الباب العاشر: الصهيونية العامة (أو الصهيونية العمومية)
الصهيونية العامة (أو الصهيونية العمومية) General Zionism
«الصهيونية العامة» أو «الصهيونية العمومية» تيار صهيوني يحاول قدر استطاعته الالتزام بالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (شعب عضوي منبوذ ـ يُنقَل خارج أوربا ليُوظَّف لصالحها في إطار دولة وظيفية) وبالتعريف الهرتزلي للصهيونية (الذي لا يختلف قط عن هذه الصيغة). ويمكن القول بأن الصهيونية العامة هي «الصهيونية الدبلوماسية» و«صهيونية أثرياء الغرب المندمجين» بعد مرحلة هرتزل وبلفور (والتي تطوَّرت بعد ذلك لتصبح «صهيونية الدياسبورا»). ولأن الصهاينة العموميين يلتزمون بهذا الحد الأدنى، فإن أتباع هذا التيار يرفضون التيار الديني المتمثل في حركة مزراحي، بل عارضوا تطبيق التعاليم الدينية بقوة القانون وطالبوا بإلغاء القوانين الدينية التي تحد من الحريات الشخصية، وخصوصاً في مسائل الزواج والطلاق. وهم لا يتوجهون على الإطلاق لمشكلة ما يُسمَّى «الإثنية اليهودية»، كما أنهم يرفضون الخوض في مناقشة التوجه الاقتصادي أو السياسي للمُستوطَن الصهيوني أو الخوض في البرامج التفصيلية حول مستقبل المشروع الصهيوني وشكل الملكية في الدولة الصهيونية أو الدخول في الصراعات السياسية الناجمة عن العملية الاستيطانية. كما أنهم لم يهتموا كثيراً بالمؤسسات الاستيطانية: الزراعية والعسكرية والثقافية والدينية. وبطبيعة الحال، فقد عارضوا أيضاً الاتجاه العمالي المتمثل في حركة عمال صهيون بشكل خاص.
وتذهب التواريخ الصهيونية (أو المتأثرة بها) إلى أن الصهيونية العامة هي بمنزلة حزب الوسط، وأنها الصهيونية التي تعلو على الأحزاب، وأنها الصهيونية التي تركز على المصلحة القومية (بغض النظر عن الانتماء الطبقي ولا تكترث بالتفاصيل) لأن هذا سيكون على حساب الفكرة الأساسية، وكلها من قبيل محاولة تطبيع النسق الصهيوني وتصوير التيارات الصهيونية المختلفة كما لو أنها أحزاب تمثل اليمين والوسط واليسار.
وفي تَصوُّرنا أن عمومية الصهيونية العامة تكمن في عدم اكتراثها بالجوانب الخصوصية، فهي لا تصر على خصوصية الهوية اليهودية ولا على خصوصية المشاكل التي يواجهها المستوطنون الصهاينة في فلسطين. وهذه العمومية هي جزء لا يتجزأ من توطينية أتباع الصهيونية العامة ورفضهم التورط الكامل في المشروع الصهيوني باعتباره مشروعاً يهودياً وإصرارهم على غربيته أو على أن تأييدهم له ينبع من انتمائهم للغرب. ولذا، يمكن القول بأن الصهيونية العامة (على الأقل بالنسبة إلى عدد كبير من أعضائها في الخارج) هي الصهيونية التوطينية بعد وعد بلفور، فالتوطينيون قبل بلفور كانوا يخافون من أن يُتهَموا بازدواج الولاء، ولذا فقد أصروا على أن تظل الحركة الصهيونية حركة إنقاذ وإغاثة خارج أي إطار قومي. ومع تَبنِّي الدول الغربية نفسها للمشروع الصهيوني لم يَعُد هناك أي خوف من تهمة ازدواج الولاء، بل أصبح واجبهم الوطني هو الانضمام للصهيونية، وأصبحت صهيونيتهم جزءاً من وطنيتهم والعكس بالعكس (ومن ثم، فإن كثيراً من الصهاينة العموميين في الخارج هم من يُطلَق عليهم «صهاينة الدياسبورا»). ومع هذا، كان انتماء أعضاء هذا التيار للعالم الغربي، حيث تسود الديموقراطية الليبرالية والمشروع الحر، له أكبر الأثر في نفورهم من بعض أشكال الاستيطان الصهيوني الاشتراكية. وقد أظهروا معارضتهم له، رغم محاولتهم الابتعاد عن السياسة، فمثل هذه الأشكال الاشتراكية قد تُسبِّب لهم الحرج في مجتمعاتهم الليبرالية.
ولا تتطلب الصهيونية العامة من الصهيوني سوى الانتماء للمنظمة الصهيونية العالمية وسداد رسوم العضوية (الشيقل) وقبول برنامج بازل. وقد حاول هذا الاتجاه تثبيت أركان الاستيطان الصهيوني في فلسطين عن طريق جمع المال وتوظيف رؤوس الأموال لشراء الأراضي وتوطين المهاجرين في فلسطين، ثم اتّباع أسلوب المفاوضـات الدبلوماسـية لتحقيق مكاسـب للحركة الصهيونية.
وقد كان هذا التيار يضم في صفوفه كبار المموِّلين اليهود في الخارج. وبالتدريج، اتسع نطاقه ليضم قطاعات كبيرة من يهود الولايات المتحدة (أي معظم صهاينة العالم الغربي التوطينيين). وظل هذا التيار مسيطراً على الحركة الصهيونية حتى عام 1929 حينما كانت الصهيونية لا تزال وليدة عاجزة، تحتاج لحضانة الاستعمار الغربي، فلم يكن قد تم تأسيس مؤسساتها الاستيطانية بعد. ومع منتصف العشرينيات، بدأ تيار الصهيونية العمومية يتراجع من حيث الوزن التنظيمي، فكانت نسبتهم في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر (1921) 73% من مجموع المندوبين (مقابل 8% للتيار العمالي)، ثم انخفضت تلك النسبة بعد عشر سنوات عام 1931 إلى 53% (مقابل 29% للتيار العمالي)، واستمر التدهور بعد ذلك. وقبل انعقاد المؤتمر السابع عشر (1931)، قرَّر الصهاينة العموميون تنظيم أنفسهم، وقد عُقد أول مؤتمر للاتحاد العالمي للصهاينة العموميين عام 1931 عشية المؤتمر.
وكان يضم المجموعات التالية:
ـ المجموعة (أ):
التي تؤيد وايزمان وبرنامجه.
ـ المجموعة (ب):
التي تنتقد هذا البرنامج والسياسات الاقتصادية للمنظمة الاستيطانية.
ـ المجموعة (جـ):
الصهاينة الراديكاليون بقيادة ناحوم جولدمان ويتسحاق جرونباوم.
ومما دعَّم نفوذ الصهاينة العموميين في المُستوطَن الصهيوني، هجرة بعض اليهود الموسرين من ألمانيا ابتداءً من عام 1933 حيث كانت لهم مصالح تتناقض مع مصالح البيروقراطية العمالية.
ولكن، مع المؤتمر العالمي الثاني عام 1935، انشق الاتحاد إلى مجموعتين:
المجموعة (أ):
وكانت تستمد قوتها بشكل خاص من فرع الصهاينة العموميين في بريطانيا وجنوب أفريقيا وألمانيا ورومانيا (وجزء من المنظمة الصهيونية الأمريكية)، وهم أساساً مهنيون ومثقفون كانوا يؤيدون سياسة وايزمان تجاه بريطانيا وكانوا لا يمانعون في وجود منظمات استيطانية ذات طابع جماعي. وقد أسَّست هذه المجموعة حركتها الاستيطانية الخاصة وتنظيمها الشبابي وأقامت عدداً من المستوطنات في فلسطين.
أما المجموعة (ب):
فقد استمدت قوتها من جاليشيا (التي تُعَدُّ الركيزة الأساسية)، ولكن الأهم من هذا أن هذه المجموعة قد استمدت قوتها من غالبية أعضاء المنظمة الصهيونية في أمريكا، وخصوصاً بعد أن وصل أبا هليل سيلفر إلى رئاسة المنظمة الصهيونية في أمريكا (وكان متشـدداً في مواقفـه تجاه بريطانيا والانتداب البريطاني). وقد كان هؤلاء، بسبب جذورهم الأمريكية، يعارضون الهستدروت بشدة وكذلك أية مؤسسات عمالية مهما كان شكلها.
ورغم اختلاف المجموعتين، تقول الموسوعة الصهيونية إن جهدهم تركَّز على النشاطات الثلاثة التالية:
1 ـ تطوير الصهيونية في الخارج.
2 ـ الدفاع عن المستوطنين الصهاينة ("النضال السياسي من أجل الحقوق اليهودية في فلسطين").
3 ـ ولكن أهم نشـاطاتهم على الإطـلاق هو جمع الأموال لدعم الاستيطان.
وتضيف الموسوعة أن كلاًّ من الفريقين لم يهتم كثيراً بدعم التابعين له في فلسطين، أي أنه تنظيم خارجي (توطيني) أساساً. وقد تأسَّس عام 1946 اتحاد عام يضم كل الصهاينة العموميين سواء في إسرائيل أو خارجها. وتقول الموسوعة إن مواجهة الصهاينة العموميين داخل فلسطين للموقف الاستيطاني لم يحدث إلا بعد 1948، وحتى بعد ذلك كانت الأيديولوجيا الليبرالية شديدة الضعف. ولا يزال الصهاينة العموميون، لأنهم يمثلون الجماعات اليهودية، أكثر القطاعات قوة في الخارج. ففي المؤتمر الصهيوني السابع والعشرين (1968)، كانت قوتهم 180 مندوباً أو حوالي ثلث المندوبين. كما أنهم يُشكِّلون القوة المسيطرة الأساسية في عملية جمع الأموال لدعم إسرائيل وعملية الدعم السياسي (وهذه هي مهمة صهيونية الخارج التوطينية). ويسيطر اتحاد الصهيونيين العموميين سيطرة شبه كاملة على المنظمة الصهيونية الأمريكية.
ويوجد حزب في إسرائيل يُسمَّى حزب الصهيونيين العموميين اندمج مع الحزب التقدمي وكونا معاً الحزب الليبرالي عام 1961 ولكن التقدميين انسحبوا عام 1965، وانضم العموميون لحزب حيروت مكوِّنين معه حزب جحال، ثم انضم الجميع لليكود. ولكن يمكن القول بأن الصهاينة العموميين في الخارج توطينيون، أما الصهاينة العموميون في إسرائيل فهم استيطانيون، ولكلٍّ توجهاته وأولوياته. ولعل الرقعة المشتركة بينهما يشكلها أمران؛ أولهما: التركيز على المشروع الحر، وثانيهما: تأكيد ضرورة علمنة الدولة الصهـيونية. وتخـتلف ساحة نشاط التوطينيين عن ساحة الاستيطانيين، كما تختلف جماهير كل منهما.
حاييم وايزمان (1864-1952(Hayyim Weizmann
زعيم صهيوني، عالم كيميائي، وأول رئيس لدولة إسرائيل. وُلد في روسيا في منطقة الاستيطان، وكان أبوه تاجر أخشاب من مؤيدي حركة الاستنارة اليهودية. ومع هذا، فقد تلقَّى وايزمان تعليماً دينياً تقليدياً حتى سن الحادية عشرة، فدرس العهد القديم والنحو العبري وما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، ولكنه تلقَّى بعد ذلك تعليماً علمانياً. ولكن العنصر الأساسي في طفولة وايزمان هو الشتتل الذي نشأ فيه، وبناء الشتتل العاطفي والاقتصادي يستبعد الأغيار من وعي اليهود، إن لم يكن من واقعهم أيضاً (على حد قول وايزمان نفسه).
بعد حصوله على الدكتوراه من ألمانيا عام 1899، قام وايزمان بالتدريس في سويسرا (1901) ثم ألمانيا (1904). وقد كان من المطالبين بإدخال الديباجة الإثنية على الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، كما كان من المعجبين بآحاد هعام وتأثر بأفكاره، وكان من الداعين لاستخدام العبرية في التخنيون (ضد دعاة الألمانية). ساهم في تأسيس الجامعة العبرية، كما ساهم في تأسيس أحد أهم المعاهد العلمية في فلسطين الذي أصبح بعد ذلك معهد وايزمان للعلوم. وانطلاقاً من موقفه الإثني العلماني، وقف وايزمان ضد مشروع شرقي أفريقيا.
كان من أوائل المفكرين والزعماء الصهاينة الذين أدركوا عبث الجهود الصهيونية الذاتية التسللية وحتمية الاعتماد على الدعم الإمبريالي لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ. وكان وايزمان مدركاً تماماً علمانية الحضارة الغربية ونفعيتها، فالمسألة ليست مسألة تلاق بين الأحلام اليهودية والأحلام المسيحية وإنما هو تلاقي مصالح الإمبريالية والصهيونية، فالدولة الصهيونية تحتاج إلى الدعم الإمبريالي وإنجلترا تحتاج إلى قاعدة، وبما أن الدولة اليهودية قاعدة رخيصة (على حد قول وايزمان) فلا تستطيع إنجلترا أن تجد صفقة أفضل من هذا (أي أنه أدرك أن الدولة الصهيونية دولة وظيفية).
غادر وايزمان سويسرا إلى إنجلترا عام 1904 وعُيِّن في جامعة مانشستر، وقد جمع حوله مجموعة من الصهاينة اليهود الذين كانوا قد بدأوا في تكثيف النشاط الصهيوني وكوَّنوا نواة الحركة الصهيونية في إنجلترا. وفي عام 1907، في المؤتمر الثامن، ألقى خطبته التي اقترح فيها تبنِّي ما سماه «الصهيونية التوفيقية» التي تجمع بين التوجه الدبلوماسي التوطيني (التفاوض مع الدول الاستعمارية من أجل الحصول على براءة الاستيطان في فلسطين) والجهد الاستيطاني وتطوير الإثنية اليهودية. وقد أصبحت الصهيونية التوفيقية منذ ذلك الوقت الإطار الذي تحركت من خلاله الحركة الصهيونية. وبعد نهاية المؤتمر قام وايزمان بأول زيارة لفلسطين.
اندلعت الحرب العالمية الأولى بعد وصول وايزمان إلى سويسرا بيوم، فقطع رحلته وعاد إلى إنجلترا حيث قدمه س. ب. سكوت محرر المانشستر جارديان لبعض الشخصيات الإنجليزية المهمة من بينهم لويد جورج وهربرت صمويل الذي كان قد أعد مذكرة بمبادرة منه لإقامة دولة يهودية في فلسطين بعد تقسيم تركيا. وكان إسكويث (رئيس الوزراء) قد رفض المذكرة الأمر الذي وضع حداً لكل الجهود الصهيونية. ولكن تغييراً حدث في الوزارة، فأصبح لويد جورج رئيساً للوزراء، وكان من قبل زيراً للإمدادات (وكان وايزمان قد ترك انطباعاً جيداً عنده باكتشافه الأسيتون) وكان بلفور وزير الخارجية، كما أن عدداً كبيراً من المشاركين في الوزارة (مثل سير مارك سايكس) كانوا مؤيدين متحمسين للمشروع الصهيوني كمحاولة لتقليص النفوذ الفرنسي في الشام، أي أن الجو كان مهيئاً لصدور وعد بلفور قبل صول وايزمان وبدون أن يبذل أي جهد. ولكن معارضة اليهود الإنجليز، وخصوصاً معارضة إدوين مونتاجو وكلود مونتفيوري، جعلته يشعر بالإحباط لدرجة أنه فكر في الاستقالة من اتحاد الصهاينة الإنجليز، ولكن آحاد هعام نصحه بألا يفعل ذلك وذكَّره بأنه لم يعيَّن من قبَل أحد، ولذا فلا يمكنه أن يقدِّم استقالته لأحد. وكان وايزمان قد قطع علاقته بالمكتب المركزي للمنظمة الصهيونية العالمية في برلين التي كانت وثيقة الصلة بالألمان والأتراك وبمكتب الاتـصال التابـع لها في كوبنهـاجن، ثم صدر وعد بلفور.
كان وايزمان يتوقع أن يُقوِّي صدور وعد بلفور مركزه ومركز الصهيونية أمام اليهود، ويفرض المؤسسة الصهيونية عليهم من أعلى. وهذا ما حدث بالفعل، فقد عُيِّن عام 1918 رئيساً للبعثة الصهيونية التي أُرسلت إلى فلسطين لتحديد الطرق الممكن اتباعها لتطوير فلسطين بما يتفق مع ما جاء في وعد بلفور. وذهب وايزمان إلى القاهرة وقابل فيصل ابن الشريف حسين محاولاً الوصول معه إلى تفاهم. ثم رأس وايزمان الوفد الصهيوني لمؤتمر السلام في فرساي عام 1919 ليطالب بالموافقة الدولية على وعد بلفور وبأن يوكل لبريطانيا الانتداب على فلسطين. انتُخب وايزمان رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية عام 1921 في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر، ونشب خلاف بينه وبين برانديز بشأن طريقة إدارة المُستوطَن الصهيوني وتمويل المستوطنات حيث طالب برانديز (الذي كان لا يعرف شيئاً عن طبيعة الاستعمار الاستيطاني وعن الظروف في فلسطين) بإدارتها على أُسس نظام الاقتصاد الحر، ورفض وايزمان الرضوخ لذلك لأن مثل هذا الإجراء كان يمكن أن يودي بالمشروع الصهيوني تماماًَ. ولذا، وقف وايزمان وراء أشكال الاستيطان العمالية مثل الموشاف والكيبوتس. وقد نجح وايزمان في عقد تحالف بين الصهاينة العموميين ومعظمهم من التوطينيين، والعماليين الاستيطانيين، وانضم لهم حزب مزراحي ممثل الصهيونية الإثنية الدينية. وهذا الائتلاف الثلاثي هو الذي قاد الحركة الصهيونية وأشرف على نشاطها خلال فترة الانتداب البريطاني.
كان وايزمان على خلاف مع جابوتنسكي الذي كان يتبنى خط الحد الأقصى ويصر على الإفصاح عن الهدف الصهيوني النهائي، وهو الأمر الذي وجده وايزمان غير مجد أو مثمر. وكان جابوتنسكي يطرح تصورات مثل خطة نوردو لتغيير الواقع السكاني في فلسطين بين عشية وضحاها، كما كان يلجأ إلى إصدار تصريحات من شـأنها إثـارة قلـق السـكان الأصليـين. وحينما وسَّـع وايزمـان الوكالة اليهودية، حتى تضم يهوداً غير صهاينة كجزء من السياسة الصهيونية لغزو الجماعات اليهودية، وعُقد أول اجتماع للوكالة الموسعة عام 1929، عارض جابوتنسكي هذا الإجراء.
وكان قد تم تعيين السير هربرت صمويل مندوباً سامياً لبريطانيا في فلسطين (وكان يهودياً نشأ وترعرع داخل تقاليد صهيونية غير اليهود ذات الديباجات المسيحية والعلمانية) وكان من المتوقع أن يتعاون مع وايزمان، ولكن طبيعة علاقة الدولة الإمبريالية (بمصالحها العالمية) مع السكان الأصليين تختلف عادةً عن طبيعة علاقة المستوطنين بهم، ومن هنا نشأ الاختلاف في الرؤية وتولَّدت التوترات. وكان وايزمان يحاول حل هذه المشكلة عن طريق إطلاق التصريحات الأخلاقية عن حقوق العرب وضرورة ألا تُمس شعرة في رأسهم، وفي الوقت نفسه كان يضع الخطط التي تهدف إلى تغييبهم وإخلاء فلسطين منهم لوعيه التام بخطورة العنصر العربي على الدولة الصهيونية الاستيطانية الإحلالية، وكان يرى أن أي سلام مع العرب هو سلام القبور. وحينما عرف بطرد العرب من فلسطين عام 1948، تحدَّث عن هذه العملية على أنها معجزة أدَّت إلى تطهير أرض إسرائيل! ومن الواضح أنه يتحرك داخل إطار حلولي عضوي (حلولية بدون إله) في موقفه من الشـعب اليهـودي وعلاقته بالأرض. فحينما عُرض عليه أن يَقْبل اليهود وضع الأقلية في فلسطين وأن يتعايشـوا مع العـرب، انفجر متمـتماً بكلمات ذات طابع حلولي واضح: "الرب سيضع يده مرة ثانية ليستعيد بقية شعبه ويرفع راية لكل الأمم، وسيجمع المشردين من إسرائيل وسيجمع المشتتين من يهودا من أركان الأرض الأربعة"! وهكذا.
وكانت إدارة الانتداب والحكومة البريطانية تضطر من آونة لأخرى لإعادة تفسير وعد بلفور، كما حدث عام 1930 حيث أصدر سكرتير المستعمرات في وزارة العمال البريطانية كتاب باسفيلد الأبيض الذي اعتبره الصهاينة قضاء على المشروع الصهيوني بأكمله، فاستقال وايزمان من رئاسة المنظمة عام 1930 وتراجعت الحكومة البريطانية وأرسل رئيس الوزراء خطاباً لوايزمان يعبر له فيه عن تأكيده استمرار التزام حكومته بالمشروع الصهيوني.
وتتبدَّى مرونة وايزمان العلنية ومقدرته على استخدام الخطاب الصهيوني المراوغ في تصريحه عام 1931 بأن وجود أغلبية يهودية في فلسطين ليست مسألة ضرورية، وقد صرح بهذا من قبيل تهدئة الخواطر ولكنه كان يؤمن بأنه ستكون هناك أغلبية يهودية في نهاية الأمر من خلال الجهد البطيء الذي يخلق حقائق جديدة، من خلال بناء منزل وراء منزل ودونم وراء دونم، ومستوطنة بعد مستوطنة. والواقع أن خلق الحقائق الجديدة أصبحت الإستراتيجية المستقرة للصهيونية، ولكن يبدو أن ذلك كان يتم هذه المرة عَبْر الخط الأحمر دون أن يدري، وأن حجم المراوغة كان أكبر مما يتحمل الصهاينة، ولذا فقد كلَّفه هذا التصريح رئاسة المنظمة. ولكن، مع هذا، تم اختيار صديقه الحميم سوكولوف خلفـاً له، فالخـلاف لم يكن جوهرياً وإنما كان خطأ خاصاً بطريقة التعبير.
ومع صعود هتلر للسلطة، زاد عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين وزاد حجم رأس المال اليهودي فيها. وأعيد انتخاب وايزمان للرئاسة عام 1935. وكان وايزمان من المؤمنين بضرورة ترك يهود أوربا لمصيرهم على أن يتركز الجهد الصهيوني على تهجير بعض العناصر اليهودية التي ستساهم في بناء المُستوطَن الصهيوني. وتظهر مرونة وايزمان مرة أخرى عام 1937 حينما طُرحت فكرة تقسيم فلسطين إذ قبله رغم صغر حجم الجزء الممنوح للدولة اليهودية لأن قبول الحد الأدنى علنياً لا يعني عدم المقدرة على العمل في الخفاء للحصول على الحد الأقصى "وصحراء النقب" التي لم تكن جزءاً من الدولة اليهودية حسـب خطـة التقسيم "لن تفر"، حسب قوله، بل هي باقية يمكن الاستيلاء عليها فيما بعد.
وظلت العلاقة بين الصهاينة والحكومة البريطانية متعثرة، إلى أن نشبت الحرب العالمية الثانية. وقد حاول وايزمان تجديد جهوده العلمية حتى يزداد نفوذه أمام الحكومة البريطانية، ولكن عرضه رُفض وتم تأييد طلب جابوتنسكي بالسماح بتشكيل اللواء اليهودي للاشتراك كقوة صهيونية مستقلة (إلى جانب الحلفاء) ولتدعيم مركز المستوطنين، لكنَّ هذا لم يَعُقه عن مقابلة موسوليني شخصياً عدة مرات ليحصل منه على تأييده للمشروع الصهيوني. وظلت علاقة الصهاينة ببريطانيا متعثرة حتى ظهور الولايات المتحدة كمركز للثقل الإمبريالي، فبدأوا في تحويل ولائهم. وقضى وايزمان وقتاً طويلاً (1941 ـ 1942) ورك حتى يمكنه تجنيد القيادة الأمريكية إلى جانب المشروع الصهيوني.
وعُقد مؤتمر صهيوني في بلتيمور عام 1942 وأصدر برنامج بلتيمور الذي تنبع أهميته من أنه أفصح عن الهدف الصهيوني النهائي في إنشاء دولة. ومع نهاية الحرب، كان وضع وايزمان داخل المنظمة مخلخلاً. فقد كان ممثلاً للمرحلة البريطانية في تاريخ الصهيونية والاستيطان الصهيوني. كما أن مجال حركته كان في الساحة الدولية خارج ساحة الاستيطان. ومع ازدياد قوة المستوطنين وظهور الولايات المتحدة، لم يَعُد الشخص المناسب للمرحلة الجديدة، وخصوصاً أن حكومة العمال البريطانية رفضت السماح بالهجرة اليهودية غير المقيدة، وكانت القيادة الجديدة تفضل تبنِّي سياسة نشطة نوعاً ما ضد البريطانيين، لذا بدأ بن جوريون يتحدى قيادته، وخصوصاً أنه كان قد بلغ السبعين وبدأ تصحته تعتل.
ولم يَجر انتخابه رئيساً للمنظمة عام 1946 لوجود إحساس عام بأنه فَقَد صلته بالواقع. ومع هذا، استمر وايزمان في جهوده وسافر إلى الولايات المتحدة للاتصال بالرئيس ترومان وغيره حتى تقف الولايات المتحدة وراء قرار التقسيم. وكان وايزمان من أنصار أن يُعلَن قيام الدولة الصهيونية فور انسحاب البريطانيين، بغض النظر عن قرار هيـئة الأمم المتحـدة، وأن تُعدُّ الدولة نفسها للحرب مع العرب. وبعد إعلان الدولة، قابل ايزمان الرئيس ترومان وحصل منه على وعد بأن تقوم الولايات المتحدة بتمويل مشاريع التنمية في إسرائيل.
وحينما قامت الدولة وعُرضت عليه رئاستها هنأه القاضي فلكس فرانكفورتر وقال له إنه بإمكانه أن يقول ما لم يتمكن موسى من قوله (لأن هذا النبي الأخير قد مات قبل أن يصل إلى أرض الميعاد أما وايزمان فقد وصل بالفعل). ولكنه، مع هذا، لم يضع اسمه ضمن الموقعين على قرار إعلان إسرائيل، كما أنه كان يضيق ذرعاً بوظيفة رئيس الدولة لأنها وظيفة شكلية شرفية محضة، ولم تكن تُرسَل له حتى محاضر مجلس الوزراء، وذلك بناءً على أوامر بن جوريون. ومن أهم مؤلفات وايزمان كتاب التجربة والخطأ (1949)، كما أن رسائله قد جُمعت ونشرت تباعاً في سلسلة من المجلدات.
الصهيونية التصحيحية Revisionist Zionism
«الصهيونية التصحيحية» وتترجم أحيانا بالصهيونية «المراجعة» أو «التنقيحيه» تيار صهيوني نابع من فكر جابوتنسكي ظهر داخل المنظمة الصهيونية عام1923 بهدف تصحيح أو تنقيح أو مراجعة السياسة الصهيونية (ومن هنا يُشار إليها أحياناً باسم «الصهيونية التنقيحية» أو «الصهيونية المراجعة»). وهذا التيار تعبير عن محاولة بعض العناصر الصهيونية (من شرق أوربا أساساً) المتشبعة بالفكر الاقتصادي الليبرالي والفكر السياسي الفاشي طرح الهيمنة العمالية على عمليات الاستيطان وهيمنة صهاينة الخارج الليبراليين على النشاط الدبلوماسي جانباً. وقد حاول دعاة هذا التيـار أن ينتهـجوا خـطاً وأسـلوباً جــديدين للعمل على الصعيد الدولي، حيث كانوا يرون أنهما في واقع الأمر استمرار لخط هرتزل ونوردو وفلسفتهما، وأن يصوغوا فكراً استيطانياً مستقلاًّ، وأن يُشيِّدوا مؤسسات استيطانية مستقلة.
وقد كانت هذه المحاولة هي الأولى من نوعها داخل الحركة الصهيونية من جانب أعضاء الطبقة الوسطى. ولعل هذا يعود إلى الأصول الطبقية لموجات الهجرة الصهيونية المختلفة، فأعضاء الموجة الأولى والثانية أتوا أساساً من صفوف البورجوازية الصغيرة، ولم يكونوا يملكون شيئاً. ولكن فلسطين شهدت، ابتداءً من عشرينيات القرن وحتى بداية منتصف الأربعينيات، وصول الموجات الثالثة والرابعة والخامسة التي ضمت في صفوفها أعداداً كبيرة من صغار الرأسماليين وأصحاب العمل (هاجر في الموجة الخامسة وحدها حوالي 25 ألف يهودي يملك كل منهم أكثر من ألف جنيه إسترليني).
وفكر الصهاينة التصحيحيين هو، في نهاية الأمر، فكر جابوتنسكي الذي يقبل كل الأطروحات الصهيونية الأساسية عن الشعب العضـوي المنبـوذ الذي يُـشكِّـل جسماً غريباً في أوربا تلفظه كل المجتمعات، وعن الشعب اليهودي الرديء الذي يكرهه جيرانه عن حق. ويرى جابوتنسكي ـ شأنه شأن هرتزل وأستاذه نوردو ـ أن مصدر هوية اليهود ليس تراثهم الديني أو الإثني (فهذا التراث يمكن الاستغناء عنه تماماً) وإنما هو معاداة اليهود. ولذا، فإن المسألة اليهودية في نظره هي في الأساس مسألة رفض أوربا لليهود، أي مسألة الفائض اليهودي. ولكن جابوتنسكي يُقرِّر، مع هذا، أن اليهود، وضمن ذلك السفارد، شعب أوربي. وقد عرَّف جابوتنسكي الشعب انطلاقاً من أطروحات الفكر العرْقي الغربي بكل ما يتضمنه ذلك من إيمان بتفاوت بين الأجناس.
وأرسلت الحركة التصحيحية أربعة مندوبين إلى المؤتمر الصهيوني الرابع عشر (1925)، وسُمِّيت الجماعة باسم «اتحاد الصهاينة التصحيحيين». وكان برنامجها ينادي بما يلي: إنشاء دولة صهيون على ضفتي الأردن ـ رفع أية قيود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين ـ مصادرة جميع الأراضي المزروعة والعامة في فلسطين ووضعها تحت تصرُّف الحركة الصهيونية.
عمل التصحيحيون على تفريغ أوربا من اليهود، وعلى تهجير أكبر عدد ممكن من اليهود في أقصر وقت ممكن. ولزيادة مقدرة فلسطين الاستيعابية، طالبوا بتوطين الطبقة الوسطى وتطوير القطاع الخـاص، لأن دخـول رأس المال الخـاص سـيخلق فرص عــمل جديدة. ولذا، فقد طالبوا بالتركيز على تطوير القطاع الصناعي والزراعة المكثفة. ونادى التصحيحيون بتأجيل الصراع الطبقي وقبول التحكيم الإجباري لحسم الخلافات بين العمال والرأسماليين ولسحق التمـرد العـربي دون اللجوء إلى البريطــانيين، وقد شـدد التصحيـحيون على ضـرورة إنشـاء وحـدات عسكرية يهودية مستقلة.
وقد وُضع هذا البرنامج في مجابهة كل التيارات الصهيونية الأخرى، وخصوصاً التيار العمالي الذي كان يؤيد طريقة الاستيطان التعاونية الملائمة لظروف فلسطين. وبهذا الشكل، فإن البرنامج التصحيحي ينم عن عدم فهم للمشروع الصهيوني وأبعاده الخاصة، أو على الأقل عدم فهم لطبيعة المرحلة التي كانت تتطلب التعاون والجماعية في الاستيطان، والبطء، والرضا بما تقبله الدولة الراعية، بالإضافة إلى السرية. كما أن ثمة تناقضاً أساسياً في هذا المشروع يكمن في المطالبة بالاستقلال الصهيوني في الحركة من ناحية وبالسرعة في تنفيذ المشروع الصهيوني اعتماداً على الدولة الراعية من ناحية أخرى. ولعل هذا يعود إلى إيمان هذا التيار بأن مشروعه استعماري تماماً، وبالتالي فإن ثمة تماثلاً كاملاً في المصالح يسمح برفع المطالب إلى الحد الأقصى.
ولعل أهم الأطروحات التي أكدها التصحيحيون أنه مهما كان الاستيطان في فلسطين قوياً ويشكل 90% من النشاط الصهيوني، فإن الـ 10% السياسي (الاستعماري) يظل الشرط المسبق للنجاح وللبقاء. فالاستيطان في نهاية الأمر بطيء ولن يفي بالغرض، ولهذا فلا غنى عن النشاط السياسي أو الدبلوماسي الذي يتلخص ـ طبقاً لتصورهم ـ في الضغط على الدول الغربية ـ وخصوصاً إنجلترا ـ لإخلاء أوربا من اليهود بشكل جماعي وإلقائهم في فلسطين، وذلك على حساب أية اعتبارات خيالية أخرى، مثل الدين والبعد الثقافي والتربية وما شابه، لإنشاء نظام استعماري استيطاني. ولهذا الغرض، تم تأسيس رابطة الدومنيون السابع لتطوير فلسطين كجزء من الإمبراطورية البريطانية.
جذبت الحركة التصحيحية عدة حركات ومنظمات صهيونية بين عامي 1925 و1935 وجدت في أفكار جابوتنسكي ضالتها المنشودة، ومنها:
ـ عصبة جوزيف ترومبلدور (بيتار):
وقد احتفظت باستقلالها داخل معسكر اليمين، ثم أصبحت مع مرور الوقت التنظيم الأساسي الذي يزود ذلك المعسكر بالكوادر التي يحتاج إليها.
ـ مجموعة ريتشارد ليشتهايم:
وهو يهودي ألماني استقال من اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية (مع جابوتنسكي) عام 1923.
ـ مجمـوعة روبرت شتريكر:
وهو أحـد قادة الصـــهيونيين العموميين. وقد عارض شتريكر سياسة وايزمان المهادنة لبريطانيا وطالب بتحديد هدف الصهيونية بإقامة الدولة اليهودية ثم انضم إلى الحركة التصحيحية.
ـ مجموعة جوزيف شختار:
وهو يهودي روسي ويُعتبَر من مؤسسي الحركة التصحيحية.
أرسل التصحيحيون عشرة مندوبين للمؤتمر الصهيوني الخامس عشر (1927) وواحداً وعشرين مندوباً للمؤتمر السادس عشر (1929) واثنين وخمسين مندوباً للمؤتمرالسابع عشر (1931). واتهموا القيادة العمالية بأنها توزع شهادات الهجرة بطريقة تخدم مصالح أتباعها وحسب وتتجاهل أتباع الحركة وبأن توزيع الأرض والأعمال يتم بالطريقة نفسها، كما اتهموا القيادة العمالية بتزييف انتخابات المؤتمرات الصهيونية عن طريق شراء الشيقل بالجملة. ولهذا السبب، انسحبوا من الصندوق القومي اليهودي ومن الهستدروت وكونوا اتحاد العمال القومي. كما عارضوا توسيع الوكالة اليهودية عام 1929 لأن هذا في تصوُّرهم سيؤدي إلى تمييع الصيغة الأساسية السـياسية الـتي يدافعـون عنهــا. وفـي عام 1931، رُفض طلب التصحيحيين بإعلان أن إنشاء الدولة اليهودية هو هدف الصهيونية، وأدَّى مقتل الزعيم العمالي حاييم أرلوسـوروف إلى زيادة حدة الخصومة، وخصوصاً أن بعض العناصر المعتدلة بمقاييس صهيونية (مثل شتريكر وليشتهايم) ابتعدوا عن جابوتنسكي وتركوا الحركة التصحيحية وكونوا حزب الدولة اليهودية. في أواخر عام 1934، تقابل جابوتنسكي وبن جوريون في لندن بعد تبرئة ساحة المتهمين بقتل أرلوسوروف.
فتوصلا إلى اتفاق من ثلاثة بنود:
1 ـ الامتناع عن الصراع إلا من خلال النقاش السياسي دون اللجوء للهجوم.
2 ـ التوفيق بين الهستدروت وتنظيم التصحيحيين العمالي، وذلك فيما يتصل بقضايا مثل الإضرابات والتحكيم الإجباري.
3 ـ توقُّف التصحيحيين عن مقاطعة الصناديق اليهودية القومية وإرجاع حق أعضاء البيتار في الحصول على شهادات الهجرة. ولكن الاتفاق رفض من جانب أعضاء الهستدروت.
بلغ عدد مندوبي التصحيحيين في المؤتمر الصهيوني الثامن عشر (1933) حوالي 45 مندوباً. وفي عام 1935، انفصل التصحيحيون وأسَّسوا المنظمة الصهيونية الجديدة وعقدوا أول مؤتمر لهم في فيينا في العام نفسه وانتُخب جابوتنسكي رئيساً لها. وكان مقرها كما هو مُتوقَّع في لندن بين عامي 1936 و1940. وكان برنامج المنظمة هو ثوابت الحركة التصحيحية مع تأكيد ضرورة تصفية الوجود اليهودي في العالم. كما بدأوا في سياسة التحالفات مع كل النظم الأوربية التي ستساعدهم في إجلاء اليهود، وطرح جابوتنسكي خطة السنوات العشر. ومن أهم الجماعات في الحركة التصحيحية جماعة عصبة الأشداء (بريت هابيريونيم) الموجودة في فلسطين والتي كانت تضم أشيمير وجرينبرج وغيرهما. وقد تبنت هذه الجماعات صيغة صهيونية نازية لا تُخفي إعجابها بالنازية (مع تحفُّظها على موقفها من اليهود وحسب)
وقد طوَّر التصحيحيون، من خلال منظمة بيتار، شبكة ضخمة من مراكز التدريب العسكري في العالم، إذ ركزوا على الجانب العسكري من الممارسة الصهيونية الخاصة بالزراعة المسلحة.
ويصف الصهاينة التقليديون كلاًّ من جابوتنسكي والتصحيحيين عامة بأنهم متطرفون، ولكن من يدرس فكرهم وتاريخهم يجدهم أكثر التيارات الصهيونية واقعية واتساقاً مع الواقع الصهيوني. فقد أكدوا من البداية القانون الأساسي الذي يتحكم في الحركة الصهيونية، أي مدى استعدادها للارتماء في أحضان الاستعمار والقيام على خدمته، حتى يُسهِّل لها تهجير اليهود وتوطينهم في فلسطين وإقامة الدولة. وهم أخيراً كانوا متيقنين من أن العنف وحده هو وسيلة التعامل مع الفلسطينيين، وأن أوهام بعض الصهاينة الخاصة بإقناع الفلسطينيين بترك أرضهم لليهود هي بمنزلة أحلام ليبرالية رخيصة.
وفي الحقيقة، فإن استخدام العنف والارتماء في أحضان الإمبريالية والإيمان بالمُثُل الرأسمالية الحرة هي جميعاً موضوعات تتواتر في كتابات هرتزل والصهاينة الدبلوماسيين، ولكنها كانت مغلفة بغلاف ليبرالي رقيق، لأن الصهيونية كانت لا تزال في بداياتها ولم تكن قد أدركت هويتها تماماً بعد، كما أنها كانت لا تزال حركة ضعيفة غير قادرة على الكشف عن أهدافها. وكلما كانت الصهيونية تزداد قوة، كانت تعلن عن أهدافها وعن هويتها، فالفرق إذن بين هرتزل وجابوتنسكي يكمن في النبرة والمصطلح وليس في الرؤية ولا الفلسفة. وقد قال جابوتنسكي مرة إنه خليفة هرتزل ووريثه الحقيقي، وقد وافقه نوردو على هذا، ونحن نذهب أيضاً إلى أن ثمة خطاً ممتداً من هرتزل لشارون عبر جابوتنسكي وبيجين.
يتبع إن شاء الله...