الباب الرابع عشر: الصهيونية الإقليمية
محـــاولات تضييـق نطــاق المشروع الصهيـونى
Attempts at Setting Limits to the Zionise Project
في باب سابق بيَّنا أن ثمة صراعاً أساسياً بين شرق أوربا (يهود اليديشية والفائض البشري) وغربها (اليهود المندمجون). ومع تدفُّق يهود اليديشية على وسط وغرب أوربا، ظهر المشروع الصهيوني لتحويل سيل الهجرة، ثم ترجم الصراع نفسه إلى الصهيونيتين: الاستيطانية والتوطينية. والصهيونية التوطينية شكل من أشكال التملص من الصهيونية عن طريق تضييق نطاقها بحيث تصبح مجرد دعم الدولة الصهيونية سياسياً واقتصادياً دون الاستيطان في فلسطين.
والصهيونية التوطينية لم تكن المحاولة الوحيدة لتضييق نطاق الصهيونية، فهناك محاولتان أخريان: كانت الأولى تهدف إلى الإسراع بعملية تخليص أوربا من فائضها اليهودي عن طريق توطينهم في أي أرض، دون أي اعتبار للديباجات الصهيونية. أما الثانية فكانت تهدف إلى تخفيف حدة المواجهة مع السكان الأصليين عن طريق تأسيس دولة ثنائية القومية. ويُلاحَظ أن محاولات تضييق نطاق الصهيونية كان يعني التخلي عن بعض عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.
الصهيونية الإقليمية Territorial Zionism
»الصهيونية الإقليمية» ضرب من ضروب الصيغة الصهيونية الأساسية قبل أن تتحوَّل إلى الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة وقبل أن تدخلها أية ديباجات إثنية أو دينية أو أيديولوجية، فهي تذهب إلى ضرورة تهجير الفائض البشري اليهودي في أوربا إلى أي مكان في العالم حلاًّ للمسألة اليهودية، فهي إذن شكل من أشكال الصهيونية التوطينية. وكان الصهاينة الإقليميون يرون اليهود عنصراً استيطانياً أبيض يُوطَّن في أي مكان، وكانوا يرون المشروع الصهيوني مشروعاً غربياً تماماً وجزءاً لا يتجزأ من التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي الذي يرمي إلى خلق مناطق نفوذ غربية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يَبسُط من خلالها سيطرته الكاملة على العالم، كما يرمي إلى خلق بقع استيطانية تستوعب الفائض البشري اليهودي.
وكان العنصر الحاسم في اختيار هذا المكان أو ذاك هو مدى أهميته في سياق المصالح الاستعمارية للدولة الراعية للمشروع التوطيني. ولذا، فإنهم لم يطالبوا بدولة يهودية مستقلة ذات سيادة، وتركوا هذه النقطة لتقررها الدولة الراعية التي ستقوم بعملية نقل الفائض البشري. لكل هذا، كان الصهاينة الإقليميون لا يرون ضرورة تحتم إنشاء هذا الجيب الاستيطاني اليهودي في فلسطين، بل إن بعضهم كان يشير إلى أن فلسطين بالذات غير مناسبة بسبب وجود العرب فيها.
وقد كان دعاة المشاريع المختلفة لتوطين اليهود خارج أوربا على وعي تام باستحالة تحقيق أيٍّ من هذه المشاريع إلا إذا حظي برعاية قوة استعمارية كبرى تجد فيه فرصتها لتحقيق مصالحها الاستعمارية بشكل أو آخر، ومن ثم كان هؤلاء الدعاة يحرصون على السعي لدى هذه القوة العظمى أو تلك لضمان أن يتم المشروع التوطيني بموافقتها وتحت رعايتها، ولم يكن يعنيهم في كثير أو قليل أن يحظى المشروع بموافقة أعضاء الجماعات اليهودية (المادة البشرية المُستهدَفة) ممن كان يُرجَى توطينهم.
ودعاة الصهيونية الإقليمية التوطينية، من أمثال دي هيرش وترييتش وزانجويل وأضرابهم، هم في الغالب من اليهود غير اليهود الذين فَقَدوا هويتهم الدينية والإثنية. ولذا، فإنهم لم يعودوا يشعرون بأي ضرورة لمسألة الحفاظ على ما يُسمَّى «الإثنية اليهودية». كما أن يهود الغرب بينهم كانوا يرغبون في تحويل سيل الهجرة اليهودية من بولندا وروسيا بشكل فوري لأي مكان لأنه يهز مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية الجديدة ويهدد وجودهم كجزء من النخب المتميِّزة اقتصادياً وسياسياً وحضارياً في مجتمعاتهم الأوربية.
وإصرار هؤلاء الصهاينة على بقعة ما دون غيرها كان دائماً في إطار محاولتهم تأكيد ولائهم لأوطانهم ولمصالحه الاستعمارية. فزانجويل البريطاني (صاحب مشروع شرق أفريقيا)، كان يدافع في واقع الأمر عن المصالح الإمبريالية الإنجليزية التي كانت تبحث عن مواطنين بيض لتوطينهم في جزء من الإمبراطورية. ولقد انصرف اهتمام زانجويل والإقليميين عن فلسطين لأن بريطانيا كانت قد احتلت مصر في مطلع القرن العشرين، ولم تكن تستطيع في ظروف التوازن الدولي الدقيق أن تخطط للاستيلاء على فلسطين، فكان اهتمامها بالمنظمة الصهيونية قائماً على رغبتها في تسخيرها لتنظيم استيطان استعماري في بعض أنحاء الإمبراطورية وحسب. ولكن بتغيُّر الأوضاع في العالم إبان الحرب العالمية الأولى، وسنوح فرصة تقسيم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، وقيام الثورة العربية التي هددت المصالح الإمبريالية البريطانية، بُعث مشروع توطين اليهود في فلسطين ومُنح وايزمان وعد بلفور، وتَحوَّل الإقليميون عن موقفهم وعادوا إلى صفوف المنظمة الصهيونية بعد أن كانوا قد انسحبوا منها في المؤتمر الصهيوني السابع (1905) بعد أن أصبحت مصالحها متفقة مع مصالح الإمبريالية البريطانية.
ومن الأمور الجديرة بالذكر أن بنسكر في كتابه الانعتاق الذاتي وهرتزل في كتاب دولة اليهود لم يتقيدا ببقعة معينة لإقامة الدولة المقترحة. ويظهر في يوميات هرتزل أنه لم يكن يتحمس كثيراً في أواخر حياته لفكرة الدولة اليهودية في فلسطين، خشية أن يثير هذا المكان، المشحون بالدلالات الدينية والتاريخية، رغبة لدى المستوطنين في العودة إلى صُوَر الحياة اليهودية التقليدية التي كانت موضع ازدراء من جانب هرتزل، وهو الأمر الذي قد يبتعد بهم عن أساليب الحياة العلمانية "الحديثة".
مشـاريع صهيونيـة اسـتيطانية خـارج فلســطين
Zionist Settlement Projects outside Palestine
ظهرت مشروعات عديدة لتوطين اليهود خارج فلسطين، وقد ظهرت هذه المشاريع مع التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي. وكان أول المشاريع التوطينية هو مشروع نونيزدا فونسيكا عام 1625 لتأسيس مستعمرة يهودية في كوراساو، وقد وافق مجلس هولندا على المشروع. وتم توطين اليهود في سورينام في إطار مماثل، وقد نجحوا في تكوين جيب استيطاني شبه مستقل قضى عليه الثوار من السود والسكان الأصليين. وفي عام 1659، منحت شركة الهند الغربية (الفرنسية) تصريحاً لديفيد ناسي لتأسيس مستعمرة يهودية في كايين. وفي عام 1790، اقترح كاتب بولندي توطين اليهود في أوكرانيا (التابعة لبولندا ـ وكان هذا أحد المطالب الأساسية للحركة الفرانكية). وفي عام 1815، قدَّم القس البولندي شاتوفسكي اقتراحاً بأن يُوطَّن اليهود في جيب يهودي صغير في آسيا الصغرى يكون قاعدة للدولة الروسية ضد الخلافة العثمانية.
وظهرت مشروعات توطينية أخرى في الولايات المتحدة من أهمها مشروع موردكاي نواه المعروف بمشروع جبل أرارات (1826). وهناك مشروعات صهيونية إقليمية كثيرة مثل مشروع العريش وقبرص ومدين وأنجولا وموزمبيق والكونغو والأحساء والأرجنتين، ولكن أهمها كان مشروع شرق أفريقيا الذي كان يهدف إلى إنشاء محمية إنجليزية يهودية في شرق أفريقيا كان من المفترض أن تكون تابعة تماماً، على مستوى الأيديولوجية والديباجة، اسماً وفعلاً، للإمبراطورية البريطانية.
وقد ظهرت جماعات صهيونية إقليمية أخرى، منها جماعة قامت في ألمانيا للاستيطان في الجزء البرتغالي من أنجولا عام 1931، ولكن المشروع فشل لأن الحكومة البرتغالية لم توافق عليه. وقد قُدِّم اقتراح في مؤتمر إفيان (1938) لتوطين 100 ألف يهودي في جمهورية الدومينكان، ولكن الصهاينة أجهضوا العملية بعد البدء فيها بالفعل. ويمكن أن نضع مشروع بيرو بيجان السوفييتي في هذا الإطار. وقد كان للنازيين في ألمانيا والفاشيين في إيطاليا مشاريعهم التوطينية خارج فلسطين. كما قامت جمعية أخرى في نيويورك وظلت باقية حتى بعد إنشاء الدولة، وذلك لأنها لم تجرؤ على أن تترك مستقبل "الشعب اليهودي" متوقفاً على إسرائيل وحدها وذلك بسبب صغر مساحتها وموقف جيرانها المعادي منها. ولا توجد بطبيعة الحال أحزاب صهيونية إقليمية في إسرائيل. وقد أصبح مصطلح «تيريتوريال زايونيزم Territorial Zionism» يعني في الوقت الحاضر «صهيونية الأراضي»، وهي صهيونية من يرفض الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة بعد عام 1967، ويرفض مقايضة السلام بالأرض.
مشروع شرق أفريقيا East Africa Project
يُعرَف «مشروع شرق أفريقيا» أيضاً باسم «مشروع أوغندا» وهو الاسم الذي يُطلَق عادةً على الاقتراح الذي تقدمت به الحكومة البريطانية عام 1903 لليهود لتنشئ لهم مقاطعة صهيونية في شرق أفريقيا البريطانية (كينيا الآن، وليس أوغندا كما هو شائع) في هضبة وعرة مساحتها 18 ألف ميل مربع ليست صالحة للزراعة.
ويبدو أن الخطأ في التسمية يعود إلى أن تشامبرلين، أشار أثناء حديثه عن المشروع مع هرتزل إلى سكة حديد أوغندا، فتَصوَّر هرتزل أن أوغندا هي الموقع المقترح للاستيطان. وقد تقدَّمت الحكومة البريطانية بالاقتراح في وقت تزايد فيه النشاط الاستعماري الألماني والإيطالي، وكان الخط الحديدي الذي يربط الساحل الأفريقي وبحيرة فيكتوريا على وشك الانتهاء، وفي وقت تزايدت فيه هجرة يهود اليديشية إلى إنجلترا. ومن ثم، سنحت الفرصة لوضع الصيغة الصهيونية الأساسية موضع التنفيذ بتحويل المهاجرين إلى مادة استيطانية تُوطَّن داخل محمية إنجليزية تقوم بحماية الموقع الإستراتيجي الجديد. وقد عرض البريطانيون شرق أفريقيا لا فلسطين، مكاناً للاستيطان، لأن الدولة العثمانية كانت حليفة لبريطانيا التي قررت الحفاظ على وحدة الدولة العثمانية لتقف ضد الزحف الروسي، أي أن تقسيم الدولة العثمانية لم يكن قد تقرَّر بعد. وقد كان المفترض أن تكون المقاطعة محمية خاضعة للتاج البريطاني يحكمها حاكم يهودي، وكانت ستُسمَّى «فلسطين الجديدة». وقد أعد مكتب لويد جورج براءة الشركة التي ستقوم بتنمية المنطقة. وكان هرتزل من بين الموافقين على المشروع، كما أيده نوردو الذي وصـف المشـروع بأنه "ملجـأ ليلي"، وتزعَّم إسرائيل زانجويل الحركة.
وقد كتبت مجلة جويش كرونيكل في ذلك الوقت أن المشروع كان يحظى بتأييد اليهود الروس بدرجة تفوق كثيراً تأييد قيادتهم الصهيونية له، كما يُلاحَظ أن المستوطنين الصهاينة في فلسطين كانوا من أشد المتحمسين للمشروع. ولكن المندوبين الروس عارضوا المشروع بشدة حينما عُرض على المؤتمر الصهيوني السادس (1903)، وكان من المعارضين أيضاً وايزمان وأوسيشكين. وقد سُمِّي المعارضون «صهاينة صهيون» لإصرارهم على تشييد الدولة الصهيونية في صهيون نفسها، أي فلسطين.
وقد أيَّد اليهود الأرثوذكس المشروع لأن العودة إلى فلسطين شكل من أشكال الهرطقة. وعلى عكس ما يرد دائماً في المصادر والمراجع الصهيونية، وافق المؤتمر في نهاية الأمر على الاقتراح بأغلبية 295 مؤيداً مقابل 178 معارضاً، وامتنع 143 عن التصويت، فأحدث ذلك صدعاً في الحركة الصهيونية، وحاول شاب يهودي اغتيال نوردو "الشرق أفريقي" في باريس.
وقد تشكَّلت لجنة استطلاعية مُكوَّنة من بريطاني مسيحي ومهندس روسي وصحفي سويسري (اعتنق الإسلام فيما بعد). وحينما وصلت اللجنة ضللهم المستوطنون البيض وزودوهم بمعلومات خاطئة، ووجهوهم إلى أراض غير صالحة، ولذا فقد كان تقرير اللجنة غير إيجابي. وقد حُسم الصراع بأن سحبت الحكومة البريطانية اقتراحها في العام نفسه بسبب معارضة المستوطنين البريطانيين في شرق أفريقيا، فقد أرسلوا عدة رسائل إلى الصحف والمجلات البريطانية، من بينها برقية اتحاد المزارعين وملاك البساتين، وأخرى من لجنة المستوطنين في نيروبي، وعريضة من أسقف مومباسا، يحتجون فيها على إدخال اليهود الأجانب "منحطي المنزلة" الذين سيكون لهم أثر سيئ من الناحية الأخلاقية والدينية والسياسية على القبائل الأفريقية!
وقد قام خبراء الشئون الأفريقية (وعلى رأسهم السير هاري جونسون) بشن حملة ضد المشروع، مبينين أن هذه الأرض ثمينة مُدَّت عليها سكة حديدية. وقد تَطوَّع بعض معارضي المشروع بالإشارة إلى فلسطين كمكان منطقي للاستيطان اليهودي! ومما هو جدير بالذكر أن بعض اليهود الاندماجيين في بريطانيا عارضوا المشروع أيضاً بسبب دلالته السياسية وبسبب تأكيده مقولة ازدواج الولاء. وحينما انعقد المؤتمر الصهيوني السابع (1905)، رفضت كل مشروعات التوطين خارج فلسطين، فانشق زانجويل (ومعه أربعون مندوباً)، وأسَّس الحركة الصهيونية الإقليمية.
ويُعَدُّ مشروع شرق أفريقيا أول بلورة للمشكلة التي تواجهها الجماعات اليهودية في علاقتها بالصهاينة وهو ما يمكن صياغته في الأسئلة التالية: هل أُسِّست الدولة الصهيونية لخدمة اليهود أم أن اليهود في كل مكان هم الذين يجب وضعهم في خدمة الدولة؟ هل الصهيونية بالفعل حركة إنقاذ ليهود أوربا وغيرهم أم رؤية أيديولوجية لا علاقة لها بإغاثة اليهود أو إنقاذهم؟ فبينما كانت القاعدة الصهيونية نفسها في شرق أوربا، بل المستوطنون الصهاينة أنفسهم في فلسطين، يؤيدون مشروع أفريقيا، كانت أقلية من الصهاينة تُصر على فلسطين دون غيرها لاعتبارات عقائدية إثنية.
وتشير التواريخ الصهيونية أن مشروع شرق أفريقيا فيه اعتراف ضمني بالهوية المستقلة للشعب اليهودي وأن المشروع كان سيؤدي إلى إنشاء دولة يهودية. ولكن هذه النقطة لم تكن موضع جدال على الإطلاق. وقد جاء في مسودة اتفاقية مشروع الاستعمار اليهودي المقدمة من قبَل الصهاينة صياغات غامضة قد يُفهَم منها أن المقصود إنشاء دولة يهودية، فكتب أحد موظفي وزارة الخارجية البريطانية على هامش المادة المقدمة: "إذا تَملَّك اليهود المنطقة فسيعني ذلك عملياً إعطاءهم حكماً ذاتياً محلياً كاملاً بشرط أن يبقى تحت سيطرة التاج البريطاني تماماً".
كما أشار وزير الخارجية البريطاني إلى أن انتخاب رئيس بلدية يهودي لكل مدينة هو أقصى ما يمكن إجراؤه. ولم تذكر المذكرة أي شيء عن منح الجنسية البريطانية لسكان هذه المقاطعة إذ يبدو أن وزارة الخارجية كانت قلقة من أن يستغلها اليهود الروس الذين سيستوطنون شرق أفريقيا كنقطة انطلاق وحسب، يقفزون منها وبواسطتها إلى بريطانيا بجوازات سفر بريطانية يحصلون عليها في المستعمرة. وقد حدَّد زانجويل بوضوح شديد الطبيعة الحقيقية لمشروع شرق أفريقيا بقوله: "إن الاستيطان الصهيوني في شرق أفريقيا سيكون وسيلة لمضاعفة عدد السكان البيض التابعين لبريطانيا هناك".
صهاينة صهيون Zionei Zion
»صهاينة صهيون» اصطلاح يُستخدَم للإشارة للصهاينة الذين رفضوا مشروع شرق أفريقيا وأصروا على فلسطين (صهيون) باعتبار استحالة وجود صهيونية خارج صهيون.
جوزيــف تشـامبرلين (1836-1914) Joseph Chamberlain
رجل سياسة بريطاني، والمُنظِّر الحقيقي لمشروع شرق أفريقيا، ومن ثم فهو صاحب أول وعد بلفوري محدد. والواقع أن جوزيف تشامبرلين هو الذي اختار لنفسه منصب وزير المستعمرات عام 1895 وظـل فيه حتى عام 1903، فكانـت أطول مـدة لأي وزير في هـذا المنصـب. وقد كان جوزيف تشامبرلين يتميَّز بسعة الخيال والقدرة على الابتكار، وقد حاول أن يُخرج إنجلترا من عزلتها الدبلوماسية وأن يُقوِّي الإمبراطورية بحيث تصبح مهيمنة كقوة، وأن يزيد نفوذها تجاه القوى العظمى الأخرى. ولذا، مدَّ السكك الحديدية، وحاول إقامة الزراعة في المستعمرات على أساس علمي، ونظَّم إدارة الإمبراطورية، واتجه نحو زيادة العنصر البشري الغربي بسبب ما تَصوَّره من التفوق العرْقي عند الغربيين.
وكان تشامبرلين عنصرياً حتى النخاع، يؤمن بالنظرية الداروينية (مثل معظم أعضاء النخبة السياسية في العالم الغربي في أواخر القرن التاسع عشر). فكان مؤمناً بأهمية العرْق، وبأنه يُحدِّد السمات الأساسية للحضارات (أي أنه كان يؤمن بالقومية العضـوية)، ولــذا فقـد كان يــرى ضــرورة وضع السـياسة الخارجية على أُسس عرْقية علمية واضحة، وأن تستند إليها التحالفات.
كانت رؤية تشامبرلين للعرْق هرمية. وعلى قمة الهرم كان يتربع الأنجلوـ ساكسون (الإنجليز والأمريكان)، يليهم التيوتون، أما اليهود فكانوا بطبيعة الحال في قاع الهرم. ومع هذا، كان تشامبرلين يرى أن بعض الأجنـاس الدنيئـة أقل دناءة من غيرها. فالهنود، على سبيل المثال، من الأجناس الدنيئة، ولكنهم أقل دناءة من السود، ولذا يمكن تطوير الزنوج وإدخال الحضارة بينهم عن طريق عنصر أجنبي وسيط، ومن ثم تستفيد الأطراف كافة، إذ يستفيد الغرب ويستفيد الوسيط الهندي، بل يستفيد المواطن الأصلي الأسود نفسه! كما لاحَظ تشامبرلين أن الجو لم يكن مواتياً في كثير من المستعمرات لاستخدام الإنسان الأبيض في بناء السكك الحديدية، ولذا تم استخدام الهنود كمادة بشرية وظيفية في بنائها. وأخيراً، لاحَظ تشامبرلين أن العنصر الأوربي غير الإنجليزي قد لا يكون مطيعاً بالقدر الكافي ولا يمكن أن ينضوي تحت لواء الإمبراطورية البريطانية كما فعل الأفريكانز (المسـتوطنون البيـض من أصل هولندي في جنوب أفريقيا). وكان الوضع، من منظور العنصر البشري الغربي، سيئاً جداً، ولذا اكتشف تشامبرلين أن اليهود قد يكونون العنصر الذي يحل محل الهنود في عملية الاستيطان كعنصر وسيط، فهم عنصر أوربي ولكنهم لا يسببون القلاقل مثل الأفريكانز.
وفي عام 1902، دُعي هرتزل ليدلي بشهادته أمام اللجنة البريطانية للغرباء التي أُنشئت للنظر في مشكلة هجرة يهود اليديشية إلى إنجلترا. فاقترح تحويل الهجرة إلى وطن يهودي مُعترَف به قانوناً، وكان الشاهد الوحيد الذي قدَّم حلاًّ صهيونياً للمشكلة، وقد ترك ذلك أثراً عميقاً في السامعين. وبعد عدة أشهر دُعي هرتزل لمقابلة تشامبرلين الذي استمع لوجهة نظره وأدرك إمكانية توظيف الشعب العضوي المنبوذ في المشاريع السياسية والإقليمية الخارجية للحكومة البريطانية، وطرح عليهم كلاًّ من قبرص والعريش.
ولم يكن اسم هرتزل معروفاً، فقابل لورد لاندسدون الذي كتب تقريراً عن مشروع العريش الذي اقترحه هرتزل باعتبارها البقعة التي يمكن أن "يُلقى فيها" بيهود أوديسا والإيست إند في لندن، ولكن كرومر رفض المشروع. زار تشامبرلين أفريقيا عام 1902، ثم استقبل هرتزل مرة أخرى وعرض عليه إنشاء مُستوطَن يهودي مستقل في شرق أفريقيا، وقد تم ذلك بموافقة بلفور الذي كان رئيساً للوزراء آنذاك والذي سُمِّي وعد بلفور باسمه.
إسرائيل زانجويل (1864-1926) Israel Zangwill
روائي إنجليزي وزعيم الصهيونية الإقليمية. وُلد في لندن وكان على رأس النشاط الصهيوني في إنجلترا حينما زارها هرتزل واتصل به ليرتب له اجتماعاً مع قادة الأقلية اليهودية فيها. وكان زانجويل يدرك أن اليهودية ستتحوَّل إذا خرجت من الجيتو، وأن من غير المعقول الاستمرار في الادعاء بأن الأمور ستسير على منوالها القديم. وتعالج كثير من أعماله الأدبية هذه القضية، فكتاب أطفال الجيتو (1892) هو تاريخ أسرة يهودية، وهو في واقع الأمر تاريخ أسرته هو، وهي رواية بانورامية تتناول شخصيات يهودية عديدة كلها تبغي الهروب من الجيتو. ومن أهم الشخصيات الشاعر بنحاس، وهو في الواقع صورة كاريكاتورية ساخرة للشاعر نفتالي إمبر مؤلف نشيد الهاتيكفاه.
من أهم أعمال زانجويل الأخرى أبناء الجيتو (1892) الذي يُصوِّر بعض الشخصيات التي يمزقها ازدواج الانتماء لعالم الجيتو اليهودي وعالم الأغيار المعاصر. والكتاب دراسات في شخصيات يهودية تترك العقيدة اليهودية، مثل: دزرائيلي وهايني ولاسال وشبتاي تسفي. وتعالج رواية حالمو الجيتو (1898) الموضوع نفسه، فهي تزخر بشخصيات تبحث عن مهرب من الجيتو والقيم الدينية العتيقة التي تهيمن عليه. أما رواية مآس جيتوية (1893) فتحكي قصة يهودي تزوج من امرأة مسيحية ولكنه لا يملك إلا أن يبقى يهودياً في الخفاء. أما روايته ملك الشحاذين (1894) فتتناول اليهود السفارد في لندن قبل صول يهود اليديشية. ومن رواياته الأخرى كوميديات جيتوية (1907).
ويتميَّز موقف زانجويل تجاه اليهود بازدواجية غريبة، فهو من ناحية معجب إلى حدٍّ ما بالجيتو وبشخصياته، ولكنه من ناحية أخرى يجدها شخصيات ضيقة ومائلة للذوبان في العصر الحديث، وهو فخور ببعض الجوانب اليهودية في حياته ولكنه يشعر بالخجل تجاه البعض الآخر. ويمكن القول بأن رفضه لليهود واليهودية أكثر عمقاً بكثير من إعجابه ببعض جوانب الشخصية اليديشية. ورفضه اليهود واليهودية يتجلى في كتابه الدين المقبل حيث يعبِّر عن أمله في ظهور ديانة جديدة تمزج الديانتين اليهودية والمسيحية والحضارتين العبرية والمسيحية. وله كتاب آخر ألفه في أخريات حياته هو عقيدتي (1925) يطالب فيه بيهودية غير يهودية، حتى يتم التوصل إلى عقيدة عالمية لكل البشر.
ومن أهم مسرحياته، مسرحية آتون الصهر التي يتصور فيها الولايات المتحدة على أنها آتون إلهي للصهر ستذوب فيه كل أجناس أوربا وتندمج، وتختفي فيه كل الخصوصيات، وضمن ذلك الخصوصية اليهودية. ومن أهم آليات الصهر، الزواج المُختلَط (وقد كان زانجويل نفسه متزوجاً من مسيحية). فكأن الولايات المتحدة هي الترجمة التاريخية النهائية لمثُل عصر الاستنارة التي ستريح الإنسان من عبء التاريخ وتريح اليهود من عبء الهوية. وقد صدرت لزانجويل عدة روايات أخرى ليس لها علاقة كبيرة بالموضوع اليهودي مثل السيد (1895) وهي قصة صبي مهاجر من كندا ينجح في أن يصبح فناناً شهيراً، وله أيضاً عباءة إلياهو (1900) عن أحداث حرب البوير.
وموقف زانجويل يشبه تماماً موقف هرتزل ونوردو ويهود غرب أوربا عامة، وهو أن اليهود واليهودية يمثلان بالنسبة له مشكلة تتطلب حلاًّ لا انتماءً إيجابياً يرحب به المرء. وقد ترجم هذا الموقف نفسه إلى صهيونية توطينية، فقام زانجويل بتقديم هرتزل لاجتماع المكابيين عام 1896 في لندن، وذهب إلى فلسطين عام 1897 وحضر المؤتمر الصهيوني الأول في العام نفسه. ولكن توطينية زانجويل كانت عميقة جداً، ورغبته في التخلص من الفائض اليهودي كانت متبلورة، ولذا فقد ألقى بكل ثقله خلف مشروع شرق أفريقيا الذي وصفه بأنه سيكون وسيلة لمضاعفة عدد السكان البيض التابعين لبريطانيا. فالاستعمار الاستيطاني بالنسبة إليه يشبه الزواج المُختلَط، وسيلة للتخلص من اليهود ولتذويبهم في التشكيل الحضاري الغربي.
ولذا، حين رفض المؤتمر السابع (1905) المشروع، انشق زانجويل على المنظمة الصهيونية وأسَّس المنظمة الصهيونية الإقليمية التي كانت تهدف إلى تأسيس إقليم يهودي (ليس بالضرورة في فلسطين) بهدف إنقاذ وإغاثة اليهود خارج أية تصورات قومية يهودية. وقد تحرك زانجويل بحماس في إطار صهيونيته التوطينية، فطلب العون من أثرياء الغرب المندمجين (لورد روتشيلد ويعقوب شيف) وحاول توطين بعض المهاجرين اليهود، ولكنه لم ينجـح إلا في توطـين بضع عائلات في تكسـاس. وحينـما أُعلن وعد بلفور، أصبح زانجويل من كبار المتحمسين له. والواقع أن هذا الوعد جعل المشروع الصهيوني جزءاً من التشكيل الحضاري أو على وجه الدقة التشكيل الإمبريالي الغربي. وطالب زانجويل بتفريغ فلسطين من سكانها في أسرع وقت، فهو مثل نوردو وجابوتنسكي في عجلة من أمره ويتمنى اختفاء اليهود حتى يستأنف حياته في غرب أوربا كمواطن عادي. وقد وجَّه زانجويل النقد اللاذع للحكومة البريطانية لفشلها في تنفيذ ما جاء في الوعد بسرعة. ولكنه، مع هذا، عاد واكتشف حقيقة الموقف في فلسطين، ووجد أن المشروع الصهيوني سيرتطم بالسكان الأصليين. ولهذا، فقد عاد مرة أخرى للحل الإقليمي. من أهم كتبه التي تضم مقالاته صوت القدس (1920)، خُطب ومقالات وخطابات (1937)، لكن هذه الكتابات نُشرت بعد موته. وقد قام زانجويل بترجمة أعمال ابن جبيرول من العبرية إلى الإنجليزية.
مشـروع قـبرص Cyprus Project
انطلقت الدعوة الأولى لتوطين اليهود في قبرص في عام 1878، عندما فرضت بريطانيا سيطرتها على الجزيرة رغم إبقائها، من الناحية الاسمية، تابعة للدولة العثمانية. فقد نشرت صحيفة الجويش كرونيكل آنذاك مقالاً أبرزت فيه المزايا التي تتمتع بها قبرص والتي تجعلها مكاناً ملائماً لتوطين اليهود يكون بمنزلة قاعدة تحظى بالحماية البريطانية.
ومع تزايد حدة النزاع بين بريطانيا والدولة العثمانية حول الجزيرة عام 1895، ارتفعت في بريطانيا أصوات تدعو إلى إنشاء كيان يهودي في قبرص يكون خاضعاً للحماية البريطانية وخادماً للمصالح الاستعمارية البريطانية في البحر الأبيض المتوسط. ولقيت هذه الدعوة قبولاً لدى الداعية الصهيوني ديفيز ترييتش، الذي سعى إلى عرض الفكرة في المؤتمر الصهيوني الأول (1897) ثم في المؤتمر الثاني (1898)، ولكن هرتزل، الذي كان متحمساً للمشروع من حيث المبدأ، نصحه بالتريث حتى تحين فرصة مواتية للبدء في الخطوات العملية، وأشار عليه بعرض الأمر على جمعية الاستعمار اليهودي، التي لم تتحمس هي الأخرى للمشروع. إلا أن ذلك لم يثن ترييتش عن مسعاه، فطرح الفكرة مجدداً في المؤتمر الصهيوني الثالث (1899)، حيث قوبلت بمعارضة شديدة، على أساس أن الانشغال بتوطين اليهود في قبرص قد يعرقل مشاريع الاستيطان في فلسطين. أما هرتزل فلم يجاهر بتأييده للمشروع خوفاً من استفزاز حركة أحباء صهيون، التي كانت تصر على الاستيطان في فلسطين.
وكان من شأن هذه المعارضة أن تدفع ترييتش إلى الاعتماد على جهوده الشخصية، فألف في برلين عام 1899 لجنة لرعاية المشروع كان من بين أعضائها ديفيد ولفسون وأوتو واربورج، وسافر في العام نفسه إلى قبرص لدراسة الأوضاع هناك، كما قدَّم مذكرة بالمشروع إلى المندوب السامي البريطاني في الجزيرة، ركز فيها على المكاسب التي ستجنيها بريطانيا سياسياً واقتصادياً من وراء دعمها للمشروع والدور الذي سيقوم به المستوطنون اليهود في خدمة المصالح البريطانية في منطقة شرق البحر المتوسط.
وفي عام 1900، نجح ترييتش، بالتعاون مع جمعية الاستعمار اليهودي، وصندوق الائتمان اليهودي للاستعمار، في تهجير نحو 250 من اليهود الرومانيين والروس إلى قبرص. ولكنهم لم يَطُل بهم المقام هناك، فسرعان ما سرى التذمر في صفوفهم نظراً لغياب التجانس بينهم وإحساسهم بأنهم أصبحوا أشبه ما يكونون بالعبيد في ظل نظام السخرة الذي فرضه عليهم ترييتش دون أدنى اعتبار لآدميتهم أو لتقاليدهم الدينية أو الثقافية، وهو ما جعلهم يفضلون العودة إلى ديارهم والعدول عن الاستيطان في قبرص. وأثار فشل المحاولة عاصفة من الهجوم على ترييتش حيث اتهمه خصومه بالتغرير بالمهاجرين اليهود لتحقيق مآرب شخصية والإقدام على مغامرة غير مدروسة.
إلا أن هذا الفشـل لم يقـض على المشـروع تماماً. ففي عام 1901، طُرحت مجدداً فكرة توطين بعض اليهود في قبرص، وجاءت المبادرة هذه المرة من جانب هرتزل، الذي كان يرقب باهتمام مساعي ترييتش دون أن يورط نفسه في تأييدها أو معارضتها علناً، ولكنه وجد فرصة سانحة بعد ما سرت شائعات عن أن بريطانيا تنوي التخلي لألمانيا عن قبرص مقابل الحصول على بعض المستعمرات الألمانية في شرق أفريقيا، فسارع بإجراء اتصالات مع الحكومة الألمانية لإقناعها بالمنافع التي ستعود عليها من جراء توطين اليهود في قبرص، حيث إن المستوطنين سيوفرون لألمانيا قاعدة للتوسع الاستعماري في المنطقة العربية، وسيضمنون تأمين الطريق إلى مستعمراتها في آسيا، فضلاً عن استعدادهم للقيام بعمليات عسكرية للدفاع عن المصالح الألمانية إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
ولكن هرتزل لم يلبث أن تراجع عن هذا العرض بعدما تبين أن بريطانيا لن تتخلى عن قبرص، فاتجه بمساعيه مرة أخرى إلى الحكومة البريطانية التي حرص دائماً على إبقاء الأبواب مواربة معها، وأسفرت هذه المساعي عن عقد اجتماع في عام 1902 بينه وبين جوزيف تشامبرلين، وزير المستعمرات البريطاني آنذاك، نوقشت خلاله خطط توطين اليهود في قبرص أو العريش. إلا أن الوزير البريطاني أبدى تَخوُّفه من أن الاستيطان اليهودي في قبرص قد يثير حفيظة سكان الجزيرة، وأغلبهم مسيحيون أرثوذكس ذوو أصول يونانية، وهو الأمر الذي قد يُفجِّر بدوره مشاكل مع كل من اليونان، التي تربطها بسكان الجزيرة وشائج قومية وتاريخية، وروسيا التي تُعَدُّ كنيستها الأرثوذكسية المرجع الروحي لهؤلاء السكان. وقد ألمح تشامبرلين إلى أن حكومته لا تقبل إحلال اليهود محل سكان مسيحيين لهم ارتباطات وثيقة بالعالم الأوربي، واقترح بدلاً من ذلك أن يكون توطين اليهود في "بقعة أخرى من الممتلكات البريطانية لا يوجد بها سكان مسيحيون بيض". ولا تخلو هذه النظرة العنصرية الصريحة من مغزى، فإذا كان فقراء اليهود في أوربا يشكلون فائضاً بشرياً ينبغي التخلص منه بتهجيره، فإن هذه العملية ينبغي ألا تتم على حساب أحد أطراف العالم الأوربي "الحديث"، بل يلزم البحث عن كبش فداء من الشعوب الأخرى "المتخلفة" لكي تُصدَّر إليه أزمات أوربا.
ورغم أن بريطانيا رفضت عرض هرتزل، إلا أن الاتصالات بين هرتزل وتشامبرلين شجعت ترييتش على إحياء مشروعه، فبادر في مطلع عام 1903 إلى السعي لدى المندوب السامي البريطاني في قبرص للموافقة على توطين بعض اليهود في الجزيرة، ولكن بريطانيا كررت رفضها وأكدت مجدداً أن أقصى ما يمكن قبوله هو السماح لليهود بشراء مساحات محددة من الأراضي في قبرص، على أن يتم ذلك بشكل فردي وبرضا سكان الجزيرة، وهو ما دفع ترييتش، والحركة الصهيونية عموماً، إلى صرف الأنظار عن مشروع توطين اليهود في قبرص.
ديفـيز ترييتــش (1870ـ1935) avis Trietsch
صهيوني توطيني إقليمي. وُلد في درسدن بألمانيا، وهاجر إلى نيويورك في الثالثة والعشرين من عمره، وأقام بالولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1899 حيث حصل على الجنسية الأمريكية. ثم انتقل إلى ألمانيا وساهم بحماس في الأنشطة الصهيونية، فشارك منذ عام 1901 في تحرير المجلة الشهيرة الشرق والغرب التي كانت تُعنَى بقضايا اليهودية المعاصرة. وأتاح له مارتن بوبر ـ من خلال رئاسته لصحيفة دي فيلت ـ فرصة التعبير عن آرائه ومشاريعه. كما ساهم مع بوبر وآخرين في تأسيس دار نشر صهيونية في برلين عام 1902.
اشترك ترييتش في المؤتمر الصهيوني الأول (1897)، وارتبط اسمه بجهوده الكبيرة في هذا المؤتمر وفي المؤتمرات التالية، لحمل الحركة الصهيونية على تبنِّي مشروع قبرص الذي كان قد بدأ الدعوة له منذ عام 1895 حيث رأى فيه مقدمة لتحقيق هدفه الأعظم وهو مشروع فلسطين الكبرى التي تضم قبرص والعريش فضلاً عن فلسطين. كما دعا ترييتش لتعديل برنامج بازل وتوسيعه ليتمشى مع مفهومه الخاص عن هدف الصهيونية، ولكنه قوبل بمعارضة شديدة، وهو ما دعاه إلى مواصلة مساعيه اعتماداً على جهوده الشخصية.
وعلى الصعيد النظري، كرس ترييتش عدداً كبيراً من المقالات والدراسات لبسط مشروع فلسطين الكبرى. وعلى الصعيد العملي، سعى ترييتش إلى عرض مشروع توطين اليهود في قبرص على الحكومة البريطانية التي لم تُبد حماساً كبيراً في ذلك الوقت، فاتجه إلى طلب المعونة من أثرياء اليهود، أمثال البارون دي هيرش، وجمعية الاستعمار اليهودي وصندوق الائتمان اليهودي للاستعمار، ولكنه لم يلق استجابة تُذكَر. ورغم أنه نجح عام 1900في تهجير حوالي 250 من يهود روسيا ورومانيا إلى قبرص. إلا أن المحاولة لم تلبث أن منيت بفشل ذريع، نظراً لعدم تجانس المهاجرين وإحجام بريطانيا وأثرياء اليهود عن دعم المشروع، وهو ما عرَّض ترييتش لهجوم عنيف حدا به إلى الابتعاد عن الساحة السياسية والانصراف إلى العمل الصحفي بل التنصل من مسئولية المغامرة الفاشلة.
ولكنه بادر عام 1903، بالتعاون مع فرانز أوبنهايمر، بتأسيس الشركة اليهودية لاستعمار الشرق في برلين. كما أسَّس مع نوسيج مجلة فلسطين لتكون لسان حال الشركة. كما واصل، من جهة أخرى، اتصالاته بالمسئولين البريطانيين لإقناعهم بتبنِّي مشروع استيطان قبرص، إلا أن بريطانيا رفضت المشروع خوفاً من إثارة مشاعر المواطنين في قبرص.
وفي عام 1905، أسَّس ترييتش مكتب معلومات الهجرة في يافا لجمع المعلومات عن الهجرة اليهودية والمناطق الملائمة للاستيطان، إلا أنه لم يستمر طويلاً في عمله هذا. وفي عام 1906، سافر إلى العريش ضمن بعثة شكَّلها لاكتشاف المنطقة ودراسة إمكانية توطين اليهود فيها تمهيداً للتفاوض من جديد مع الحكومة البريطانية للحصول على دعمها وتأييدها للمشروع، ولكن جهوده هذه آلت هي الأخرى إلى الفشل.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، عمل ترييتش في قسم الإحصاء في الجيش الألماني. وفي عام 1915، نشر عدة كتيبات تدعو إلى تعزيز التعاون بين ألمانيا والحركة الصهيونية، وكان من شأن دعوة كتلك أن تُصعِّد حملة الهجوم عليه من جانب خصومه في الحركة الصهيونية الذين كانوا يرون بريطانيا الحليف الأساسي للحركة. وقد ظل ترييتش حتى نهاية حياته متمسكاً بآرائه الرامية إلى التعجيل بتهجير أعداد كبيرة من اليهود إلى فلسطين وإقامة مشاريع صناعية هناك بدلاً من المشاريع الزراعية التي كانت تنفذها المنظمة الصهيونية، وذلك لوضع أسس صلبة لقيام فلسطين الكبرى.
ويُعتبَر ترييتش مثالاً واضحاً للصهيوني التوطيني الذي كان يرغب في حل مشاكل إخوانه اليهود. وعلى حد تعبيره، فإن "على الأغنياء من اليهود أن يبحثوا عن مكان ليستقر فيه إخوانهم الفقراء". وهو ينطلق أساساً من خوفه من موجات هجرة اليهود الفقراء والعمال إلى موطنه الذي اختاره للاندماج، وبالتالي من خوفه من تَفجُّر موجة عداء ضد اليهود قد تؤثر فيه هو شخصياً، فكأن صهيونيته دفاع عن اندماجيته الحقيقية. والواقع أن ترييتش لم يفكر قط في الاستقرار في أي من مشاريعه. كذلك لا يمكن إغفال دافع الربح، فقد كان ترييتش صهيونياً نفعياً يرى مشاريعه الصهيونية وسيلة لكسب المال وزيادة ثروته. ومن ثم، كان تركيزه على أن يكون اليهود والمستوطنون من العمال القادرين.
يتبع إن شاء الله...