الباب الرابع: الجـباية الصهيونية
جمع التبرعات (أو الجباية) الصهيونية Zionist Fund-Raising
«جمع التبرعات» هو الترجمة العربية الحرفية والمباشرة لعبارة «فند ريزنج fund raising» الإنجليزية. ولأن هذه العملية ليست عملية محايدة أو بسيطة وإنما تتسم بالقسر والإكراه في بعض الأحيان، وبالغش والخداع (فيما يتعلق بالأهداف) في معظم الأحيان، فإننا نجد أن لفظ «جباية» قد يكون أقرب للدقة وأكثر تفسيرية. ومن هنا، فنحن في هذه الموسوعة نستخدم الاصطلاح الأول تارة والثاني تارة أخرى حسب ما يمليه السياق.
وقد اعتمدت الحركة الصهيونية منذ نشأتها على التبرعات التي تجمعها من أعضاء الجماعات اليهودية للعالم. وترى الأدبيات الصهيونية أن عمليات الجباية تقوِّي الروابط العاطفية بين إسرائيل واليهود الأمريكيين، ومن هنا فإن شعار النداء اليهودي الموحد الأكثر شهرة (نحن واحد) يحث اليهود على تأكيد تضامنهم بواسطة العطاء. فالتبرعات لا يُنظَر لها باعتبارها مجرد إحسان بل بوصفها "نوعاً من المشاركة في دولة إسرائيل، وخصوصاً من قبَل اليهود العلمانيين والمندمجين التي تمثل حملة النداء اليهودي الصلة الوحيدة بينهم وبين روحانية إسرائيل ومركزيتها" على حد تعبير إيرفينج بيرنشتاين نائب الرئيس التنفيذي للنداء اليهودي الموحَّد.
وهذا الخطاب الصهيوني المراوغ يخبىء داخله الكثير، ولذا فلنحاول فك شفرته. إن اليهودي العلماني المندمج هو اليهودي الذي يعيش في العالم الغربي، وخصوصاً في الولايات المتحدة، وهو يعيش سعيداً في وطنه لا يود الهجرة منه. ولكنه يتمتع بدخل مرتفع، ولابد من الاستفادة من هذا الوضع. ولذا، يَطرح الصهاينة شعار "نحن واحد"، ولكنه يُطرَح بحذر شديد وبكثير من التحفظات التي تجعله شعاراً رناناً دون محتوى. فالمطلوب من عضو الشعب اليهودي الواحد أن يُبقي الصلة «الروحانية» مع إسرائيل دون الهجرة إليها. وبهذه الطريقة، يستطيع اليهودي المندمج في الغرب أن يظل في وطنه الحقيقي ويشعر بالانتماء إليه وفي الوقت نفسه يُسمِّي نفسه صهيونياً، وبهذه الطريقة يمكن جَمْع التبرعات منه.
ولكن الكثير ممن يدفعون هذه التبرعات لا يفهمون المضمون السـياسي لتبرعـاتهم وإنما يدفعـون الأموال باعتبار أنها إحسان (صدقة)، أي عمل خيري، أو مساهمة في مشروع ثقافي وليس مساهمة في عملية استيطانية إحلالية. ويلعب الخطاب الصهيوني المراوغ دوراً أساسياً فـي ذلك، فما يهم الصهاينة هو تبرعات يهود العالم لا انتماؤهم أو إدراكهم السياسي. وقد ذكر ريتشارد كروسمان (الزعيم العمالي البريطاني) أن وايزمان لم يكن لليهود المندمجين سوى الاحتقار، ولكن كان لديه اسـتعداد دائم لجَمْـع أموالهم من أجل مشـروعـه الصهيوني.
ويدفع الكثيرون التبرعات خشية التشهير بهم من قبَل الحركة الصهيونية، وبسبب الإحساس بالذنب لأنهم لا يهاجرون إلى الوطن القومي (وهؤلاء هم الذين يُطلَق عليهم اصطلاح «يهود النفقة»). ومهما كان الأمر، فإن التبرعات أصبحت القناة الوحيدة التي يعبِّر معظم اليهود عن علاقتهم بإسرائيل من خلالها. ولذلك، اقـترح أحـدهم تسـمية صهـاينة الخـارج (التوطينيين) «متبرعو صهيون». ومع هذا، لوحظ مؤخراً أن عمليات الجباية تواجه مشكلة نضوب المصادر المالية فعلى سبيل المثال لوحظ أن حصيلة ما جمعه الصهاينة من تبرعات في الثلاثة شهور الأولى من عام 1995 لم يزد عن 143 ألف دولار (بالقياس إلى 2.5 مليون في الفترة نفسها عام 1994 و6.5 مليون عام 1993). وقد انخفضت التبرعات في الولايات المتحدة بحوالي 40%.
ولا يختلف الموقف كثيراً في بريطانيا وفرنسا وأمريكا اللاتينية للأسباب التالية:
1 ـ لعـل من أهـم الأسـباب ما يُسـمَّى «ظاهرة موت الشعب اليهودي»، أي تناقص أعداد أعضاء الجماعات اليهودية نتيجة انخفاض التكاثر الطبيعي بينهم وتَزايُد معدلات الاندماج، وهو ما يعني تناقص عدد المتبرعين.
2 ـ يساهم تزايُد الاندماج في انصراف أعضاء الجماعات اليهودية عن دفع التبرعات أو دفعها لمنظمات غير يهودية لأن المشروع الصهيوني يصبح شأناً لا علاقة له بهم.
3 ـ تركت مشاكل التضخم والكساد الاقتصادي أثراً سلبياً في المتبرعين اليهود.
4 ـ أدَّى التضخم إلى تزايد الاحتياجات الداخلية للجماعة اليهودية وخصوصاً في مجال الرعاية الصحية والتعليم وبيوت العجزة.
5 ـ مما زاد الوضع تفاقماً، سياسات حكومة ريجان التي قطعت العون عن البرامج الصحية والتعليمية للفقراء والأقليات. وقد ترك هذا أثراً سلبياً جداً في عمليات تمويل برامج الرفاه اليهودية في الولايات المتحدة إذ أصبحت في حاجة إلى اعتمادات أكبر تحتَّم استقطاعها من التبرعات التي تُجمَع (وتبلغ نسبة ما تنفقه الجماعات اليهودية على نفسها في الوقت الحاضر ثُلثي التبرعات التي تقوم بجَمْعها).
6 ـ لوحظ أن 1% من كبارالمتبرعين يدفعون 25% من كل التبرعات. وأن 10% من كبار المتبرعين يدفعون 80% منها، أي أن صغار المساهمين من الجماهير اليهودية لم يعودوا يتبرعون للدولة الصهيونية تقريباً. وقد لوحظ أن كبار المتبرعين هم عدة أفراد تم استئناسهم واستيعابهم، ولكن هذا يعني أيضاً أن المنظمات الصهيونية واليهودية أصبحت معتمدة عليهم تماماً لاستمرار بقائها، ومن ثم فإنها تواجه أزمات مالية حادة حينما يمتنعون لسبب أو آخر عن دَفْع تبرعاتهم.
ومن الملاحَظ أن هـؤلاء المتبرعين من كبار السـن ومن الأجــيال القديمة، أي أنهم في الغالب ذوو خلفية أوربية، أو من أبناء المهاجرين، الأمر الذي يعني وجود رابطة عاطفية «بالوطن القديم» وبالهوية القديمة. ويترجم هذا نفسه إلى ارتباط بالمنظمات اليهودية والصهيونية باعتبارها منظمات تعبِّر عن هذه الهوية، وإلى تبرعات لها. هذا على عكس أبنائهم المتأمركين المندمجين الذين لا تربطهم رابطة قوية بالمؤسسات اليهودية، ومن ثم فإنهم لن يستمروا في التبرع للمنظمات اليهودية والصهيونية. وحيث إن كبار المتبرعين مسنون، فإن رحيلهم سيؤدي إلى تسارع نضوب المصادر المالية الحالية. ويُلاحَظ أن من أهم مصادر التمويل، في الوقت الحالي، التركات التي يوصي بها كبار المتبرعين للمنظمة الصهيونية. ومع أن مثل هذه التركات تحل كثيراً من المشكلات، إلا أنها في نهاية الأمر «تبرُّع أخير» لن تليه تبرعات أخرى.
7 ـ يُلاحَظ عدم ظهور متبرعين شباب إما لتباعدهم عن حياة الجماعة ومؤسساتها أو نتيجة تحوُّل نسبة متزايدة من الشباب اليهودي من الأعمال التجارية المربحة إلى المهن ذات الدخل المحدود.
8 ـ تواجه صناديق الجباية الآن صعوبات في تجنيد متطوعين للقيام بحملات التبرعات .
9 ـ أدَّت السياسات الإسرائيلية (وخصوصاً في عهد الليكود) إلى نفور كثير من المتبرعين: فهناك حرب لبنان وتورُّط إسرائيل في فضيحة إيران ـ كونترا وفضيحة بولارد، وأسلوب إسرائيل في معالجة الانتفاضة، وقد أدَّى كل هذا إلى إحراج أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة، ومن ثَمَّ إحجامهم عن التبرع.
وقد خلق ذلك مأزقاً حاداً حول كيفية تقسيم الموارد المتوافرة بين احتياجات الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة التي تشهد تزايداً مطرداً وبين احتياجات إسرائيل. والآن، تتجه النية إلى تقليص المبالغ المخصصة لإسرائيل وخصوصاً أن هناك شعوراً متزايداً بأن أمن إسرائيل أصبح مضموناً بعد معاهدة السلام مع مصر، كما أن هناك تزايداً في الخلافات حول السياسات الإسرائيلية، وخصوصاً خلال حكم الليكود، وقد ظلت الجماعة تحرص على التبرع بسخاء في فترات الأزمات.
ومما يجدر ذكره أن تبرعات يهود العالم في الماضي كانت تغطي نسبة مئوية لا بأس بها من نفقات الدولة الصهيونية، ولكن هذه التبرعات لا تزيد في الوقت الحالي عن 1.5% من ناتج إسرائيل القـومي، كما لا يتـجاوز العـائد من بيع سندات إسرائيل النسبة نفسها، وهو ما يعني تزايد اعتماد المستوطن الصهيوني على الولايات المتحدة. ومن التطورات الجديدة في عالم التبرعات الصهيونية ظهور صناديق لجمع التبرعات لصالح الحركات الإسرائيلية التي ترفض سياسة الضم والتوسع والقمع (الصهيونية) بدرجات متفاوتة، ومن أهم هذه الصناديق الصندوق الإسرائيلي الجديد.
الصندوق القومي اليهودي (كيرين كايميت) Jewish National Fund (Keren Kayemet)
بالعبرية «كيرين كايميت» وهو إحدى أقدم مؤسسات المنظمة الصهيونية العالمية وذراعها المالي لشراء الأراضي في فلسطين. ترجع فكرة إنشائه إلى المؤتمر الصهيوني الأول (1897) حين اقترح عالم الرياضيات اليهودي الحاخام الليتواني هيرمان شابيرا إنشاء صندوق قومي يهودي قائم على التبرع الطوعي بهدف شراء الأراضي في فلسطين. ولكن هذا الاقتراح لم يحظ بأيِّ دعم حتى المؤتمر الصهيوني الخامس (1901) حينما تقرَّر (وبتأييد من هرتزل) إنشاء الصندوق القومي اليهودي ليكون "وديعة للشعب اليهودي" لا يُستعمَل إلا لشراء أو تخليص الأراضي في فلسطين لتظل "ملكاً للشعب اليهودي إلى الأبد" لا يجوز بيعها أو رهنها. ويقوم الصندوق باستصلاح الأراضي وتأجيرها لمدة 49 عاماً قابلة للتجديد ولا يجوز تأجيرها لغير اليهود أو استخدام عمالة غير يهودية لزراعة هذه الأراضي وصيانتها. وقد تحدَّد مقر الصندوق في فيينا.
قام الصندوق بشراء أول مساحة من الأراضي له في فلسطين عام 1905، وبدأ أولى تجاربه في التشجير عام 1908 بزراعة ما سُمِّي «غابة هرتزل». ثم أقام الصندوق أول كيبوتس على أراضيه في داجانيا جنوبي طبرية. وقد استدعى هذا النشاط وضع الإطار القانوني المناسب للصندوق. ولذلك تم تسجيله عام 1907 كشركة بريطانية باسم «الصندوق القومي اليهودي المحدود»، وسرعان ما تحوَّل الصندوق إلى الذراع الوحيدة لجباية الأموال من أجل شراء الأراضي في فلسطين.
ومع صدور وعد بلفور ووقوع فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني، اتسع نشاط الصندوق. وفي عام 1920، وضع المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في لندن خطة شاملة لتنظيم وتمويل الهجرة والاستيطان اليهوديين في فلسطين، حيث تقرَّر إنشاء الصندوق التأسيسي اليهودي كأداة لتمويل عمليات الاستيطان في فلسطين على أن يتفرغ الصندوق القومي اليهودي لشراء الأراضي وأن تُخصَّص له نسـبة 20% من حـصيلة الصـندوق التأسـيسي لهذا الغرض. وفي ذلك العام أيضاً، أصدرت إدارة الانتداب البريطانية تنظيماً جديداً سهَّل عملية تحويل ونَقْل ملكية الأراضي وإزالة العقبات التي كانت تعترضها. وإزاء هذه التطورات، ومع انتقال مقر الصندوق إلى القدس عام 1922، زادت ملكية الصندوق من الأراضي بشكل كبير حيث قفزت من 16.366 دونماً عام 1920 (أي بعد 19 سنة من تأسيسه) إلى 278.627دونماً عام 1930، ووصلت إلى 93.6000دونم في مايو 1948 أو نحو 3.55% من إجمالي مساحة فلسطين و54% من إجمالي الأراضي المملوكة للتجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين والتي كانت تضم 85% من مستعمراته ومؤسساته الاستيطانية.
وقد أدَّى ذلك إلى تحـويل كثير مـن الملاك العرب إلى معـدمين وأجراء، كما أدَّى إلى ازدياد سوء الأحوال الاقتصادية للعرب الفلسطينيين، وخصوصاً أن قانون الصندوق كان يشترط عدم استخدام عمالة غير يهودية على أراضيه، وهذا الشرط العنصري كان ضرورياً لتفريغ فلسطين من سكانها الأصليين وتحقيق أهداف الاستعمار الاستيطاني الإحلالي بها. كما كان تطبيقاً لما دعا إليه هرتزل عام 1895 حينما قـال: "إننا سنحاول دَفْع السكان إلى الخروج عن طريق إيجاد فرص عمل لهم في الدول المجاورة، وفي الوقت نفسه إغلاق أبواب العمل أمامهم في بلدنا".
وقد اهتم الصندوق القومي اليهودي في بداية الأمر بشراء الأراضي لأغراض الاستيطان الزراعي، ثم أصبحت الاعتبارات الأمنية والسياسية أكثر أهمية مع تزايد الرفض العربي للاستيطان اليهودي ثم صدور تقرير لجنة بيل عام 1937 التي أوصت بتقسيم فلسطين وما أعقب ذلك من إصدار الكتاب الأبيض لعام 1939 والذي فَرَض قيوداً على شراء اليهود للأراضي. ومع ذلك، نجح الصندوق في زيادة ملكيته من الأراضي بمقدار الضعف تقريباً خلال الفترة بين عامي 1939 و1946 حيث زادت من 473 ألف دونم إلى 835 ألف دونم، أي أن نصف مساحة الأراضي التي كان يمتلكها عند إعلان الدولة حصل عليها خلال هذه الفترة وحدها. وقد تركَّزت أغلب هذه الأراضي في المناطق الحدودية وكذلك داخل المناطق المخصـصة للـعرب والتي كان محـظوراً على اليهـود شراء الأراضي بها. وقد ساهم ذلك في تحديد حدود الدولة اليهودية التي نص عليها قرار التقسيم عام 1947.
وإذا كان الصندوق القومي اليهودي قد نجح في خَلْق حقائق جديدة على أرض فلسطين تدعم المشروع الصهيوني إلا أنه لم ينجح في نهاية الأمر في سوى امتلاك 3.55% من أراضيها. ولم يتم "تخليص" ما تبقَّى من الأراضي إلا عن طريق القوة الجبرية والاحـتلال العسـكري المدعوم من قبل القوى الاستعمارية والإمبريالية.
وبعد إقامة الدولة الصهيونية، انتقلت ملكية أغلب الأراضي التي تم إفراغها من سكانها ومالكيها العرب إلى الصندوق القومي اليهودي بحيث أصبح يمتلك عام 1950 نحو 2.373.676دونماً وصلت إلى 3.5 مليون دونم عام 1960، أي 17% من إجمالي مساحة الدولة. وفي عام 1953، وافق الكنيست الإسرائيلي على قانون الصندوق القومي في إسرائيل الذي أجاز تسجيل الصندوق في إسرائيل كشركة مساهمة. وفي عام 1954، حصلت الشركة الإسرائيلية المساهمة الجديدة على جميع الموجودات والديون الخاصة بالصندوق القـومي اليهـودي الذي كان قد سُجِّل في إنجلترا عام 1907. ومع ذلك، لم تتم تصفية الشركة البريطانية حيث كانت هذه الشركة تمتلك أراضي خارج حدود الدولة أي في الضفة الغربية وغزة. وقـد كانت تصفيتها تعـني ضـياع هذه الأراضي. ولذلك، فإن هناك منذ عام 1954 شركتين تحملان الاسم نفسه تقريباً، والفارق الوحيد هو أن كلمة «محدودة» ملحقة باسم الشركة البريطانية.
وقد حدَّد القانون الأساسي للشركة الإسرائيلية أهدافها بأنه شراء أو استئجار أو مبادلة أو تأجير الأراضي والغابات وحقوق الملكية والحقوق في أراضي الآخرين وأية حقوق مشابهة، فضلاً عن الممتلكات غير المنقولة من أيِّ نوع في المنطقة المحددة (وهذه إشارة إلى دولة إسرائيل وأية مناطق تقع تحت سلطة حكومة إسرائيل) أو في أي جزء منها بهدف توطين اليهود في تلك الأراضي والممتلكات. ومن الملاحَظ أن وصف المنطقة المحدَّدة كما جاء في هذه الفقرة يضع في الاعتبار احتمالات التوسع الإسرائيلي في المستقبل ضم أراض عربية جديدة إلى الدولة، وهو ما حدث بالفعل بعد حرب 1967 حيث امتد نشاط الصندوق إلى الأراضي الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي.
ونظراً لتبعية الصندوق للمنظمة الصهيونية العالمية، فقد كان من الضروري تنظيم علاقته مع الحكومة الإسرائيلية. وقد تم هذا باتفاقية وُقِّعت عام 1961 نصت على أن "الصندوق سوف يواصل أعماله بين اليهود في كلٍّ من إسرائيل وبلاد الشتات كوكالة مستقلة تابعة للمنظمة الصهيونية العالمية وذلك بهدف جباية الأموال وتخليص الأرض والقيام بنشاطات إعلامية وتربوية صهيونية وإسرائيلية". وقد احتفظ الصندوق بشروطه العنصرية الخاصة بتأجير الأراضي لليهود فقط وحَظْر استخدام عمالة غير يهودية (أي عربية) وإن كان هذا الشرط الأخير يُنتهَـك بشكل مستمر حيث تُستخدَم العمالة العربية في كثير من المستوطنات والأراضي المملوكة للصندوق. وقد وصف وزير الزراعة الإسرائيلي عام 1974 هذه الانتهاكات بأنها "سرطان" وحذر من استمرارها.
وقد انتقل نشاط الصندوق بالتدريج من مجال شراء الأراضي إلى استصلاحها وبناء الطرقات ومساعدة المستوطنات الجديدة وضمن ذلك حفر الآبار وبناء السدود وشبكات الري والتشجير، كما يتعاون مع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في بناء قرى الناحال الحدودية وتطوير المناطق ذات الأهمية الأمنية والإستراتيجية. وقد تركَّز نشاط الصندوق بشكل خاص في منطقة الجليل حيث الكثافة السكانية الفلسطينية القصوى بغرض تنفيذ الإستراتيجية الإسرائيلية الرامية إلى تهويد الجليل. وقد ساهم الصندوق في إقامة 100 مستوطنة في الجليل في الفترة بين عامي 1977 و1981. وبعد حرب 1967، قام الصندوق بشراء مساحات كبيرة من الأراضي في الضفة الغربية، وذلك من خلال شركة هيمنوتاه التابعة له والتي تأسَّست عام 1938 في لندن وسُجِّلت في رام الله عام 1971. ويشارك الصندوق في المخطط الصهيوني لتهويد القدس والضفة الغربية. وقد اعتمد الصندوق تاريخياً على أساليب شتى لجباية الأموال مثل بيع الأشجار في فلسطين، والطوابع البريدية، وتسجيل أسماء كبار المتبرعين فيما كان يُعرَف باسم «الكتاب الذهبي» وكذلك من خلال «الصندوق الأزرق» الذي كان يوضع في بيوت أعضاء الجماعات اليهودية ويستعمل لجمع التبرعات.
أما الآن، فإن المصادر الرئيسية لدخله هي "مقابل إيجار عقارات يملكها وأشغال تعهدتها الوكالة اليهودية والحكومة الإسرائيلية". ومن بين هذه المصادر، التبرعات والهبات العامة أو المعطاة لأغراض محددة من قبَل أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. ويُعَد الصندوق مؤسسة مالية ضخمة حيث قُدِّر مجموع موجوداته عام 1980 بأكثر من 148 مليون دولار. وللصندوق شركات تابعة عديدة وله كذلك أسهم في شركات مختلفة، وقد بلغت ميزانيته عام 1980 ـ 1981 مبلغ 474 مليون دولار. وللصندوق فرع في الولايات المتحدة مسجل كشركة مساهمة معفاة من الضرائب وهو يعمل كذراع للصندوق في جباية الأموال الإقليمية.
صندوق تأسيس فلسطين (كيرين هايسود) Palestine Foundation Fund (Keren Hayesod)
اسمه بالعبرية «كيرين هايسود» وهو الإدارة المالية الرئيسية للمنظمة الصهيونية العالمية. أنشيء عام 1920 عندما واجهت الحركة الصهيونية مشكلة تمويل مشروعها الاستيطاني في فلسطين بعد صدور وعد بلفور. وقد تضمَّن قرار إنشائه التزام كل يهودي أياً كان موقفه من الصهيونية بدفع ضريبة سنوية بحد أدنى معين للمساهمة في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين على أن يقوم الصندوق بتوظيف التبرعات والمساهمات المالية المختلفة في استثمارها في مشروعات إنتاجية لا تستهدف الربح في المقام الأول. ومن بين أهم مؤسسيه حاييم وايزمان وفلاديمير جابوتنسكي وإسرائيل سيف. وقد سُجِّل الصندوق عام 1921 كشركة بريطانية، وظل مقره في لندن حتى عام 1926 حين انتقل إلى القدس. وفي عام 1925، انضم الصندوق التأسيسي إلى الصندوق القومي، ومع تأسيس الوكالة اليهودية الموسعة عام 1929 أصبح الكيرين هايسود ذراعها المالية الأساسية.
وقد ظل الصندوق المموِّل الأساسي لنشاطات الوكالة اليهودية في فلسطين في ميادين الاستيطان والتعليم والخدمات الصحية والأمن وشراء الأسلحة، كما مارس دوراً واضحاً في تمويل الهجرة غير الشرعية بعد القيود التي فرضتها بريطانيا عام 1940 على حجم الهجرة اليهودية إلى فلسطين. كذلك شارك في تمويل عدد من المشاريع الاقتصادية مثل شركات المياه والكهرباء والملاحة والطيران والبناء والبنوك الإسرائيلية قبل عام 1948. وبعد قيام إسرائيل، سخَّر الصندوق موارده لتمويل استيعاب المهاجرين الجدد، وساهم في الفترة بين عامي 1948 و1970 في استيعاب 1.4 مليون مهاجر وكذلك تأسيس 525 مستوطنة زراعية و27 مدينة تطوير.
وقد ساهم الصندوق أيضاً، أثناء حرب عام 1967 وبعدها، في جمع التبرعات اليهودية التي انهمرت على إسرائيل حيث اسفرت الحملة الواسعة عن جمع 150 مليون دولار. كما قام بحملة مماثلة خلال حرب 1973 أسفرت عن جَمْع 273 مليون دولار. وقد تراوح إيراده السنوي منذ ذلك الحين بين 100 و150 مليون دولار. ووصل حجم ما جَمَعه منذ عام 1920 وحتى 1978 نحو 199.3 مليار دولار. وقد استجاب الصندوق لنداء الحكومة الإسرائيلية عام 1977 للمشاركة في مشروع إعادة تأهيل واسعة النطاق لإحياء المهاجرين الفقراء في إسرائيل والتزم بتخصيص مبلغ 200 مليون دولار لهذا المشروع تم جَمْعه خلال خمس سنوات.
وتواجه جبايات الصندوق التأسيسي مشاكل داخلية عديدة تؤثر في أنشطتها وأعمالها ونتائجها مثل الانخفاض الكبير في عدد المتطوعين للقيام بحملات الجباية نتيجة تزايد معدلات الاندماج بين الجماعات اليهودية، وتآكل الفكر الصهيوني، وانخفاض التعاطف مع إسرائيل نتيجة سياستها تجاه النزاع العربي الإسرائيلي، وخصوصاً بعد حرب لبنان ومذابـح صبرا وشتيلا ثم معـالجتها للانتفاضـة الفلسطينية، كما أن توقيع معاهدة السلام مع مصر قد خلق إحساساً بأن أمن إسرائيل مضمون وأن إسرائيل لم تَعُد تحارب من أجل مشاكل أساسية بل من أجل التوسع. وبالإضافة إلى ذلك، هناك إحساس متزايد لدى الجماعات اليهودية بأن مشاكل إسرائيل الاقتصادية غير قابلة للحل وأن أموال الجبايات لن تفيد. كذلك تواجه الجماعات اليهودية في الدول الأوربية (مثل الولايات المتحدة) تغيرات ديموجرافية مهمة وتزايداً في مشاكلها واحتياجاتها الداخلية، الأمر الذي يستدعي تكريس جهود أكبر لمواجهتها. ويضاف إلى كل هذا ظهور مصاعب اقتصادية في الدول المختلفة، الأمر الذي يقلل استعداد الأفراد لتقديم التبرعات، ذلك إلى جانب التنافس الشديد بين المنظمات المختلفة التي تجمع أموالاً لأغراض مختلفة.
والصندوق التأسيسي اليهودي يُعرَف منذ عام 1948 باسم «كيرين هايسود (النداء الإسرائيلي الموحَّد)». ويعمل الصندوق التأسيسي في أكثر من 69 دولة فيما عدا الولايات المتحدة التي تُعَدُّ مجالاً للنداء اليهودي الموحَّد. وقد اكتسب الصندوق صفة الشركة الإسرائيلية بموجب القانون التأسيسي للصندوق الصادر عن الكنيست عام 1956. ويعمل رئيس الصندوق التأسيسي كعضو في اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، في حين يترأس رئيس النداء الإسرائيلي الموحَّد اللجان التابعة لمجلس حكام (أمناء) الوكالة اليهودية.
يتبع إن شاء الله...