الجزء الرابع: الصهيونية والجماعات اليهودية
الباب الأول: موقف الصهيونية وإسرائيل من الجماعات اليهودية في العالم
العداء الصهيوني لليهود Zionist Anti-Semitism
الصهيونية، شأنها شأن العداء لليهودية، هي إحدى تجليات الرؤية المعرفية العلمانية الشاملة، وقد تبلورت الأفكار الصهيونية والمعادية لليهود في أوربا في القرن التاسع عشر، وهي الحقبة التاريخية التي تبلورت فيها النظرية العرْقية الغربية الخاصة بالتفاوت بين الناس بسبب الاختلاف بينهم في خصائصهم التشريحية والعرْقية والإثنية ومن ثم نجد أن الرؤية الكامنة في كل من الصهيونية ومعاداة اليهود واحدة. وأن كثيراً من مقولات الصهيونية هي مقولات عرْقية معادية لليهود.
ويرى الصهاينة أن معاداة اليهود ظاهرة طبيعية ورد فعل طبيعي وحتمي لوجود اليهود كجسم غريب في المجتمعات المضيفة. وقد نشأت صداقة عميقة بين حاييم وايزمان وريتشارد كروسمان (الزعيم العمالي البريطاني) حين اعترف هذا الأخير بأنه "معاد لليهود بالطبع". وقد كان تعليق وايزمان على ذلك: لو قال كروسمان غير ذلك فإنه يكون إما كاذباً على نفسه أو كاذباً على الآخرين. وقد وصف المفكر الصهيوني جيكوب كلاتزكين العداء لليهود بأنه دفاع مشروع عن الذات. وقد ميَّز هرتزل بين العداء الحديث لليهود وبين التعصب الديني القديم، ووصف هذا العداء الحديث بأنه "حركة بين الشعوب المتحضرة" تحاول من خلالها التخلص من شبح يطاردها من ماضيها. بل يرى الصهاينة أن هذه المعاداة هي أحد ثوابت النفس البشرية، فهي تشبه المطلق الأفلاطوني أو المرض المستعصي. وقد عبَّر شامير عن معاداة البولنديين لليهود، فأشار إلى أنهم يرضعونها مع لبن أمهاتهم. ويعادل شامير بذلك بين الفعل الأخلاقي والفعل الغريزي البـيولوجي، وهـو ما يبين أنه يدور في إطار الحلولية بدون إله، وهذا ما يفعله أيضاً نوردو ووايزمان وهتلر. فقد وصف وايزمان معاداة اليهود بأنها مثل البكتيريا التي قد تكون ساكنة أحياناً، ولكنها حينما تسنح لها الفرصة فإنها تعود إليها الحياة، وهكذا لا يميِّز الصهاينة بين الأشكال المختلفة لمعادة اليهود وإنما يرونها كلاًّ عضوياً واحداً يتكرر في كل زمان ومكان، كما يرون عدم جدوى الحرب ضد هـذه الظاهـرة باعتبارها أحـد الثوابت وإحدى الحتميات.
والموقف الصهيوني من اليهود، كما أسلفنا، لا يختلف في أساسياته عن موقف المعادين لليهود:
1 ـ فكلا الموقفين يَصدُر عن الإيمان بأن اليهود شعب عضوي له عبقريته الخاصة وأن ثمة جوهراً يهودياً هو الذي يميز اليهودي عن غيره من البشر، وأن هذا الجوهر لا يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، فاليهود دائماً يهود. ومن هنا، فإن تَصرُّف اليهودي كالأغيار هو تَصرُّف مصطنع لا يعبِّر عن اندماجه في مجتمعه وتمثُّـله قيمه وإنما يعبِّر عن ازدواجية في الذات. ومهما يكن ما يبديه اليهودي من ولاء لوطنه، فهو ولاء مشكوك فيه. ومن هنا يحارب الصهاينة وأعداء اليهود ضد اندماج أعضاء الجماعات اليهودية في مجتمعاتهم. وقد نادى الصهاينة بضرورة رفض "سم الاندماج" أو "الهولوكوست الصامت". وكذلك، فإن المعادين لليهود يرون أن اليهودي المندمج يقلد الأغيار كالببغاء، فهو شخصية خطرة غير أصيلة تهدد نسيج المجتمع، وهو خطر حتى دون أن يدري. ولهذا كان النازيون يتعاملون مع الصهاينة فقط لإصرارهم على هويتهم اليهودية.
2 ـ يرى الفريقان أن اليهود شعب عضوي لا يمكن أن يهدأ له بال إلا بأن يستـقر في الأرض التـي يرتبط بـها بربـاط أزلي عضوي. ومن هنا، يرفض المعادون لليهود، وكذلك الصهاينة، الكفاح من أجل إعطاء اليهود حقوقـهم السياسـية والمدنية الكاملـة في أوطانهـم، وبالتــالي فلابد من "هجـرة" اليهود إلى فلسـطين أو "طـردهم" إليها. ومهما كان المصطلح أو المسوغ، فإن الحركة المثلى المقترحة واحدة، وهي نقل اليهود من أوطانهم الفعلية إلى وطنهم القومي العضوي الوهمي. والواقع أن فكرة «الشعب العضوي» تحوي أيضاً فكرة «الشعب العضوي المنبوذ»، وهي أساس تحالف الصهاينة والمعادين لليهود فكلاهما يهدف إلى إخلاء أوربا منهم.
3 ـ إذا كان اليهود يشكلون في رأي الصهاينة، كلاًّ عضوياً يعبَّر عنه في الإنجليزية بكلمة «جوري Jewry»، فإنهم مترابطون ترابطاً عضوياً لا فرق فيه بين الكل والجزء. ولذا، يتحدث الصهاينة عن «العبقرية اليهودية» باعتبارها تعبير الجزء عن الكل. وهم أيضاً يرون أن الهجوم على أية جماعة يهودية هو هجوم على الشعب اليهودي بأسره، بغض النظر عن الظروف التاريخية. ويتبنى أعداء اليهود النظرة نفسها، فهم يرون تماثل الجزء والكل، وحينما يرتكب مجموعة من اليهود جرماً معيناً أو ينتشر بينهم الفسـاد، فإن هذا يَصلُح أساسـاً للتعمـيم على كل اليهود. وفي الواقع، فإن الحديث عن جرائم اليهود يشبه تماماً الحديث عن عبقريتهم.
4 ـ تبنَّى الصهاينة كثيراً من مقولات المعادين لليهود في الغرب، وكثيراً من صورهم الإدراكية النمطية، وتزخر الكتابات الصهيونية بالحديث عن الشخصية اليهودية المريضة غير الطبيعية والهامشية وغير المنتجة التي لا تجيد إلا العمل في التجارة. بل إن ماكس نوردو، ومن بعده هتلر، طبَّق الصورة المجازية العضوية لا على معاداة اليهود بل على اليهود أنفسهم، فقد شبههم بالكائنات العضوية الدقيقـة التي تظـل غير مؤذية على الإطـلاق طـالما أنها في الهواء الطلق، لكنها تُسبِّب أفظع الأمراض إذا حُرمت من الأكسجين، ثم يستطرد هذا العالم العنصري ليحذر الحكومات والشعوب من أن اليهود يمكن أن يصبحوا مصدراً لمثل هذا الخطر. وقد ذكر يهودا جوردون أن تفوُّق اليهودي المستنير يكمن في أنه يعترف بالحقيقة، أي يَقْبل اتهامات المعادين لليهود. وقد قال برنر: " إن مهمتنا الآن هي أن نعترف بوضاعتنا منذ بدء التاريخ حتى يومنا هذا " فاليهود شعب نصف ميت يعيش بقيم السوق، لا يمانع في حياة كحياة النمل أو الكلاب، مصاب بطاعون التجول " ـ ويمكن أن نجد عبارات مماثلة أو أكثر قسوة في الأدبيات الصهيونية. ومن هنا، يؤمن الصهاينة بضرورة تطبيع الشخصية اليهودية حتى تتفق مع نمط الشخصية غير اليهودية الطبيعية السوية.
5 ـ لا يقل عداء الصهاينة لليهودية عن عدائهم لليهود، فقد رفضوا العقيدة اليهودية وحاولوا علمنتها من الداخل (انظر: «الرفض الصهيوني لليهودية»)
ومع هذا، يرى بعض الصهاينة أن معاداة اليهود بين الأغيار هي وحدها التي أدَّت إلى بقاء الشعب اليهودي، أي أن عضوية الشعب أو مصدر تماسكه العضوي ليس شيئاً جوانياً (الهوية اليهودية ـ التراث اليهودي) وإنما شيء براني: عداء اليهود. ولكل هذا، فإن الصهاينة يعتبرون أعداء اليهود حلفاء طبيعيين لهم وقوة إيجابية في نضالهم «القومي» لتهجير اليهود من أوطانهم. ولذا، كان تيودور هرتزل على استعداد للتعاون مع فون بليفيه وزير الداخلية الروسي، كما تحالف فلاديمير جابوتنسكي مع الزعيم الأوكراني بتليورا الذي ذبحت قواته آلاف اليهود بين عامي 1918 و1921، وتعاون الصهاينة مع النازيين داخل ألمانيا وخارجها.
ويتحالف الصهاينة في الوقت الحالي مع الجماعات الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة والمعروفة بعدائها العميق لليهود. بل إن المؤسسة الصهيونية تستخدم أحياناً وسائل المعادين لليهود لحَمْل اليهود على الهجرة، كما حدث في العراق عام 1951 حين ألقـى العمـلاء الصهاينة بالقنابل على المعـبد اليهـودي في بغداد. وعلى كلٍّ، فقد صرح كلاتزكين بقوله: "إنه بدلاً من إقامة جمعيات لمناهضة المعادين لليهود الذين يريدون الانتقاص من حقوقنا، يجدر بنا أن نقيم جمعيات لمناهضة أصدقائنا الراغبين في الدفاع عن حقوقنا".
وقد استمرت ظاهرة معاداة الصهيونية لليهود بعد تأسيس الدولة الصهيونية، بل يُلاحَظ أنها ازدادت حدةً وتبلوراً بين أعضاء جيل الصابرا (أي أبناء المستوطنين الصهاينة المولودين في فلسطين). فهؤلاء ينظرون إلى «يهود المنفى» (أي يهود العالم) من خلال مقولات معاداة اليهودية وصورها النمطية. ويزخر الأدب الإسرائيلي بأعمال أدبية تَصدُر عن رفض ثقافي وأخلاقي بل وعرْقي عميق ليهود الخارج.
ومع هذا، يمكن القول بأن الصهاينة، بجميع اتجاهاتهم، قد أساءوا تقدير مقدار قوة معاداة اليهود ومدى استمرارها. إذ تصوُّروا أن عداء اليهود سيستمر في التفاقم حتى يضطر كل يهود العالم أو معظمـهم للهجرة إلى فلسـطين. وغني عن القـول أن هـذه النبوءة لم تتحقق، ولا يوجد احتمال لتحقُّقها في المستقبل القريب. فالأغلبية العظمى من يهود العالم هاجرت إلى الولايات المتحدة ولا تزال متجهة إلى هناك. ولم يتجه اليهود إلى فلسطين إلا في الفترة بين عامي 1930 و1940 حينما كانت كل الأبواب الأخرى موصدة دونهم. أما في الفترة من عام 1950 إلى عام 1960، فقد هاجر يهود البلاد العربية في ظل ظروف خاصة لا علاقة لها بعداء اليهود ولكنها ناجمة بالدرجة الأولى عن التوتر مع الدولة الصهيونية. كما أن هجرتهم إلى الدولة الصهيونية لم تكن بالضرورة نتيجة حركة طرد من المجتمعات العربية بقدر ما كانت حركة جذب من مجتمع آخر يتاح لهم فيه تحقيق قدر أكبر من الحراك الاجتماعي. والواقع أن عداء اليهود ظاهرة آخذة في الاختفاء برغم ادعاءات الصهاينة، وبرغم أوهام بعض أعضاء الجماعات اليهودية.
وقد لاحظ أحد المراقبين أنه على الرغم من أن المناصب المهمة كافة متاحة أمام يهود الولايات المتحدة، فإن ما يُقدَّر بنحو ثلث عددهم يجهل هذه الحقيقة وينكرها. وقد علق برنارد أفيشاي على هذا الوضع فذكر أن سارتر قال إنه حينما لا يكـون هـناك يهود فإن أعـداء اليهود يخترعونهم كضرورة ملحة. أما بالنسبة ليهود أمريكا، فقد انقلبت الآية، فحينما لا يوجد أعداء لليهود، فإن اليهود يخترعونهم كضرورة ملحة أيضاً. ولعل أكبر دليل على ضمور ظاهرة معاداة اليهود، ارتفاع معدلات الزواج المُختلَط والاندماج بين أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة وروسيا السوفيتية وأمريكا اللاتينية وكندا وجنوب أفريقيا وإنجلترا وفرنسا، أي في أية بقعة من العالم يوجد فيها يهود.
أما بوروخوف، مؤسس الصهيونية العمالية، فقد تنبأ بأن المهاجرين اليهود إلى الولايات المتحدة سيمرون بالتجربة نفسها التي مروا بها في المجتمعات الأوربية إذ سيتركزون على قمة الهرم الإنتاجي، وبالتالي سيصبحون مرة أخرى محط كراهية الجماهير وقد يتم طردهم. ورغم أن اليهود تركزوا في الولايات المتحدة، في قمة الهرم الإنتاجي، فلم ينجم عن ذلك أية معاداة لليهود وذلك بسبب الطبيعة الطبقية والسياسية للمجتمع الأمريكي الذي يَتقبَّل بناؤه أية عناصر بشرية جديدة طالما ثبت نفعها وقدرتها على الإسهام في الإنتاج. وقد تغيَّرت طبيعة الهرم الإنتاجي نفسه في الولايات المتحدة بحيث لا توجد سوى نسبة ضئيلة من العمالة في الزراعة، كما أن الصناعة نفسها قد تحولت بحيث أصبحت تتطلب مهارات هندسية عالية وتجعل العاملين فيها مختلفين تماماً عن أعضاء الطبقة العاملة التي تتركز في قاعدة الهرم التقليدي. ويُلاحَظ كذلك أن حجم الخدمات الاقتصادية أصبح ضخماً، الأمر الذي يعني أن قاعدة الهرم ليست بالضرورة أكثر أهمية من قمته أو أكثر ضخامة منها.
أما آحاد هعام، مؤسس الصهيونية الثقافية، فقد تنبأ بأن الدولة الصهيونية ستشكل مركزاً يساعد اليهود على الاحتفاظ بهويتهم أمام هجمات أعداء اليهود وإغراء الاندماج. ولكن ها هو ذا المركز قد تأسَّس وليست له علاقة كبيرة بيهود العالم. فيهود الولايات المتحدة يصوغون هويتهم ويتمتعون بحياتهم الاستهلاكية العلمانية دون الرجوع إلى الدولة الصهيونية العبرية. وقد ادعت الصهيونية ككل أنها ستؤسس دولة تحمي أعضاء الجماعات اليهودية ضد هجمات أعداء اليهود، ولكن ثبت أنها عاجزة عن ذلك تماماً. وحينما اقتربت قوات روميل من الإسكندرية، لم يفكر أعضاء المُستوطَن الصهيوني آنذاك في كيفية حماية يهود الإسكندرية، وإنما فكروا في الانتحار.
والدولة الصهيونية لا يمكنها في الوقت الحاضر حماية يهود كومنولث الدول المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً). وفي 8 سبتمبر 1988، صرح شامير بأن إسرائيل لا يمكنها أن تحارب العالم بأسره، وقارن بين الشيوعية العالمية والصهيونية العالمية قائلاً: إن الاتحاد السوفيتي ركز جل قواه على بناء الدولة الاشتراكية، ولم يهتم ببناء الاشتراكية في العالم بالدرجة نفسها، وقد كان يفضل دائماً مصلحة الدولة السوفيتية على مستقبل الحركة الشيوعية في العالم. وهـو يرى أن الدولة الصهـيونية ستـحارب ضـد مـعاداة اليهود، ولكنها لن تصبح القوة العظمى في تلك الحرب التي ستقوم بهـا المنظمات اليــهودية "فنحن بلد صغير" على حد قوله. ومع ذلك، فإن من الضروري أن نضيف أن الدولة الصهيونية تزيد من حدة ظاهرة عداء اليهود بسبب لجوئها إلى العنف والإرهاب في تصفية حساباتها. ولا شك في أن مشاعر الاستياء نحو اليهود ستتزايد بعد الانتفاضة، وبعد عمليات القمع الرهيبة التي تقوم بها الدولة التي تُسمِّي نفسها «يهودية»، وخصوصاً أن أعداداً كبيرة منهم قد قرنوا أنفسهم بهذه الدولة وتوحدوا بها منذ عام 1967.
مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا Centrality of Israel in the Life of the Diaspora
«مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا» عبارة تعني أن مركز الحياة اليهودية في العالم بأسره هو إسرائيل (فلسطين). وتضفي الرؤية اليهودية الدينية على إرتس يسرائيل صفة محورية في حياة اليهود، فكان على اليهودي أن يحج ثلاث مرات في العام لتقديم القرابين للإله في الهيكل القائم في القدس. وقد قام الصهاينة بعلمنة هذه العقيدة فنادوا بضرورة أن تصبح الدولة الصهيونية مركز حركية الجماعات اليهودية في العالم، وأن تكون الدولة الصهيونية الملجأ الوحيد لليهود، وبأن تقوم وحدها بالدفاع عنهم، وقالوا إن الحروب التي يخوضها المستوطنون الصهاينة إنما تهدف إلى الدفاع عن كل يهود العالم.
ويرى الصهاينة أن الدولة الصهيونية هي التي تساعد يهود العالم في الحرب ضد خطر الاندماج وفي الحفاظ على الهوية اليهودية، وأنها هي التي تضمن استمرار التراث اليهودي وتطوُّره، وتحسن صورة اليهود أمام الأغيار، فبدلاً من صورة اليهودي التاجر والمرابي والجبان تأكدت صورة اليهودي باعتباره المقاتل الشرس وبذا يستعيد اليهودي احترامه لنفسه بعد أن فقده بسبب آلاف السنين من النفي. وتقوم المنظمة الصهيونية بإشاعة هذه الرؤية فتبيِّن مدى مشاركة الجماعات اليهودية في بناء إسرائيل ودعمها والالتفاف حولها، ومدى تَحمُّسهم أثناء الحروب الإسرائيلية المتتالية، وذلك حتى يشعروا بأنهم جزء من إسرائيل وحتى يتعمق لديهم الإحساس بازدواج الولاء.
وفكرة مركزية إسرائيل عند بعض الصهاينة الأوائل من دعاة الصهيونية السياسية كانت تعني ضرورة تَساقُط الأطراف تماماً (أي تصفية الدياسبورا). ولكن دعاة الصهيونية الإثنية، الدينية والعلمانية، يذهبون إلى أن مركزية إسرائيل هي مركزية ثقافية بالدرجة الأولى. ولكن دبنـوف، وبعـده دعاة ما يُسـمَّى «قومية الدياسبورا» (أو القومية اليديشية)، عارض هذه الفكرة طارحاً بدلاً منها فكرة المركز الثقافي المتنقل من عاصمة إلى أخرى بحسب مدى ازدهار الجماعات اليهودية حضارياً وثقافياً، فالمكان الأكثر حضارة وثقافة هو الذي يشكل المركز. ولكن هذا المكان ليس بالضرورة فلسطين أو إرتس يسرائيل (فقد يكون الأندلس أو بابل أو روسيا أو الولايات المتحدة)، غير أن الصهيونية تحارب مثل هذه التعددية .
وقد ازداد مفهوم مركزية إسرائيل أهميةً بعد ظهور الصهيونية التوطينية التي تُسمَّى «صهيونية الدياسبورا». وبعد إحجام الجماهير اليهودية عن الهجرة إلى أرض الميعاد، يصبح الإيمان بمركزية إسرائيل بديلاً للاستيطان الفعلي، فهو يُشبع الحنين اليهودي إلى صهيون دون أن تُترجَم هذه العاطفة إلى سلوك أو فعل. وقد أصبح تأكيد مركزية إسرائيل حجر الأساس الآن في البرنامج الصهيوني في الولايات المتحدة .
وتفترض مركزية إسرائيل هامشية أعضاء الجماعات، وضرورة تصفيتها، أو على الأقل تحويلهم إلى أداة تُستخدَم. ولكن واقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم يُثبت زيف هذا المفهوم، كما يثبت أن هذا المفهوم ينتمي إلى عالم الأحلام والأماني وربما الأوهام، إذ أن الدولة الصهيونية لا تؤثر كثيراً في الحياة الثقافية أو حتى الدينية للأمريكيين اليهود. والواقع أن أعضاء الجماعات اليهودية قد يتحدثون قولاً عن مركزية إسرائيل، ولكنهم يسـلكون حسـبما تمليه مصلحتهم ورؤيتهم علىهـم. وغني عن القول أن الدولة الصهيونية لا يمكنها أن تدافع عن أعضاء الجماعات اليهودية ولا أن تُحسِّن صورتهم العامة، إذ أن ما يحدد هذه الصورة هو أداؤهم داخل مجتمعاتهم. بل إن الدولة الصهيونية، بسبب مركزيتها التي تزعمها لنفسها ومرجعيتها اليهودية التي تدعيها لنفسها، تُلحق الأذى والضرر باليهود كما حدث أثناء حادثة الجاسوس جوناثان بولارد وكما يَحدُث حالياً في مواجهة الانتفاضة حيث يظهر جنود الدولة اليهودية وهم يكسرون أذرع الأطفال.
ولو كان القول الصهيوني بشأن مركزية هذه الدولة في حياة أعضاء الجماعات اليهودية حقيقة يمكن أن يقبلها المرء، لكان من حقه أن يرى سلوكها الشرس تعبيراً عن السلوك اليهودي بشكل عام، ولكان من حقه أيضاً أن يرى أن غزوات الصهيونية وصولاتها وجولاتها إنما تعبِّر عن طموحات اليهود أينما كانوا. ومن هنا، يحرص كثير من أعضاء الجماعات الآن على الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين الدولة الصهيونية ، بل على تأكيد مركزية الدياسبورا.
أسبقية (أو أولوية) إسرائيل في حياة الدياسبورا
Primacy of Israel in the Life of the Diaspora
«أسبقية (أو أولوية) إسرائيل في حياة الدياسبورا» مصطلح صهيوني جديد تم سكه مؤخراً ليحل محل مصطلح «مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا»، وهو مصطلح أقل جذرية من سابقه، وهذا ما يدل على أن الصهيونية الاستيطانية في فلسطين قد بدأت تشعر بضعفها في مواجهتها مع الجماعات اليهودية (في الولايات المتحدة) ومع الصهيونية التوطينية بشكل عام. ولذا، بدلاً من الإصرار على مركزية إسرائيل (وهو ما يعني تبعية الأطراف للمركز)، يكتفي الفكر الصهيوني بتأكيد أسبقيتها أو أولويتها. وهذه العبارة مثل جيد على الخطاب الصهيوني المراوغ وعلى محاولة إخفاء طبيعة الخطاب وأهدافه. فالأسبقية أو الأولوية تعني مرة أخرى مركزاً وأطرافاً. ومهما يكن الأمر، فإن ظهور المصطلح هو في حد ذاته دليل على التغيُّرات العميقة التي طرأت على علاقة إسرائيل بالجماعات اليهودية في العالم، وعلى تغيُّر موازين القوى لصالح الأخيرة.
نفي الدياسبورا Negation of the Diaspora
«نفي الدياسبورا» ترجمة عربية حرفية وشائعة للمصطلح الصهيوني «نجيشن أوف ذي دياسبورا negation of the diaspora» (وهو بدوره ترجمة للمصطلح العبري «شليلات هجولاه»)، ونفضل التعبير عنه باصطلاح «تصفية الدياسبورا واستغلالها».
تصفية الدياسبورا واستغلالها Liquidation of the Diaspora
«تصفية الدياسبورا واستغلالها» عبارة تعني أن وجود الجماعات اليهودية في العالم هو وجود مؤقت، هامشي ومرضي، يجب تصفيته، وأنه إن لم يتسن تصفيته يمكن على الأقل توظيفه في خدمة الدولة الصهيونية انطلاقاً من الإيمان بمركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا. والصهيونية تفترض أن أعضاء الجماعات اليهودية لا يحيون حياة يهودية كاملة لأنهم يعيشون خارج وطنهم القومي، كما أنهم يعانون من شذوذ الشخصية وهامشية الحياة إذ لا جذور لهم في الحضارات المختلفة لأنهم شعب عضوي لا تستطيع حضارة الآخر أن تعبِّر عن جوهره المتميِّز. والسبيل الوحيد إلى التعبير عن هذا الجوهر هو الوطن القومي والتربية القومية. فالصهيونية، بحسب تصوُّر كلاتزكين، هي «رفض الدياسبورا» لأنها "لا تستحق البقاء". وهذه النغمة الصهيونية من أكثر النغمات تكراراً؛ فالحاخام موردخاي بيرون، كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي، وصف الشتات بأنه «لعنة إلى الأبد.. لعنة دائمة»، ولم يستثن من ذلك حتى العصور الذهبية المختلفة ليهود الشتات. كما أشار بن جوريون إلى الشتات على أنه «غبار إنساني متناثر»، ووصفه كلاتزكين بأنه «دمار وانحلال وضعف أبدي».
وانطلاقاً من ذلك ينظر الصهاينة إلى موروثات أعضاء الجماعات على أنها بلا قيمة ولا تستحق الحفاظ علىها، بل تجب تصفيتها لأنها تجسِّد هامشية اليهود وشذوذهم وقيمهم غير القومية (غير العضوية) التي يجب التخلص منها. ومن ثم، فإننا نجد إشارات إلى أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم من عَبَدة الإله الكنعاني بعل. يعيشون في بابل عبيداً لشهواتهم المادية الرخيصة (قدور اللحم)، ومن هنا الحديث عن ضرورة غزو الجماعات.
ولكن المشكلة الأساسية هي أن التراث اليهودي هو أساساً مجموعة من موروثات الجماعات اليهـودية المختلفة، وبدونهـا لا توجد هويات يهودية من أي نوع. بل إن هذه الموروثات قد وجدت طريقها إلى الوطن القومي، والإسرائيليون لا يزالون يجدون هويتهم من خلالها. وبعد أربعين عاماً من إعلان الدولة، بدأ كثير من جيل الصابرا يبحث عن جذوره في تراث يهود اليديشية أو في تراث إسبانيا وليس في التراث اليهودي الخالص الذي لا وجود له إلا في كتابات الصهاينة.
وثمة صيغ صهيونية أقل حدة ترى أن الموروث الثقافي لأعضاء الجماعات قد تكون له أهمية، ولكنها أهمية ثانوية بالقياس إلى إنجازات اليهود الحضارية في فلسطين تحت حكم دولة مستقلة. وانطلاقاً من هذا، يمكن استغلال أعضاء الجماعات اليهودية بدلاً من تصفيتهم، ويمكن توظيفهم في خدمة الدولة الصهيونية بدلاً من نفيهم. بل إن المفكر الصهيوني العمالي أهاردن ديفيد جوردون اقترح أن تكون علاقة يهود العالم بالدولة الصهيونية مثل علاقة الدول الاستعمارية بالمستعمرات، أي علاقة يستفيد منها طرف واحد ويدفع الآخر الثمن. فالجماعات اليهودية، من هذا المنظور، هي مجرد وسيلة تستخدم للوصول إلى الغاية الصهيونية، أو جسر يُستخدَم للعبور إلى أرض الميعاد، أو لبنة تُستخدَم في بناء الدولة الصهيونية.
وقد كانت الصيغة الأولى الجذرية (أي التصفية الكاملة) هي السائدة حتى عهد قريب. وفي إطار ذلك، كانت الدعوة إلى اللغة العبرية ورفض اليديشية، وفي نهاية الأمر القضاء علىها. كما تم التعاون مع النازيين وإبرام معاهدة الهعفراه معهم، ووُجِّهت الدعوة إلى يهود العالم للهجرة بأعداد كبيرة إلى المركز اليهودي. وقد تم بالفعل تصفية (نفي) كل الجماعات اليهودية في العالمين العربي والإسلامي، ولم يبق سوي جماعات يهودية صغيرة في أوربا وجماعة واحدة كبيرة في الولايات المتحدة. ورغم المحاولات الدائبة من قبَل الصهاينة لتصفية الجماعات اليهودية في الغرب، إلا أن إنجاز هذه العملية لم يكن ثمرة جهود الصهاينة وإنما كان في واقع الأمر نتيجـة ظـاهرة تاريخية عـالمية واسعة هي الاستعمار الاستيطاني الغربي، إذ كانت كل العناصر اليهودية المهاجرة تتجه إلى الدول الاستيطانية الجديدة، وخصوصاً الولايات المتحدة، واتجهت قلة منهم إلى فلسطين التي تم الاستيطان فيها من خلال آليات الاستعمار الاستـيطاني الغـربي، ولم تكن الصهـيونية أو اليهــودية سوى الديباجة.
وقد ظلت الدعوة إلى نفي الدياسبورا واستغلالها قائمة حتى عام 1948. ولكن بعد إنشاء الدولة وتزايد اعتمادها على الولايات المتحدة وعلى يهود العالم تخلَّى الصهاينة عن الصيغة المتطرفة وتم تبنِّي صيغة معدَّلة مقلَّصة، ومن ثم أصبحت الدولة الصهيونية لا تهدف إلى نفي الجماعات وتصفيتها وإنما تنظر إلىها باعتبارها مصدر دعم مادي وسياسي ومعنوي، أي قبلت ما نسميه «الصهيونية التوطينية». ولذا، فإن الآلة الصهيونية تركز كل همها على جمع التبرعات. وقد زوَّد أعضاء الجماعات اليهودية الدولة الصهيونية بنحو 25% من كل مواردها المالية في السنين الأولى. ولكن، مع زيادة حجم الميزانية الإسرائيلية، ومع التضخم، نجد أن أعضاء الجماعات لا يزودونها إلا بـ 3% من مواردها.
كما أن جمع الأموال أصبح يسبب نوعاً من الجفاء تجاه الصهيونية ونوعاً من الضيق بالكيان الصهيوني. بل إن المنظمات الصهيونية في الخارج تحتفظ بقـدر كبير من الأموال التي تجمعـها لتمويل نشاطاتها هي. كما أن أعضاء الجماعات بدأوا يثيرون قضايا مثل كيفية إنفاق هذه التبرعات، فيصر كثير منهم على إنفاقها في الرفاه الاجتماعي وليس في الحرب، على حين أن فريقاً منهم يرفض أن تُنفَق أية تبرعات على المُستوطَنات في الضفة الغربية. وقد طُرحَت مؤخراً صيغة جديدة للتعاون بين الصهيونية وأعضاء الجماعات اليهودية، تشكل تراجعاً صهيونياً. فهذا المشروع يركز على القدرات المهنية والفكرية لأعضاء الجماعات انطلاقاً من القول بأن العقول هي رأسمال عصر العلم، تماماً كما كانت النقود رأسمال عصر الصناعة. ولذا، فإن هذا المشروع يهدف إلى أن تكون إسرائيل أول المجتمعات في عصر الفضاء وأكثرها تركيباً من الناحية التكنولوجية والعلمية والثقافية، وتتحول بذلك إلى قوة عظمى صغيرة تُنتج التكنولوجيا وتُصدِّرها، فتحل مشكلة ميزان المدفوعات وترفع مستوى مواطنيها، وتسد الهوة الاجتماعية الإثنية داخل المجتمع الصهيوني، ثم تضمن في النهاية استمرار وجود الهوة الكيفية بينها وبين جيرانها.
ولذا، لن يُطلَب من أعضاء الجماعات اليهودية أن يهاجروا وإنما سيُطلَب منهم إقامة مشاريع ذات طابع كيفي متميِّز في إسرائيل. وسيكون بوسع المساهمين في هذه المشاريع قضاء أوقات أطول في إسرائيل والمسـاهمة بكفاءتهم العلمـية والتكنولوجية دون أن يهاجروا بالفعل. كما يمكنهم أيضاً المساهمة في استيراد وتسويق السلع الإسرائيلية. بل يمكن أن يتحولوا إلى وكلاء يتقاضون عمولة كبيرة تستخدم لتمويل المشاريع المختلفة. وغني عن القول أن هذه مهمة يمكن أن يقوم بها أيضاً أي إنسان يطمع في تحقيق الربح، فهي لا تتصل بالضرورة بالهوية اليهودية أو بوحدة الشعب اليهودي كما لا تتصل بالعلاقة الخاصة بين دياسبورا يهودية في المنفى ومركز يهودي في فلسطين!
غزو الدياسبورا Conquest of the Communities) Diaspora)
«غزو الدياسبورا» مصطلح صهيوني يعني ضرورة الهيمنة الصهيونية على كل الجماعات اليهودية في العالم شاءت أم أبت، وذلك باعتبار أن الدولة الصهيونية هي المركز والجماعات اليهودية هي الأطراف، وهذا ما يُطلَق علىه «مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا». وبناءً على نصيحة ماكس نوردو، أعلن هرتزل في المؤتمر الصهيوني الثاني (1898) ضرورة غزو الحركة الصهيونية للجماعات اليهودية. والواقع أن الحركة الصهيونية لا تهدف إلى تهجير العرب من فلسطين إلى المنفى وحسب، وإنما تهدف أيضاً إلى تهجير اليهود من المنفى إلى فلسطين. ولكن حينما أعلنت الحركة الصهيونية برنامجها بشأن الوطن القومي وتجميع اليهود، أي تهجيرهم، قوبلت الدعوة بالرفض من جانب جميع المنظمات اليهودية في العالم. ووجد الصهاينة أنفسهم معزولين في جزيرة صغيرة، وذلك على حد قول وايزمان أثناء محادثاته مع الحكومة الإنجليزية لإصدار وعد بلفور، أي أنهم وجدوا أنفسهم مفتقرين إلى قاعدة جماهيرية.
ولحل هذا الوضع، تبنَّى الصهاينة إستراتيجية حل المشكلة من أعلى (أي من ناحية المصالح الإمبريالية) وليس من أسفل (من ناحية الجماهير اليهودية). ومعنى هذا أنهم قرَّروا غزو الجماعات من خلال القوى الاستعمارية العظمى. فقدموا أنفسهم منذ البداية باعتبار أن بإمكانهم لعب دور الوسيط بين القوى الاستعمارية من جهة واليهود من جهة أخرى، وذلك لتجنيدهم وتوطينهم في الموقع الجغرافي الذي يهم تلك القوى. وقد أخبر هرتزل القس هشلر (الذي كان يساعده في جهوده الصهيونية) بأنه لا يمكنه فرض شروطه على اليهود إلا إذا نال قسطاً من الشرعية من إحدى الدول العظمى حتى يَقبَله اليهود. وبالفعل، فحالما وافقت إنجلترا على المشروع الصهيوني (1917) اكتسبت الصهيونية شرعية هائلة أمام الجماهير اليهودية في الغرب فاضطرت إلى الاعتراف بها.
وهذا ما حدث أيضاً في الولايات المتحدة حيث اتجه النظام الأمريكي اتجاهاً ممالئاً للصهيونية برغم معارضة اليهود، فاكتسبت المنظمة الصهيونية الشرعية التي تحتاج إليها وفرضت هيمنتها في نهاية الأمر على الجماعة اليهودية. ومن ثم، يصر الصهاينة على أن يُنظَر إلى المشروع الصهيوني في ضوء المصالح الإمبريالية ، وكان القاضي الأمريكي اليهودي برانديز يؤكد لليهود أن صهيونية اليهودي الأمريكي لا تتعارض البتة مع أمريكيته. وبذا حقَّقت الصهيونية أولى خطوات عملية غزو الجماعات. ويُلاحَظ أن ثمة تماثلاً بين الطـريقة التي إتبعـتها الحـركة الصـهيونية في غـزو الجماعات اليهودية وبين طريقتها في غزو فلسطين، أي الاعتماد على القوى الاستعمارية الخـارجية. وقد قال الزعـيم الصهيوني أهارون جوردون: إن الأقليات في الخارج يجب أن تكون بمنزلة مستعمرات للوطن الأم.
وقد أخذت محاولات فرض مركزية إسرائيل أشكالاً مختلفة أكثر دهـاء أو أكثر إرهابية (حــسبما تمليه الظروف). فبعد عام 1948، أعلنت الدولة الصهيونية نفسها دولة للشعب اليهودي بأسره، داخـل حدودها وخارجـها، بكل ما يُفهَم من هذا من مركزية. ويصدر المسئولون الصهيونيون والإسرائيليون من التصريحات ما يفترض مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا وارتباطهما العضوي. فيصرح مندوب إسرائيل في هيئة الأمم بأن مستقبل يهود إسرائيل ويهود أمريكا لا ينفصلان. وكتب بن جوريون عن "وجود رابطة لا تنفصم عراها بين دولة إسرائيل والشعب اليهودي... رابطة الحياة والموت... ووحدة المصير والغاية". بل إن بن جوريون يدَّعي أنه عندما يقول يهودي ليهودي آخر "حكومتنا" فإن ذلك يعني حكومة إسرائيل وأن "عامة اليهود في مختلف الدول ينظرون إلى الشعب الإسرائيلي باعتبار أنه يقوم بتمثيلهم".
وتأخذ محاولات فرض مركزية إسرائيل شكلاً عنيفاً صريحاً كما حدث في العراق حينما زرع عملاء صهاينة متفجرات في المعبد اليهودي في بغداد حتى يفر يهود العراق إلى المركز الإسرائيلي. وقد حدث شيء مماثل عام 1990 حينما نجح الصهاينة في إقناع الولايات المتحدة بأن توصد أبوابها دون المهاجرين اليهود السوفييت حتى يضطروا إلى الهجرة للمركز الإسرائيلي الذي اتضح انصرافهم عنه، وعدم إقبالهم عليه (انظر: «التهجير [الترانسفير] الصهيوني لأعضاء الجماعات اليهودية»).
ولا تتوقف عملية غزو الجماعات على الهيمنة على الجماعات اليهودية نفسها، إذ أخذت الصهيونية (وهي عقيدة سياسية لا دينية) تَقرن نفسها باليهودية (وهي عقيدة سماوية) وتتوحد بها، كما تمت صهينة العقيدة اليهودية بشكل تام (هي في جوهرها عملية علمنة). وقد تم إنجاز هذه العملية بكفاءة عالية جداً حتى أن معظم أعضاء الجماعات، وخصوصاً من الأجيال الجديدة، يتصوَّرون الآن أن الصهيونية هي اليهودية ولا فرق بينهما. ويهيمن الآن الجهاز الصهيوني على معظم المؤسسات اليهودية في العالم، إذ تغلغلت في النشاط الخيري والتربوي وفي أوجه الحياة كافة. وتحاول الصهيونية قصارى جهدها أن تُوظِّف إمكانات أعضاء الجماعات لصالحها، مالية كانت أو علمية أو سياسية لتحوِّلهم إلى أداة لها.
وقد اختفي المصطلح تقريباً في الأدبيات الصهيونية مع أنه مفهوم كامن فيها، ويرجع هذا إلى عدة أسباب من بينها إذعان أعضاء الجماعات اليهودية واستبطانهم المصطلح الصهيوني بشكل شبه تام. كما ظهر عقد صامت بين الدولة الصهيونية ويهود العالم تم بمقتضاه تقسيم العمل بين الصهيونية التوطينية أو صهيونية الخارج (صهيونية الدعم والضغط السياسي) والصهيونية الاستيطانية أو صهيونية الداخل (صهيونية الاستيطان والقتال). ولكن الأهم من هذا أن الاعتراف الغربي بالصهيونية دعم مركز الصهيونية بين يهود الغرب المندمجين، وبدأت المعارضة الصريحة للصهيونية تبدو وكأنها معارضة لسياسات الحرب العالمية الأولى التي اتبعتها الحكومات الغربية.
والواقع أن الشرعية الاستعمارية التي اكتسبتها الصهيونية أدَّت إلى حسم قضية ازدواج الولاء بالنسبة لليهودي الغربي، وحينما يؤيد المواطن الأمريكي اليهودي الصهيونية، فهو إنما يساند المصالح الإستراتيجية لبلاده، ومن ثم فلا يوجد فرق كبير بينه وبين المواطن الأمريكي غير اليهودي الذي يؤيد المشروع الصهيوني إلا في الدرجة والشكل.
ومع هذا، نجد أن أعضاء الجماعات اليهودية يقاومون هذا الغزو إما بالرفض الصريح وهذه هي الأقلية، وإما بالتملص عن طريق إعلان الولاء للدولة الصهيونية ودفع التبرعات لها ورفض الهجرة إليها. والرد الصهيوني على ذلك يأخذ أشكالاً حادة، كأن يُتَّهم اليهود والرافضون للصهيونية بأنهم معادون لليهود كارهون لأنفسهم، أو أن يُفرَض عليهم الخلاص الجبري. ولا يمكن إدراك المعنى الكامل لمفهوم غزو الجماعات إلا في إطار مفاهيم صهيونية أخرى مثل نفي الدياسبورا وهامشيتها. هذا ويُلاحَظ، بعد الانتفاضة واهتزاز الشرعية الصهيونية، وكذلك قيام إسرائيل بدور الخفير في المنطقة، أن الجماعات اليهودية بدأت تفصح عن معارضتها لإسرائيل والصهيونية، وزاد الحديث عن مركزية الدياسبورا بدلاً من مركزية إسرائيل.