكرار ولا بصفة ولا بشرط ، هل يقتضي التكرار أو المرة ؟
أ ـ الأمر بمرة واحدة ، لأن امتثال الأمر لا بد فيه من المرة فوجوبها مقطوع به وأما الزيادة على المرة فلا دليل عليها ، ولفظ الأمر لم يتعرض لها , ولدلالة اللغة على ذلك فلو قال السيد لعبده : اشترِ متاعاً ، لم يلزمه ذلك إلا مرة واحدة.
ب – وقيل : إن الأمر المطلق للتكرار , وهذا ما اختاره ابن القيم ، واستدل لذلك بأن عامة أوامر الشرع على التكرار .
مثل قوله تعالى : { آمِنُوا بالله وَرَسُولِهِ } النساء : 136، { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } البقرة : 208، { وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } التغابن : 12، { وَاتَّقُوا اللهَ } الحشر : 18، وفي مواضع أخرى ، { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } المزمل : 20.
ثم قال : " وذلك في القرآن أكثر من أن يحصر ، وإذا كانت أوامر الله ورسوله على التكرار حيث وردت إلا في النادر علم أن هذا عرف خطاب الله ورسوله الأمة , وإن لم يكن في لفظه المجرد ما يؤذن بتكرار ولا قول ، فلا ريب أنه في عرف خطاب الشارع للتكرار فلا يحمل كلامه إلا على عرفه والمألوف من خطابه ، وإن لم يكن ذلك مفهوماً من أصل الوضع في اللغة " .
3ـ الأمر بعد الحظر :
إذا وردت صيغة الأمر بعد النهي فإنها تفيد ما كانت تفيده قبل النهي :
فإن كانت تفيد الإباحة أفادت الإباحة ، وكذا الوجوب والاستحباب .
وهذا المذهب هو المعروف عن السلف والأئمة .
والذي يدل على ذلك هو الاستقراء ، فمن ذلك:
أ- قتل الصيد كان مباحاً ثم مُنع للإحرام ثم أمر به عند الإحلال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } المائدة : 2, فرجع لما كان عليه قبل التحريم وهو الإباحة.
ب- قتل المشركين كان واجباً ثم منع لأجل دخول الأشهر الحرم ، ثم أمر به
عند انسلاخها في قوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } التوبة : 5 , فرجع إلى ما كان عليه قبل المنع وهو الوجوب .
وهذا المذهب ينتظم جميع الأدلة ولا يرد عليه دليل .
قال ابن كثير عند قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } المائدة : 2 : " وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت على السير أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي , فإن كان واجباً رده واجباً ، وإن كان مستحباً فمستحب أو مباحاً فمباح , ومن قال إنه على الوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة ، ومن قال إنه للإباحة يرد عليه آيات أخرى , والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما اختاره بعض علماء الأصول , والله أعلم " .
4ـ هل يستلزم الأمر الإرادة ؟
التحقيق في هذه المسألة التفصيل , وذلك أن الإرادة نوعان :
1- إرادة قدرية كونية فهذه هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات ، كقوله تعالى { إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } الحج: 14, وهي لا تستلزم محبة الله ورضاه .
2- إرادة دينية شرعية فهذه متضمنة لمحبة الله ورضاه ، كقوله تعالى: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } النساء : 27, ولكنها قد تقع وقد لا تقع .
فأوامر الله سبحانه وتعالى تستلزم الإرادة الشرعية , لكنها لا تستلزم الإرادة الكونية ؛ فقد يأمر سبحانه بأمر يريده شرعاً وهو يعلم سبحانه أنه لا يريد وقوعه كوناً وقدراً .
والحكمة من ذلك :
ابتلاء الخلق وتمييز المطيع من غير المطيع .
5ـ الأمر بالشيء هل يستلزم النهي عن ضده ؟ :
لا شك أن الأمر بالشيء ليس هو النهي عن ضده من حيث اللفظ ، إذ لفظ الأمر غير لفظ النهي .
أما من حيث المعنى فإن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ، فإن قولك : اسكن ، مثلاً يستلزم النهي عن الحركة , لأنه لا يمكن وجود السكون مع التلبس بضده وهو الحركة ، لاستحالة اجتماع الضدين ، فالأمر بالشيء أمر بلوازمه وذلك ثابت بطريق اللزوم العقلي لا بطريق قصد الأمر .
ذلك أن الآمر بالفعل قد لا يقصد طلب لوازمه وإن كان عالماً بأنه لا بد من وجودها مع فعل المأمور .
6ـ الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً به :
وذلك كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين " , فهذا ليس خطابًا من الشارع للصبي ولا إيجابًا عليه، مع أن الأمر واجب على الولي .
وقد يدل دليل على أن الأمر بالأمر بالشيء أمر به فيكون ذلك أمرا به بلا خلاف , وذلك كقوله -صلى الله عليه وسلم- : " مره فليراجعها " , فإن لام الأمر في قوله : " فليراجعها " ، صدرت منه -صلى الله عليه وسلم- متوجهة إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- فيكون مأمورًا بلا خلاف .
يتبع إن شاء الله...